تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
الآراء والأفكار الواردة في المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط
لتحميل المقالة: طغيان العمل
عندما أصبح أندرو راسل يافعًا، تولى أول وظيفة يمكنه الحصول عليها. فكان، في وقتٍ متأخرٍ من صيف نبراسكا، يسير عبر صفوف الذرة الطويلة في الحقول الموحلة لتفكيك أهداب الذرة. لقد كان غالبًا ما يعمل حتى الساعات التي تشرق فيها الشمس على الغروب، مرسلةً ضوءها في الأفق، منعكسةً على القشور إلى عينيه. يمكن أن تؤدي إزالة الأهداب – التي تنتج حبوب اللقاح من سيقان الذرة – إلى زيادة الغلة التي قد تحدث بطريقةٍ أخرى من خلال التلقيح المفتوح. ونظرًا إلى أن المزارع الصناعية الأكثر تقدمًا فقط هي التي أتمتت هذه المهمة، فقد نُفِّذت المهمة في الغالب بالطريقة القديمة: باستخدام الأطفال، وهو تذكيرٌ لطيفٌ بأن الماضي لم يُغادرنا حتى الآن. لذلك غالبًا ما تنظر العائلات، في جميع أنحاء المناطق الريفية في الغرب الأوسط الأمريكي، إلى هذا الأمر على أنه طقس عبورٍ إلى مرحلة البلوغ. لكن راسل لم يهتم كثيرًا بالطريقة التي ينظر إليه الآخرون بها؛ إذ كان يفعل ذلك لنفسه. يقول: «كنت أعرف أنني يجب أن أجعل من نفسي شيئًا مميزًا، واعتقدت أن العمل هو طريقة فعل ذلك».
لقد نشأ وهو يشاهد والديه يعملان بجدٍ ولكنهما لم يحرزا أي تقدمٍ على الإطلاق؛ إذ كانت والدته مديرة كازينو في محمية هندية خارج شادرون، نبراسكا. وكان والده يعلّق الألواح الجصية ويعمل على السيارات، مع أنه كان يتلَّقى ضمانًا اجتماعيًّا منذ أن أدرك راسل الدنيا. ولكونه الابن الأصغر، بين أربعة أشقاء، لم يصل إليه قدرٌ كافٍ من المال والوقت والموارد.
في المدرسة الثانوية، قارن راسل نفسه بمَن هم أغنى منه، وبدأ في اتخاذ تدابير لتلبية احتياجاته وتطلعاته؛ إذ تدرب كميكانيكي سيارات، وشذَّب الأشجار كمنسق حدائق. وكان يضع الجص والخرسانة ويعلّق اللوح الجصي كوالده، كعاملٍ في مواقع البناء. وبطبيعة الحال، كان يُعد البرغر في مطعم ماكدونالدز. وعلى الرغم من أنه كان من الواضح أنه لا يفتقر إلى أخلاقيات العمل، إلا أن خياراته اقتصرت على العمل اليدوي والعمل منخفض الأجر. بمرور الوقت، وجد راسل نفسه منجذبًا إلى طُرُقٍ أخرى لكسب المال بسرعة، فقد أراد أن يكون مكتفيًا ذاتيًّا، ولم يكن يستمتع بوتيرة الوظائف منخفضة الأجر أو رتابتها؛ فانخرط في السوق السوداء وسرقة الهواتف والسجائر والسيارات وبيعها. وفي نهاية المطاف، بدأ في الإتجار في الميثامفيتامين (الميث).
يُدمِّر الميث أسنان الإنسان وجلده، ومن ثم يقتله؛ لكنها كان تجارةً رابحة مقارنةً بأعمال راسل الأخرى. وفي الوقت الذي كان راسل يبيع فيه الميث، تزايد عدد سكان ولاية نبراسكا الذين يسعون إلى الحصول على المساعدة في المسائل الصحية المتعلقة بالميث أكثر من أي وقتٍ مضى في تاريخ الولاية. كان ذلك شائعًا ومُستفحلًا بشكلٍ خاص في أماكن مثل مدينة تشادرون، حيث كان راسل يعيش في مقطورةٍ مع صديقته آنذاك، على بُعد مئات الأميال من المراكز الحضرية في لينكون وأوماها. يقول: «كانت الأوقات سعيدة، والمال وفير؛ ولكن نفد حظي». فقد قُبِضَ على راسل فيما يعتقد أنه مكيدة، لكنه لن يعرف حقيقة ذلك أبدًا.
حُجز راسل في معسكر أخلاقيات العمل، وهو سجن متوسط الحراسة شمال غرب ماكوك، نبراسكا؛ حيث واجه عقوبة السجن لمدة ثلاث سنوات بتهمتين تتعلقان بالإتجار بالمخدرات. في عام 2000، خسرت ماكوك منافستها مع مدينة تيكومسيه لبناء سجنٍ متوسطٍ عالي الحراسة هناك. وبدلًا من ذلك، مُنِحت المدينة معسكر أخلاقيات العمل؛ وهي منشأة مصممة لتخفيف عبء السجون المكتظة بالولاية، ويُشير إليها السكان المحليون على أنها «جائزة ترضية».
غُيِّرَ اسم السجن، الذي كان يُسمى في الأصل باسم «معسكر عمل السجن»، ليعكس البرامج التعليمية الفريدة التي يُقدِّمها. إذ لا يكون المسجونون هناك مؤهلين لإطلاق السراح المشروط إلا بعد الانتهاء بنجاحٍ من برنامجٍ يتيح فرصةً «للعودة إلى مجتمعاتهم المحلية الأصلية -من السجن- بجدول عملٍ روتيني مُتّبّع، وخبرةٍ في العمل الجماعي، وأخلاقيات عملٍ إيجابية». ووفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن إدارة الخدمات الإصلاحية في ولاية نبراسكا، فإن هذا يشمل علاج التعديل الإدراكي الذي يقول الممارسون عنه إنه يمكن أن يؤدي إلى «سلوك أكثر ملاءمة»، وفصلًا دراسيًّا «يُركِّز على تغيير التفكير الإجرامي للمجرمين». وبالإضافة إلى «مقدمة نحو الأعمال التجارية»، يُركِّز المنهج بعمومه على عقلية السجين بقدر ما يُركِّز على المهارات وتهيئة القوى العاملة.
يقول شخصٌ آخرٌ تحدثت معه وكان أيضًا مسجونًا هناك: «من المهم أن تؤمن بالعمل بقدر إيمانك بما تفعله. إنه سجن، لكنه أيضًا مدرسة»، مضيفًا أنه قلقٌ من أن هذا قد يبدو وكأنه تناقض. وشدد على أن «السجون تعطي دروسًا في الحياة، وليس هناك شيء أكثر أهمية من تعلُّم العمل».
لم يكن راسل مقتنعًا بالمثل: «وجهة نظري في الوظائف، عندما كنت مسجونًا، هي إنها جميعًا دون جدوى. إنهم يتوقعون منا العمل والكد مقابل مبلغ زهيد من المال… لا يختلف عقل العامل كثيرًا عن عقل المجرم، لكنها طرق مختلفة في كسب المال، أعلم ذلك جيدًا». يُقدِّر راسل أنه عمل ما معدله من 30 إلى 40 ساعةً في الأسبوع في مقصف السجن، إضافةً إلى بعض الأوقات المُتفرقة في بناء المنازل في المنطقة أو تنظيف أكتُف الطرق السريعة المحلية. وفقًا لمتحدث باسم معسكر أخلاقيات العمل فإن معظم الوظائف تدفع 1.21 دولارًا في اليوم من أجل تحفيز أخلاقيات العمل الإيجابية. إذا كانت هناك وصفة لمحو أخلاقيات العمل، فيبدو أن هذه الوصفة ستتمثل في إعطاء الأشخاص وظائف غير مرغوب فيها لساعات طويلة وبأجور زهيدة.
قبل سنوات، وضعت تنبيهًا أسبوعيًّا في تنبيهات غوغل لعبارة «أخلاقيات العمل»؛ لمساعدتي في جمع المواد للكتاب الذي كنت أكتبه. لقد قرأت الآلاف من هذه المقالات على مر السنين. لا تثير هذه التنبيهات الاهتمام إلا قليلاً، بوصفها قصصًا فردية. إذ تدور نسبة كبيرة من المقالات المكتوبة في الصحف والمجلات الأمريكية التي تحتوي على عبارة «أخلاقيات العمل» حول الرياضة، حيث يُشاد بالنجوم الرياضيين إشادة دائمة تقريبًا لالتزامهم دون كلل بالتدريب الذي يقود إلى المثالية. ويقول آخرون نفس الشيء عن السياسيين، وجزء كبير من مقالات الرأي التي يكتبها مسؤولون منتخبون أو قادة أعمال يشتكون من الحالة المزرية لأخلاقيات العمل بين شباب اليوم.
لكن إذا نظرت إلى الأمر في مجمله، فستجد إن هذه المقالات تسلِّط الضوء على قلق شديد بشأن مبدأ أساسي من مبادئ الدِّين المدني الأمريكي؛ فأخلاقيات العمل تُشكِّل عمود سياسات الهوية الوطنية. إن القراءة بين السطور، عبر وسائل الإعلام أو حتى مجرد تصفح العناوين الرئيسية، تعطي انطباعًا بأننا أمة تواجه هجومًا. إذ أظهر أحد الاستطلاعات الوطنية، في عام 2015، أن 72 في المئة من المستجيبين للاستطلاع قالوا إن الولايات المتحدة «لم تعد عظيمةً كما كانت من قبل». وكان السبب الرئيسي لذلك هو تراجع إيمان البلد بقيمة العمل الجاد؛ إذ اعتقدت الأغلبية أن «أخلاقيات عملنا المتقهقرة» تشكل تهديدًا للعظمة الأمريكية أكثر من تنظيم الدولة الإسلامية، وعدم المساواة الاقتصادية، والمنافسة مع الصين.
يثير القلق المستشري، إزاء تضاؤل أخلاقيات العمل الحيرة عند مقارنته بالبيانات الفعلية حول مقدار الوقت الذي يقضيه الأمريكيون في العمل. إذ ارتفعت ساعات عمل جميع العاملين بأجور ورواتب بنسبة 13 في المئة من عام 1975 إلى عام 2016، أي ما يقرب مجموعه من خمسة أسابيع إضافية في السنة. وهناك أدلة على أن أولئك الذين ما زالوا يعملون في الوباء، يقضون ساعات أطول من ذي قبل. وبالإضافة إلى ساعات العمل الطويلة، يعاني العمال من جداول زمنية غير منتظمة، متقلبة عن عمد، تتغير حسب نزوات أرباب عملهم. هناك كذلك عدد كبير ممن يسمون بالعاطلين عن العمل لا إراديًّا، الذين يسعون باستمرار إلى المزيد من ساعات العمل بما يكفي للبقاء على قيد الحياة، لكن لا يجدون. تحدد هذه السمات الثلاثة – الإجهاد في العمل، والجداول غير المستقرة، وعدم توفر ساعات كافية – التناقض الزمني لحياة العمل اليوم، وخصوصًا للعمال ذوي الأجور المنخفضة. لم يكن هناك تمديد بسيط شامل لساعات العمل، إنما تعكس إعادة التوزيع غير المتكافئة لوقت عملنا تفاقم انعدام الأمان الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي. من السهل فهم لماذا يعمل الناس؛ ولكن بالنظر إلى مشقة العمل وبشاعته، ما الذي يدعم الاعتقاد بأن العمل مفيد لنا؟
يتطلب تتبُّع تاريخ فكرةٍ ما إيجاد أصل هذه الفكرة. فأحد أسباب سيطرة فكرة أخلاقيات العمل علينا هو أنه لا يُنظر إليها عادةً على أنها مصلحة اجتماعية فحسب بل باعتبارها أيديولوجية بدائية، أي فكرة أساسية متغلغلة ليس لها أصل خارجي ولا سابقة تاريخية. وعادةً ما تُعتبَر الروح الكادحة مكونًا طبيعيًا من مكونات حمضنا النووي الثقافي، وسمةً موروثةً من الأسلاف البروتستانت؛ أو أنها – بوصفها خادمة للرأسمالية – قد بنت لنفسها أساسًا قويًّا في شخصيتنا الوطنية. من هذا المنظور، تكون ساعات العمل الطويلة منطقية.
لكن من التصوُّرات الخاطئة الشائعة أن ساعات العمل الطويلة مقارنةً بغيرها هي نتيجةٌ لنظام معتقدات أمريكي فريد؛ فقد كان الأمريكيون يعملون لساعات أقل من الأوروبيين في منتصف القرن. وقد أظهرت استطلاعات الرأي العامة في ذلك الوقت أن كلتا المجموعتين تبَّنت الإيمان بقيمة العمل الجاد بنفس الشدة. واليوم، يعمل الأمريكيون لساعات أكثر – ما يقرب من ثمان ساعات أكثر من الألمان، وست ساعات أكثر من الفرنسيين أسبوعيًّا – ويُقرُّون أخلاقيات العمل بمستويات أعلى، ويشمل ذلك العمال ذوي الدخل المحدود والعاطلين عن العمل. ويعتقد العمال الأصغر سِنًّا اليوم – الذين غالبًا ما يُفترى عليهم باعتبارهم كسالى ومُدللين – أن «العمل الجاد مهم لإحراز التقدم» أكثر من الأجيال السابقة. يشير هذا التلازم إلى أن الأمريكيين يحصلون، بشكلٍ متزايد، على ما يريدون: أي المزيد من العمل.
لكن وجدت خبيرة الاقتصاد جولييت شور أن العُمَّال قد عَدَّلوا توقعاتهم مع زيادة ساعات العمل؛ إذ أبلغوا في الاستطلاعات عن رضاهم عن ساعات عملهم، على الرغم من الإبلاغ عن تفضيلهم لساعات أقصر في السنوات السابقة. وخلُصَت إلى أن العمال انتهى بهم الحال إلى أن «يُريدوا ما يحصلون عليه» بدلًا من أن «يحصلوا على ما يريدون». بعبارة أخرى، فإن أخلاقيات العمل هي شكل من أشكال الاستسلام ونتاج للهزيمة.
يعد عزو ساعات عملنا الاستثنائية إلى أيديولوجيةٍ ما خلطًا تعيسًا بين السبب والنتيجة؛ فالأيديولوجية ليست مُحرِّكَ تجاربنا المعيشية، بل نتيجةً لها. إن التزامنا الأيديولوجي بالعمل هو نتيجة العمل المستمر والمتكرر؛ أيْ فعليًا تأدية وظائفنا بانتظام يومًا بعد يوم. وليس هناك ما نفعله بنفس القدر من الانتظام، والشدة، والخضوع دون نقاشٍ كالعمل. نحن نبرر تجاربنا اليومية بتشكيل أنظمة اعتقادية تلائمها، وليس العكس. لذلك جادل الفيلسوف بليز باسكال – الذي عاش في القرن السابع عشر – بأنه عندما حلَّت الشكوكية محلَّ الاعتقاد الخالص، خاصةً بين المتدينين، كان ما غرس الإيمان فيهم هو ترددهم على الكنيسة أو صلاتهم على نحوٍ منتظم. بعبارة أخرى: إن استيقظت كل يوم وضممت يديك وصليت للسماء، فستؤمن بالإله في نهاية المطاف.
لأخلاقيات العمل مصدرٌ آخرٌ أيضًا: الحاجة لإثبات أنفسنا كمواطنين جديرين في المجتمع الرأسمالي. فمَن يُعدَّون جديرين – بالمزايا والحقوق والامتيازات والاستحقاقات – هم مَن يمكنهم إثبات قدرتهم على إجراء العمل المشروع المدفوع الأجر، أو مَن سبق لهم فعل ذلك في الماضي؛ ومن ثم فقد أسهموا في الدولة . يرتبط هذا البعد من أخلاقيات العمل ارتباطًا تاريخيًّا بهوية كونك منتجًا على مستوى الطبقة.
جادل أرسطو بأن وقت الفراغ – وليس العمل – هو مجال الحياة الذي يمكننا فيه تحقيق ذواتنا الحقيقية؛ حيث يسعى البشر إلى الكمال. ولطالما كان سؤال كيف نملأ أوقات فراغنا هو سؤال الحياة المنطلقة نحو الهدف. فقد أفسح صعود الرأسمالية المجال لتصور جديد لكلٍ من العمل والذات. وميَّزت البرجوازية الصاعدة في البلدان الرأسمالية المبكرة نفسها عن الأرستقراطية الطفيلية من خلال التركيز على وضعها الخاص كطبقةٍ منتجة. وكان إحساسها بالقيمة ومطالبتها بالسلطة يعتمدان على أخلاقيات عملها، التي رأت أنها تولِّد الثروة الحقيقية في المجتمع. ما يعنيه ذلك هو أن أخلاقيات العمل – كما نعرفها – لا تكاد تكون شعارًا رأسماليًّا. فقد جربتها البرجوازية،في الواقع، على نفسها أولًا.
وعندما أصبح الخمول رمزًا للنجاح بين النخب، اتخذت حركات الطبقة العاملة في وقتٍ لاحق نفس الموقف تقريبًا. فكان عليك بيع عملك للبقاء على قيد الحياة، لكن هذا العمل قدم أيضًا دورًا مفيدًا اجتماعيًّا؛ من خلال إنتاج الأشياء التي نحتاجها لعيش حياة سعيدة. واستمدَّ العمال – بوصفهم طبقة – المعنى من دعوى أنهم هم مَن يقدمون الصالح العام. فقد جادل المُنظِّر الاجتماعي ماكس فيبر في القرن العشرين بأن الأخلاق البروتستانتية انفصلت عن مراسيها الدينية، تاركةً قشرة أخلاقيات العمل لتعمِّر أكثر من العمل السماوي. وعبَّر الاقتصاديون السياسيون الكلاسيكيون – جون ستيوارت ميل وديفيد ريكاردو وآدم سميث – وناقدهم الأساسي كارل ماركس، من وقتٍ لآخر، عن نسخة تقدمية من أخلاقيات العمل. لم يكن الأمر مجرد نفاق رأسمالي، فحتى الحركات الاشتراكية سعت إلى رفع العامل الخاضع إلى مرتبة بطل المُجتمع. ومهما كانت الاعتبارات السياسية، فإن فائدة هذا المنظور هي أنه يُمكِّننا من رؤية أخلاقيات العمل على أنها نتاج اجتماعي، وليست وصية إلهية أو حقيقة غير تاريخية. ولأننا لم نولد بأخلاقيات العمل، فيجب تعلُّمها.
كثيرًا ما خدمت المدارس هذا الغرض على نحو ملائم تمامًا. افترض عالم الاجتماع البريطاني بول ويليس في كتابه الإثنوغرافي المهم «التعلُّم للعمل» (1977)، أن بعض «الفتيان» من الطبقة العاملة قاوموا التعليم الرسمي لأنهم اعتقدوا أن الخلاص يَكْمُن في وظائف عمال المصانع التي يشغلها آباؤهم. وحكم عليهم هذا التأثير بمستقبل يكونون فيه عمالًا بأجور منخفضة، وهي عملية أسماها ويليس «إدانة الذات». بيد أن القوة العاملة المنخفضة الأجر اليوم محكوم عليها بالعمل المنخفض الأجر من دون أن ترتكب أي عمل من أعمال التخريب الذاتي؛ إذ يُطلب من بعض الأطفال التنظيف في مدارسهم، ويُطلَب من آخرين بدء أعمال تجارية وإيجاد مدارس جديدة؛ وهي ديناميكيات طبقيَّة تستمر حتى سن البلوغ أيضًا. كانت الفكرة الرئيسية التي استُخلِصت من كتاب ويليس هي النظر إلى أخلاقيات العمل على أنها أخلاقيات طبقية، وليس مجرد اعتقاد فردي. لدينا عدد لا يُحصى من المؤسسات الاجتماعية الأخرى لغرس مثل هذه الأخلاقيات، مثل مواقع العمل، والكنائس، والمنظمات الأخوية، والعائلات، وحتى السجون.
الحياة في معسكر أخلاقيات العمل مملة للغاية، وفقًا لبعض السجناء الذين قابلتهم. فبطريقةٍ ما، لم يكن تعليم أيديولوجية اعتنقها العديد من السجناء بالفعل أو عارضوها بشدة، بلسمًا كافيًا على جرح السجن. علاوة على ذلك، فإن أخلاقيات العمل ليست مجرد اعتقاد، بل هي ممارسة مرتبطة ارتباطًا ملموسًا باستخدام الفرد لوقته الاختياري. إذ في السجن يكون الوقت خارجًا عن سيطرتك، وكذلك – بحكم التعريف تقريبًا – تكون أخلاقيات عملك. في معسكر أخلاقيات العمل، كان استخدام المخدرات المُهرَّبة والكحول المُهرَّب إحدى الطرق القليلة للتعامل مع الملل الأبدي. إلا أن راسل قد سأم بمجرد أن تخلَّى عن هذه العادة. وفي إحدى الأمسيات المبكرة بعد العشاء في ديسمبر عام 2016، كانت شمس الشتاء تلقي بضوء متوازي الأضلاع عبر ساحة السجن، فقرر الهروب. كان راسل عدَّاءً متميِّزًا في المدرسة الثانوية. بطوله البالغ 6 أقدام وبوصتين (188 سم)، صعد بسهولة فوق السياج الذي يبلغ ارتفاعه تسعة أقدام، وتجاوز ثلاث صفوف من الأسلاك الشائكة بقفزة واحدة، وهبط على الجانب الآخر من الجدار.
توجه مباشرةً إلى حقول الذرة، التي لم تكن بعيدةً عن الحقول التي كان يعمل فيها عندما كان صبيًّا. السهول العالية متواصلة في اتساعها؛ إنها تُمثِّل تكوينًا جيولوجيًّا دُفِعَ إلى أعلى عندما انغمست صفيحة فارالون في وشاح الأرض؛ما أدى إلى نضح المياه والمعادن المائية إلى داخل القشرة السفلية، وتسبَّب في تكوين هضبة. ولكن على مستوى السطح، تُجسِّد المنطقة الأراضي العشبية المُتموجة بلطف والسماء الشاسعة التي ألهمت الفنانين والمتجولين والحالمين منذ فترة طويلة. كما أنها تُنتج تقلبات شديدة في درجات الحرارة، إذ كان الجو باردًا جدًا في ذلك اليوم. حافظ راسل على وتيرة ست دقائق للميل، جزئيًّا للحفاظ على الدفء، ولأنه كان يجري من أجل حياته.
مع انتشار أخبار هروب راسل بين الشبكات الاجتماعية القديمة، ضاق عليه خناق حياته السابقة. فاتصل صديق قديم بالشرطة القبلية الهندية في داكوتا الجنوبية وسلَّمه مقابل مكافأة صغيرة. كان صباح عيد الميلاد عندما قُبِض عليه وأعيد إلى السجن، مع إضافة سنة إلى عقوبته.
عندما التقيت به أخيرًا، كان على بُعد أشهر فقط من إطلاق سراحه. إذ كان قد أطلعني في الرسائل التي تبادلناها على ما يعنيه تعلُّم خيرية العمل عندما لا تملك القدرة على الحصول على وظيفة فعلية: «أنا أعرف كيف أعمل بشكل جيد، فقد كنت أعمل عندما كنت طفلًا. ما الذي يحاولون إثباته؟». بعد ثلاث سنوات من العمل في سجن في «معسكر» مُصمَّم خصيصًا للحث على الإيمان القوي بالعمل الشاق، خرج راسل من السجن في 8 أبريل عام 2019 بمال يكفي بالكاد لشراء تذكرة حافلة إلى منزل والديه. اعترف قائلًا: « يجعلك ذلك تتساءل: ما الفائدة!! أحب أن أعمل بجد، لكن يجب أن يكون هناك فائدة من العمل، لكيلا أشعر أنني أضعت وقتي تمامًا. أريد أن أقوم بعملٍ حقيقي»، حيث يقصد شيئًا يرى أن له تأثيرًا اجتماعيًا على نوعية حياته ومن شأنه أن يحسِّنها.
لصنع الفيلم الوثائقي الغريب والقصير «العمل الحقيقي» (2016)، وظفت مجموعة من الأشخاص لحفر حُفر طيلة اليوم في حقل خالٍ، ثم أجريت مقابلات معهم حول حياتهم العملية. كان بعض الأشخاص الذين وظفتهم من المعارف المحليين، وآخرون استجابوا لإعلان في موقع كريغزلست الذي وضعته لعمال اليومية. أثار صنع هذا الفيلم الصغير حفيظة الكثير من الأشخاص الذين رأوا أنه خدعة قاسية تجاه أولئك الذين يحتاجون إلى بعض المال الإضافي. لكن خلال المقابلات، قارن المشاركون في الفيلم حفر الحُفر ليوم واحد بعملهم المعتاد بأجر. قال بعضهم إن وظائفهم سلطت الضوء على جانب أساسي من هويتهم، وهو ما لم يفعله حفر الحُفر. ورأى آخرون إن جرف الرمل في حقلٍ فارغ ذكرهم بالوظائف التي شغلوها ووجدوها عديمة الفائدة اجتماعيًّا أو دون معنى أو مهينة من الناحية الشخصية. كان هذا الشعور شائعًا – بشكل خاص – لدى الأشخاص الذين اضطروا إلى العمل بهذه الوظائف لتكملة العمل المفيد اجتماعيًّا الذي أحبوه لكن لم يكن عائده المالي جيدًا.
واحتار بعضهم في سبب حفرهم للحُفر، في حين لم يسأل آخرون حتى عن السبب. ومع ذلك، أصر الجميع على أنهم سيبحثون عن طرق تجعلهم مفيدين اجتماعيًّا في مجتمعاتهم إن توفَّر لهم المزيد من الوقت بعيدًا عن العمل. قال أحد الحفارين: «يعتقد البعض أن مقدار الساعات التي يعملون فيها هو مقياس لهويتهم، ولكن ما يهم حقًّا هو كل ما نفعله خارج وظائفنا لتعزيز مجتمعنا؛ هذا هو العمل الحقيقي». لقد كان يعرِّف «العمل الحقيقي» على أنه شيء يتجاوز القيمة السوقية على نحوٍ واضح، شيء جيد في حدِّ ذاته. إذا أردنا أن يصبح «العمل الحقيقي» أولوية، فسنحتاج إلى تغيير اعتماد مجتمعنا على الوظائف ذات الأجر المنخفض / ساعات العمل الطويلة، وإتاحة الوقت للناس ليعيشوا حياة ذات مغزى بعيدًا عن كدحهم اليومي. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا من خلال نقاش عام متجدد حول وقت العمل، مثلما حدث في أواخر القرن التاسع عشر وحتى الأربعينيات من القرن الماضي. فقد غذى شبحُ الحياة دون عمل العديدَ من المخططات الطوباوية لعدة قرون. لكن هناك أيضًا أساس منطقي وعملي: فنحن ببساطة لسنا بحاجة إلى الكثير من العمل لإنتاج ما نحتاجه وما نريده كما كنا نفعل من قبل. إذ تخدم ساعات العمل الطويلة أجندة سياسية وثقافية، بقدر ما تخدم ضرورة اقتصادية. وسيؤدي تجاوز اقتصاد الساعات الطويلة – في هذه العملية – إلى تغيير التزاماتنا الأيديولوجي بالعمل، وتقديم دروس مختلفة حول «الوقت الذي يُقضى على أحسن وجه».
لا نحتاج إلى سجون لتعليم أخلاقيات العمل أكثر مما احتاج النازيون إلى لافتة «Arbeit Macht Frei (العمل يُحررك)» على مدخل معسكر أوشفيتز. لا يُظهر معسكر أخلاقيات العمل سوى مدى اليأس الذي وصلنا إليه لغرس قيمة العمل كبديل للوظائف الجيدة. حيث تُحَوَّل أخلاقيات العمل بسهولة هذه الأيام إلى سلاح، لقربها مما يعنيه أن تكون ناجحًا في مجتمع رأسمالي. لكن حقيقة أن أخلاقيات العمل تستند أيضًا إلى الممارسة، وتتطلب الكثير من الرعاية؛ دليل على أنها ليست متينة كما تبدو على السطح، وهذه الهشاشة هي ما تعطينا بعض الأمل في إمكانية تجاوزها.
إذا تخلينا حقًّا عن أخلاقيات العمل، فلن يحدث ذلك إلا بعد أن يكفَّ العمل نفسه عن أن يكون شيئًا نعيشه طوال اليوم لتحقيق ربح خاص، ويصير شيئًا يوضع برسوخ تحت السيطرة الاجتماعية لتلبية احتياجات الإنسان. لا يمكننا الهروب من تعارضات بعض الأعمال الضرورية، لكن يمكننا إعادة تشكيل المؤسسات والوظائف التي تعزز أخلاقيات العمل. لذلك نحن بحاجة إلى إحياء معركة العمال المنسية، وهي حركة تدعو إلى ساعات أقصر لإعادة تقييم وقتنا. وستكون هذه الحركة الطموحة للحد من دور الكدح الضروري في حياتنا نضالًا على مدى الحياة، ولن يحدث ذلك إلا بشكلٍ متقطع وعلى مدى سنوات عديدة.
جيمي ماكالوم أستاذ مشارك في علم الاجتماع بكلية ميدلبوري في فيرمونت. وهو مؤلف كتاب «النقابات العالمية والسلطة المحلية» (2013) و«العمل المستمر: كيف أن العمل على مدار الساعة يقتل الحلم الأمريكي» (2020).
المصدر (وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى ومجلة إيون).