ليست الغاية النّهائيّة للرّسالة المنطقيّة الفلسفيّة لفيتغنشتاين عند كثير من المفسّرين المعاصرين هي الإجابة عن الأسئلة الفلسفيّة أو حلّ المشكلات الفلسفيّة، إنّما غاية فيتغنشتاين فيها علاجيّة، أي: دَفْعُ قُرّائه للتّنبّه إلى أنّ الفلسفة ليست مسعًى شرعيًّا؛ فالمشاكل خياليّة، والأسئلة خاليةٌ من المعنى، ولا يُنتِجُ التّفلسف شيئًا سوى التّفاهة.
وربّما تكون هذه هي نيات فيتغنشتاين الصّحيحة خلف كتابته الرّسالة. لا ريب أنَّ ثمّة أشياء يطرحها في الكتاب لا يمكن فهمها إلَّا في ضوء هذا الأمر، ولكنَّ التّسليم بأنّه لا ينبغي علينا محاولة فهم الأسئلة والمشكلات الفلسفيّة التي حاول فيتغنشتاين معالجتها ومعرفة المقاربة التي اقترحها سيكون ضربًا من الخطأ. إذا كانت غاية فيتغنشتاين حلّ الفلسفة، فسيطلب منهجه المقترح من قُرّائهِ الانخراط في العمل الفلسفيّ. يُفترض أن يكون نجاح علاج الرّسالة في إدراك القارئ أنّ ما تحسمه الفلسفة بأنّه الجواب والحلّ الصّحيح ليس سوى تفاهة؛ ولتحقيق هذا الإدراك علينا أن نفهم هذه الأجوبة والحلول أوّلًا؛ إذ لا بدّ أن يصعد المرء على السلّم قبل أنْ يركله.
لم تُكتب الرّسالة على نمط الرّسائل الفلسفيّة العاديّة، فهي تُقرأ قراءة شبيهة بالكتابة الإبداعيّة، مستعملةً الخطاب الفلسفيّ مصدرًا ملهمًا. لكنّ بعض ميزات أسلوبها التي قد تكون متجذّرةً في قيمتها الأدبيّة هي عائقٌ أمام من يحاول فهم عقائدها الفلسفيّة، وذلك سواءٌ أكنّا آملين في تحقيق العلاج أم لم نكن. إنّ كثيرًا من عقائد الرّسالة مثلًا صعبة على الفهم، فما ظنُّك إن حاولنا تقييمها؛ وذلك لأنّنا لم نحصل على أيّ إشارةٍ عن المشكلات الفلسفيّة التي يُفترض منها معالجتها. والقضيّة الاستهلاليّة في الكتاب خير مثالٍ على هذا. فما السؤال الفلسفيّ الذي يحاول فيتغنشتاين الإجابة عنه في تأكيده أنّ «العالم هو كلّ ما هنالك»؟
وهذا السّؤال هو موضوع المقال، وسأحاجج فيه بأنّ فيتغنشتاين يسعى إلى معالجة مشكلةٍ فلسفيّةٍ قديمةٍ في مزعمه الاستهلاليّ حول طبيعة العالم.
المشكلة
نعثر على أوّل ذِكرٍ لهذه المشكلة في أعمال أفلاطون؛ فإحدى أميز عقائد أفلاطون نظريّته في المُثُل، ويفيد هذا الموقف بإيجاز أنّه عندما يحمل الشّيء الواحد سمةً مشتركةً مع أشياءَ عدّةٍ، فثمّة شيءٌ أو مثالٌ قائمٌ فيها كلّها. إنّ مثالَ الجمال مثلًا قائمٌ في الأشياء الجميلة كلّها، وحضور مثال الجمال في بعض الموضوعات هو ما يؤلّف كونها جميلةً. وإذا طبّقنا هذا النّموذج على الحالات جميعها التي يُظهر فيها الأشياء المفردة سمةً مشتركةً، فستكون النّتيجة نشوء نمط تفكيرٍ يؤطّرُ العالم في ضربينِ من الأشياء: الجزئيّات «particulars» (هذه الطّاولة. ذلك الكرسيّ. كاتدرائيّة القدّيس بولس. أنت. أنا) والكلّيّات «universals» (الجمال. الاحمرار. الصّلابة. العِناد. الحموضة). وَلْنُشِرْ إلى هذه النّظريّة بمُسمّى الأنطولوجيا الأفلاطونيّة «Platonist ontology». (والأنطولوجيا هي نظريّة في نوع الأشياء الموجودة).
يكون أيّ شيءٍ -وفقًا للأنطولوجيا الأفلاطونيّة- وليد جمع ما بين الجزئيّات والكلّيّات؛ فواقعة أنّ طاولتي حمراء هي وليدة جمع ما بين جزئيٍّ -أي: طاولتي- وكلّيٍّ، أي: لون الاحمرار. وحين يُجمع الجزئيّ بالكلّيّ على هذا النّحو، نقول: إنّ الجزئيّ يجسّم الكلّيّ «instantiates». فما يكون عليه العالم هو وليد ما يحتويه من جمعٍ للجزئيّات والكلّيّات، إذ تُجمع طاولتي مع لون الاحمرار، لا مع الدّائريّة، والاحمرار يُجمع مع طاولتي، لا مع كرسيِّي. أمّا حالات العالم الأخرى فهي تتولّد من جمعٍ للجزئيّات والكلّيّات المختلفة.
ليست الأنطولوجيا الأفلاطونيّة نظريّةً معقّدةً، ولكن عندما نتفحّصها بالتّفصيل ندرك أنّها تطفح بالثّغرات. والحقّ أنّ ثمّة مشكلات تعرض الجزئيّات، والكلّيّات، والجمع بين الاثنين.
فلندرس الجزئيّات أوّلًا. إذا أردنا اعتبار الطّاولة منفصلةً عن الكلّيّات التي تجسّمها، أي: ما يبقى منها بعد أن تُجرّد عنها الكلّيّات كلّها (ما سيجعلها جزئيّةً محضة «bare particular»)، فعندها لن تكون لها هيئةٌ، أو لونٌ، أو نسيجٌ، أو مكوّنٌ كيميائيٌّ، أو ثقلٌ، أو أيُّ خصيصة أخرى قابلةً لاستخلاص كلّيّتها، وسرعان ما يصبح فهم أيّ نوعٍ نفكر فيه من الكيانات صعبًا، هذا إنْ استطعنا أن نظل على تسميتها: طاولتي.
أمّا الكلّيّات فهي أيضًا مصدر إزعاجٍ؛ إذ يصعب أن نلحظ كيف يمكنها أن تكون قائمةً في المكان والزّمان. ولكنّها إن وُجدت في مكانٍ آخر، فسنحتاج إلى التّفكير في مجالٍ منفصلٍ وغير مادّيٍّ؛ كي تقطن فيه، وسنحتاج إلى تقديم تفسيرٍ عن الطّريقة التي تمكّنا بها من الولوج إلى هذا المجال. لم يجد أفلاطون مشكلةً في هذا الأمر، فقد اعتقد أنّ أرواحنا تقطن في عالم المُثُل قبل ولادتنا، بينما قد أقلقت هذه المسألة الآخرين.
لكنّ مشكلة الأنطولوجيا الأفلاطونيّة التي أودّ الإشارة إليها تتمحور حول جمع المحمولات «predicates» بالكلّيّات، وهي مشكلةٌ قد أدركها أفلاطون. فقد أثارها بارمنيدس في المحاورة السّقراطيّة التي تحمل اسمه:
«بارمنيدس، عندما بدا لك عددٌ كبير من الأشياء، أظنّ أنَّ ثمّة سمةً واحدة مشتركة حين نظرت إليها كلّها؛ لذا اعتبرت الكبر شيئًا واحدًا.
سقراط: هذا صحيح.
بارمنيدس: ولنعاين الآن الكبر نفسه والأشياء الكبيرة الأخرى. افترض أنّك تنظر إليها كلّها في الوقت نفسه، ألن تظهرَ وحدةٌ أخرى، أي: كبر آخر ليشاركوه كلّهم في هذه السّمة؟
سقراط: هذا محتملٌ.
بارمنيدس: وإنْ صحّ ذلك، فسيظهر مثالٌ ثانٍ للكبر فوق الكبر نفسه والأشياء التي تتشارك معه السّمة، وسيظهر مجدّدًا مثالٌ آخر للكبر فوقها، وهذا ما سيجعلها كبيرةً، وهكذا لن يعودَ كلُّ مثالٍ من مُثُلك واحدًا، إنّما سيكون العدد لا متناهيًا».
يحاجج بارمنيدس بأنّ نظريّة المُثل تولّد نكوصًا لا متناهٍ «infinite regress»، إذ يتمّ تفسير واقعة أنّ عددًا من الأشياء كبيرٌ عبر حضور عنصرٍ واحدٍ فيها، وهو مثال الكِبر. ولكن للأشياء الكبيرة شيء مشترك مع الكبر نفسه أيضًا، والتي تبعًا له تكون كبيرةً كلّها. لذا لا بدّ لنا افتراض شيءٍ آخر، ولنسميّه الكبر (2)، وهو القائم في الأشياء الكبيرة، وفي الكبر نفسه أيضًا. لكنّ الأمر نفسه ينطبق على الأشياء الكبيرة، وعلى الكبر، وعلى الكبر (2)، وهذا ما يدفعنا إلى افتراض عنصرٍ آخر، أي: الكبر (3)، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
تبنّى أرسطوطاليس تحليل بارمنيدس، واستعان به سببًا لرفض نظريّة المُثُل عند أفلاطون. فقد استعمل مثال الرّجل ليصيغ الحجّة نفسها، ومنذ ذلك باتت تُعرف الحجّة باسم حجّة الرّجل الثالث «the Third Man Argument».
لقد أشار الشّارحون إلى أنّ حجّة بارمنيدس تقوم على افتراضاتٍ مشكوكةٍ. تفترض الحجّة مثلًا مسبقًا أنّ للكلّيّ السّمةَ التي يشاركها مع تجسيماته «instances»، أي: يجب على الكبر أن يكون كبيرًا، إلخ. وربّما قد التزم أفلاطون بهذا الافتراض، وهذا ما سيجعل الحجّة قائمةً ضدّه. لكنّ الذين يرفضون هذا المزعَم لن تقلقهم هذه الحجّة.
حجّة الرّجل الثّالث مختصرة.
ولكن كما أظهر غيلبرت رايل في شرحه لمحاورة بارمنيدس أنّ حجّة الرّجل الثالث يمكن اعتمادها بسهولةٍ لتجنّب أكثر الافتراضات المشكوك فيها في نسخة بارمنيدس عن هذه الحجّة. إذا أردنا أن نفهم هذا الأمر، فعلينا النّظر في تطبيق الأنطولوجيا الأفلاطونيّة على الوقائع العلائقيّة «to relational facts». خذ مثلًا واقعة أنّ طاولتي أشدّ سوادًا من كرسيّي، أو واقعة أنّ وليام يحبّ كايت. يمكننا اعتبار أنَّ كلّيّاتٍ علائقيّةٍ -مثل: «أشدّ سوادًا من» أو «يحبّ»- سماتٍ مشتركة، ولا نعدّها من الجزئيّات بل أزواجًا كثيرةً من الجزئيّات. إذا كانت طاولتي حمراء ووشاحك أحمر، فبناءً على الأنطولوجيا الأفلاطونيّة ثمّة شيءٌ مشتركٌ وهو لون لاحمرار الكلّيّ القائم في كلا الجزئيّين. وهكذا -حسب النّسخة المحسّنة للأنطولوجيا الأفلاطونيّة- إذا كان وليام يحبّ كايت وكان باراك يحّب ميشال، فثمّة شيءٌ مشترك، وهو الكلّيّ العلائقيّ «يحبّ» الذي يربط وليام بكايت وباراك بميشال، والذي يتشاركه الثنائيّان.
ولكن إذا كنّا سنعامل الوقائع العلائقيّة عمومًا على هذا النّحو، فيجب علينا أن نمدّ هذه المقاربة لتشمل وقائع التّجسيم «instantiation facts» خاصة؛ لأنّ التجسيمَ ضربٌ من العلاقة. إِنْ تجسّم طاولتي لون الاحمرار، وَإِنْ تجسّم سيّارتك الإعانة، فتبعًا لهذا التفكير لا بدّ أن يكون ثمّةَ شيءٌ مشتركٌ -أي: تجسيمٌ- يربط كرسيّي بلون الاحمرار وسيّارتك بالإعانة؛ لذا لا بدّ من إضافة التّجسيم إلى فئة الكلّيّات العلائقيّة «relational universals». ولكنّ هذا نفسه بداية تراجع لا نهاية له، إنْ كان مثال «التّجسيم» يُجسَّمُ بذاته في زوج الطّاولة/ لون الاحمرار وفي زوج السيّارة/ الإعانة، فإذن لا بدّ أن يوجد مثالٌ مشتركٌ علائقيّ، أي: التّجسيم (2) الذي يربط التّجسيم بالزوجين المذكورين. والتّحليل نفسه سيفرض علينا تكوين تجسيم (3)، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
المقاربات الأرسطوطاليسيّة
أدّى إدراك الثّغرات التي واجهت الأنطولوجيا الأفلاطونيّة ببعض الفلاسفة إلى تقليل خسائرهم عبر محاولة اختزال الكلّيّات بالجزئيّات أو الجزئيّات بالكلّيّات. فقد سعت نظريّة الحُزمة «bundle theory» التي ناصرها ديفيد هيوم إلى تجنّب مشكلة الجزئيّات عبر اختزالها بحزمٍ من الكلّيّات. وعلى هذا الموقف ليست طاولتي سوى مجموعةٍ من الخواصّ متشاركة الموضع: هيئةٌ، وحجمٌ، ومركّبٌ كيميائيٌّ… بينما سعى الاسمانيّون «nominalists» كمثل وليام الأوكاميّ إلى تجنّب مشكلة الكلّيّات بتأكيدهم أنّ الجزئيّات وحدها موجودةٌ، ففسّروا السّمات المشتركة على طريقتنا في تصنيف الأشياء، أي: حسب طريقة استعمالنا للكلمات. وقد اعترت هذين الموقفين ثغراتٌ كبيرةٌ؛ حيث ينبغي على كلّ موقفٍ منهما التّعامل مع المشكلات التي تعرض الجزء الأساسيّ عندهما.
وثمّة مقاربةٌ أخرى تتجاوز ثغرات الأنطولوجيا الأفلاطونيّة، ونجدها في أعمال أرسطوطاليس. وفقًا لأرسطوطاليس انطلقت مشكلة الرّجل الثالث من تسليم أفلاطون بأنّ للكلّيّات وجودًا مستقلًّا (universalia ante res)، ويمكن حلّ المشكلة برفض هذا الطّرح واعتبار الكلّيّات مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالجزئيّات التي تجسّمها (universalia in rebus). ويعني ذلك أنّه ليس ثمّة كلّيّاتٌ غير مجسّمةٍ؛ إذ لا يمكن أن يكون ثمّة احمرارٌ إلَّا إذا وُجدت أشياء حمراء. ولكنّني لا أظنّ أنّ هذا الزعم سيفيدنا في حجّة الرّجل الثالث. أعتقد أنّ السّبيل الوحيد لاستخلاص مقاربةٍ واعدةٍ من أفكار أرسطوطاليس للتّعامل مع مشكلة الرّجل الثالث هو قراءة كتاباته باعتبارها رافضةً الأنطولوجيا الأفلاطونيّة رفضًا تامًّا. وبناءً على هذا الموقف الأخير لا يبدو العالم مركّبًا من فئتين من الكيانات، أي: الجزئيّات والكلّيّات المحضة، وإنّما مؤلّفٌ من فئةٍ واحدةٍ تضمّ الجزئيّ والكلّيّ بوصفهما مظاهر شيءٍ واحدٍ. وحسب هذا التّفسير، لا يوجد الكرسيّ المحض من جهةٍ وخواصّه من جهةٍ أخرى، بل هو شيءٌ واحدٌ، وهو أنَّ الكرسيّ ليس مركّبًا وخواصّه قد ولّدهما جمعُ ما بين جزئيٍّ وكلّيٍّ، بل وحدةٌ أساسيّة لا يمكن اختزالها. وتُعرف هذه الموضوعات أحيانًا باسم الجزئيّات المتراصّة «thick particulars».
ولا يخلو هذا الرأي من ثغراتٍ؛ إذ يحتاج إلى تعليل كلامنا عن شيءٍ يغيّر خواصّه دومًا، كذا كلامنا عن أشياءَ مختلفةٍ تتشارك خاصيّةً واحدةً. لن أدخل في هذه المسائل هنا، بل أودّ التّركيز على سؤال: هل هذا الموقف يقدّم حلًّا لحجّة الرّجل الثالث. وأظنّ الجواب أنّه يقدّم حلًّا في بعض الحالات دون بعض.
أمَّا وقائع الموضوع-المحمول «subject-predicate facts» فقد حُلَّت المشكلة. فواقعة طاولتي حمراء لا تُفسَّرُ بأنّها تتولّد من جمع جزئيٍّ بكلّيٍّ، وعليهِ، فلا يؤدّي هذا الجمع إلى سلسلة لا متناهية.
يصّعب ملاحظة كيف يمكن تطبيق هذا الاقتراح على الوقائع العلائقيّة. فقد يكون وليام وكايت وحدتين لا يمكن تقسيمهما بشريًّا تشملان جزئيّاتهما وخواصّهما الكلّيّة، ولكنّ واقعة أنّ وليام يحبّ كايت لا يمكن اعتبارها مظهرًا من مظاهر وليام مستقلًّا عن كايت، ولا العكس. وهذا الرّأي الجديد لا يقدّم بديلًا عن اعتبار الوقائع العلائقيّة ارتباطًا، ولا جمعًا يتضمّن جزئيّتين متراصّتين. وهذا كلّ ما نحتاج إليه للاعتماد على حجّة الرّجل الثّالث؛ لأنّنا نحتاج الآن إلى التّجسيم لربط الارتباط بالجزئيّتين المتراصّتينِ.
المقاربات الفيتغنشتاينيّة.
ولكنّ الفكرة المحوريّة خلف طرح «الجزئيّ المتراصّ» يمكن استخدامها لتقديم حلٍّ عامّ لحجّة الرّجل الثالث. تفيد هذه المقاربة رفض فكرة أنّ الوقائع تتولّد عبر جمع أيّ شيءٍ. وقد ذكرنا أعلاه أنّ أنطولوجيا الجزئيّات المتراصّة تنطبق على وقائع المحمول-الموضوع، لكنّني حاججت بأنّها لا تنطبق على الوقائع العلائقيّة. لكنّ المقاربة الخالية من الجمع يمكن اعتمادها في إطارٍ أنطولوجيٍّ مختلف، حيث تكون مرّكبات الواقع الأساسيّة مجرّد وقائع. وبناءً على هذا الموقف، تكون الوقائع ما يتألّف منه الواقع، والواقعة وحدةٌ أساسيّةٌ لا يمكن تقسيمها، ولا تنشأ من جمع أشياء أساسيّةٍ.
أوضح لهذا الرّأي من أوّل قضيّتينِ في الرّسالة:
«1 إنّ العالم هو كلّ ما هنالك.
1.1 إنّ العالم هو مجموع الوقائع لا الأشياء».
أعتقد أنّ هاتين القضيّتين تقدّمان أنطولوجيا الوقائع الأساسيّة، فتطرحان بذلك حلّ فيتغنشتاين لحجّة الرّجل الثّالث.
تحمل أنطولوجيا الواقعة «fact-based ontology» التي أنسبها إلى فيتغنشتاين ثغراتٍ كبرى بذاتها. إذ تحتاج إلى تعليل كلامنا عن مركّبات الوقائع مثلًا، بما تشترك واقعة طاولتي حمراء مع واقعة وشاحك أحمر اللّون، أو مع واقعة طاولتي مستطيلة الشّكل. كذا لا بدّ لها أن تعلّل كلامنا عن الاحتمالات غير المحقّقة، أي: ما ليس القضيّة، ولكنّه يمكن أن يكون القضيّة، أو يمكن اعتبار أقلّه القضيّة. تحتوي الرّسالة على محاولاتٍ للإجابة عن هذه الأسئلة، ولكن لا مجال لي في هذا المقال للتّطرّق إلى هذه النّاحية من الكتاب.
وإذا صحّ تأويلي لهذا المقطع، فسيكون فيتغنشتاين قد ساهم في حلّ إحدى الجدالات المحوريّة في الفلسفة الغربيّة. ولكنْ كيف حدث ذلك؟ فقد كانت معرفة فيتغنشتاين في تاريخ الفلسفة الغربيّة محدودةً، فلم يتلقَّ الرّجل تعليمًا فلسفيًّا رسميًّا في جامعة كامبريدج سنة 1911م، ولا يبدو أنَّ نشاطه الفلسفيّ في الجامعة ضمّ دراسة الأعمال الكلاسيكيّة الفلسفيّة.
لا لَبس –حسب قراءتي- حول طريقة احتكاك فيتغنشتاين بالمسألة التي تناقشها هذه الجُمل الافتتاحيّة في الرّسالة. فقد قدّم فرانسس هربرت برادلي -وهو فيلسوفٌ في أكسفورد- نسخةً أخرى عن حجّة الرّجل الثّالث في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. إذ حصل نقاشٌ طويل بين راسل وبرادلي في هذه المسألة، وثمّة أدلّةٌ وافرةٌ على اهتمام راسل بالنّسخ المتعدّدة للمشكلة نفسها؛ ولا ريب أنَّ راسل كان أستاذ فيتغنشتاين في كامبريدج.
علاوةً على ذلك، يمكن اعتبار أنَّ أنطولوجيا الواقعة عند فيتغنشتاين امتدادٌ طبيعيٌّ لموقف غوتلوب فريغه الذي لم يُخْفِ فيتغنشتاين إعلان تأثّره بـ«أعماله الكبرى» في تمهيد الرّسالة. إنّ سؤال الأولويّة النّسبيّة للوقائع وخواصّها يشابه جدليّة الأفكار ومفاهيمها. وفي هذه المسألة دعا فريغه إلى موقفٍ مشابهٍ للموقف الذي أُلحقه بفيتغنشتاين فيما يخصّ الوقائع ومركّباتها. ويلخّص فريغه موقفه بالآتي سنة 1919م: «لذا لا أبدأ بالمفاهيم وأضمها لتكوين فكرةٍ أو حكمٍ؛ فإنما أتوصّل إلى أجزاء الفكرة بتحليلها». (Posthumous Writings, p.253, 1979) ويمكن التّعبير عن الموقف الذي أُلْحِقُهُ بفيتغنشتاين بمصطلحاتٍ مشابهةٍ: «لا أبدأ بالجزئيّات والكلّيّات وأضمها لتكوين واقعةٍ؛ وإنما أتوصّل إلى أجزاء الواقعة بتحليلها». إذن، فإنّ إسهام فيتغنشتاين في النّقاش الدّائر حول طبيعة الواقع في مجال تحليل الوقائع يمكن اعتباره ترجمةً لموقف فريغه في مجال تحليل الأفكار.
خوسيه زلباردو رئيس قسم الفلسفة في جامعة كوليدج «University College» بلندن.