تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
الآراء والأفكار الواردة في المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط
لتحميل المقالة : اللمس الحاسة التي لا نستطيع الاستغناء عنها
اللمس هو أول حاسة نواجه بها العالم وأخر حاسة تتركنا عند اقترابنا من حافة الموت. كتبت مارجريت أتوود في روايتها «القاتل الأعمى» (2000) «اللمس يأتي قبل البصر، قبل الكلام». «إنها اللغة الأولى والأخيرة، وهي دائمًا ما تقول الحقيقة». جيناتنا تُخبرنا بذلك. الأجنة البشرية مغطاة بالشعر الناعم المعروف باسم الزغب والذي يظهر في الأسبوع السادس عشر أثناء فترة الحمل. يعتقد بعض الباحثين أن هذه الخيوط الدقيقة تعزز الإحساس اللطيف للسائل الأمنيوسي للأم وهذا السائل يمسح على بشرتنا بلطف، وهو مقدمة للشعور الدافئ والهادئ الذي ينبع من احتضان الطفل بمجرد ولادته.
اللمس حاستي المفضلة فهو صديق مخلص، شيء يمكنني الاعتماد عليه لتشجيعي عندما أشعر بالإحباط أو ويزيد فرحتي عندما أكون سعيدة. باعتباري إيطالية مهاجرة لأكثر من عقد من الزمان، فقد عانيت غالبًا من التوقِ للمس والذي كان له عواقب وخيمة على مزاجي وصحتي بشكلٍ عام. الناس في شمال أوروبا يستخدمون اللمسة الاجتماعية أقل بكثير منها في جنوب أوروبا. لوهلة لا يبدو مُستغربًا أن أمضيت سنواتي العلمية في الأعوام القليلة المُنصرمة في دراسة اللمس.
كان اللمس في الآونة الأخيرة يمر بـ«عصر الحظر»: لقد كان وقتًا عصيبًا لأهم الحواس. جعلت جائحة 2020 اللمسَ تابوهًا، بجانب السعال والعطاس في الأماكن العامة. في حين أن الأشخاص الذين يعانون من كوفيد – 19 يمكن أن يفقدوا حاسة الشم والتذوق، فإن اللمس هو الحاسة التي تضاءلت بالنسبة لنا جميعًا، سواء كُنا مصابين أم لا، تظهر علينا أعراض أم لا، في المستشفى أم لا. اللمس هو الحاسة التي دفعت الثمن الأغلى.
ولكن إذا كانت المسافة المادية هي ما يحمينا، فهي أيضًا ما يقف في طريق الرعاية والحنان. إنّ الاعتناء بإنسان آخر ينطوي بصورة شبه حتمية على لمسهم بدءًا من الاحتياجات الأساسية للاستحمام وارتداء الملابس والرفع والمساعدة والعلاج الطبي (يشار إليها عادةً باسم اللمس الآلي)، إلى التبادلات اللمسية الأكثر فعالية التي تهدف إلى التواصل وتوفير الراحة وتقديم الدعم (يُعرّف بأنه اللمس التعبيري). تشير الأبحاث في علم العظام والعلاج اليدوي، حيث يعمل الممارسون بشكل وثيق مع علماء الأعصاب على اللمسة العاطفية، إلى أن التأثير المفيد للعلاج بالمساج يتجاوز بكثير الحركات التي يقوم بها المعالج؛ إذ يوجد شيء مميز في مجرد وضع يديه على جلد العميل. لا رعاية ولا علاج بدون لمس.
وصل الجفاف الحالي بعد فترة كان الناس فيها بالفعل يزدادون خوفًا من لمس بعضهم. أتاحت التقنية هذه المسافة، حيث أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي المصدر الأساسي للتفاعل الاجتماعي للأطفال والمراهقين. أظهر استطلاع حديث أن 95 % من المراهقين لديهم إمكانية الوصول إلى هاتف ذكي، ويقول 45 % إنهم متصلون بالإنترنت «بشكلٍ دائم تقريبًا».
سبب آخر للحذر من اللمس هو الوعي العالمي المتزايد بكيفية أن اللمس هو سلاح يستخدمه الرجال لفرض سلطتهم على النساء. كشفت حركة #MeToo كيف يُتوقع من النساء قبول اللمسات غير اللائقة ثمنًا للحصول على فُرَصٍ مُعينة. ويُوجه الأطباء والممرضات والمعلمون ومندوبو المبيعات في نفس الوقت ضد الإفراط في «اللمس». ومع ذلك تشير الدراسات إلى أن اللمس يحسن بالفعل جودة لقاءاتنا مع أي من هؤلاء العاملين ويجعلنا نقيم تجرُبَتنا بشكلٍ أكثر إيجابية. على سبيل المثال، من المرجح أن نعطي بخشيشًا أكثر سخاءً للنادل الذي يربت على كتفنا بدون سبب عند أخذ الطلب أكثر من أولئك الذين يبقون على مسافة.
ما يميز اللمس بالمقارنة بالحواس الأخرى هو التبادلية. بينما يمكننا أن ننظر دون أن يُنظر إلينا، لا يمكننا أن نلمس دون أن نُلمس. تحدث الممرضون والأطباء خلال الجائحة عن كيف ساعدتهم خاصية اللمس الفريدة على التواصل مع المرضى. عندما لا يستطيعون التحدث أو الابتسام أو الظهور بشكل لائق بسبب معدات الحماية الخاصة بهم، يمكنهم دائمًا الاعتماد على التربيت على الكتف أو إمساك اليد أو الضغط على ذراع لطمأنة المرضى وإعلامهم بأنهم ليسوا وحدهم. في الجائحة حيث يكون اللمس ناقلاً للمرض هو أيضًا سببًا للعلاج. اللمس بحق هو الأداة المثلى للتواصل الاجتماعي والخبر السار هو أننا ولدنا مجهزين بالكامل لتحقيق أقصى استفادة منه.
في التسعينيات، كانت هناك موجة من الأبحاث التي أظهرت النتائج المروعة للحرمان من اللمس على التنمية البشرية. أظهرت العديد من الدراسات أن الأطفال من دور الأيتام الرومانية، الذين بالكاد لُمِسوا في سنوات حياتهم الأولى يعانون من عجزٍ في الإدراك والسلوك فيما بعد فضلاً عن اختلافات كبيرة في نمو الدماغ. في مرحلة البلوغ يكون الأشخاص الذين يعانون من قلة الاتصال الاجتماعي أكثر عرضة للوفاة في وقت مبكر مقارنة بأصحاب العلاقات الاجتماعية الوثيقة. يعتبر اللمس أمرًا مهمًا خاصةً مع تقدمنا في العمر: على سبيل المثال، ثبت أن اللمسة اللطيفة تزيد من كمية الطعام التي تتناولها مجموعة من كبار السن في دور الرعاية. حتى عندما لا نستطيع أن نرى أو نسمع أو نتحدث كما اعتدنا، يمكننا دائمًا الاعتماد على اللمس لاستكشاف العالم من حولنا والتواصل مع الآخرين والسماح لهم بالتواصل معنا.
بدأ العلم الآن في تقديم تفسيرات للأهمية القصوى للمس. قد يؤدي لمس الجلد إلى تقليل معدل ضربات القلب وضغط الدم ومستويات الكورتيزول، وهي جميعُها عوامل متعلقة بالإجهاد لدى البالغين والأطفال. كما يسهل إفراز هرمون الأوكسيتوسين وهو هرمون يوفر الإحساس بالهدوء والاسترخاء والسكينة، ويُطلق الأوكسيتوسين في أجسامنا في كل مرة نعانق فيها صديقًا أو نحضن حيوانًا أليفًا مما يمنحنا هذا الإحساس بالسكينة. يبدو أن الأوكسيتوسين بهذه الطريقة يعزز دافعنا للبحث عن التواصل مع الآخرين والحفاظ على هذا التواصل مما يساعد في تنمية أدمغتنا البشرية الموجهة اجتماعيًا. يؤدي الأوكسيتوسين أيضًا دورًا حيويًا في علاقاتنا.
أظهرنا في مختبرنا مؤخرًا أن الأوكسيتوسين قد يعزز عمليات الترابط متعدد الحواس، ما يسمى بـ «مُلصق الحواس» وهي الطريقة التي يقدم بها العالم نفسه لنا عادةً بصورةٍ متماسكة، بدلاً من تيارات متعددة لحواسٍ وبيانات نشعرُ بها. الترابط متعدد الحواس بدوره هو أصل إحساسنا بملكية أجسادنا وشعورنا بأن أجسادنا هي حقًا أجسادنا. دعَونا بعض الأشخاص إلى المختبر لأغراض دراسية واستحدثنا وهم اليد المطاطية حيث ينظر المشاركون إلى يد مطاطية شبيهة باليد البشرية تُلمس في نفس الوقت الذي تُلمس فيه يدُهم الحقيقية. ما يُعزز شعور الغالبية العظمى من المشاركين بعد دقيقة أو نحو ذلك من التحفيز اللمسي المتزامن بالوهم بأن اليد المطاطية هي يدهم وأنهم امتداد لتلك اليد المطاطية. وجدنا أن تطبيق التحفيز اللمسي بتأني يعزز الوهم بتجسيد اليد المطاطية. بالإضافة لذلك وجدنا أيضًا أن إعطاء المشاركين قبل البدأ بالتجربة جرعة واحدة من الأوكسيتوسين عن طريق الأنف قد عززَ التجربة. بعبارة أخرى شُعورنا بارتباطِنا بأجسادِنا الفانية قد تُعَزِزُهُ لمسةٌ حانية وبعضُ الأكسيتوسين.
اللمس هو أول حاسة تتطور ويتوسطها الجلد؛ أكبر أعضائنا. نُعتبر من الثدييات القليلة التي تولد مُبكرًا في مسارِ تطورها. قدُراتنا الحركية لم تكتمل بصورة مُطلقة ولا يمكننا إطعام أنفسنا ولا أن نُنَظم درجة حرارة أجسادنا بما يتجاوز حدًا معينًا وكل ذلك يعني أننا نعتمد على الآخرين للبقاء على قيد الحياة. تعتمد رعايتُكَ كطفل في المقام الأول على الاتصال اللمسي و«الاحتضان». يتضمن أي نشاط أساسي اللمسَ، مثل تغيير الحفاضات والاستحمام والإطعام والنوم وبالطبع الاحتضان. حتى بعد أن نجتاز الأشهر القليلة الأولى من ولادَتِنا فإن التفاعلات الاجتماعية اللمسية ضرورية لتطورنا. على سبيل المثال، من المعروف أن اكتئاب ما بعد الولادة له عواقب سلبية على الرضع ولكن لمسة الأم يمكن أن يكون لها تأثير وقائي. لذا فإن تشجيع التفاعلات اللمسية بين الأمهات المصابات بالاكتئاب وأطفالهن يمكن أن يقلل من النتائج السلبية على الأطفال في وقت لاحق من الحياة. الأهم من ذلك أن الفائدة متبادلة: فالتلامس الجلدي بين الرضيع ووالديه يزيد من مستويات الأوكسيتوسين في الأمهات والآباء والأطفال مما يوفر إحساسًا طيبًا ويعزز لعلاقةٍ صحية ومُتناغمة بين الوالدين وأطفالهن.
يعتقد العديد من علماء الأعصاب وعلماء النفس أن لدينا نظامًا مخصصًا فقط لإدراك اللمسة الاجتماعية والعاطفية المختلفة عن تلك التي نستخدمها للمس الأشياء. يبدو أن هذا النظام قادر على التعرف بشكل انتقائي على اللمسة الحانية والتي تُعالج فيما يُعرف بالقشرة الجزيرية وهي فصٌ دماغي مرتبطٌ بالحفاظ على إحساسنا بأنفسنا وإدراكنا لأجسادِنا. لا تكمن أهمية اللمسة الحانية لاستمرار بقائنا فقط ولكن أيضًا لتطورنا المعرفي والاجتماعي: يمكن أن تؤثر على سبيل المثال على طريقة تعرُفِنا وتآلفنا مع الآخرين في وقتٍ مبكر من الحياة. في دراسة أجريت على أطفال بعمر أربعة أشهر حيث يقدم الآباء فيها تمسيدًا لطيفًا لأطفالهن كان الأطفال قادرين على التعرف على وجه سبق رؤيته بشكلٍ أفضل من أولئك الذين عانوا من جفاف اللمس. يبدو أن اللمسة الاجتماعية المتأنية قد تكون بمثابة إشارة لإيلاء اهتمام خاص للمحفزات الاجتماعية مثل الوجوه.
ما هو مهم في مرحلتي الرضاعة والطفولة ليس مقدار اللمس الذي نتلقاه فحسب، بل أيضًا طبيعته وجودته. أظهرنا أنا وزملائي في دراسةٍ حديثة أن الأطفال الرضع الذين تقل أعمارهم عن 12 شهرًا قادرون على اكتشاف الطريقة التي تلمس بها أمهاتهم أثناء الأنشطة اليومية، مثل أثناء وقت اللعب أو قراءة كتاب معًا. في دراستنا، لم تعرف الأمهات أننا مهتمون باللمس مما سمح لنا بالحصول على رؤية حقيقية لتفاعلاتهن العفوية. الأهم من ذلك، وجدنا أن قدرة الأمهات على فهم احتياجات أطفالهن الرضع تُرجمت إلى نوع من اللغة اللمسية: على سبيل المثال، هؤلاء الأمهات اللواتي كن أقل توافقًا أو استجابة لأطفالهن يميلون أيضًا إلى استخدام لمسة أكثر خشونة وتقييدًا. يميل الأطفال أيضًا إلى الرد بالمثل حيث كانوا أكثر عرضة لاستخدام اللمس العدواني تجاه أمهاتهم إذا كانت هذه هي الطريقة التي لُمِسوا بها.
ليس من المبالغة التحدث عن اللمس كنوع من أنواع اللغة إذ هي لغةٌ نتعلمها مثل اللغة المنطوقة من خلال التفاعلات الاجتماعية مع أحبابنا في مراحلنا الأولى في هذه الحياة. نستخدم اللمس كل يوم للتعبير عن مشاعرنا ولإخبار شخص ما بأننا خائفون أو سعداء أو واقعون في الحب أو حزينون أو حتى مثارون جنسيًا. في المقابل نُجيد قراءة نوايا الآخرين وعواطفهم بناءً على الطريقة التي يلمسون بها. في دراسة حديثة، دعونا الناس إلى المختبر وطلبنا منهم الكشف عن المشاعر والنوايا التي كان الباحث في المختبر يحاول نقلها إليهم عبر اللمس. لُمِسوا بسرعات مختلفة: بتأني مثل اللمس الذي يحدث عادة بين الوالدين والأطفال أو بين العشاق، وبعجلة مثل اللمس الأكثر شيوعًا بين الغرباء. وجدنا أن اللمسه المتأنية بلطف كانت أكثر تعبيرًا عن الحب حتى من شخصٍ غريب. في المقابل، لم ينسب المشاركون أي معنى أو مشاعرَ خاصة للمسات العاجلة. ومن المثير للاهتمام أنه في حالة تلف الدماغ الذي يصيب القشرة الجزيرية، يواجه الناس صعوبات في إدراك اللمسة العاطفية بالإضافة إلى اضطرابات في الشعور بملكية أجسادهن. يشير هذا إلى وجود مسار ينطلق من الجلد إلى جزء معين من الدماغ.
نتبادل الإيماءات اللمسية كرموز تواصلية ليس فقط لبناء روابط اجتماعية ولكن لتأسيس علاقات أوثق. يمارس الناس في السياقات الغربية المهنية عادةً قدرًا معينًا من الضغط في المصافحة عند مقابلة شخص ما لأول مرة. المصافحة بمثابة وكيل للكفاءة والثقة؛ نشعر أن الشخص الآخر يلمسنا ونسأل ذواتنا: «هل أثق بهم بما يكفي لتقديم وظيفة لهم؟» أو «هل يجب أن أتركه يرعى أطفالي؟» أظهرت إحدى الدراسات كيف أن المصافحة القوية كانت مؤشرًا رئيسيًا للنجاح في مقابلة عمل، ربما لأن المصافحة هي الطريقة الأولى التي نسد بها الفجوة المادية بيننا وبين الآخر. تُستخدم المصافحة أيضًا لإبرام اتفاقية بقوة التوقيع أو العقد. إن الخطر والضعف المتأصلين للمس هو جزء مما يسمح له بخدمة هذه الوظيفة الملزمة اجتماعيًا؛ يُعتقد في الواقع أن المصافحة نشأت كطريقة للتأكد من أن الشخصين المُقبلين على بعضهما لم يكونا يحملان أسلحة.
تؤثر لغة اللمس أيضًا على الطريقة التي نرتبط بها مع ذواتنا وأجسادنا منها ما تكون ثأثيراتٍ نفسية ترافقنا طوال حياتنا. في مجموعة أخرى من الدراسات، بحثنا في الطريقة التي ينظر بها الأشخاص المصابون بفقدان الشهية العصبي إلى اللمس اللطيف مقارنة بالأشخاص الأصحاء. القهم العصابي أو ما يُعرف بفقدان الشهية العصبي هو اضطراب شديد يؤثر في شهية الأكل يتميز بإحساس مشوه بجسد المرء والذي قد يؤدي أيضًا إلى انخفاض التفاعلات الاجتماعية. أردنا أن نفهم ما إذا كانت حقيقة شعور المرضى بمتعة أقل في التفاعلات الاجتماعية قد تكون مرتبطة بالاضطراب. من خلال دراستين، وجدنا أن الأشخاص المصابين بالإقهام يرون أن اللمسة اللطيفة على ساعدهم تكون أقل متعة مقارنة بالمشاركين الأصحاء والأهم من ذلك وجدنا نفس النتائج في الأشخاص الذين تعافوا من ذلك الإضطراب. يشير هذا إلى أن هذه القدرة المنخفضة للاستمتاع بالتواصل قد تكون خاصية مستقرة أكثر من كونها حالة مؤقتة تتعلق بسوء التغذية الحاد الذي نلاحظه في القهم العصابي. تشير هذه النتيجة إلى جانب دراسات أخرى إلى أن هناك بالتأكيد صلة وثيقة بين اللمسة الاجتماعية والصحة العقلية. نحتاج إلى اللمس في كُلِ حياتنا لنزدهر.
لذا، ماذا يحدث لطلاقتنا اللمسية حينَ يتحول اللمس إلى تابوه؟ في الأوقات التي نكون فيها أكثر هشاشة في حياتنا، نحتاج إلى اللمس أكثر من أي وقت مضى. من كل ما نعرفه عن اللمسة الاجتماعية يجب تعزيزها وليسَ منعها. قد نحتاج إلى التعرف على مخاطر اللمس لكن تجنبه تمامًا سيكون كارثة. لقد أعطتنا الجائحة لمحة عما ستبدو عليه الحياة بدون لمس. الخوف من الآخر من العدوى ومن اللمس سمح للكثيرين منا بإدراك مدى افتقادنا لتلك العناقات العفوية والمصافحات والتربيتات على أكتافِنا. يترك التباعد الجسدي ندوبًا غير مرئية على بشرتنا. يذكر معظم الناس «معانقة أحبائهم» كأحد الأشياء الأولى التي يودون القيام بها بمجرد انتهاء الجائحة.
يعد التواصل اللمسي أمرًا حيويًا لدرجة أن لغة الاتصال الرقمي مشبعة باستعارات اللمس. «نبقى على اتصال»، ونقر بأننا «تأثرنا بلفتتك اللطيفة». اقترح بعض الباحثين أن التقنية يمكن أن تعزز اتصالنا الجسدي بالآخرين، مما يحفز أنواعًا جديدة من الاتصالات اللمسية بين الأشخاص عبر بطانيات العناق وشاشات التقبيل وأجهزة الاهتمام. يستكشف على سبيل المثال مشروع مقره كلية لندن الجامعية كيف يمكن للممارسات الرقمية مثل «الإعجابات» والرموز التعبيرية والإشارات التي تنقل الحالات العاطفية والتعليقات الاجتماعية أن تمتد إلى التأثير عن بعد. يمكن لشخصين على مسافة أن يمتلك كل منهما جهازًا يكتشف وينقل ردود الفعل اللمسية: على سبيل المثال، يمكن أن يصبح المستشعر دافئًا ولينًا عندما يكون شريكي أو شريكتي في الجانب الآخر من العالم متاحًا ويريد السماح لي بالشعور بوجوده أو وجودها والعكس يمكن أن يكون المستشعر باردًا وقاسٍ إذا احتاج شريكي أو شريكتي إلى وجودي.
هناك الكثير من الإمكانات لهذه الأجهزة، خاصة للأشخاص المحرومين من اللمس مثل كبار السن أو الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم أو الأطفال في دور الأيتام. ضع في اعتبارك أن 15 % من الناس في جميع أنحاء العالم يعيشون بمفردهم وغالبًا هم بعيدون عن أحبائهم وأن الإحصاءات تشير إلى تزايد أعداد الناس الذين يموتون بمفردهم أيضًا. يا له من فرق أن يكون لديك إمكانية أن تكون قريبًا جسديًا حتى عندما تكون بعيد.
ومع ذلك يجب أن تكون هذه الأجهزة مكملة لقوة التبادل اللمسي بين الآخرين وليس بديلاً لها. لا شيء يُقارن بسحر اللحظة الحميمة مع شخص تحب حيث يكون اللمس غالبًا مصحوبًا بسلسلة من الإشارات الحسية الأخرى مثل الرائحة والصوت وحرارة الجسد. اللمس أدنى وأقرب حتى وإن كان مؤقتًا، بمعنى «نحن قريبون من بعضنا ونحن هنا الآن معًا». على عكس الحواس الأخرى التي يمكن أن تكون رقمية مثل رؤية وجه شخص ما والتحدث معه عبر برنامج زووم، يتطلب اللمس أن تكون في نفس المكان وفي نفس الوقت مع إنسانٍ آخر. قد تفقد النسخة الرقمية من اللمس هذه المشاركة الثرية للحظة معينة في المكان والزمان مما يسمح بتجربة محدودة أكثر لما يمكن أن يوفره العناق. إذا كان بإمكاني -رقميًا- توقيف تحية لطيفة أو التراجع عنها ، فإن هذا الجانب من اللمس الذي «نشعر فيه جنبًا إلى جنب مع شخص آخر» سيفشل.
في البيئة الحالية، هل فكرة «حركة نهضوية للمس» هي فقط للشجعان والحمقى؟ لا أصدق ذلك، والأدلة العلمية تتحدث بصوت عالٍ وواضح. نخسر الكثير من خلال حرمان أنفسنا من اللمس. نحرم أنفسنا من واحدة من أكثر اللغات التي نتحدثها تطورًا، ونفقد الفرص لبناء علاقات جديدة؛ قد نُضعِف حتى الموجود منها. ننفصل أيضًا عن ذواتنا بتدهور علاقَتِنا الاجتماعية. يجب أن تكون الحاجة إلى أن يكون الناس قادرين على لمس بعضهم أولوية في تحديد «الوضع الطبيعي الجديد» بعد الجائحة. غالبًا ما يفصلنا عناق واحد عن عالم أجمل. بصفتي عالمة، وأيضًا إنسانة، فإنني أطالب بالحق في اللمس والحلم بواقع حيث لا يحرم منه أحد.
المصدر (وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى ومجلة إيون).