الواقع الافتراضيّ بوصفه محفّزًا على الفكر | يواكيم فيندنس

تستغرق 7 دقائق للقراءة
الواقع الافتراضيّ بوصفه محفّزًا على الفكر | يواكيم فيندنس

إنّ الواقع الافتراضي «Virtual Reality» تصوّرٌ بسيطٌ يمكن اختزاله بفعل تمثيلٍ، أو بالرّمز، أو باللّغة؛ إذ يمكننا تمثيل الماضي كما نتذكّره، والمستقبل كما نتخيّله، وذلك من خلال الوسائل التكّنولوجيّة، سواءٌ كانت قلمًا أو كانت خوذةَ واقعٍ افتراضيٍّ. كذلك يمكننا – من خلال اللّغة والصّورة – المحافظة على ثقافة تبادل المعلومات بوساطة إظهار ما أدركناه داخليًّا، فنولّد خارج أنفسنا ما لم يكن متاحًا إلاّ في لغة أذهاننا؛ لذا فمن النّاحية النّظريّة يُعدّ أوّل رسمٍ في الكهف صنفًا من الواقع الافتراضيّ؛ حيث استطاع البشر من خلال ذلك الرّسم تمثيل أفكارهم وأهدافهم بصفتها واقعًا موضوعيًّا وخارجيًّا مطليًّا على جدران الكهف. وعلى النّحو نفسه تُعدّ اللّغة أوّل صنفٍ من الواقع الافتراضيّ. لقد استطعنا بوساطة اللّغة تحويل ما كان موجودًا في أذهاننا إلى شيءٍ قائمٍ بيننا؛ تمامًا مثل قراءتك هذا المقال؛ حيث يقف عالم المعنى بيني وبينك، تتوسّطه الكلمات على الورقة أو الشّاشة.

وعلى الرّغم من تشابه اللّغة والواقع الافتراضيّ نظريًّا فإنه لا يزال ثمّ اختلافٌ أساسيّ بين اللّغة المحضة وبين تكنولوجيا الواقع الافتراضيّ الفعليّة؛ نستطيع من خلال تكنولوجيا الواقع الافتراضيّ إسقاط أفكارنا وأهدافنا في إطار الواقع الحيّ الذي نعيشه لا عبر تصوّراتٍ مجرّدة، ويمكننا إظهار أفكارنا على هيئة الواقع. واللّغة لديها القدرة التي تجيز لنا سرد القصص، لكن لدينا في الواقع الافتراضيّ القدرة على عيش هذه القصص، لا من خلال الذّهن أو المخيّلة، وإنما بوساطة الوسائل اليوميّة لإدراك العالم من خلال حواسّنا، ويستطيع الواقع الافتراضيّ غمس الأفراد في عوالمَ افتراضيّةٍ حيّةٍ وديناميكيّةٍ.

تصحب عواقبُ وجوديّةٌ تلك الفرص التي تمنحنا إيّاها هذه التّكنولوجيا. ومن خلال انغماسنا في عالمٍ صمّمناه نكون أمام استجابةٍ ستحدّد شيئًا فينا. ونظرًا إلى هذه القدرة الجديدة والعجيبة – على خلق عوالم من ضمن عوالم – امتلكت البشريّة قوى شبه إلهيّةٍ؛ حيث استطاعت تحديد الواقع الذي يحيط بنا. وهكذا – في ظلّ التّقدّم الحاصل في سبيل تحقيق تكنولوجيا الواقع الافتراضيّ الكاملة التي لا يمكن تمييز اختبارها عن اختبارنا الواقع – نجد أنفسنا أمام السّؤال التالي: ما الذي يجب علينا فعله بعد أن أصبحنا قادرين على فعل كل شيءٍ؟ وهذا هو السّؤال الذي سأجيب عنه في هذه المقالة.

تأدية دور خلق العالم:

أشار مؤلّف سيّد الخواتم «The Lord of the Rings» جون رونالد رويل تولكين «J.R.R. Tolkien» إلى عمليّة خلق عوالم من ضمن عوالم بأنّها «خلقٌ دونيٍّ» «sub-creation». وقد وصف “تولكين” نفسَه بـ«الصّانع الصّغير» حاملًا «صولجانه الذّهبيّ الصّغير» الذي لن يتخلّى عنه، وذلك في قصيدته: “ميثوبويا” «Mythopoeia» (1931) التي دافع فيها عن خلق الأساطير.

خلق “تولكين” عالم “إيا” «aË» العظيم؛ حيث نجد فيه “الأرض الوسطى” «Middle Earth» وكوزمولوجيا ضخمة تشمل آلهةً وفانين وما بينهما. لقد كان “تولكين” مصمّمَ عوالمَ عظيمًا. وكما يلاحظ كلّ محبٍّ لأدب الخيال أنّ هذه الأساطير التي وُلدت من العدم قد تحمل حقائقَ أو معنًى للبشر.

كيف يتمّ ذلك؟ لماذا تكون القصص التي نخلقها ذات أهمّيّةٍ لنا؟

تساعدنا القصص، والسّرديّات، والأساطير في حياتنا، على تكوين هويّتنا. وكما أشار “جوزيف كامبال” «Joseph Campbell» – في عرضه رحلة البطل في كتابه: “البطل ذو الألف وجهٍ” «The Hero with a Thousand Faces» (1949) – إلى أن البشر ينجذبون طبعيًّا إلى القصص التي تضمّ مواجهة الصّعاب وقهرها. إنّ رحلة البطل موضوعٌ مشتركٌ يطرب لسماعه قلب البشريّة، وهذا ما يسمّى “الأسطورة الأحاديّة” «monomyth» في الميثولوجيا المقارنة «comparative mythology». نعشق بدء المغامرة، وقهر الصّعاب، وتغيّر الذّات النّاتج عن خوضها تلك الصّعاب؛ لذا نجد أنفسنا أمام السّؤال التالي: أيّ نوعٍ من القصص نرغب في عيشه في الواقع الافتراضيّ؟ وإذا كانت القصص هي ما يحدّدنا ويمنحنا هويّتنا فأي شيء سنختار قصَّه على أنفسنا في الواقع الافتراضيّ؟

اتّخذ السّؤال عدّة أشكالٍ عبر السّنين؛ فنجد – مثلًا – أن “روبرت نوزيك” «Robert Nozick» استعمل سنة 1973 التّجربة الفكريّة التي دعاها «آلة التّجربة» «Experience Machine»  -وهي آلةٌ قادرةٌ على إعطاء كلّ إنسانٍ التّجربة التي يرغب فيها، ولكنّها تنسّيه وجود عالمٍ حقيقيٍّ أيضًا – ثمّ طرح السّؤال التالي: إذا امتلكت هذه الآلة التي تستطيع إعطاءك كلّ تجربةٍ ترغب فيها  -ومنها: اختبار اللّذّة طوال حياتك – فهل ستستعملها؟ هل ستوصل دماغك فيها وتنسى الحياة الحقيقيّة؟

هدفَ “نوزيك” – من خلال تجربته الفكريّة – إلى البحث عمّا إذا قَدَّر البشر الواقع أو الأصالة بوصفها خيرًا فطريًّا من دون اللّذّة. هل الأصالة أمرٌ جيّدٌ في ذاتها؟ إذا سلّمنا بذلك قلن نختار أن نوصل أنفسنا بآلة التّجربة كي نعيش محاكاة مثيرات اللّذّة؛ لذا فإنه متى أجاب أحدهم عن هذا السّؤال بـ«لا» ستبرهن الآلة على أنّ الطّبيعة البشريّة لا يمكن اختزالها في مذهب اللّذّة الذي ينصّ على أنّ استحصال اللّذّة وتجنّب المعاناة هو الخير الفطريّ الوحيد.

ربما تنشأ اعتراضاتٌ على هذا التّصوّر؛ إذ قد تكون ثمّ أشياءٌ أخرى تثير فينا رغبة البقاء في العالم الحقيقيّ – إلى جانب تقديرنا الأصالة. ولعلّ السّبب في امتناعنا عن توصيل أنفسنا بالآلة هو أنّ هذا العالم – أو هذا النّمط في الوجود – هو العالم الوحيد المعروف لنا. وهناك وسيلةٌ للالتفاف حول السّؤال على طريقة فيلم المصفوفة «The Matrix»: «إذا قيل لك: إن حياتك لم تكن حتّى الآن سوى وهمٍ في آلةٍ، فهل سترغب في الاستيقاظ؟».

التّفلسف في الواقع الافتراضيّ

إن ما نختبره في الواقع الافتراضيّ، ثم ما نكون عليه، وما نختار أن نكون عليه، هو أمرٌ مُلقًى على عاتقنا. وإنّ تحقيق الواقع الافتراضيّ الكامل سيجيز لنا اختبار التّجربة التي يمكن تصوّرها؛ لهذا السّبب يمكن أن تكون تكنولوجيا الواقع الافتراضي أداةً مفيدةً تُضاف إلى عدّة الفيلسوف؛ إنّها الأداة المُثلى للبحث في الحالات المفترضة. ويؤدّي الواقع الافتراضيّ دور محفّزٍ للفكر في نواحيَ متعدّدةٍ؛ إذ يعيد إحياء المواضيع الفلسفيّة ويحقّقها.

باستطاعتنا النظر إلى بعض الأسئلة التي تطرحها علينا تكنولوجيا الواقع الافتراضي على أنها أسئلة وجوديّة. لقد وصف الفيلسوف الوجوديّ “سورين كيركيغارد” «Søren Kierkegaard» (1813-1855) حالة القلق (ngstä) بأنّها دوار الحرّيّة الناتج عن وجوب اتّخاذ قراراتٍ وخياراتٍ على نحوٍ دائمٍ. وفي هذا الإطار تحديدًا تكمن المشكلة الوجوديّة التي تثيرها تكنولوجيا الواقع الافتراضيّ. إذ يمدّد الواقع الافتراضيّ مدى حرّيّتنا، ومن ثمّ يوسّع مسؤوليّتنا الوجوديّة التي يصحبها قلقنا.

خذ مثالًا آخر: تأمّلات «Meditations» “رينيه ديكارت” «Rene Descartes» (1641)؛ حيث يقدّم في كتابه فكرة الشيطان الماكر الذي يستطيع تغيير تجاربه وفق إرادته ، ويرتبط هذا الأمر طبعًا بممارسة الواقع الافتراضيّ الذي قد استلهمته الأفلام السّينمائيّة؛ مثل فيلم “المصفوفة”، و”إكزيستانس” «Existenz». كذلك طرح “هيليري بوتنام” «Hilary Putnam» – في كتابه: “العقل والحقيقة والتّاريخ” «Reason, Truth and History» (1981) – فكرة «دماغ في وعاءٍ» بحث فيها إمكانيّة أن يكون كونُنا كلُّه محاكاةً أوجدتها حضارةٌ متقدّمةٌ تكنولوجيًّا، وما زالت هذه الفكرة تتمدّد حتّى بات الفلاسفة اليوم – من أمثال “نيك بوستروم” «Nick Bostrom» – يناقشون إمكانيّة عيشنا في محاكاةٍ. وأختم هذه المقالة بفرضيّة محاكاةٍ كي تكون مثاًاا على الدّور الذي يؤدّيه الواقع الافتراضيّ بوصفه محفّزًا للفكر.

إنّ هذه الفرضيّة بسيطةٌ أيضًا، وكما حاجج “بوستروم” فثمّ ثلاثة احتمالاتٍ لوجود المحاكاة؛ أي الواقع الافتراضي الكامل. يفيد الاحتمال الأوّل أن البشر والكائنات الأخرى لن تحقّق القدرات التّكنولوجيّة كي تطوّر واقعًا افتراضيًّا مقنعًا؛ أي تطويرَ عوالم محاكيةٍ؛ مثل: محاكاة أزمنةٍ سابقةٍ، ومحاكاة تاريخنا، أو تواريخ بديلةٍ؛ والسّبب يعود إلى نتيجةٍ تؤدّي إلى انقراضنا. وينصّ الاحتمال الثّاني على أنّنا – نحن أو فصائل أخرى – قد توصّلنا إلى مراحلَ متقدّمةٍ في هذه التّكنولوجيا، لكنّنا لن ندير هذه المحاكاة بسبب طبيعتنا (أو طبيعتهم) بصفتنا فصائلَ؛ أي لأسبابٍ أخلاقيّةٍ أو بسبب فقدان الاهتمام بالمسألة. أمّا الاحتمال الثّالث فهو كوننا نعيش في محاكاة حاسوب.

كيف يتمّ ذلك؟ إذا أمكن حصول هذا الأمر في المستقبل فلعلّه حصل في الماضي. إن يكن تحقيق الواقع الافتراضي الكامل أمرًا ممكنًا فسيكون عالمنا من بين عوالم كثيرةٍ أوجدتها كائناتٌ متقدّمةٌ تكنولوجيًّا. لا يوجد إلاّ عالمٌ واحدٌ؛ ليكن العالم البيولوجيّ والفيزيائيّ والأصليّ، ولكن سيوجد عددٌ لا يُحصى من العوالم المحاكية التي أوجدتها الكائنات المتقدّمة. ويحاجج “بوستروم” بأن احتمال كوننا موجودين في العالم الأصليّ ضئيلٌ؛ لذلك لم نعد فصيلةً ذات مستقبلٍ وماضٍ في عالمنا، بل يجب اعتبار أنفسنا نُسخًا في بحرٍ من العوالم المحاكية الممكنة.

تبقى العواقب الممكنة لتكنولوجيا الواقع الافتراضي حائمةً فوق رؤوسنا، سواءٌ أسلّمنا بأنّنا نعيش في محاكاةٍ أم لم نسلم بذلك. ولعل إحدى التّجارب الفكريّة الأكثر إثارةً للاهتمام هي أن نطرح على أنفسنا السّؤال التالي: ما الذي سنفعله إذا أمكننا فعل أيّ شيءٍ؟


“يواكيم فيندنس”: طالب دكتوراة وباحثٌ في مجال الواقع الافتراضيّ في جامعة بيرغن «University of Bergen»، النّرويج. كما يدير مدوّنة “ماتريز” «Matrise» التي تُعنى بفلسفة الواقع الافتراضي (الموقع: http://matrise.no)، بالإضافة إلى “بودكاست الفلسفة والواقع الافتراضيّ” «VR & Philosophy Podcast».


مقالة من عدد “الذكاء الاصطناعي” من مجلة الفلسفة الآن العالمية بحسب اتفاقية حصرية مع مؤسسة معنى.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.