إن الحالات المرضية الأولى التي يُعاينها الطبيب في بداية مسيرته، هي التي تترك الأثر الأعمق في نفسه طوال رحلته المهنية. فعندما شهدت الخذلان المؤسسي لأول مريضة استقبلتها في الطوارئ أثناء تدريبي في سنة الامتياز، وتفكرت في عجزي عن مساعدتها لكوني متدرب بلا سُلطة في أسفل هرم المنظومة الطبية، استوعبت حينها أن واقع الممارسة أعقد مما تصورته على مقاعد الدراسة.
حالة هذه المريضة النفسية، هي الشبح الذي يمكن للقارئ استشعار وجوده في معظم أعمالي؛ فهي مَن دفعتني للبحث عن تاريخ الهيستِريا، وهي مَن دفعتني للمُحاججة على الانحياز للمرضى، وهي مَن دفعتني لكشف أثر كتابات الملف الطبي. إنها هناك، في الأعمال التي لم ترَ النور، وفي الأعمال التي ستراه في المستقبل القريب أو البعيد. إنها هناك دائمًا، كعقدة ذنب لا كفارة لها.
ففي خِضم انشغالي المحصور بمواضيع الطب النفسي في الأشهر الماضية، عُرِضت علي فرصة المشاركة في مبادرة تطوير لائحةٍ تنفيذيةٍ معنية بـ (مكافحة جريمة التحرش)، لتستحضر في ذهني بُعدًا هامًّا من أبعاد قصة المريضة المحفورة في ذاكرتي. قبلت العرض وأنا أتذكر سردية معاناتها الصامتة، وأسترجع تفاصيل التعقيدات التي واجهتها في محاولة إثبات ما كانت تتعرض له.
هذه المقالة، هي نتيجة مشاركتي في المبادرة كطبيب مهتم بدوافع السلوك البشري؛ لكن قبل ذلك، هي نتيجة مكالمة هاتفية تلقيتها أثناء مناوبتي في طوارئ الطب النفسي عام ٢٠١٩.
المناوبة التي غيرت كل شيء .. مدخل قصصي *
هناك شعور متأصل في مكالمات منتصف الليل غير المتوقعة، تمزج الخوف بالريبة وتقذفه في قلوبنا، لتفز أجسادنا متوجسة مما قد يحمله المتصل لنا. الأطباء يباغتهم هذا الشعور مع كل اتصال أثناء مناوباتهم دون التكيف معه تمامًا، وهذا لأن الطبيب المناوب هو المسؤول عن المرضى في أجنحة التنويم وفي قسم الطوارئ، مما يجعل المكالمات مُحَمَّلة بجميع أنواع المسؤوليات المختلفة.
تلقيت إحدى هذه المكالمات في مناوبتي الأولى مع قسم الطب النفسي عام ٢٠١٩؛ كانت المتصلة هي الطبيبة المقيمة في قسم الطوارئ، أخبرتني عن وجود حالة مَرَضيّة تستدعي مُعاينة فريقنا الطبي، ثم زودتني بتفاصيلها: امرأة عزباء، في منتصف الثلاثينات، لا تعاني من أي أمراض جسدية، لكنها مشخصة باضطراب نفسي. فقدت وظيفتها بلا حقوقٍ مادية ذلك الصباح، ثم أتت إلى الطوارئ تشكي من قلقٍ وتشويشٍ في الأفكار يمنعها من التركيز وحتى النوم.
وقبل إنهاء المكالمة، شددت الطبيبة المقيمة على بساطة الحالة، وأنها لن تأخذ من وقتنا أكثر من نصف ساعة؛ نتحدث مع المريضة قليلًا، ثم نحجز لها موعدًا مع العيادة النفسية وندعها تذهب. أتذكر جيدًا تَعَجُّبي من مدى تبسيط المعاناة بهذه الصورة، كيف يمكن لأحد أن يصف قلقك من فقدان مصدر رزقك بأنها «حالة بسيطة»؟ في الواقع، كانت حالة المريضة أكثر تعقيدًا من أي حالة أخرى رأيتها في سنة الامتياز، لكن التعقيد لم يكن ظاهِرًا على السطح، بل مَخفيًا تحت طبقاتٍ عدة من المفاهيم والمعتقدات الخاطئة.
عندما التقيتها في الطوارئ، كانت تتظاهر بالتماسك على الرغم من انهيارها الداخلي. اخفت المنديل في قبضت يدها، وتحدثت بصوتٍ يُصارع بَحَّة البكاء. أتت لوحدها بلا قريب تستند إليه؛ هل كان ذلك بسبب الشعور بالخزي؟ أم إنها لم تثق بأحد في دائرتها المقرَّبة؟ في جميع الحالات، إن مواجهة قساوة العالم بلا سند أو مصدر رزق، هي من شقاوة الحياة التي تقود الإنسان إلى أعتاب مستشفيات الطب النفسي.
وقفت أنا ومَن معي في الفريق الطبي نستمع إلى المريضة وهي تحكي تفاصيل قصتها. إن السبب الرئيسي وراء تدهور حالتها الصحية، هو قرار فصلها الفوري من وظيفتها، وذلك بسبب تهجُّمها على زميلها في مقر العمل. هذه هي القصة كما اعتمدتها لِجان الشركة في تقاريرهم، لا كما روتها لهم المريضة من منظورها. فقد كانت أحداث روايتها صادمة إلى أقصى درجة؛ حيث أن تهجُّمها لم يكن اعتِداءً، بل محاولة ردع؛ وزميلها لم يكن ضحية الموقف، بل المتحرش الذي استمر بمضايقتها لأسابيعٍ طويلة!
فكيف تحولت الضحية الحقيقية إلى امرأةٍ هيستِرية ينبغي طردها من مقر العمل؟
سجن من خمسة أحرف
أخبرتنا المريضة عن الشكاوى التي لم يصدقها أحد، وعن التسخيف المستمر لمشاعرها. حاولت مرارًا وتكرارًا صد المتحرش باللجوء إلى الجهة المعنية داخل الشركة، لكن ردود الفعل في مقر العمل كانت تحوم حول الأمر ذاته .. تاريخها مع الطب النفسي!
لم أستوعب تمامًا كل ما قالته عن تجاهل الناس لمعاناتها مع التحرش؛ كيف يمكن حدوث ذلك؟ ما الذي يجعل تاريخ الفرد مع الطب النفسي سلاحًا يُستخدم ضده لتشكيك في مصداقيته؟ استشعرت حينها وجود خللٍ ما في منظومتنا الطبية، وبعد الاطلاع على ملفها لمراجعة تاريخها المرضي، اتضحت لي الصورة الكاملة، وتيقنت من وجود هذا الخلل في صميم مؤسسة التي أعمل فيها.
خمسة أحرف مكتوبة بالخط العريض في أعلى صفحات الملف ..
«K/C: BPD»
خمسة أحرف أفقدت هذه المرأة مصداقيتها عند الشكوى ..
«K/C: BPD»
خمسة أحرف شيَّدت حولها قضبان سجنٍ لم تستطع الفرار منه ..
«K/C: BPD»
وهي اختصار لـ«Known Case of Borderline Personality Disorder»؛ وتعني، أن صاحبة الملف، مُشخَّصَة بـ «اضطراب الشخصية الحدية»، مما يضعها في خانة أحد أكثر التشخيصات إثارة للجدل.
إن ما حدث لهذه المريضة من تقلباتٍ تراجيدية، تُعبِّر في الواقع عن الفشل المؤسساتي لتناقضات الطب النفسي في مُحاربته للوصمة وترسيخه لها! نرى ذلك بوضوح في الإشكاليات المفاهيمية المتعلقة بالشخصية واضطراباتها (كالحدية والنرجسية والمعادية للمجتمع). هذه التشخيصات، التي تخبرنا بوجود اعتلالٍ متجذر في عُمق شخصية الفرد، قادرة على صياغة أحكامنا لننحاز ضد مَن وُصِمَ بها، فنتوجس من دوافعهم، ونشكك في أقاويلهم، ونتجنب قربهم.
فكيف وقعنا في فخ الأحكام الأخلاقية والتفرقة في المعاملة؟ أليس من المفترض أن الطب محايدٌ في تشخيصاته وممارساته؟
الوصمة والتفرقة والاضطرابات المثقلة-بالقيمة
لو بحثنا سريعًا عن «اضطراب الشخصية الحدية» على الإنترنت، سنجد أوصاف من قبيل:
– تغيرات سريعة في صورة الشخص عن نفسه وهويته (كتغير القيم والأهداف).
– تصرفات طائشة ومندفعة (كالمقامرة، والقيادة بتهور، وممارسة الجنس غير الآمن).
– تقلبات مزاجية عنيفة (من السعادة الغامرة إلى الشعور بالضيق أو الخزي).
– فقدان الأعصاب نتيجة الغضب (وما ينتج عنه من مشاجرات لفظية أو جسدية).
يمكننا هنا ملاحظة أمر في غاية الأهمية، وهو أن هذه الأوصاف ليست محايدة أخلاقيًا، بل هي مَثالب شخصية؛ فنقول أن هذا التشخيص مُحمَّل بمساوئ تعيب مَن اتصف بها. وعلى هذا الأساس، يصبح التشخيص في ذاته وصمة، تدفع الناس لمعاملة مَن شُخِّصَ به بتخوفٍ مَحفوفٍ بالشك ١. وهذا ما يهمنا كشفه في سياق حديثنا عن تعاملاتنا مع مرضى الطب النفسي؛ تلك التفرقة في المعاملة على أساس انطباعاتٍ مُسبَقة ليست حقيقية بالضرورة.
إن ما تخلفه هذه الأوصاف السلبية حين تصيغ تصوراتنا بشأن اضطراب نفسي ما، يتوغل أثرها في أذهاننا حتى تترسخ كمُسَلَّماتٍ تستبطن دوافع التفرقة. أي إن معرفتنا بتشخيص فلان بأحد الاضطرابات المثقلة-بالقيمة السلبية، تجعلنا نستحضر ذهنيًا كل عيب أخلاقي (كالانفعالات الغاضِبة) ونزعة إجرامية (كالتصرفات الطائِشة) عند تعاملنا معه؛ فنقدم المخاوف والشكوك أولًا، قبل سماع ما قد يقوله الشخص عن نفسه. هذا يضع مَن وُصِموا بمثل هذه التشخيصات، في مَوضِع ضعفٍ دائم أمام انحيازات المؤسسة التي تجهل تعقيدات المفاهيم النفسية. فما قد يترتب على هذا الجهل من أذيةٍ مَلموسة، هو تحول هؤلاء الأشخاص إلى كبش الفداء في محاولة التخلص من أي مشكلة هم أحد أطرافها، حتى لو كانوا الضحية فيها!
فبالعودة إلى المريضة في الطوارئ، نجد أنها عندما اشتكت من مضايقات زميلها، لم يكترث أحد في مقر العمل، وذلك بسبب تاريخها مع الطب النفسي. لكن حين حاولت ردعه بالقوة، توجَّس الكل من ردة فعلها، وذلك أيضًا بسبب تاريخها مع الطب النفسي! ففي لحظة، هي مجرد امرأة درامية ينبغي تجاهلها؛ وفي لحظة أخرى، هي امرأة عدوانية يجب التخلص منها.
إن معتقداتنا الخاطئة بخصوص الاضطرابات النفسية، لا تؤثر على أفكارنا وتعاملاتنا فقط، بل يطال تأثيرها السياسات الاجتماعية الـمُنَظِّمة لشؤون الحياة، مما يضاعف من أهمية مراجعتها وتمحيصها، وذلك لضمان توفيرها الحماية اللازمة لكل فئات المجتمع. كان هذا الدافع الرئيسي وراء مشاركتي في مبادرة تطوير اللائحة التنفيذية لـ (مكافحة جريمة التحرش).
والآن، دعونا نخوض في هذه المسألة بدءًا من المفاهيم المتجذرة في دوافع التحرش، ونسأل: كيف ينظر المعتدي إلى ضحيته؟
التشيؤ الجنساني و سلوكيات التحرش
إن الحديث عن التحرش بأنواعه المختلفة، يستلزمنا أولًا التعمق في الجذور المفاهيمية لدوافع هذه السلوكيات، وبالتحديد، مفهوم «التشيؤ الجنساني Sexual Objectification».
يمكننا تحليل هذا المفهوم باعتباره مسألة فلسفية و ثقافية:
فمن ناحية، هو فلسفي لأنه معني بفعل تجريد الشخص من إنسانيته واختزاله إلى شيء جنساني.
ومن ناحية أخرى، هو ثقافي بسبب العوامل الاجتماعية التي تساهم في تمكين مثل هذه الأفعال.
وتصف المفكرة ساندرا بارتكي Sandra Bartky فروق مهمة بين حالتين من «التشيؤ الجنساني» ٢:
ويُقصد به المواقف السلبية التي تستبطن عملية اختزال قيمة الإنسان في جوانبه الجنسانية فقط (كأن يُنظر إلى امرأةٍ ما بصورةٍ جنسانية تختزل قيمتها في لبسها أو أسلوب حديثها، فيُحكم عليها أخلاقيًا بناءً على هذه القيمة المختزلة بإجحاف).
هنا يتبيّن لنا ارتباط هذه العملية بثقافة المجتمعات وتصوراتها؛ فالمعايير الأخلاقية التي يُحتكم إليها، مُستقاة في معظمها من قِيَم المجتمع الذي يعيش الفرد وفق تعاليمه. ولأن الجميع لم ينشأ عند ذات الأسرة، ولم يذهب إلى ذات المدرسة، ولم يختلط بذات الأصدقاء، نجد هناك تباين في القِيَم والتصورات بين الناس، بما في ذلك «قيمة الاحتشام» وتصوراتنا عنها. فما قد يراه فلان على أنه لبس أو سلوك محتشم، قد يراه آخر عكس ذلك.
وفي هذا الاختلاف، يكمن تعقيد المسألة بوصفها مسألة ثقافية لا تطالها تشريعات القانون بشكلٍ مُباشر؛ فمن الصعب إصدار قوانين توحِّد «قيمة الاحتشام» بين أفراد المجتمع، لأننا بعد الاتفاق على الخطوط العريضة التي تنص عليها الأدلة الشرعية، سندخل في متاهة التفاصيل الصغيرة بلا وصول إلى معايير محددة ترسم لنا الأبعاد القانونية للاحتشام.
إن الحل الأنسب لمكافحة هذا الجانب من «التشيؤ»، هو توظيف الأدوات الثقافية نفسها لتصحيح المفاهيم الخاطئة. فالتثقيف القيمي للأجيال الشابة عبر حصص المدارس وأحاديث المجالس وخطب المساجد، ستساهم في تربية جيل أكثر وعيًا في تعامله مع الآخرين.
ويُقصد به جميع السلوكيات التي تعامل الإنسان كمجرد شيء جنساني؛ وهذا يشمل:
كل ما هو صريح (كالاعتداءات والإساءات الجنسية).
وكل ما هو ضمني (كاعتبار جاذبية الأشخاص أداة جمالية يمكن استغلالها).
في هذا الجانب السلوكي من «التشيؤ»، تتضح لنا معالم التحرش، وتُرسَم نِطاق التشريعات القانونية لمكافحة جرائمه؛ حيث أن سلوك التحرش هو التجسُّد الفعلي لفكرة اختزال الإنسان في قيمته الجنسانية، مما يجعل أذاه مَلموسًا، تستشعره الضحية في جسدها ووجدانها.
هنا، يأتي القانون ليكون الرادع لهذا الأذى، ويحمي حقوق أفراد المجتمع وكرامتهم. ولكي نتفحَّص هذه المعالم السلوكية بغرض تحديد أبعاد جريمة التحرش من المنظور القانوني، ينبغي علينا النظر في أفكار مارثا نوسبام Martha Nussbaum التي عَدَّدَت سبعة طرق مختلفة قد يُعامل بها الشخص «كمجرد شيء Mere Object» مختزل من كرامته الإنسانية ٣:
وتؤكد نوسبام على أهمية السياق في إعطاء هذه السلوكيات طابعها التشيؤي: «المشكلة ليست الأداتية في حد ذاتها، لكن في معاملة الشخص بصورةٍ أساسية كمجرد أداة؛ في هذه الحالة … يصبح السياق العام ضروريًا».
فماذا تقصد بذلك؟
التشيؤ الجنساني و سياقات التحرش
حسنًا، من البديهي القول هنا، إنه لا يمكننا وصف هذه الممارسات «كمعاملة تشيؤ Objectifying Treatment» دون الأخذ بسياقاتها الفعلية. جميعنا أدوات لتحقيق رغبات الآخرين في حياتنا، ولا إشكال في ذلك إلا حين تُختزل قيمتنا في هذا الأداء الوظيفي ونتائجه. فالشريك في العلاقة الزوجية مثلًا، هو أداة للإشباع الجنسي وأداة للإنجاب، ولا يصح اعتبار هذا من «التشيؤ» إلا في حال ارتبطت قيمة الفرد بنجاحه كأداة جنسية فقط، لا كزوج أو زوجة يملكان عُمْقًا إنسانيًا. في هذه الحالة، التي تجرد الشخص من إنسانيته، وتحوله إلى أداة مُفرَّغة من المشاعر، نقول أن الفرد قد أصبح «مُشيَّئًا Objectified»؛ أي أُسْقِطَ من كونه إنسانًا مُكرَّمًا، إلى مجرد شيء قابل للاستبدال والانتهاك والتملُّك .. إلخ.
لكن ماذا عن «معاملة التشيؤ» بين الغرباء، تلك المؤدية إلى سلوكيات التحرش؛ كيف يؤثر عليها السياق لتتبدل معانيها؟
لنفترض أن هناك شابة تقدمت بطلب الحصول على وظيفة في شركتين مختلفتين، وكلتاهما عَرَضَتا عليها العمل كموظفة استقبال؛ الشركة الأولى، قدَّمَت عرضها بسبب اتقان الشابة لعدة لغات وتمتعها بمهارات تواصل عالية؛ في حين الشركة الأخرى، قدَّمَت عرضها بسبب مظهر الشابة التي رأت الإدارة إمكانية استغلاله كواجهة جمالية لجذب الزبائن. في هذا المثال، يمكننا رؤية أهمية السياق في إعطاء قرار التوظيف معناه الحقيقي وطابعه التشيؤي.
إن الفرق بين النظر إلى الشابة كإنسان والنظر إليها كشيء مُختزل، يتجاوز حدود الأحكام المجحِفة بحقها، ويمتد إلى التأثيرات النفسية وراء «نظرة التشيؤ Objectifying Gaze» وما قد يترتب عليها من سلوكياتٍ مؤذية كالتحرش بأنواعه. فنجد أن هذا الموقف السلبي تجاهها، الذي يختزل قيمتها في مظهرها الخارجي فقط، يستبطن الدوافع السلوكية التي تمهد الطريق لإساءة معاملتها في مقر العمل.
فقد أظهرت نتائج دراساتٍ عدة، أن الشخص «الـمُشَيَّئ» يُعتبر «أقل كفاءة» من غيره، مما يؤثر على مسيرته سَلبًا، ويجعله مُعرَّضًا للإساءة المعنوية على الدوام (كأن تقول إدارة الشركة التي وَظَّفت الشابة لجمال مظهرها: “إنها لا تستحق الترقية في العمل، فهي مجرد وجه جميل ولا أكثر من ذلك”!). وتزداد الأمور بشاعة حين تخبرنا هذه الدراسات أيضًا، أن الشخص «الـمُشَيَّئ» يُعتبر «أقل استحقاق للمراعاة الأخلاقية»، مما يوضح لنا سبب تجاهل الكثير لمعاناة ضحايا التحرش، فهم يعتقدون أن الضحية لا تستحق أي اعتبار أخلاقي، وذلك لأنها المسؤولة الوحيدة عما تتعرض له (كأن يبرر الشخص جريمة التحرش بإلقاء اللوم على لبس الضحية وأسلوبها!) ٤.
إن ما تستخلصه هذه الدراسات هو أن سلوكيات التحرش مرتبطة بنظرة التشيؤ الجنساني، وأن هذه النظرة مؤطرة بأفكار البيئة الثقافية التي ينتمي لها الفرد. ولأن مقرات العمل باختلافاتها هي من البيئات التي ننتمي لها جميعًا، أصبح لِزامًا علينا فهم ديناميكيتها بصورةٍ مُعمَّقة كي نتمكن من اجتثاث المشكلة من جذورها. وعليها نسأل .. كيف تساهم بيئة العمل في تمكين سلوكيات التحرش وخلق أوضاع صعبة على ضحاياه؟
التشيؤ الجنساني و بيئات التحرش
إن محاولة تقصي أثر البيئة على سلوكيات التحرش، تستلزم التعمق في تفاصيل «الثقافة» و «العلاقات» داخل مقر العمل، وذلك كي تتضح لنا صورة السياق اليومي داخل المكان الذي يجمع المتحرشين بضحاياهم.
لكل مقر عمل ثقافته خاصة به، حيث يتشارك الزملاء نفس المصطلحات اللغوية، ويتصرفون بأساليب مماثلة، ويلتزمون بالقواعد الضمنية للمكان. هذا يعطي بيئة العمل تأثيرًا ثقافيًا قادرًا على تشكيل سلوكيات الموظفين وصياغة أفكارهم. فقد يكون التأثير إيجابيًا أو سلبيًا، مما يجعل بيئة العمل صحية أو سامة.
إن ما نقصده ببيئة العمل السامة، هي تلك التي تمثل أرضًا خصبة للتحرش والاستغلال، وتكون قائمة على أسسٍ ثقافية تُشرعن «التشيؤ» بين أفرادها. هذا الوضع البيئي، لا يختلف عن غيره من المؤثرات التي قد تدفع الشخص إلى ممارسة سلوكياتٍ لم يعتدها (كأن يرى الموظف الجديد بقية زملائه يتساهلون في الأحاديث ذات الإيحاءات الجنسية عن النساء، ويعتقد أن ثقافة المكان تسمح بذلك، مما يشجعه على مشاركتهم في هذه الأحاديث). لذا، من المهم ألا تقتصر جهودنا في مكافحة التحرش على سن القوانين التي تجرّم السلوكيات فقط، بل علينا أيضًا العمل على تثبيط عملية «التشيؤ» الثقافية، وتوفير بيئة صحية قائمة على الاحترام المهني المتبادل.
هذه مسألة حساسة للغاية، لأنه وكما ذكرنا، لا يمكننا تقنين الثقافة، حتى وإن كانت على مستوى مُصغّر في بيئة العمل. فلا يسعنا القول “عليك التفكير هكذا” دون إعطاء انطباعٍ سُلطوي، ناهيك عن استحالة التحكم بمعتقدات الآخرين. وبالتالي، علينا تذكير أنفسنا بأن هدفنا هو ضمان سلامة بيئة العمل، لا تحويلها إلى بيئة روبوتية باستخدام سُلطة القانون.
إن العلاقات بين الموظفين في مقر العمل، عادةً ما تخضع للتسلسل الهرمي للسُّلطة، مما يجعلها مُتَّسِمَة بديناميكية خاصة تتفاوت فيها موازين القوى، بحيث يكون هناك طرف أقوى من الآخر. هذه العلاقات غير المتوازنة، تفتح المجال للممارسة سلوكياتٍ استغلالية، قد تؤدي إلى افتراس الضعفاء في بيئة العمل السامة.
ولأننا سبق وشددنا على أهمية السياقات، يتوجب علينا ألا نتجاهل قدرة أصحاب النفوذ على التلاعب بها. فنجد منهم مَن يُخيِّر ضحيته بين التقدم المهني أو الاضطهاد الكلي، وذلك مُقابل خدماتٍ جنسيةٍ صريحة؛ ثم يقول، إن الضحية اتخذت قرارها بالموافقة الطوعية. هذا غير صحيح بتاتًا، لأن حرية الإرادة في مثل هذه الحالات مُقيَّدة، لما قد يترتب على الرفض من تبعاتٍ كارثية. فمن الضروري هنا، أن نكون يقظين لإساءات استخدام السُّلطة، حتى لا نغفل عن علامات المعاناة الصامتة تحت وطأة علاقة القوى غير المتوازنة.
وعليه، تتضح لنا أهمية توفير مساحاتٍ آمنة لضحايا التحرش لعدة أسباب:
هذا يتطلب فهمًا مُعَمَّقًا لديناميكية السُّلطة داخل بيئة العمل، والتي تتمظهر في العلاقات الاجتماعية بين أصحاب النفوذ. لنفترض أن الموظفة التي تعرَّضت للتحرش من قِبل المدير الإقليمي، تمكنت من إيصال شكواها إلى الإدارة العليا، وتسببت بفصله الفوري من الشركة. إن قصتها في الواقع لا تنتهي عند هذا الحد، لأن خطر تبعات الشكوى لا يزال قائمًا! فمن سيكون بديل هذا المدير المفصول؟ هل هو صديقه المقرب أو شريكه في التجارة؟ أم أنه أحد معارفه المدينين له بخدمة شخصية؟ وقد لا تكون هناك أي صلة تربط الرجلين ببعض، لكن المدير الجديد لا يريد «مُخبرًا Whistleblower» في قسمه، مما يجعله يضطهد الموظفة حتى يجبرها على الاستقالة.
الآن، لو عدنا خطوة إلى الوراء، ونظرنا إلى سياق «التشيؤ الجنساني» من خلال مفاهيم (بيئة العمل) و (علاقات العمل)، سنجد أنه في كثيرٍ من الأحيان، تشعر الضحية كما لو أنها تجابه المنظومة المهنية بأكملها، لا مجرد شخص واحد يعمل فيها. لهذا السبب نقول، إن المساحات الآمنة لضحايا التحرش، هي ليست مجرد شعارات، أو مجموعة قوانين، بل هي التزام أخلاقي شامل لمكافحة فساد السُّلطة في بيئة العمل السامة.
نداءات غير مسموعة
في ليلة المناوبة، وبعد حديثنا المطوَّل مع المريضة، تناقشت مع الطبيب النفسي المقيم عن تفاصيل حالتها وما كابدته من معاناة في مقر عملها. لتأتي المفاجأة على هيئة استنكار الطبيب لموقفي المنحاز لسردية المريضة، وتحذيره لي من تلاعبها العاطفي؛ فقد كان يراها غير جديرة بالثقة بسبب حالتها النفسية وتاريخها المرضي! ها قد عادت الأحرف الخمسة لتدمغ مصداقيتها مجددًا، لكن هذه المرة مع المؤسسة الطبية التي لجأت إليها لطلب المساعدة. هذا ما قصدته بـ «الخذلان المؤسسي» في مقدمة المقالة، إنه الافتقار للحس النقدي المطلوب لتصحيح المفاهيم الخاطئة، والافتقار للعزيمة على القيام بما هو صائب.
كنت هناك، في تلك الليلة، في تلك المناوبة، وتلقيت الاتصال الذي قادني إلى كتابة هذه القصة. لكن ماذا عن بقية القصص التي لم تروَ؟ مَن سيحكيها إن لم ندافع عن الضحايا ونمكِّنَهم من استعادة أصواتهم؟
دعونا نتوقف هنا وننصت جيدًا، هل تسمعون النداءات المستغيثة وسط الصخب؟
———-
* ننوه هنا، بأننا تعمدنا تغيير بعض تفاصيل القصة لحماية هوية المريضة. كل التغييرات متوافقة مع روح الحدث الواقعي.
المراجع