«قد أتبنى معتقدًا في ميدانٍ ما، وابتكار نفسي من خلاله، ولكن ليس من دون أدواتي الزمنية، تمامًا كما أنه لا يمكنني أن أتحرك في العالم دون كتلة جسدي المعهودة؛ لذا الزمان هو جسد الروح الذي اعتاد فاليري أن يتحدث عنه». موريس مولوبونتي- علامات – Signs ([1])
مقدمة
تَصَوّر أوغسطين للزمان على أنه تَوتر النفس يعطي طابعًا فرديًا داخليا لمعنى الزمان، ويبدو أنّ هذا يجعل الزمان خاصًا بالذات؛ فهو شيء غير محدد وخاصّ بالفهم البشري، ويبدو لنا ذلك عكس ما يُوحي به المكان، الذي نعرفه جيدًا، فهو محدد ومعروف، ولكن في نفس الوقت لا يعطي هذا امتيازًا للمكان على أنه حقيقي وواقعي أكثر من الزمان، الذي هو حال من أحوال النفس يصعب تحديده بدقةٍ مثل المكان. يعرِّف أرسطو البشر بأنهم كائنات لديها إحساس بالزمن؛ لأن لديهم القدرة على تخيّل وتوقّع المستقبل، والتوقّع هنا يعني وجود بُعد نظر بشأن شيء غير موجود، لذا فإنّ وجود إحساس بالزمان يعني وجود بُعد نظر فيما يتعلق بشيءٍ مستقبلي غير موجود الآن، ومن خلال تعريف الزمان على أنه مجرد التمييز بين الحاضر وغير الحاضر يفقد أرسطو مفهومًا حقيقيًّا للوقت؛ لأن رؤيته تجعلنا نفكر في الحاضر على أنه تجاوز لرؤيته للحاضر القادم ولا تساعدنا في فهم الزمان نفسه، ومن أرسطو إلى أوغسطين نجد أنّ الحاضر بالنظر إلى الماضي هو الذاكرة، والحاضر بالنظر إلى الحاضر هو الوعي الحالي، والحاضر بالنظر إلى المستقبل هو التوقّع، وهنا تظلّ الإشكالية قائمة، بل وتزداد صعوبة فهم طبيعة الزمان وعلاقتنا به.
حدث التحوّل مع هوسرل في تحديده للزمان على أنه الزمان الموضوعي، وزمان التجارب المعيشة، واستقرّ هوسرل على أن مفهومه للزمان كحضور. قدّم هيدغر نموذجًا فريدًا لفهم طبيعة الزمان يختلف عمن سبقوه، باعتباره إمكانية داخلية للكينونة، يكمن في تكوينها نفسه وطابعًا مميزًا لها. أمّا ميرلوبونتي فقد أكد على أنّ الزمانية هي جسد الروح، فكما لو أنني لا أستطيع أن أتواجد في العالم دون الجسد؛ فلا يمكنني أن أتواجد في الجسد دون الزمانية. ومن كل ما سبق استقت الفينومينولوجيا النسوية روافدها في فهم وتفسير الزمان، وتقديم وصف ظاهرياتي نسويّ محكم البناء وقوي الفكر، فانتقدت الفكر اليوناني الذي اعتبر الزمان محصورًا في فكرة الحركة والتغيّر، وانتقدت الفكر الهوسرلي والهيدغري الذي لم يلتفت لدور الجندر في تكون الذات، والوعي الداخلي بالزمان، وقامت بوضع تصوّرات للزمان توضح من خلالها اختلاف الزمانية الأنثوية وتفردها، وتحلّل بدقة الهياكل الاجتماعية التي تدخل في تركيب بنية الزمان وانعكاسات الجندر عليه، فما هي إذن الفينومينولوجية النسوية للزمان، وما محاور عملها؟
1- الفينومينولوجيا النسويّة للزمان Feminist Phenomenology Of Time
1.1 الاختلافات بين زمان العالم، ووقت الحياة، والزمان الشخصي
بدأت الفينومينولوجيا في القرن العشرين من خلال البحث في الزمان فيما يتعلق بالزمان الذاتي والمعِيش، أيّ وقت التجربة والخبرة التي نحياها. فَهم هوسرل هذه الإشكالية، وأوضح لنا أنّ مجرّد التفكّر في طبيعة الزمان، وعند الوعي الزماني الذاتي، يؤدي إلى تلاشي التجربة الحيّة للوقت وأُلفتها، ما يتركنا متورطين في أكثر الصعوبات والتناقضات غير العادية، ومع ذلك ركز هوسرل على الوعي الداخلي بالزمان على عكس الزمان الموضوعي والجسدي.
في هذا الصدد، اعتبر العديد من علماء الفينومينولوجيا تجربة الزمان الثلاثية المعهودة – الماضي والحاضر والمستقبل – هي الآنّات الأساسية للزمن ومناحي فهمه ودراسته. كما ظهرت اختلافات حول مفهوم الوجود وأصل الزمان كحضور، فقدّم هوسرل في ظاهرياته المتعالية تصوّرًا لبنية الزمان خارج الوجود العابر كلحظة أساسية في قانون الزمن. ولذا أرست ظاهرة الزمان لدى هوسرل الأساس لتحليل كيفية تشكيل الزمان، وكيفية تنظيم التجارب بشكلٍ زمني، وكيف يمكن التمييز بين أنماط الوعي المختلفة في الإشارة إلى بنيتها الزمانية. ومن ثمّ، فإن الأب المؤسس لعلم الفينومينولوجيا هو مصدر لا غنىً عنه لمَن أهمّه موضوع الزمان والوعي به، والذين انطلقوا جميعًا في اتجاهاتٍ مختلفة، فنجد مثلاً: هنري برجسون Henri Bergson، الذي ينتمي عمله إلى عالم فلسفة الحياة، ولكنه كان على صلةٍ وثيقة بالبحوث الظاهرياتية والوجودية، خاصةً فيما يتعلّق بدراسته للذاكرة، ويركز بشكلٍ أكبر على الماضي، ولذا اعتبر مفهوم الذاكرة مكونًا للحاضر «فإنّ الظاهرة الأساسية للزمنية البدائية والأصيلة هي المستقبل؛ لذا فإنّ المفهوم الأنطولوجي (للوجود هناك)ـ يتم وضعه فيما يتعلق بالحقيقة الوجودية المتمثّلة في أنّ جميع البشر يتمّ دفعهم نحو الموت».([2])
1.2 القضايا النسويّة والمفاهيم الزمانيّة
توضّح الفينومينولوجيا النسوية أن القضايا النسوية والمفاهيم الزمانية قد أهملها علماء الفينومينولوجيا ذاتهم، خاصةً وأن الفلسفة الحديثة والمعاصرة قد وضعت مفاهيم زمنية متنوعة، بحيث يشكّل الزمان فيها فئة أساسية للبحث، فنجد هوسرل الذي قدّم لنا الروابط بين الزمان والتجربة المعيشة، وميرلوبونتي الذي قدّم لنا الجسد الحيّ والمجهول والمعتاد، كما نجد الهوية السردية عند ريكور. ورغم أهمية الزمان كمجال للبحث؛ إلا أنه تمّ تجاهل العلاقة بين الزمان والجندر، على الرغم من تحليلات الفينومينولوجيا النسوية التي قدّمتها للتجارب المعيشة، والتي أوضحت من خلالها الدور الكبير للجندر في عملية وصف الظاهرة، كما اعتبرت الفينومينولوجيا النسوية أنّ الزمان له بُعد أنطولوجي كبير، ولتوضيح علاقة هذا البُعد بالجندر يحتم علينا إعادة هيكلة المفاهيم والتصوّرات الزمانية المعتادة، كما أكدت على أنّ الزمان ليس له بُعد أنطولوجي فحسب – وهذا ما يهمنا هنا والآن – إنما له تأثير كبير على الأبعاد المعرفية والسياسية والجمالية وحتى الأخلاقية، وإن كانت الفينومينولوجيا النسوية نجحت في تقديم وصف فينومينولوجي للعديد من التجارب المعيشة التي تمّ اعتبارها تجارب عادية([3])، فالأولى من ذلك إعادة تحليل الزمان وتقديم تصوّرات ومفاهيم تعكس وتوضّح تأثيرات الجندر على بناءاته.
قدّمتْ الفينومينولوجيا النسوية اتجاهين للزمن، الاتجاه الأول: إعادة قراءة الزمان من منظورٍ نسوي، وتحليل انعكاسات الجندر على تكوين وصكّ هذه المفاهيم، ببحث الأسئلة المنهجية والمفاهيمية لفينومينولوجيا الزمان، مثل التغيير، والتحول، والحركة والأنماط المختلفة للخبرة، وتبيان أهمية الزمان للفينومينولوجيا النسوية. أمّا الاتجاه الثاني: فهو المطالبة بوضع الجوانب الأخلاقية والسياسية وتأثيراتها على الزمان في الاعتبارات البحثية. تهتم الدراسات النسوية دومًا بفحص علاقات القوى داخل المجتمعات وتقيّمها؛ لتبيان الفوارق بين الجنسين، فالعوامل الاجتماعية والسياسية والأخلاقية تعتبر أرضية مهمة للطرح، ومن هذه الناحية تركز الفينومينولوجيا النسوية للزمان على دراسة وتحليل الهياكل الزمانية السياسية، والاجتماعية، والأخلاقية التي تؤثر في إشكاليات الجندر، وهوية الجندر، وخبرات النساء الخاصة، والأسئلة التي تدور في فلك فهمنا للمفاهيم الخاصة بالجندر، واتفقتْ الأفكار النسوية على «وجود علاقة مهمة بين المفاهيم الفينومينولوجية النسوية للزمان، وتلك الخاصة بالتجربة الحيّة، بعبارةٍ أخرى، فإنّ تلك التجربة الحيّة تتشابك على نحوٍ لا ينفصم مع الظروف الزمنية للحياة البشرية».([4])
1.3 السِّمات الزمانية للجندر
تؤكد الفينومينولوجيا النسوية للزمان على أنّ هناك ارتباطًا قويًا بين زمنية التجارب والجندر، ونظرًا لأنّ التجارب المعيشة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالجسد والوجود في العالم؛ فهذا كفيل بإثبات دور الجندر المؤثر في زمنية التجارب والخبرات المعيشة. تطرح كرستينا شوس Christina Schües إشكالية خاصة بتحدد سِمات الجندر وتأثيرها على الزمانية؛ فتوضح أنّ المشكلة تكمن في السِّمات الزمانية للجندر والتي يصعب تحديدها، وتلجأ كرستينا إلى تحليلات هيدغر للزمان باعتباره ليس شيئًا موضوعيًا مثل الزمان المعلوم بالساعة، وإنما زمانية، أيّ أنّ الموجود الإنساني زماني، ولو حاولنا تحديد الزمان لن نصل إلى شي، والمعنى سوف يتبدد، تحاجج كرستينا أنّ الجندر أيضًا كذلك، لا يمكن تحديد زمانية الجندر على أنه شيء موضوعي، إنما يمكننا أن نقول قياسًا على زمانية هيدغر إن الجندري هو المجندر«gendered is gendering»، فكما أنّ الدازاين يتزمّن في الزمان؛ فالجندر أيضًا يتزمّن في الزمان.
تحلّل كرستينا الجندرية والزمانية، وتنطلق من اعتبار الجندر مكافئ للزمانية فكل منهما يصعب تحديده كما وضحنا سابقًا، ولكن في نفس الوقت كل منهما يؤثر ويشكّل وجودنا الإنساني بشكلٍ لا يمكننا إنكاره. وانطلاقًا من زمانية هيدغر وطرحه لسؤال كيف يُظهر الزمان نفسه؟ تطرح كرستينا في المقابل سؤالاً: كيف يُظهر الجندر نفسه؟ والذي سوف يظهر لنا تأثيره في كيفية تكوين الخبرات المعاشة، وفهمنا لدور الزمان فيها، والجندر أيضًا، فنحن ندخل في تجارب، ونكتسب خبرات تحدث في الزمان ويشكّلها الجندر؛ فيأتي وصفنا للظواهر زمانيًا ومجندرًا، لذا تصل كرستينا في تحليلاتها إلى أنه «يبدو أنّ الزمان والجندر يتمّ اختبارهما بشكلٍ خاصّ في غيابهما أو في حضورهما المفرط، ويظهر هذا بوضوح عندما نفتقد الوقت أو عندما يمرّ سريعًا، ويظهر أيضًا عندما لا نجد الوقت للقيام بشيءٍ ما، أو عندما نأتي متأخرين جدًا وينتهي الوقت، عندئذ يبدو أنّ الزمان يظهر نفسه بكل قوته الواقعية».([5])
يُظهر الزمان نفسه بقوةٍ في أوقات الفراغ التي لا نفعل بها شيئًا وتمرّ ثقيلة، ويظهر أيضًا في شعورنا بالملل، وعدم رغبتنا في القيام بشيءٍ ما، هنا يحضر الزمان بشكلٍ كبير ثقيل لا يمرّ، وهنا بالتحديد نعي إشكالية فهم طبيعة الزمن التي تقبع في اللاوعي وراء ستار مخيف بالنسبة لنا؛ لأننا لا نفهمه، وفي حياتنا اليومية اعتدنا أن الوقت يمرّ والحياة تستمر، ولكن لم نفكر في فهم طبيعة هذا الوقت، وحينما نعي ذلك يبدأ الوعي الحقيقي بالزمان، ويمكننا هنا أن ننوّه إلى تجربة ميدارد بوس – وهو الطبيب النفسي، وصديق هيدغر – الذي تحدث عن كيف شعر بأزمةٍ مع الزمن والإحساس به، فلجأ إلى كتاب هيدغر «الكينونة والزمان» (1927)، ليفهم السِّر وراء ما ندعيه بالزمن، فلم يفهم منه شيئًا، فلجأ إلى هيدغر شخصيًا ليساعده على فهمه ويبسِّط له الموضوع لكونه غير متخصّص. ترتب على هذه المناقشات ما يُعرف بـ «ندوات زولكيون»، التي تحدث فيها ولأول مرّة بشكلٍ مبسّط للأطباء والأطباء النفسيين عن الزمان وبعض الموضوعات الأخرى.
يصف بوس خبرته بالزمان أنه في عيادته وعمله وحياته اليومية الصاخبة لم يكن يعي الوقت، ولم يكن يحضر في وعيه، كل ما يدركه لانشغاله طوال الوقت ولا يجد الوقت كافيًا، فكان شعوره غير مريح ولكنه في نفس الوقت غير مقلق، إلى أن انضمّ إلى الجيش وأصبح قائدًا لمعسكر، وفيما يجلس في المعسكر أوقات طويلة لا يفعل فيها شيء سوى الانتظار، شعر بالملل وعدم مرور الزمان في حين أنه قبل ذلك كان يشعر بالعكس تمامًا، فشعوره بالتململ من الفراغ يتضارب مع شعوره بالقلق من مرور الزمن سريعًا؛ فتعجب بوس لهذا الذي نسمّيه الزمان لا يعجبنا إنْ أسرع ولا يعجبنا إنْ أبطأ، ولا نرضي عنه في كل الأحوال؛ فكانت النتيجة أن شعر بالتجربة غير العادية، التي وصفتها كرستينا بالنفي، أيّ افتقادنا للوقت وانشغالنا عنه، أو المبالغة وهي الإسراف في الوجود كوقت الفراغ الطويل.([6])
من المرجح بالقياس إلى ما سبق قلناه عن الزمان أنه عادةً ما يتراجع الجندر إلى الخلفية أيضًا، فنحن لسنا دائمًا واعين لجندرنا، نحن نشعر أو نتكلم أو نتصرّف كأشخاص مجندرين، ولكن الجندر لا يظهر في الوعي إلاّ عندما تكون هناك مشكلة ما مثل الزمن، حين تظهر الحاجة إلى فهمه وتستدعيه، ولكن لا نشعر به ولا نفكر فيه إلاّ في عدم وجوده أو الإسراف في وجوده، حين يمرّ الزمان سريعًا نشعر بأنّ هذه التجارب غير طبيعية لأنّ الطبيعي أن يمرّ دون أن نشعر به، ويمكننا تطبيق ذلك على الجندر، فنحن لا نشعر بأننا أشخاص مجندرون، ولكن يظهر لنا فقط في التجارب غير الطبيعية، مثل التي تعرضنا لها في الزمان؛ فالجندر لا يحضر في الوعي من خلال التجارب المعاشة إلا في تجارب معينة تجعله يحضر في الوعي، ولكن هذا لا يعني في الزمان نفسه أنها غير موجودة، إنما موجودة لكنها غير ملحوظة، لذا لن يظهر لنا بسهولةٍ قبل أن نهتمّ به ونفكر فيه.
يرتبط مفهوم الجندر ارتباطًا قويًا بمفهوم عدم الكشف عن الهوية والتركيز على الجسم، وهنا يكتسي عمل ميرلوبونتي أهمية محورية في هذه المناقشة؛ لأنّ فكرة إغفال الهوية صيغت بوضوحٍ في عملٍ تناولته سيلفيا ستولر Silvia Stoller، حيث عملت على تقديم جانب من الزمانية التي يبدو أنها غير معترَف بها على نطاقٍ واسع، ليس فقط في الفلسفة النسوية والفينومينولوجيا، ولكن أيضًا في النظريات التي تناولت إشكالية الزمان بشكلٍ عام، وتعتقد ستولر أنّ الجانب المجهول من الزمانية وغير الواضح لنا، ربما نطلق عليه زمانية غير مكتشفة بعد، أو زمانية مجهولة، وهي تؤسس لكل تجاربنا المعيشة، وتعتبر بُعدًا غير مرئي وغير مبحوث، ويمكننا من خلاله التفكير في جندرية الزمانية بعيدًا عن الجوانب البيولوجية، والتركيز على الزمانية ومبدأ عدم الكشف عن الهوية، حيث يتم فحص ذلك من خلال الفينومينولوجيا النسوية للزمان. والنتيجة المحسومة هي أنّ الزمانية مجندرة، والجندرية زمانية. ولذا يتطلب الزمان كقضية في إطار الفلسفة النسوية معالجة الجندر من حيث علاقته بالزمان. إنّ وضع نظرية للعلاقة بين الزمان والجندر في إطار الفينومينولوجيا النسوية، يعني الاستفادة من التقاليد الفينومينولوجية بشكلٍ رائع.([7])
2- الجندريّة والزمانيّة Temporalizing and Gendering
توضّح سارة هيناما Sara Heinämaa أنّ الفينومينولوجيا «تتعلّق بالاعتبارات المنهجية؛ ومن ثمّ تصبح المهمة لتفسير البنية الزمانية لتجربة الاختلاف الجنسي، وكذلك أُسسها المسبقة التنبؤية، ضرورة لا غنىً عنها للفهم؛ خاصةً إذا كنّا راغبين في وضع رؤيةٍ فلسفية للاختلاف الجنسي، فيتعين علينا أن نشارك في استفسارات الفينومينولوجيا الجينية genetic phenomenology. ويجب علينا أيضًا أن نطرح تساؤلات حول الاختلافات بين الهيكل الزماني للتجارب، والتكوين الذاتي للوقت والهيكل الزماني للتفكير التأملي».([8]) ولكي ننطلق في فهم الجندرية من الناحية الفينومينولوجية علينا أن نركز على الاعتبارات المنهجية، ولفهم الاعتبار الهام للاختلافات الجنسية نحتاج إلى إعادة توضيحٍ وتفصيلٍ لمفهوم الزمانية ومناقشة الاختلافات بين الاستفسارات التجريبية والفينومينولوجيا.
تحلّل سارة من خلال مقالها عن «الشخصية وإخفاء الهوية والاختلاف الجنسي: التكوين الزمني للأنا المتعالية»، مفهوم الأنا المتعالي عند هوسرل وتميّزه عن مفهوم الأنا التجريبي، الذي اعتبره هوسرل مرتبطًا بالواقع، وله وضع مكاني وزماني مرتبط بالعالم المعِيش، أمّا مفهوم الأنا المتعالي فقد اعتبره هوسرل أرضية مؤسسة، قاعدة ثابتة مطلَقة. تنطلق سارة من اعتبار هوسرل القائم على أنّ الأنا المتعالي له بُنية زمنية، وأنه ومن خلال مفهومه الجيني للشخصية يمكننا تطوير رؤية فلسفية متعالية عن الاختلاف الجنسي، ومن هذا المنطلق لن تكون الهوية والاختلاف الجنسي مجرد موضوعات بحثية للعلوم الإنسانية التجريبية، وعلوم الحياة التجريبية مثل الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الأحياء، وعلم وظائف الأعضاء، ولكن سوف يصبح التحليل الفينومينولوجي أساسيًا وضروريًا، ولن ينتمي إلى هوامش الفينومينولوجيا وعلم النفس الفينومينولوجي أو الأنثروبولوجي، ولكن إلى مركز المشروع الفلسفي للفينومينولوجيا المتعالية، التي تدرس الخبرة، وتتطلّب تحليل فينومينولوجي لها.([9]) والمنطلق الآخر المهم في التحليل الفينومينولوجي للاختلاف الجنسي لفهم بينة الزمانية، أنّ امتلاك الزمان سُلطة ووسيلة للهيمنة؛ لذا من المهم تحليل البُنية الزمنية وتفكيكها.
أيضًا نجد طرحًا قويًا لكريستينا شوس Christina Schües، في مقالٍ لها عن «سُلطة الزمان: الخبرات الزمنية والتفكير الزماني»، حيث تتناول الزمان على أنه وسيلة للهيمنة، وذلك من خلال تناولها لتحليل البُنى الزمانية الخاصة بتجارب النساء، حيث تتناول الخبرات الزمنية للنساء والبنية الزمنية للتفكير التأملي، وتتساءل كريستينا عن الخبرات الزمنية للنساء، هل تتساوى مع الخبرات الزمنية للرجال؟ بالطبع، المرأة تختبر الزمن بشكلٍ مختلف بسبب اختلاف الخبرات المعاشة لها، ولكن أيضًا الهيكل الزمني يختلف باختلاف وجهات النظر إلى الزمان نفسه، كما وضّحنا من قبل، وقد كان السؤال الأكثر قوة لكريستينا فيما يتعلق بخبرة الزمن لدى النساء والرجال هو: من يملك وقته الخاص؟ فلو كان البشر عمومًا في أيامنا هذه يشتكون من سرعة وتيرة الزمن؛ فالمرأة لها شكوى إضافية، وهي عدم امتلاك وقتها الخاص، فهي دومًا منشغلة بالآخرين؛ فنجدها منشغلة دائمًا برعاية الأطفال لو كانت أمًا، وبالعمل وزملاء العمل لو كانت موظفة، وبالرعاية عمومًا كونها مسؤولة عن الرعاية وعن كل ما سبق بسبب ما تمليه الثقافة؛ لذا فإنّ الحلول المقترحة لمعالجة إشكالية الوقت وتنظيمه لا تنطبق عليها، ذلك لأنّ وقتها يملكه الآخرون، والذي يعود إلى طبيعتها البيولوجية والرعائية وإلى أدوارها الاجتماعية.
تفترض كرستينا أنّ للوقت تأثيرًا على الوعي، وهيمنة على تحديد الأعمال التي نقوم بها، وهو وسيلة للهيمنة لمن يملكه «فالوقت هو وسيلة للسيطرة على البشر ومصادرة الأنا»،([10]) ولذلك يعدّ فهم البنية الزمنية للتجارب المعيشة للنساء مشروع مهم لفهم الزمانية والتحرّر من سُلطة الوقت، فإذا قدّمنا تحليلات لفهم الزمانية بشكلٍ عام فلن تنطبق هذه التحليلات على الوضع الخاص بالمرأة المرتبط بالجندر من ناحية وبالهيكل الاجتماعي من ناحيةٍ أخرى، بل والسياسي والأخلاقي والجمالي كما وضّحنا من قبل، وهنا تُعد الفينومينولوجية النسوية للزمان علامة فارقة في تقديم وصف ظاهرياتي للزمان يعبّر حقًا عن زمانية المرأة وتجاربها؛ حيث يتحقق الشرط الفينومينولوجي للمعايشة بالإضافة إلى وضع الهياكل المؤثرة الأخرى في الاعتبار.
3- الهياكل الاجتماعية للزمنيّة Social Structures of Temporality
الاختلافات في الهياكل الزمنية من الناحية الاجتماعية، يضع الناحية الاجتماعية في هياكل محددة للزمن، فالكل متفق الآن على أنّ وتيرة الزمن أصبحت سريعة للغاية، والجميع يشتكي من سرعة انقضاء الوقت وعدم كفايته، على الرغم من أنّ وضعنا المعاصر من المفترض له أن يؤدي إلى العكس تمامًا، فنحن الآن لدينا آلات تساعدنا في عمل كل شيء تقريبًا، ولدينا مساعدات تكنولوجية في مناحي حياتنا هدفها تنظيم وتقليل الوقت، ونعمل عدد ساعات أقلّ مقارنةً بوضعنا السابق، ولسنا مهددين طوال الوقت بنقص الموارد والمجاعات والأمراض وغيرها من المشكلات التي كانت تؤرق البشرية، حيث يمكننا الآن التحكم بالأمور بشكلٍ أفضل، والتنبؤ بالكوارث قبلها بفترةٍ كافية تسمح لنا بالسيطرة عليها وتقليل مخاطرها، ورغم كل ذلك فإن ما يحدث هو العكس، فقدنا السيطرة على الوقت الذي بالغنا في تنظيمه لدرجة أنه لم يعد مفهومًا لنا، وفي اعتقادنا أنّ السبب يعود هنا إلى الهيكل الاجتماعي؛ فأنت مطالب أن تكون حاضرًا في كل مكانٍ طوال الوقت، في العمل وفي المنزل وعلى الهاتف ووسائل التواصل، على الإنترنت والإيميل وغيرها، فأصبحنا كما يقول هيدغر: «نوجد في كل مكان، وغير موجودين في أيّ مكان». وهي سِمة من سِمات عدم الأصالة التي تؤسّس للوجود الزائف، ما يعني أننا نحيَا في أزمةٍ وجودية وزمنيةٍ بامتياز.
تشتكي معظم النساء من أنّ لديهن مشكلة زمنية، لأنهن يفتقرن إلى التوازن في حياتهن، ولا يجدن وقتا لأنفسهن؛ فالنساء يعملن كموظفات، وأمهات، وربات منزل ومقدمات رعاية؛ فيذهب كل جهدهن للآخرين ولا يتبقى وقت لأنفسهن، ويعود ذلك أيضًا إلى الهيكل الاجتماعي الذي يشكّل أدوارهن، ولكن الجميع يدور في حلقة مفرغة، والمشكلة التي تظهر هنا هي الهوية الذاتية التي تتدخل فيها الهياكل الاجتماعية والتي تقع في نفس الوقت في إطار الزمن.
طرحت أنيمي هالسيما Annemie Halsema، تصوّرًا عن الهوية الذاتية في مقالها «زمن الذات: انعكاس نسويّ على فكرة ريكور للهوية السردية»، كيف أنّ مفهوم ريكور للهوية السردية ينتقل بين الذات والإيحاء، بين التشابه الذاتي والثبات من ناحية، وتدفق الزمان من ناحيةٍ أخرى. ويحتوي السرد في حدّ ذاته على مفهوم الزمان الذي يمرّ، والزمان الذي يستمرّ. بالنسبة لهالسيما، تمثّل جوديث بتلر الموقف القائل بأنه ليس فقط في سرد قصة حياتنا نشير إلى الزمان واستخدام الوقت، ولكن أيضًا أن عملية بناء الهوية تشمل الوقت، أو بالأحرى هي الوقت. وتنتقل هالسيما مع لوسي إليغيري إلى نقطةٍ أخرى وهي السرد الجسدي في الزمان الجسدي للذات التي تدخل في مرحلة الشيخوخة وتكبر في السِّن، تقدّم صورة مركّزة لفعل الزمن في تكوين الذات وتؤكد سُلطة الزمن عليها، فلو تفحصنا وجوهنا ووجوه الآخرين سوف نرى علامات مرور الزمن وتأثيراتها، فكل منعرج في الجسد يمثّل تجربة معاشة وخبرة معرفية، وكل علامة في الوجه تمثّل منعطف في الحياة والشعور؛ فالوقت يديرنا ويدخلنا.
ولكن أيضًا تبدو الهوية السردية غير ثابتة، إنما هي سردية مفتوحة للتحقّق كما عند ريكور. وكينونة توجد كما عند هيدغر. فالهوية غير منغلقة حول نفسها؛ لأنها زمانية متجددة على الدوام مع مرور الزمان، وهذا ما يتوجب علينا فهمه، حيث يظهر لنا من تزمّن الزمان لهيدغر، واستمرار السرد والحكايات التي تتجدد على الدوام عند ريكور، تتجدد الذات بتجدد الزمان، وبهذا المعنى يتجدّد الزمان نفسه، ويتحوّل من الزمان النفسي والزمان الكوني إلى الزمان السردي، الذي لا يكفّ عن الحضور، إمّا من الذكريات أو ممّا يتحول إلى ذكرى في الحاضر، في عمليةٍ دينامية متجددة، ولذا يؤكد ريكور على أنّ محاولة اشتقاق زمن العالم من زمن النفس أو العكس، تبدو محاولة يائسة ومحكومة بالفشل، فهي عملية مترابطة الأجزاء لا يمكن فصل أحد عناصرها.
وفي سرد قصة حياتنا ترى جوديث بتلر أنّ الزمان يشكّل تجاربنا نحو العالم، وأوضاعنا الاجتماعية والسياسية مرتبطة أيضًا به؛ لذا التجارب، والخبرات، والجسد، والهوية كلها مرتبطة بالزمان، حيث «اكتشف علماء النفس أنّ الزمان، بجانب المال، هو أحد القضايا الرئيسة في الخلافات بين الأزواج. فالسير ببطءٍ شديد، أو قضاء وقتٍ طويل في الحمام، أو الحركة المرتبكة في المطبخ، أو الوصول متأخرًا جدًا أو مبكرًا جدًا على الموعد، كلها مسائل مألوفة يمكن أن تشكّل سببًا للانزعاج في علاقاتنا مع الآخرين. وهذه الملاحظة حول أهمية الزمان تنطبق أيضًا على العلاقات بين الثقافات».([11]) فكل ثقافة لها بُنية خاصة للزمان وتختلف معاييرها عن أيّ ثقافةٍ أخرى، ولذا تختلف مفاهيم الزمان، وتتنوّع أيضًا بطرقٍ مختلفة. وتطرح مثالاً هنا بمعايير العمل في الولايات المتحدة حيث «يميل العمل الشاق وساعات العمل الطويلة في الولايات المتحدة إلى الارتباط بمعايير الرجولة، في حين يرتبط وقت الأسرة بالنساء والأطفال. وفي اليابان يعتبر العمل الجادّ والسريع أحد أسمى الفضائل، ويرتبط بالوطنية لكونه جزءًا من الجماعة».([12])
الأنشطة والخبرات التي تمرّ بنا في حياتنا كل يوم تحدث في الزمان، ومروره سريعًا أو بطيئًا يؤثر علينا، يبهجنا في أحيانٍ ويجعلنا نشعر بالتعاسة في أحيانٍ أخرى، ولذا «فإنّ فهم القوى والهياكل الزمانية المختلفة يُرسي الأساس لفهم العلاقات بين البشر، بين الرجال والنساء، وبين المجموعات وأنماط الحياة المختلفة». وفهم المعنى الذي يمكن من خلاله أن يكون الزمان أداة قوية لحكم الآخرين، أو مشاركتهم، يوضّح لنا المشاركة الفعالة للزمان في فهم وتشكيل العلاقات الإنسانية والمعايير الاجتماعية؛ ولذا يصبح من الضروري فهم الجوانب السياسية، والاجتماعية، والأخلاقية للزمان، حتى تتبدد مخاوف الهيمنة على الآخر، والتدخل في شؤونه الخاصة، واحترام اختلافات الأفراد والثقافات.
خبراتنا بالزمن أيضًا تختلف باختلاف الذات وموقعها؛ فحين تجد المرأة التي تقضي وقتها في اللعب مع أطفالها في المنزل وقت مَرح لطيف، ترى أخرى أنه اندفاع وجنون وتوتر وقلق وإرهاق للغاية، وتفضّل حياة المكتب الهادئة، في حين تجد أخريات العكس تمامًا، وهكذا. ولكن، هل نلتقي؟ سؤال آخر مهم يطرح نفسه، فقد تمّ تقديم فكرة «الزمان المشترك»، من قِبل هوسرل في التأملات الديكارتية، واستخدم بقوةٍ من قِبل ألفريد شوتز Alfred Schütz – عالم الاجتماع المعروف – حيث قدّم وصفًا لفكرة أنه وعلى الرغم من أنّ الناس قد لا يكون لديهم بالضبط نفس التجارب ونفس الخبرات، إلاّ أنه ما يزال لديهم بعض الخبرة المشتركة والماضي المشترك، وذلك ببساطةٍ لأننا نشترك في التاريخ. إنّ شوتز يفهم الزمان المشترك من منظورٍ بيرجسوني: فالمدة الزمانية للآخر والمدة الزمانية الخاصة بي تكمن في عملٍ موحّد يشتمل على مسار الزمان. بسبب التعايش بين المدتين. ويُنظر إلى هذه الأرضية الزمانية الأساسية والمشتركة على أنها أساس المجتمع في المستقبل، ما يسمح لأفراد المجتمع بالعمل عملًا متناسقًا .([13])
4- السِّمات الجندريّة وذاكرة الجسد
تحلَّل ليندا فيشر Linda Fisher، في مقالها: «جندرة الذاكرة المجسّدة» Gendering Embodied Memory، عوامل الجندر المختلفة التي تؤثر في الذاكرة المرتبطة في وجودها العالمي بالجسد، حيث يتبدى لنا منظور الفينومينولوجيا النسوية التي تطرح وتعالج كيف أنّ الزمن مجسّد، والجسد زماني، وتطرح إشكالية اعتبار الزمانية مجسّدة وجندرية، وسؤالها هو كيف يمكن قراءة الزمانية المتجسّدة من خلال عدسة الجندر؟ وذلك انطلاقًا من كون الزمانية المجسّدة تخضع للتحليل الجندري الذي يؤثر في تكوينها، تعتمد فيشر هنا على فينومينولوجيا الإدراك الحسّي عند ميرلوبونتي، وتحديدًا أفكاره عن فينومينولوجيا الإدراك لمكانية الجسد وحركته، وتوضّح مدى ارتباط الجسد المتجسّد بالمكان الذي يستمرّ في وجوده في الزمان، والذي يحكمه ويؤثر فيه، تؤكد فيشر على أنّ نقطة انطلاقها «ببساطة: إنّ الجندر مكون أساسي للوجود الاجتماعي والتجربة الذاتية الحيّة، وعلى هذا النحو، الفينومينولوجيا كعلم وصفيّ للتجربة الذاتية الحيّة، يجب أن يقوم بدمج تحليل الجندر للتجربة الحيّة».([14])
تضيف فيشر بُعدًا جديدًا لفهمنا للجندر؛ إذ ترى أنّ الجندر ليس فقط السياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّل وجودنا، إنما أيضًا ينبغي اعتباره مجسّدًا في جسدٍ حيّ، يعيش تجربة ذاتية تتأثر بكل ما سبق كما تفعل الفينومينولوجيا، فالسِّمات الجندرية بالفعل تتشابك مع التجسيد الحيّ لوجودنا وهذا التجسيد لكي يتمّ فهمه على نحوٍ صحيح فلا بد من قراءة السياق الاجتماعي والثقافي، فالأنطولوجية اجتماعية بالضرورة، تقول ليندا: «إنّ الجندر هو نتاج ثقافي، ومبدأ تنظيمي للعلاقات والقوى الاجتماعية والسياسية، وفئة أساسية للتجربة المعيشة والمجسّدة، وأفق شرطيّ للتجربة والمعطيات الفينومينولوجية ونوعية الخبرة الموضوعية».([15]) وتؤكد فيشر على نقطةٍ مهمة أخرى وهي تحليل مفهوم العادة، حيث ترى فيشر أنّ تحليلاتنا لمفهوم العادة تقودنا إلى مفهومٍ متطور للذاكرة المجسّدة. فما نعتاد على القيام به حتى يتحوّل إلى عادةٍ غير واعية، هو أيضًا يحتاج إلى إعادة فحص. وممّا سبق نصل إلى أنّ الجندر كممارسة معتادة ومجسّدة هو سكن جسدي وذاكرة وممارسة مجسّدة. ومن خلال تحليلات الزمنية المجسّدة والذاكرة والجندر تعتقد فيشر أنّ بإمكاننا رؤية طريقة ومهام الفينومينولوجيا النسوية. فهناك عدد لا يحصى من الاحتمالات لتحليل الظواهر مثل: زمانية الجندر، وزمانية التجسيد، والذاكرة المجسّدة. كما تكشف تحليلات الظواهر للذاكرة المجسّدة والعادة عن مفهومٍ ثريّ للجندر كممارسة جسدية اعتيادية. وتشير هذه الاحتمالات مجتمعة إلى إمكانية تعميق وتعزيز الظواهر الزمنية من خلال تحليلٍ جندري، في حين يمكن توسيع وإثراء الحسابات الجندرية من خلال رؤى الفينومينولوجيا الزمنية. فهذا هو أنسب وقت لتعمل الفينومينولوجيا النسوية على تأثيرات الجندر في الزمانية وتحديد وتأطير وجودنا الاجتماعي.([16])
تعقيب
أخذنا هذا المقال في رحلةٍ زمنية، لفهم ما يحيط بتجاربنا الزمانية في الحياة والشعور الباطني للزمان عند هوسرل، إلى زمن الحياة عند برجسون، والسرد والذاكرة عند ريكور، حيث استطاعت الفينومينولوجيا النسوية أن توضّح التأثيرات الجندرية والهياكل الاجتماعية للزمان، وإن لم تكن ظاهرة لنا، كما استطاعت أن تؤكد على تفرّد تجاربنا الخاصة في بُنية الزمن، وتفرّد الزمانية الأنثوية بأبعادٍ غير مرئية استنادًا على مفهوم المرئيّ واللاّمرئي عند ميرلوبونتي، وذلك بوصفها للتجارب التي تنفرد بها النساء وزمانيّتهن الخاصة، ما وصل بنا في النهاية إلى ارتباط المرأة بالزمن الكوني الكوزمولوجي، زمن الوجود الحقيقي، لا الزمن الخطّي المحسوب بالساعات؛ ما يدعم رؤيتنا خلال هذا المقال بالامتياز الوجودي للمرأة في فهم العالم والوجود.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] According to Linda Fisher, (2011), Gendering Embodied Memory, In: Christina Schües, Dorothea E. Olkowski, and Helen A. Fielding (ed), Time in Feminist Phenomenology, Indiana University Press, P91.
[2] See, Christina Schües,(2011), Toward a Feminist Phenomenology of Time, In: Time in Feminist Phenomenology, Ibid, P(7-10).
[3] الفينومينولوجيا، منهج وصف الظواهر الشعورية، منهج يقوم بالضرورة على وصف الخبرات والتجارب المعيشة، وهو يزعم أن المرء لا يتسنى له أن يتمثّل أية فكرة ما لم يكن قد سبق له اختبارها، وهذا المنهج، على وجاهته، إنما تنال منه حقيقة مهمة، وهي أن الكثير من التجارب والخبرات لا يشترك فيها الناس باختلاف أوضاعهم وطبقاتهم وأجناسهم.. إلخ؛ ومن ثم يتعذّر تمثّل هذه التجارب لدى من ليس لهم سابق عهد بها. من ثمّ فإن المضطلعين بالمنهج الفينومينولوجي لا يعتدّون من الخبرات والتجارب إلا بما يظهر في مجالهم الشعوري، وما عدا ذلك لا وجود له بالنسبة لهم، أو لا يُعتَد به كظاهرة تستحق الدراسة. تأتي الفينومينولوجيا النسوية في هذا الإطار، بمجموعة من الخبرات والتجارب التي غابت تمامًا عن أفق الفينومينولوجيين الكلاسيكيين؛ لأنها غير حاضرة في سجل خبراتهم الشعورية، مثل: الحمل والولادة والرضاعة الطبيعية والطمث..إلخ؛ لذا لم تكن بالنسبة لهم مثل هذه «الخبرات» سوى ظواهر يتكفل بها الطب والبيولوجيا.
تأتي الفينومينولوجيا النسوية في هذا الإطار، بمثل هذه الخبرات، زاعمة أن لها فيها قول وشرح – وتحليل” منقول من: ليزا سعيد أبوزيد، مستقبل الفينومينولوجيا النسوية، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، المقالة 14، المجلد 31، العدد 31، 2022، الصفحة 381- 400.
النسخة الإلكترونية هنا:
https://mafa.journals.ekb.eg/article_241978_0dd7eceda887c8fe18d00a7afa35bd61.pdf
[4] Dorothea Olkowski, Prologue: The Origin of Time, the Origin of Philosophy, In: Time in Feminist Phenomenology, Ibid, P18.
[5]Christina Schües, (2011), Toward a Feminist Phenomenology of Time, Ibid, P9.
[6] See, Martin Heidegger,(2001), Medard Boss(Ed), Franz Mayr and Richard Askay(tro), ZOLL I KON SEMINAR S: Protocols— Conversations—Letters, Northwestern University Press Evanston, Illinois.
النسخة الالمانية
Zollikoner Seminare, Protokolle—Gespräche—Briefe Herausgegeben von Medard Boss (Frankfurt am Main: Vittorio Klostermann GmbH, 1987).
[7]See, Ibid.P8.
[8] Christina Schües, The Power of Time: Temporal Experiences and A-temporal Thinking? Ibid.P7.
[9] See, Sara Heinämaa, Personality, Anonymity, and Sexual Difference: The Temporal Formation of the Transcendental Ego, In: time in Feminist Phenomenology, Ibid (42-49).
[10] Christina Schües, The Power of Time: Temporal Experiences and A-temporal Thinking? In: time in Feminist Phenomenology, Ibid, P60.
[11] Christina Schües, The Power of Time: Temporal Experiences and A-temporal Thinking? Ibid, P11.
[12] Annemie Halsema,(2011), The Time of the Self: A Feminist Reflection on Ricoeur’s Notion of Narrative Identity, In: Time in Feminist Phenomenology,Ibid,P112-123.
[13] See, Linda Fisher, (2011),Gendering Embodied Memory, Ibid,P13.
[14] Ibid, P92.
[15] Ibid, P94.
[16] Ibid, P100.