أناشيد رعوية بمزاج الظهيرة: قراءة في شعر صالح زمانان | سامي العجلان

تستغرق 7 دقائق للقراءة
أناشيد رعوية بمزاج الظهيرة: قراءة في شعر صالح زمانان | سامي العجلان

«قصيدة النثر‬ أشبه بممارسة لعبة التنس، دون وجود شبكة».
‏روبرت فروست

مثل محمد الماغوط يجمع صالح زمانان بين الشعر والمسرح، كمن يؤلّف بين قلبين ميّالَين بطبعهما نحو التمرد والمشاكسة، وبهما معًا -كما وصف يومًا الماغوط-: «يشعل حرائق العالم من مخدعه الصغير»، وفيما عدا (مخدع الكتابة) فإن العالم الشعري الذي يجول فيه قلم زمانان هو أبعد ما يكون عن وصف الضيق والصِّغَر، تقرأ له فتشعر بأنك تتجول فوق سقف العالم الفسيح، مُصغيًا إلى روح الأزل، وهمهمات الغابات المطيرة، وأناشيد الرعاة الموغِلة في القِدَم، وأساطير الخِصب والأبدية، وفي هذا الجانب تحديدًا تتبدى فرادة هذا الصوت الشعري وخصوصيته اللافتة بين بقية الأصوات الشعرية في السعودية، وكأنما يمتح هذا (العائد من أبيه) من معين شعري مختلف عن منابع الشعر السائدة.

ولا يعود هذا الامتياز إلى أنه يكتب الشعر على طريقة قصيدة النثر، فكثير من الشعراء يكتبون هذه القصيدة النثرية، فينجحون ويخفقون، وفي الحالتين يبقون في حدود الإخفاق أو النجاح المتوقَعين، و(نمطية التعبير) هي أكبر مزالق قصيدة النثر، وأشدها وضوحًا؛ إذْ ليس هناك إيقاع ظاهري يخدّر المتلقي بجرسه العالي، ويُلهيه -شيئًا ما- عن الإصغاء الرهيف إلى النبرات الداخلية للنص كما يحدث في القصيدة الموزونة، فمع قصيدة النثر أنت تُصغي إلى صوت المغني المنفرد دون مصاحبة الآلات الموسيقية، وتشاهد (لعبة تنس دون وجود شبكة)، بحسب تعبير روبرت فروست.

كيف نجا إذن نص صالح زمانان من (الاعتيادية، ونمطية التعبير، ومهادنة التوقُّع) التي تسِم معظم الكتابات المصنّفة ضمن ما يُسمّى بقصيدة النثر؟

هناك عدد من الظواهر الأسلوبية التي يمكن أن تقدم بعض التفسير لهذه الفرادة الإبداعية في نصوص صالح زمانان، أقول: (يمكن)؛ لأني أعلم أن هذه الظواهر التي يحاول النقد جاهدًا أن يقتنصها هي في النهاية من لوازم التعبير الشعري، وأن بإمكاننا أن نجد شواهد لها عند شعراء آخرين، فالتفسير الأدقّ لهذه لفرادة لا يكمن في مجرد وجود هذه الظواهر الأسلوبية، بل في الكيفية الخاصة التي تتفاعل بها هذه الظواهر وتتضافر معًا لإنتاج البصمة الشعرية غير المكررة للمبدع، ومن هنا لا غِنى لنا عن الاستشهاد ببعض النصوص من مجموعتي الشاعر: (عائد من أبيه)، و(أعطال الظهيرة)، فعبر هذه النصوص وحدها يمكن الوقوف على الكيفية الخاصة التي تتفاعل بها هذه الظواهر الأسلوبية داخل نص صالح زمانان، وأبرز هذه الظواهر: مسرحة النص الشعري، وأسطرة الوقائع اليومية، وأنسنة الأشياء، ولوحات التصوير النابضة، والنبرة الرعوية في السرد، والحضور الكثيف للطفولة، وروح الصداقة.

١- مسرحة النص الشعري:
ظاهرة (المسرحة) في الشعر هي ألصق الظواهر بسِمة الازدواج الإبداعي عند صالح زمانان، فهذا المسرحي (العائد من الشعر) وإليه، ظل على امتداد تجربته وفيًا للمشهدية التصويرية من جهة، ولدقة بناء التركيب اللغوي المدهش من جهة أخرى، في نص (الميناء) مثلًا ستلحظ هذا التصميم المسرحي للمشهد الشعري: تُفتح الستارة على منارة الميناء وهي تتألم من «قَوام الحجر وتصلُّبات الملح في أسفلها، وكلما فتحتْ عينها المضيئة في دروب السفن العائدة، آمنتْ أنها بُومة البحار»، ما الشخصية المسرحية التالية المهيّأة للدخول إلى هذا المشهد؟ نعم: «تلك السفينة التي أرشدتها المنارة»، ها هي تقترب أكثر نحو مقدمة المسرح لتحكي للمتفرجين كيف تكره سفرها الأبدي الخالي من الأشجار، وكم تُعاني من دوار البحر، ثم هاهي ترسو على المرفأ فيربطونها به كما تُربط الدابة، وتتلفت حولها فتتمنى لو كانت نورسًا من نوارس الشاطئ، ولكنّ النورس -الذي يحلق الآن في أعلى المسرح- هو «أكثر الحزانى في الميناء، يظنّ أن المنارة آلهتُه المعذّبة، وأن شراع السفينة أمّه الأولى»، هل يسمع المتفرجون الآن صوت الهدير؟ صحيح، إنه البحر وقد لامستْ أمواجه طرف المنصة، وهو يبدو في سكينته الغامرة والراضية بركلِ الريح كناسكٍ مروّض على الوحدة: «مهزوم قبل البدء، سعيد، مستريح في زرقة الأبد».

أما النص اللافت فعلًا في قدرته المدهشة على تطويع الإمكانات المسرحية لبناء نص شعري مبهِر، فهو قصيدة (ميلاد الظهيرة: العجوز)، وقد اجتمع في هذا النص جُلّ عناصر الخميرة الشعرية المميزة لصالح زمانان، فبالإضافة إلى مسرحة النص، يؤنسِن الشاعر هذا الكائن الافتراضي والهلامي الذي اصطلحنا على تسميته بالزمن، وأمام ظاهرة يومية معتادة، وهي: ثِقَل وقت الظهيرة وشدة حرارته، وما يجلبه من ضيق وسأم يتجه زمانان إلى بناء أسطورة كاملة لتقديم تفسيره الشعري الخاص لهذه الظاهرة المألوفة، وهو يفتتح النص بهذا الاستهلال الأسطوري المهيب: «لـمّا كان الزمن وحيدًا في الأزل، لا يذكر مولده، ولا يُدرك نهاية الأُحجية، ملّ.. ثم هتف لذاته الهائلة، واصطنع منها كائناته، وجلس على عروش الفراغ الأولى، وقال: أيتها التابعة.. أنا المتبوع، هيّا تسابقوا إليّ، واختاروا مواقيتكم»، ثم يمضي الشاعر وبهندسة مسرحية أخاذة يصوّر تسابق: (الفجر، والضحى، والعصر، والعشيّ، والليل) على الظفر بمواقيتهم اليومية التي احتلوها بجدارة بعد أن قطعوا مضمار السباق بما يتطلبه من عزيمة وجهد وسرعة، ومن امتثال طيّع لهذا الكائن الهائل المتبوع، وحدها تلك العجوز المتراخية في آخر الدرب، واللامبالية بما حولها هي التي جعلت الزمن يترقب وصولها، وحين وصلتْ أخيرًا لم تكلف نفسها النظر إليه بما يتوقعه من تقدير وإجلال: «كانت نظرةً سريعة وعابرة، أغضبتْه وقبض يده حتى تعرقتْ وسال منها اليوم الأول، وتحدث لآخر مرة إلى العجوز: كُوني الظهيرة.. قال لها، وحشرها بين الأوقات الفتيّة، وراح عنها دون أن يسأل عنها، أو يوصي بها خيرًا.. مُذ ذاك ظلّتْ على حالها: حارّةً، غامضةً، مغضوبًا عليها، وصار السأم والتعب، وكثرة الناس أعطالَ الظهيرة».

يذكّرني إشفاق صالح زمانان هنا على (الظهيرة العجوز) التي لم تُظهر الامتثال المطلوب لنيل حظوة الزمن، بإشفاق الشاعرة دلال جازي على الريح المغتربة في نص: (لماذا تركُل الريح العلب المعدنية؟)، كلاهما يقول: إنّ ما نتضجّر منه ونهرب من شدّته: (لظى الظهيرة، وعصف الريح العاتية) ربما يودّ في أعماقه لو يتمكن -مثلنا- من تغيير موضعه في خريطة الأقدار، وكلاهما يقول: إن التراخي الفاتر واللامبالاة الظاهرية ليستا علامة مطمئِنة على الاستسلام والهمود، فقد تكونان الوجه المراوغ للتمرد والثورة.

 

صالح زمانان
صالح زمانان

٢- أسطرة الوقائع اليومية:

لا يكتفي صالح زمانان بأسطرة واقعة يومية معتادة، مثل: ثِقَل وقت الظهيرة، وإنما تمتد ظاهرة الأسطرة عنده لتشمل بعض الوقائع الاجتماعية، ففي نصه (أين تختفي الجبال؟) يحاول أن يقدم تعليله الخاص لظاهرة: ميل الرجال إلى كتمان مشاعرهم، والمكابرة في التعبير عن ضعفهم، فلا يجد سوى هذا التفسير الأسطوري الذي لا يخلو من طرافة الربط وغرابة التعليل: «هذه الأرض كانت معبّأة بالجبال، لكنّ بعضها صار يختفي فجأة، لهذا تكوّنت السهول، وأخذت الصحاري فُسحتها… الجبال منذ القِدَم كانت تُحشَر في الحلوق: حُلوق الصِّبية الذين نُهِروا ومُنِعوا من البكاء، في الساحات وأمام النساء»، ولهذا يكبُر الرجل مختنِقًا بالجبل المحشور في حلقه، و«عندما يتحدث، لا تخرج الكلمات من شفاهه، بل تنتحر من رؤوس الجبال!».

وعلى هذا النمط الفريد من الأسطرة المتعالية على الزمان والمكان يُعيد صالح زمانان اكتشاف الظواهر المألوفة في الحياة، مثلًا: لماذا تبدو بعض الأيام طويلة، وثقيلة الوطأة على النفس؟ في نصه (الأيام الطويلة) يحاول أن يجيب، مستعيدًا الماضي السحيق للأرض، ومستحضرًا -على طريقة كارل يونغ- (اللاشعور الجمعي) الذي تحدرتْ إلينا (نماذجه العليا) من ذاكرة الأجداد: «إنها الأيام الطويلة، التي تُبعَث فيها أحزان القدامى المنسيين.. التي تتذكر فيها الأرض أنها قبرُ عملاق».

ولماذا يفزّ قلب الشاعر كلما رأى امرأة عسراء؟ ولكي يجيب يعود زمانان مرة أخرى إلى (الميثولوجيا)، مستلهِمًا في (وليمة القراصنة) ما تصوره الأساطير الإغريقية عن (هيرا) زوجة كبير الآلهة (زيوس)، ذات الشخصية الجامحة التي يعدّها الإغريق راعية النساء: «العسراوات بناتُ (هيرا)، جِئن للحياة قُبيل الفجر، ووُلِدن قُرب البحيرات… من أحبّهنّ نام يمنةَ السرير، ولن يُجيد رقصة الإيقاع البطيء، لكنه سعيد للأبد».

ولبدايات الأشياء أساطيرها أيضًا، ولهذا يقول في نص (زمن الحرب): «كلُّ الأزمان تمضي، وتستقر في خزائن التاريخ اللانهائية، مُذْ فتحتْ الآلهة كاوس قفلَها، بِيدها التي لا شكلَ لها، ثم التهمت المفتاح»، ولتأثيل معنى الضيافة لا بأس أن نبتكر أسطورة نهرية تـهَبُ صحاري نجد عطر غابات اللاتين، يقول في (القبو المكسيكي): «في زمن قديم، أصابَ النعاسُ ربَّ الأنهار الشمالية، فشنّ غارة ضارية على الليل، ليجعله مِضيافًا، طويلًا، كلما هبطتْ الأشجارُ بلاده النهرية».

ربما يحسُن الآن أن نقدّم تفسيرًا لشيوع ظاهرة الأسطرة عند صالح زمانان، ولعل بإمكاننا أن نعزو هذه الظاهرة إلى سببين: أولهما: النبرة الرعوية السائدة في شعره، والتي سيأتي لاحقًا تفصيل الحديث عنها، وثانيهما: ميل الشاعر الدائم نحو تصعيد المعنى، وتفضيله للتعبيرات والصور ذات الدلالات الكلية المطلقة؛ ولهذا -على صعيد اللغة- تتردد كثيرًا في نصوصه مفردة (الأبد)، بكل ما توحي به من امتداد وإطلاق ولا نهائية، وسِمة (الإطلاقية) عند زمانان تمتد حتى لطبيعة (القارئ النموذجي) الذي يتوجه له بالكتابة: «أيها اللاشيء الغائب الذي لا أعرفه: أكتبُ لك وحدك!»، فقارئ صالح زمانان: كائن متعالٍ عن التصوّر، لا يمكن الإمساك به، أو الوصول إليه، وهو قارئ ملائم تمامًا لشاعر معجون بالأسطورة العابرة للآماد، ومتحرّر -حتى في اسمه- من أن يحدّه زمان واحد، أو رؤية مقيّدة.

٣- أنسنة الأشياء:

يُؤنسِن صالح زمانان الأشياء من حوله، فيزيد من رحابة العالم، ويُصغي إلى همهمة السكون في الكائنات الصامتة، فيتضاعف إحساسه وإحساسنا معه بالوجود، في نص (حزن القطارات) ينفض الشاعر غبار الجمود عن هذا الهيكل الحديدي، ليغدو كائنًا حيًا من لحم ودم، يزحف على بطنه المحترِق مبتور الأقدام، ويبدو غارقًا في وحدته الموحشة وسط الحشود: «يا للقسوة! مئات من الناس تركبه كلَّ يوم، لم يفكّر أحد أن يحكّ ظهره»، وفي نص (محنة الوجود) يستحضر أعزّ أمنية يمكن أن تجول بخاطر التمثال المتجمد: أن يتمكن -ولو لمرة واحدة- من الالتفات، أن يرى الجانب الآخر من المنظر، أن يجرّب (الحياة في مكان آخر) كما يقترح كونديرا، أو كما يقول زمانان: «منحوتة.. أُمنيتها الأبدية: أن تلتفت إلى الجهة المقابلة».

وهكذا تتوالى الصور المؤنسِنة للأشياء في شعر زمانان، فنصغي معه إلى وشْوشات (جسر ونهر) حول المعاناة المتبادلة بينهما، ونستشعر بمعيّته ملل الماء الذي يكرر نفسه دون توقّف في دوامة النافورة، وفاجعة النهر العذب وهو يقطع رحلته الطويلة ليصبّ أخيرًا في البحر، فتصفعه الملوحة، ونشاركه التأمل في أطوار الحياة التي عاشتها فزاعة طيور بشعة إلى أن قررت أخيرًا أن تخلع رداءها المخيف، وتتطوع لتسند ظهر القتيل الأعزل، فتغدو حقلًا سماويًا للمصلوب، ونحبس أنفاسنا ونحن نرى أعمدة الإنارة تهرول خلف (الطريد)، بينما تتناهى إلى أسماعنا (ضحكة في الحي الفقير)، تتهادى في الأثير متلعثمةً بين الخوف والفجيعة، «لكنها تحدث، كما لو كانت تفكّ أسرى العالم».

٤- لوحات التصوير النابضة:

في مواكبة الأنسنة تكتنز نصوص صالح زمانان بلوحات التصوير النابضة بالإيحاء: عن الثمن الناريّ للكتابة: «أعرف أن أصابعي شمع، وأن الكتابة خسارتي الفادحة، لكنني وُلدتُ جنوبيًا»، وعن السواد تحت عيني الصديق: «أعرفه، إنه منجم فحم، والعمّال المساجين فيه سيخرجون يومًا، سيصيرون حِزبًا، وستعمُّ الفوضى وجهَك السعيد»، وعن ليل كافكا القصير الذي «ما عاد يُسمع فيه الجُدجُد، منذ أن قصّوا ضفيرة القرية، أثناء نومها»، وعن صَبَوات الفِتيان، وهم يفكرون في بنات الجيران: «كيف نَبَتَ الغيمُ في صدورهنّ فجأة؟»، وعن وحشة الوحدة وضياع الوجهة: «مرّ عصر ذلك اليوم من جانبي، لم يُعِرني اهتمامًا، حتى إنّ ظِلّي لم يستطِل، رمقتُه معاتِبًا عتبَ الذاهبين، ثم وضعتُ يدي على هيئة فنجان، وسكبتُ فيها وجه الظلام، و… شربتُه دفعةً واحدة».

وتصل هذه اللوحات التصويرية أحيانًا إلى حدّ الاكتظاظ السردي، كما في نصوص: (مارثون الخيبة، هذا غيابك، الغزالة الحجرية)، وكأنّ الشاعر معنيّ بتوثيق كل المشاهد الإنسانية التي يراها أمامه، وتسجيل كلّ تنهيدة من تنهيدات الحياة، ويتعمق التصوير في بعض اللوحات، حتى تتحول إلى (بورتريه) خالص لنموذج إنساني غير مكرر، وثريّ بأدقّ الملامح والخلجات، كما في نص (كهل في طنجة).

وأمام حقيقة الفناء المرتبطة بفجيعة الفقد لا يملك صالح زمانان سوى أن يتأمل، على طريقة أبي الطيب: «وأهدأُ والأفكار فيّ تجولُ»، ومن التأمل في هذه الحقيقة المتعالية تنهمر اللوحات والصور، فيحكي عن (وصيّة الجدّ الميت) بينما يعبُر أول الدرب الطويل في نزهته الأبدية، ويُهيئ نفسه في (مارثون الخيبة) لساعة الغياب الأخير: «سألوّح تلويح الجنوبي، سأمشّط الريح بأصابعي، ولن أنظر خلفي، ناصيتي صوب المزارع والمياه، أصيح لكل جنوب في الأقاصي: خذني إليك!»، ويعود الشاعر مرة أخرى لهذا الموضوع المؤرّق: كيف سيستقبل ساعة الرحيل الأخير؟ أو بحسب تعبيره: ماذا سيكتب من وصايا في دفتر ابنه الأصغر قبل أن يمتطي حصانه نحو السفوح البعيدة، حيث لا صوت يقطع السكون سوى (صهيل في العدم)، وسيأتي الاستشهاد بهذا النص المتوثب عند الحديث عن النبرة الرعوية في السرد.

ولوحات الشاعر عن الموت والعدم لا تكاد تنتهي، وهو لا يخادع نفسه، إذْ يُقرّ ابتداءً بـ(انتصار العدم) منذ اللحظات الأولى في المعركة: «في فجر هزيمة الأطفال، لـمّا فقدوا صبيّة تتنفس بصعوبة، ولم تعد إلى ساحة اللعب مجددًا… انتصر العدم وأدركتنا الهزيمة، حين وقف أحبابنا الموتى، في صفّه المهيب»، وبهذا الاستحضار الدائم للهزيمة تتوالى النصوص واللوحات، فيسجل (أغنيات اللحد الرائجة)، بينما يحكي قصة (شجرة في جمجمة لوركا)، ثم يطيب له أن يتخيل الخواطر المتباينة لـ(سكّان ثلاجة الموتى)، حتى في نصه (٢٣ يناير) الذي يستعيد فيه يوم ميلاده لا يكفّ عن التحديق المستمر نحو النهاية: «لكني يا عيد ميلادي، أيها الشاحب الراعف، أعرف أيضًا أنني سأموت في أواخر ليلٍ صيفي، وأنك لن تُدفن معي، بل ستنام عميقًا، كصغير الدبّ القطبي».

أمّا اللوحة الأكثر شجىً وتفصيلًا بين كل لوحات الشاعر عن الموت، فهي نص (كما لو أنه راح لشراء الهدايا) الذي كتبه في رثاء والده، إذْ تنهمر الصور النابضة فيه كزخات المطر، لترسم وجع الفقد وسيرة الفقيد: «من ثكنة الوجود، اعتزل أبي مبكرًا، لم يَهرم مثل كلّ الآباء، أولئك الذين توقفوا عن كسْو زوجاتهم، ولا يستطيعون مراقصتهنّ في الأعياد… بل غادر سريعًا في أُبهة النشيد، وأثناء ممازحة الأحباب، كما لو أنه راح لشراء الهدايا، وقبل أن يفخر العكّاز بقبضته، ذهب لنزهته الأبدية».

بعد ذلك تتوالى في النص اللوحات السِيرية عن حياة الأب: عن أرَقه ليلًا حين كان يقول: إن النوم أبعد من صنعاء، عن حكاياته الرهيفة في سفره الممتد مع بعيره (عَمران)، ورشّاشه (الأشرم)، عن القهوة التي تتحفّز في الأباريق كي تُطفئ صداعه، وعن طعم الحياة المرّ بعد رحيله، عن الشرفة السماوية التي لا تُفضي إلّا إليه: «كلما فتحتُ النافذة، نظرتُ إليك، وعرفتُ أين المطر، ذلك النجم اللامع ليس سُهيلًا اليمانيّ، إنه حَدَقتك ترِفُّ إليّ».

من هذا الفيض جاء عنوان الديوان: (عائد من أبيه) الذي أهداه الشاعر إلى والده، وجاء معه الوعد بأبدية الاستحضار: «وحتى الأبد، ستظلّ هذه الصخرة في حلقي… لن أسامح فِراقَك العَجول، ولن أُدحرِجها، ستبقى هنا بين الرأس والقلب، تندسُّ خلفها كلُّ النصوص والقصائد، لتبحث عن حكمة الرثاء المفقودة، أو تجد طريقًا ساريةً صوبَ بريدِ العدم»، وستصدّق النصوص اللاحقة هذا الوعد، وتعاود ذكرى الأب الإطلال عبرها من جديد، ليكتب في ديوانه التالي، وعبر نص (الوطن ليس في جيب البنطال): «وأعرف هذا السواد تحت عيني، أعرفه، إنه حقل محروق، وسأبكي ما حييت منتظرًا عودة أبي، والعشب، وشجرة البشام».

٥- النبرة الرعوية في السرد:

قال بيسوا مرة: «تبدو الحقول حين نصِفها: أكثرَ خضرةً من خضرتها الحقيقية»، هكذا تبدو مشاهد الطبيعة البِكر في نصوص صالح زمانان، وفيما تقرأه تنساق مع وصفه الرعوي للريف، فتشعر أنك انتقلت إلى سهول السافانا أو أودية تهامة أو مرتفعات التبت، والانتقال هنا ليس مكانيًا فقط، بل هو زماني أيضًا، فهذا الغزْل الشعري المهدهِد يتغلغل فيك كنشيد ريفي موغل في القِدَم، وكأنغام قصبات الرعاة وهم يتجولون في مراعي العهود السحيقة، هاهو مثلًا يستهل قصيدة (تحديق الحياة الجاحظة) بهذا الوصف الرعوي الموقّع: «القرويّ الشفيف الذي كان يجري في صِباه دون هوادة، ويقطع الوعود للغيم والمروج، ويتحدث مع الماعز كما لو كانا صديقين قديمين، سيكبُر خِلْسة، وتكبُر قريته لتصبح حيًّا جديدًا، في طرف المدينة الجائرة».

وحين يحاول زمانان أن يواسي (الشاعر التعيس) القلِق من فقدان هويته الشعرية وشدوه المبكّر وهو يتلمس طريقه نحو المغامرة الإبداعية والتجريب المختلف، فما الذي يتبادر لمخيّلته كي يقدم هذه المواساة؟ لا شيء سوى أن ينسج حكاية رعوية بعيدة الترميز تعدو فيها قطعان الجواميس الأفريقية، وتربض في جنباتها السباع المتوثبة للافتراس، يقول في فاتحة نص (أوطان القصائد والجواميس): «الجواميس الأفريقية كلما اشتدّ عليها القيظ، صارت بحيراتها حُفَرًا يابسة، تربض فيها السباع، وترقب ظمأ الصغار الذين لم يدبغ الصبر قلوبهم، لكنّ الجواميس تترك أوطانها التي تحب، وتهاجر صوبَ الينابيع البعيدة، يعلم القطيع أنها رحلة شاقة، ويعلم أيضًا أنه سيُخبر الصغار الجُدد الذين وُلِدوا في هِجرة الماء كيف يدلُّون دربَ الوطن، سيخبرهم قصة الموتى الظامئين، سيقول القطيع لهم: أولئك الموتى في الطريق ليسوا ضحايا الرحلة القاسية، إنهم الفجيعة الضرورية، وعلى آثار عظامهم سنعود إلى المنزل الأول».

وكما تتراءى لك الأشياء في غبش الليل أو في ضباب الحلم، تتسلل إليك هذه المشاهد الرعوية المبهِرة، والمنتزَعة من حقول الأبدية؛ كثُغاءٍ قادم مما وراء الطبيعة، ومثل (صهيل في العدم): «في وقتٍ باكر قبل أن يذهب الأولاد إلى المدرسة، يومًا ما.. سأموت، سأسعل كثيرًا قبل الموت، وسأكتب في دفتر أصغرهم قبل ليلة: يا أصحابَ الصور في محفظتي، ارعوا خِرافكم فوق وِسادتي، وأطعموها زرعة نعناعي، فلن أشرب الشاي بعد اليوم، وانتبهوا ! لا تربطوا حصاني في الاسطبلات، اتركوه يهرب صوبَ السفوح البعيدة، تفترسه الذئاب، ويموت معي، أمتطيه ونقطع العدم، صوبَ منامات أمي في الربيع».

وكأنما كان صالح زمانان يدرك هذا المفتاح الرعوي لصندوق كنوزه الشعرية، فقد كتب نصًّا كاملًا يُقِرّ فيه بهذا النداء البدائي الذي يستولي على كيانه كلما هبط ليل التخييل، وبرز قمر الكلام، واستذأبت غريزة الشعر، يقول في نص (جِدني أيها القمر): «في أحلك أعماقي، مكان قديم وثنيّ، تُقام فيه طقوس الخرافة، يقطنه الإنسان البِدائيّ، يضربني بمطرقته الحجرية، كلما هبط الليلُ مدينتي، أسمع صدى غضبه في العِظام: عُد، عُد إلى غابة الطفولة، هاتِ الأغنيات الخُضْر، عُد للصبايا والمزاح، فأخرجُ كلَّ ليلة كمستذئب، وأعبُر هذا الظلامَ الدائخ، أجوبُ جسدَ الوهْم عاريًا، أرمي شِلْوًا من أشلائي لقِطّة جائعة، أسمع صوتَ مضغها جيدًا، وأنظر للسماء كلَّ بُرهة: جِدني أيها القمر، جِدني أيها القمر».

٦- الحضور الكثيف للطفولة:

يهيم صالح زمانان في أودية الشعر، وأينما سلك تنثال عليه صور الطفولة وذكريات الصِبا، مُستجيبًا لذلك النداء الرعوي في داخله: «عُد، عُد إلى غابة الطفولة، هاتِ الأغنيات الخُضر، عُد للصبايا والمزاح»، فيستحضر حينًا «أحلام طفلٍ أليف، قرّر أن يُربّي الجداول والأشجار»، ويتذكر في حين آخر كيف «كان يجري في صِباه دون هوادة، ويقطع الوعود للغيم والمروج»، وتتهادى إلى مخيّلته في أحيان أخرى مغامرات الصِبا الجامحة: «كنّا قبيلةَ الأطفال التي تهدّد أمن الحيّ بالضحك، تغزو البساتين دون هوادة، وتُملي على الأيام أسماءها».

ومع حدائق الطفولة: (كلّ التفاصيل على البال)، ولهذا سيرى كلما تطلعت عيناه نحو الأعالي «طائرات الأطفال الورقية»، ويكفي أن تتداعى أمامه بعض الملامح القديمة حتى يكتشف قدرته على الطيران، فعندما يمرّ عليه عيد ميلاده، يستوقفه مستعيدًا حبورهما المشترَك: «كنتَ في الصِغَر أكثرَ وسامة، كلما نظرتَ إلى أمي وهي تبتسم، حطّتْ على كتفك فراشة، وكلما سمعتَ أبي يغنّي، نبتتْ في ساعدك ريشة».

ولكنّ هذه الذكريات الطفولية نفسها قادرة أيضًا على أن تُدخله في طقوس الوحشة وهلع المطاردة حين يحاصره الإحساس باليُتْم والضياع في الأيام الدائخة: «كلُّ هذا حدث لأنك فتّشتَ صور العائلة، وأنتَ أعزل وبلا حصانة، وجدتَ صغيرًا لا يُشبهك أبدًا، ويحمل اسمك الرباعي، جالسًا بين أمّك وأبيك».

ومِن تنهّدات الطفولة الغائرة سيستعيد ذلك اليوم البعيد ثقيل الوطأة، حيث «بزغ طيفُ العدم، في فجر هزيمة الأطفال، لـمّا فقدوا صبيّة تتنفّس بصعوبة، ولم تعد إلى ساحة اللعب مجددًا»، ولأجل حزن هؤلاء الأطفال سيرفض منطق القتال والحروب، وسيقرّع الخائضين فيها: «ما أتعسكم أيها الجنود! لم تذهبوا مع أطفالكم صباحًا إلى المدرسة، بل ذهبتُم إلى الأطفال البعيدين، كي تمنعوهم من الذهاب برفقة آبائهم».

ومن بين لوحات الطفولة تبرز لوحتان أطال الشاعر فيهما نَفَس الاستحضار، الأُولى في نص (الطوفان)، مصوّرًا فيها تهويمات طفل منفرد وسط البريّة مع الحكايات والعوالم المتخيّلة، بينما تحكي اللوحة الثانية أسطورة شعبية صدّقها الكثيرون في طفولتهم، ولكنّ التصعيد الشعري ينقل أجواءها إلى مستوى بعيد من مفارقات التأمّل: «رمينا أسناننا اللبنية سُدًى للشمس، مضينا صوبَ الظهيرة، وقلنا بلغةٍ مثقوبة تفتقد التبسُّم: “هاتي سِنَّ غزال!”، ثم كبرنا يا صاحبي، وأدركنا أن الغزلان لا تضحك أبدًا، بل تُربّي الخوف في البراري، ومِن يومها لم نُعوّل على القطعان المهادِنة».

٧- روح الصداقة:

في نصه (٢٣ يناير) كتب الشاعر: «الأصدقاء لا يتحولون إلى قصائد، إمّا أصدقاء، أو خسارة فادحة»، ولكنّ الواقع الشعري لصالح زمانان يُثبت أن الأصدقاء يتحولون بالفعل إلى قصائد، فكثيرًا ما كتب نصًّا يرسم فيه حالة إنسانية لصديق، أو يبوح له بهواجسه، ثم يُهدي النص -حين يُنشر- إليه، ومن هنا تعدّدت في ديوانيه النصوص المصدّرة بعبارات الإهداء تعدُّدًا لافتًا، كما أهدى ديوانه (أعطال الظهيرة) إلى صديق أيضًا: «إلى من علّمنا أن الصداقة حِمل وسماح، وأن الرفاق معجزات»، وعلى طريقته في تصوُّر ما لا يُتصوَّر، وترقُّب ما لا يجيء، يُفرِد في الديوان نفسه نصًا كاملًا راشحًا بالشوق والترقب والانتظار، ويجعل عنوانه: (إلى صديق لم ألتقِه بعد) !

وترِقّ لغته في القصائد المهداة إلى الأصدقاء، حتى ليتأمّل أحيانًا في: «هذا السواد تحت عينيك يا صديقي، أعرفه، إنه منجم فحم، والعمّال المساجين فيه سيخرجون يومًا، سيصيرون حِزبًا، وستعمُّ الفوضى وجهك السعيد».

هكذا يغدو الشعر عند صالح زمانان نوعًا من التكريم المخلِّد للصداقة: «وكرَّمنا الصداقة، بذلنا فيها التهلكة، وآمنّا أن الصديق سلاح وبلاد»، هذه الخلاصة المقطّرة هي ما يقولها أيضًا سيّد الأنهار الشمالية وهو يرسل حكمته الأسطورية نحو الماء والمنازل: «الأصدقاء شجر».

وهذه الحقيقة سيدركها -ولو متأخرًا- الفتى المهووس بكنوز الجنوب المدفونة تحت صخرة (الغزالة الحجرية)، فحين تتحرر الغزالة المتحجّرة من تابوتها الصخري أمام عينيه، وتفرّ صوبَ المراعي في (وادي غويج)، يكتشف الفتى أخيرًا ذاته الغائرة، والمتحدّرة «من سلالة النار والقمر، حيث البلاد غالية طويلة، والصديق حجاب وكتِف».

وبعد، فلا أجد ما يمكن أن يُختم به هذا التطواف المترامي في حدائق صالح زمانان، غير باقةٍ من الذكريات ينتقيها بعناية (الجنوبي) الآخر: أمل دنقل، باقة يمكن أن نستحضر من خلالها بعض مفاتيح هذه الشعرية المختلفة، يقول دنقل: «هذه الصورةُ العائلية: كان أبي جالسًا، وأنا واقفٌ تتدلّى يداي، رفسةٌ مِن فَرَسْ، تركتْ في جبينيَ شجًّا، وعلّمت القلبَ أن يحترِسْ، أتذكّرُ سالَ دمي، أتذكّرُ مات أبي نازفًا، أتذكّرُ هذا الطريقَ إلى قبرهِ، أتذكّرُ أختي الصغيرةَ ذاتَ الربيعين، لا أتذكّرُ حتى الطريقَ إلى قبرها المنطمِسْ، أوَ كان الصبيّ الصغير أنا؟ أم تُرى كان غيري؟… -هل تريد قليلًا من الصبرِ؟ -لا، فالجنوبيُّ يا سيّدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنْه، يشتهي أن يُلاقي اثنتينِ: الحقيقةَ، والأوجُهَ الغائبةْ».

 

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.