فيتغنشتاين، تولستوي، وعبث مساعي الوضعيّة المنطقيّة | ستيورات غرينستريت – ت: جوزيف بوشرعة

تستغرق 15 دقائق للقراءة
فيتغنشتاين، تولستوي، وعبث مساعي الوضعيّة المنطقيّة | ستيورات غرينستريت – ت: جوزيف بوشرعة

           تتوافق مئويّة الحرب العالميّة الأولى هذه السّنة [2014] مع شروع فيتغنشتاين في كتابة الرّسالة المنطقيّة الفلسفيّة (Tractatus Logico-Philosophicus)، وهو الكتاب الوحيد الذي نشره الفيلسوف النّمساويّ في حياته. وكما سنرى لاحقًا أنّ ممّا يثير الدّهشة  أنه كتب الكتاب ما بين سنة 1914م وسنة 1918م، وهو ما زال جنديًّا شابًّا شجاعًا يحارب على جبهات القتال.

         وفي يوليو سنة 1914م حينما وجدت أوروبّا كلّها نفسها في قلب الحرب كان لودفيغ فيتغنشتاين ابنَ أحدِ أغنى أغنياء الأمبراطوريّة النّمساويّة المجريّة يبلغ خمسًا وعشرين سنةً من العمر. فقد أمضى سنتين قبل الحرب (1911-1913م) في جامعة كامبريدج، حيث درس الفلسفة مع برتراند راسل الذي كان أستاذًا محاضرًا فيها. ولكنْ صودف وجوده في منزله في فيينا في الثّامن والعشرين من شهر يوليو سنة 1914م، حينما أعلنت دولته الحرب على صربيا. وبعد أسبوعٍ -أي: في اليوم الذي تلا إعلان النّمسا الحرب على روسيا أيضًا- تطوّع فيتغنشتاين في الجيش النّمساوي برتبة جنديٍّ عاديٍّ، رغم إعفائه من الخدمة الإجباريّة بسبب صحّته الهزيلة.

      لقد أُلحق فيتغنشتاين بفوج المدفعيّة، حيث أُلزم بكتيبةٍ تقاتل على الجبهة الرّوسيّة. ولمَّا وصل إلى الجبهة تطوّع الأخير إلى الذّهاب إلى أخطر الأماكن فيها؛ لأنّها كانت هدف نّيران العدوّ، وهي مركز مراقبةٍ في منطقة النزاع، حيث وجّه فيها نيران كتيبته نحو العدوّ.

     لقد أظهر فيتغنشتاين جرأةً لا مثيل لها في الحرب، فرُقّي أوّلًا إلى رتبة عريفٍ، ثمّ دُرِّبَ ليكون ضابطًا. كما نُوّه على شجاعته في يونيو سنة 1918م: «إنَّ سلوكه الشجاع الذي لا يوصف ورباطة جأشه وبطولته نالت تقدير الجنود الكامل»، ثمّ أوصي بنيله الوسام الذهبيّ للبسالة «Gold Medal for Valour»، وهو الوسام النّمساويّ الموازي لوسام صليب فيكتوريا «Victoria Cross»، ثمّ كُرّم بوسامٍ دوين هذا الوسام المشرّف، أي: الوسام الفضّيّ للبسالة «Silver Medal for Valour». وقد كان في ذلك الوقت يعمل مراقبًا للمدفعيّة التي كانت تضرب الجنود الفرنسيّين والبريطانيّين والإيطاليّين المتمركزين في جبال ترانتينو. وقَبض عليه الإيطاليّون قبل انتهاء الحرب بأيّام في نوفمبر سنة 1918م، حيث وضعوه في معسكر اعتقال أسرى الحرب في كومو. ويصعب علينا أن نتخيّل امرَأً خاطَر بحياته يوميًّا، بينما كان في الوقت نفسه يكتب ما سيُعرف لاحقًا مُؤَلَّفًا فلسفيًّا كلاسيكيًّا لا يزال مَحطّ تقديرٍ وإعجابٍ ولم تتوقف إصدار طبعاته حتى الآن.

الرّحلات الفلسفيّة

        أودّ قبل أن أتطرّق إلى غاية كتاب الرّسالة أن أشير إلى تأثير ليو تولستوي عليها، ثم أدخل إلى لبّ موضوع هذه المقالة.

 بينما كان فيتغنشتاين خارج الخدمة العسكريّة في سبتمبر 1914م، زار بلدة تارناو التي كانت آنذاك  تابعة لمقاطعة غاليقيا النّمساويّة، وقد أصبحت الآن ضمن حدود بولندا الجنوبيّة، حيث دخل فيها إلى متجرٍ صغيرٍ لم يبدُ عليه أنّه يبيع شيئًا ما عدا بطاقات الصّور البريديّة. ولكنَّ فيتغنشتاين -كما كتب برتراند راسل في رسالةٍ- «عثر في المتجر على كتابٍ واحدٍ، وهو كتاب تولستوي في الأناجيل. فاشتراه؛ لأنّه لم يعثر على غيره. ثمّ قرأه مرارًا، وحمله أبدًا معه، حتّى في مرمى النّيران». لذا؛ لا عجب أنْ بات يُعرف فيتغنشتاين عند زملائه الجنود بأنّه «الرّجل ذو الأناجيل». لكنّ كتاب تولستوي هو إنجيلٌ واحدٌ، وهو ما يُستدلّ من عنوانه: مختصر الإنجيل «The Gospel in Brief». وإنه -على حدّ تعبير تولستوي في تمهيد الكتاب- «جَمْعٌ للأناجيل الأربعة في إنجيلٍ واحدٍ». فقد لخّص تولستوي أخبار الأناجيل الأربعة عن حياة المسيح وتعاليمه في قصّةٍ واحدةٍ شيّقة. وبلغ تأثّر فيتغنشتاين بهذا العمل حدّ تشكيكه ما إذا كانت الأناجيل الفعليّة أفضل من جمع تولستوي، حيث أخبر صديقه لودفيغ فون فيكر: «إنْ لم تطّلع على هذا العمل، فلن تستطيع تصوّر التّأثير الذي قد يحدثه في المرء»؛ إذ زرع الكتاب إيمانًا مسيحيًّا في نفس فيغنشتاين، حيث كتب الأخير قبل شروعه في مهامه اللّيليّة بمركز المراقبة: «ربّما يجلب لي دنوّ الموت نور الحياة. فلينوّرني الله. سأصبح رجلًا بالله. ليكن الله معي. آمين».

وحدةٌ من فوج المدفعيّة النّمساويّ في الجبهة الشّرقيّة، 1915م.
وحدةٌ من فوج المدفعيّة النّمساويّ في الجبهة الشّرقيّة، 1915م.

     أمّا الرّسالة، فعندما كتب فيتغنشتاين -وهو ما زال بعدُ أسيرًا في إيطاليا في مارس 1919م- إلى برتراند راسل طالبًا منه زيارته في معسكر أسره الذي بات في كاسينو. إذ قال له: “إنّه دوّن نتاج خمس سنواتٍ من العمل على شكل رسالةٍ”.ورغم استحالة زيارة راسل له، فقد تمكّن فيتغنشتاين من إرسال مخطوطة العمل إليه. ونُشرت الرّسالة بمعونة راسل الذي قدّم الكتاب في إنكلترا سنة 1922م، حيث وُضع فيها النصّ الألمانيّ مقابل التّرجمة الإنكليزيّة.

       والخلاصة: تُفيد الفكرة الأساس في الرّسالة أنّ القضايا -أي: الجمل التي تؤكّد وقائعَ، نحو قولك: «إنّها تمطر»- صورةٌ لما تصفه القضايا نفسها. وهذه هي نظريّة الصّورة في اللّغة عند فيتغنشتاين «Picture Theory of Language»، أو كما دعاها نظريّة التّصوير المنطقيّ «Theory of Logical Portrayal»:

«يمكننا القول مباشرةً: عوضًا عن: لدى هذه القضيّة؛ هذا [اتّجاه] المعنى وذاك: تمثّل هذه القضيّة؛ هذهِ الحالة وتلك. إذ تصوّرها منطقيًّا. فلا يمكن أن تكون القضيّة صادقةً أو كاذبةً إلَّا  على هذا النّحو، فلا يمكنها سوى أن تتطابقَ مع الواقع أو تختلف عنه، وذلك بوصفها صورة  حالةٍ ما» (Notebooks p.8).

ثمّ أضاف لاحقًا:

«المشكلة الكبرى التي تعرض كلّ شيءٍ أكتبه: هل ثمّة نظامٌ قبْليٌّ في العالم؟ وإن وُجد فممّا يتألّف؟»

          قصد فيتغنشتاين بقوله: «نظامٌ قبْليٌّ في العالم» نظامًا نعرف أنّه موجودٌ في العالم دون الرّجوع إلى تجربتنا عن العالم. فلقد شعر الأخير أنّه مجبرٌ على استخلاص نتيجةٍ مفادها: لا نظام؛ لأنّ العلاقات القائمة بين رموز القضيّة هي التي تصوّر هذا النّظام منطقيًّا.

         فلا حاجة لنا إلى السّعي خلف هذه الفكرة المبهمة؛ لأنّ فيتغنشتاين نفسه رفض نظريّة الصّورة لاحقًا بوصفها تبسيطًا مفرطًا لطريقة عمل اللّغة. إذ أقرّ الفيلسوف في تمهيد كتابه: تحقيقًات فلسفيّة «Philosophical Investigations» المنشور بعد  إحدى وثلاثين سنة عام 1953م (أي: بعد سنتين من وفاته): «دُفعت منذ أن بدأت  أشغل نفسي بالفلسفة مجدّدًا -أي: منذ ستّ عشرة سنة- إلى الإقرار بأخطاء كبرى اقترفتها في الكتاب الأوّل» (أي: الرّسالة). لقد حاجج فيتغنشتاين في التّحقيقات الفلسفيّة ضدّ ما كتبه في الرّسالة؛ إذ أقرّ الآن بأنّ اللّغة مجموعةٌ شاسعةٌ من النّشاطات المختلفة التي يسمّيها ألعاب اللّغة «language games»، حيث لدى كلّ لعبةٍ منطقها الخاصّ.

حلقةٌ في فيينا

         كانت الوضعيّة المنطقيّة «Logical Positivism» نظريّةً بلورتها حلقة فيينا «Vienna Circle» في عشرينيات القرن العشرين، وهي مجموعةٌ من الفلاسفة الذين ارتكز عملهم في مدينة فيينا (بديهيًّا). وكانت رسالة فيتغنشتاين الدّافع الأساس في تشكيلها، فقد هيمن الكتاب على الفلسفة التّحليليّة في عشرينيات وثلاثينيات القرن عينه. أمّا الحلقة فيعود تأسيسها أصلًا إلى موريتز شليك الذي قدم فيينا سنة 1922م، حيث عمل أستاذًا في فلسفة العلم الاستقرائي، وضمّت الحلقة -إلى جانب شليك- رودولف كارناب، وأوتو نويرت، وفريدريش فايسمان، وغيرهم من المفكّرين المقتدرين، لكنّها لم تضمّ فيتغنشتاين نفسه؛ إذ عجز أعضاؤها عن استمالته لحضور اجتماعاتهم. كان للحلقة برنامج أبحاثٍ ومجلّةٍ تُدعى إيركنتنيس «Erkenntnis» لنشر نتائج الأبحاث. وقد حدّد فايسمان سمة الوضعيّة المنطقيّة وهو مبدأ التّحقّق «the principle of verification». ويفسّر فايسمان هذا المبدأ بقوله:

«إذا لم تكن وسيلةٌ لمعرفة  إن كانت القضيّة صادقةً أم لا، فليس لهذه القضيّة أيّ معنى؛ لأنّ معنى القضيّة هو منهجها في التّحقّق. والحقّ أنّه يجب على من يتلفّظ قضيّةً أنْ يعرف الظّروف التي  سيحكم إثرها إن كانت القضيّة صادقةً أم كاذبةً؛ وإنْ عجز عن القيام بذلك، فهو لا يدرك ما قاله». [التّشديد في النّصّ بتصرّفي] (A Logical Analysis of the Concept of Probability, Erkenntnis 1, 1930-1).

      إذن افتُرض أنْ يكون مبدأ التحقّق معيارًا لتحديد  إن كانت كانت الجملة ذات معنًى أم خاليةً منه، ويشترط هذا المعيار على المستخدم معرفة الشّروط التي تكون فيها تأكيدات الجملة قابلةً للتحقّق.

      رسم هذا المبدأ خطًّا فاصلًا  بين العلم وبين ما يدعوه أعضاء الحلقة «الميتافيزيقيا» «metaphysics» استخفافًا، وهي لفظةٌ استخدموها مرادفةً للفظة الخالي من المعنى «nonsense». أفاد مبدأ التحقّق عندهم أنّ القضايا المرتبطة بالمسائل ذات الوقائع القابلة للتحقّق تجريبيًّا (مثل: «لا تزال ممطرةً»)، أو العلاقة المنطقيّة القائمة بين المفاهيم، (نحو: «إنّ انهمار المطر أثقل من  الوَابِلْ») هي قضايا ذات معنى. أمّا القضايا التي لا تندرج تحت هذين النّوعين فتعجز عن الالتزام بالمبدأ،  ومن ثَمَّ تكون خاليةً من المعنى. لذا؛ فما يلزم عن ذلك أنّ قضايا علم الأخلاق والجماليّات والدّين إنما هي تفاهاتٌ خاليةٌ من المعنى. والأمر نفسه ينطبق على أيّة قضيّةٍ تعبّر عن حكمٍ تقييميٍّ بصفتها متميّزةً عن القضايا المرتبطة حصرًا بالوقائع.

        وقد حضر اجتماعات حلقة فيينا إنكليزيٌّ واحدٌ، وهو ألفرد جولز آير الذي نشر في سنّ السّادسة والعشرين سنة 1936م كتابًا عنوانه: اللّغة، والحقيقة، والمنطق. «Language, Truth and Logic» وهذا ما أثار اهتمام العالم النّاطق بالإنكليزيّة في أفكار حلقة فيينا. وعنوان الفصل الأوّل من هذا الكتاب الدّوغمائيّ المتعجرف: «إزالة الميتافيزيقا» «The Elimination of Metaphysics»، وتكمن الطريقة -حسب آير- في الآتي:

      «يمكننا تعريف الجملة الميتافيزيقيّة بأنّها جملةٌ تعبّر عن قضيّةٍ أصيلةٍ، بينما لا تعبّر في الواقع عن طوطولوجيا ولا عن فرضيّةٍ تجريبيّةٍ. ولأنّ الطّوطولوجيّات والفرضيّات التجريبيّة تكوّن القضايا المهمّة كلّها، فسيكون استنتاجنا أنّ التّأكيدات الميتافيزيقيّة كلّها خاليةٌ من المعنى مبرَّرًا».

     وا حسرتاه على إيمانويل كانط الذي قضى تلك السّنين جاهدّا في التّحليل الميتافيزيقيّ هباءً! هذا تحليله لمفهوم الإرادة الحرّة بات خاليًا من المعنى. إنّ جملة «أختار بحريّةٍ» ليست طوطولوجيّةً ولا فرضيّةً تجريبيّةً؛ (لأنّه لا يمكن برهنتها أو دحضها تجريبيًّا)؛ ومن ثَمَّ لا بدّ أن تكون  تافهة. أليس هذا صادمًا؟

     لا يبدو أنّه خطر على أعضاء حلقة فيينا أنّ قضيّة «معنى القضيّة هو منهجها في التحقّق» هي في ذاتها تأكيدٌ ميتافيزيقيٌّ لا يمكن التحقّق منه باختبار التّحقّق عينه، أي: إنّ عقيدتهم تنقض ذاتها؛ فلا بدّ أن تكون باطلةً.

عالم المنطق الماورائيّ.

      رأينا آنفًا أنّه عندما خاطر فيتغنشتاين بحياته يوميًّا في أرض المعركة وجد العزاء في جمع تولستوي للأناجيل، ويتّضح ذلك من جملة صلاته: «فلينوّرني الله». وتجربته في الحرب سنة 1916م جعلت منه رجلًا مختلفًا عن ذاك الشّخص الذي التقاه راسل سنة 1911م.

 كذا اتّسع نطاق الرّسالة التي لم تعد محدودةً في إطار ارتباط اللّغة بالعالم منطقيًّا وصوريًّا، إذ بدأ فيتغنشتاين يشعر بأنّ المنطق وما يطلق عليه تسمية «الماورائيّة» «mysticism» ينبتانِ من الجذور نفسها. وهذا ما يفسّر الفكرة الثّانية الكبرى في الرّسالة، وهي الفكرة التي تجاهلها الوضعيّون المنطقيّون، وهي فكرة وجود ضربٍ من الحقيقة لا يمكن التلفّظ به «unutterable»،، وهو الضرب الذي  يظهر نفسه. وهنا يتّضح المقطع الرئيس (522 /6) في الرّسالة:

«ثمّة أشياء لا يمكن بللكلمات أن تعبر عنها؛ فهي  تظهر نفسها. إنّها  الروحانيات».

     وبمعنى آخر، ثمّ ضربٌ مختلفٌ من الحقيقة عن تلك التي نستطيع التّعبير عنها في قضايا قابلة للتحقّق تجريبيًّا أو منطقيًّا، وتقع هذه الحقائق المختلفة على الجانب الآخر من الخطّ الفاصل لمبدأ التحقّق.

     يهدف فيتغنشتاين في تأكيده هذا الأمر إلى حماية المسائل التي تحمل قيمةً من استخفاف ذوي العقليّة العلميّة بها أو دحضها، كمثل الوضعيّين المنطقيّين في حلقة فيينا. وعبّر عن موقفه دون لَبسٍ في هذه المقاطع المتتالية:

«إنَّ معنى العالم يجب أن يكمن خارج العالم. يكون كلّ شيءٍ في العالم على ما هو عليه، ويحدث على النّحو الذي يحدث عليه. وليس ثمّة قيمةٍ فيه، وإن وُجدت، فستكون بلا قيمة، وإذا كانتْ ثمّة قيمةٌ معتبرة فلا بدّ لها أنْ تقع خارج كلّ ما يحدث وما يكون؛ لأنّ كلّ ما يحدث وما يكون على ما هو عليه، عرضيٌّ. ولا يستطيع ما يجعله غير عرضيٍّ أن يكون قائمًا في العالم، وإلاّ فسيكون هذا الشّيء عرضيًّا مجدّدًا؛ فلا بدّ له أن يقع خارج العالم». (41 /6)

       وبمعنى آخر، الأفعال والأحداث كلّها في العالم عرضيّةٌ «contingent» («مُصادِفةٌ»)، لكنّ المسائل التي تحمل قيمةً هي عرضيّةٌ  لزومًا؛ لأنّها أعلى من أن تكون عرضيّةً أو أهمَّ من ذلك؛ فلا بدّ أن تكون خارج عالم القضايا التجريبيّة:

«لا يمكن إذن أن توجد قضايا أخلاقيّةٌ أيضًا؛ لأنّ القضايا لا يمكن أن تعبّر عمّا هو أعلى منها». (42/ 6)

«ويتضح أنَّ الأخلاق لا يمكن التّعبير عنها. إنّ الأخلاق  مثالية». (421 /6)

        ( ينبغي عدم الخلط بين لفظة «المثالية» «Transcendental» المذكورة وبين لفظة «المتعالية» «transcendent»؛ إذ إنّ الأولى مستخدمةٌ هنا في معناها الفلسفيّ التّقنيّ للإشارة إلى ما لا تستطيع الحواسّ اختباره، ومن ثَمَّ ما يقع خارج مجال العلم الذي يختصّ بما يمكن لحظه عيانيًّا).

      الفيلسوف الشّاب فرانك رامزي الذي ساعد على ترجمة أوّل طبعةٍ إنكليزيّةٍ للرّسالة لاحظ أنّ نعت علم الأخلاق بـ«التّفاهة، لكنّها تفاهةٌ مهمّةٌ» أشبه بقيامك بالشّيء ونقيضه. وإنَّ هذا الكلام لَتعبيرٌ سطحيٌّ من رامزي الذي يمكننا التّسليم بأنّه قرأ نقد العقل المحض «Critique of Pure Reason» لكانط (مثلما فعل فيغنشتاين)، واطلع حتمًا على الجملة الشهيرة في تمهيد الكتاب، ومفادها أنّ كانط «وجد في إزاحة المعرفة ضرورةً لإفساح مجالٍ أمام الإيمان»، وعنى كانط بذلك أنّه أزاح منظورًا علميًّا حصريًّا للعالم، وهو منظورٌ للعالم سلّمت به حلقة فيينا ومنها ألفرد جولز آير. تمثّلت غاية كانط لتبرير تصوّرنا لذاتنا في أنّنا فاعلون عاقلون نستطيع بالإرادة الحرّة أنْ نحكم أنفسنا بحريّةٍ تبعًا للقانون الأخلاقيّ. ولا يجب –حسب كانط- على قوانين الطّبيعة التي تنطبق على العالم المادّيّ أن تحدّ إرادتنا بقبضتها الحتميّة؛ وذلك كي يكون الخيار الأخلاقيّ الحرّ ممكنًا. لذا؛ لا بدّ لخياراتنا الأخلاقيّة أن تكون مستقلّةً عن الطّبيعة. وهكذا يكون علم الأخلاق ترانسندنتاليًّا حتمًا عند كانط وفيتغنشتاين. ثمّة أمورٌ غامضةٌ تتجاوز العقل البشريّ أشواطًا  حتى إنَّه يلزم أن تكون تفسيراتها اللاّهوتيّة كلّها مغلوطةٌ. ولعلّ أكثر شيءٍ نستطيع أن نأمله هو أن تكشف كلماتنا لذاتنا عن مدى جهلنا.

مدينة فيينا في مطلع القرن العشرين عندما تأسّست حلقة فيينا.
مدينة فيينا في مطلع القرن العشرين عندما تأسّست حلقة فيينا

الفلسفة ليست علمًا

       وردًّا على سؤال «ما غايتك من الفلسفة؟» أجاب فيتغنشتاين: «أن أُظهر للذّبابة مخرجًا من الزّجاجة»، وقد عنى بذلك أنّ التّفلسف «يتألّف أساسًا من التّوضيحات». (112 /4) وهذا ما  يستدعي السّؤال التالي: لماذا أفكار الرّسالة غامضةٌ جدًّا ومثيرةٌ للجدل، كما في المقطع (522 /6) المذكور  آنفًا، حيث يقول فيتغنشتاين: “إنّ القيم «تظهر ذاتها»؟ وقد اشتكى غرايلينغ من هذه المسألة، فقال:

      «إذا صحّ أنّ القيمة «تظهر ذاتها»، فسيكون محيّرًا سبب نشوب النّزاعات والخلافات حول الأسئلة الأخلاقيّة أو سبب اعتقاد النّاس اعتقادًا راسخًا وعاطفيًّا بآراء تتعارض تمامًا مع الآراء التي يعتنقها الآخرون اعتناقًا راسخًا وعاطفيًّا أيضًا». (A.C. Grayling, Wittgenstein: A Very Short Introduction)

          لا أجد –خلافًا لذلك- فكرةَ القيم المختلفة التي يعتقدها ناسٌ مختلفون أمرًا محيّرًا؛ إذ إنّ طبيعة القيم أو ماهيّتها (بصفتها متميّزةً عن الوقائع القابلة للتّحقّق)، هي موضع خلافٍ، ليس ثمّة حقيقة موضوعيّة بشأن الحكم التّقييميّ؛ لذا سيكون ضربًا من الغرابة إن كانت القيم التي تظهر ذاتها لنا كأفرادٍ هي نفسها لدى الجميع، سواءٌ أكانت تلك القيم أخلاقيّةً، أم جماليّةً أم دينيّةً أم غيرذلك؟ و لن تعود هذه القيم -في هذه الحالة الغريبة- «قيمًا» كما نفهمها نحن.

       إنّ الهدف المعلن لحلقة فيينا هو جعل الفلسفة أداةً في خدمة العلوم الطبيعيّة أو جعلها شيئًا مماثلًا لها. وعلى حدّ تعبير راي مونك في سيرته الرّائعة لودفيغ فيتغنشتاين: واجب العبقريّ (1990م) «Ludwig Wittgenstein: The Duty of Genius»: «إنّ الموقف المعادي للميتافيزيقيا الذي وحّدهم [شكّل] أساسَ ما يشبه البيان نُشر تحت عنوان: الرؤية العلميّة للعالم: حلقة فيينا «The Scientific View of the World: The Vienna Circle»».ولكن كرّر فيتغنشتاين بنفسه مرارًا في الرّسالة أنّ قضايا العلم الطّبيعيّ «لا علاقة لها بالفلسفة» (53 /6)؛ «فليست الفلسفة علمًا من العلوم الطّبيعيّة» (111 /4)؛ «وليست مشكلات العلم الطبيعيّ هي ما يجب حلّها» (4312 /6)، «وإن أُجِيبَتِ الأسئلة العلميّة الممكنة كلّها؛ فإنّ مشكلات الحياة لم يُمسّ بها إطلاقًا» (52/ 6)؛ «إذ ثمّ ما لا يمكن التّعبير عنه. وهذا ما يُظهر ذاته؛ إنّه  الرُّوحيّ». (522 /6) لا يمكن تأويل هذه الأقوال بأنّها آراء رجلٍ أنكر الميتافيزيقا. لقد فهم الوضعيّون المنطقيّون في حلقة فيينا فيتغنشتاين فهمًا مغلوطًا؛ وبذلك كذّبوا مصداقيّتهم.


     ستيوارت غرينستريت مدير أعمالٍ وكاتب، وقد نال شهادة دبلوم الفلسفة من جامعة بيركبك «Birkbeck College» في لندن. أكمل دراسة الفلسفة بعد تخرّجه من الجامعة المفتوحة «Open University» في جامعة ساسكس «University of Sussex».

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.