حين كان التفكير «محاورة» (διάλογος، dialogos)، كان المعنى منه شيئًا مختلفًا عمّا سيبتدعه المحدثون بدءًا من ديكارت: لم يكن «تفكّرًا» (reflexio)؛ أي لم يكن «عودة إلى الوراء»، «تلفّتًا إلى الوراء»، بل كان حركة «عبر» أو «خلال» (διά، dia-) «الكلام» أو «اللغة» ( λόγος ، logos). كان الانتقال من الصنف الأوّل إلى الصنف الثاني من التفكير وثبة خطيرة من براديغم الموجود إلى براديغم الأنا. من أفلاطون إلى ديكارت، مرّت الفلسفة من النظر في الموجودات إلى استبطان النفس؛ وهو مرور لابدّ وأنّ له صلة دفينة أو غير مفكّر فيها بالانتقال من الجوّ الوثني الذي تفلسف فيه أفلاطون – حيث ما زال البشر «حيوانًا ناطقًا» – إلى الأفق المسيحي الذي تفكّر فيه ديكارت – حيث أصبح البشر «ضميرًا» آدميًّا -. بعد هيغل، صار كل متفلسف يحكي قصّته التأسيسية بوصفها «السردية الكبرى» للحقيقة، أكان ذلك من أجل إطلاق «تاريخ الله» أم من أجل الإعلان عن موته.
ولكن لأنّنا «كائنات جاءت متأخّرة»، حسب تسمية نيتشه، فنحن «ورثاء» سيّئون أو ملعونون، نحمل في أفق إمكاننا كلّ السابقين: من «نظر» في الموجود مثل من «تفكّر» في الأنا أو «سرد» مصادر هويته. أكان التفكير تأمّلًا في ماهية لا تراه؛ أو كان استبطانًا ليقين في أعماق الوعي، أو صار فعلًا كلاميًّا في مساحة الخطاب؛ فهو بالنسبة إلينا «إرث» عميق وقاهر ينوء به كلّ من تجشّم مهنة «التفكير». ونعني «مهنة» كما تقصدها اللغة التي نكتب بها: الخدمة التي لا تخلو من ابتذال. كل «من» يفكّر أو يدّعي ذلك هو يعرّض نفسه للسؤال كعلاقة أساسية معه. وهو لا ينجح في رغبته الخجولة أحيانًا كثيرة إلاّ بقدر ما يخلق من الممكنات والآفاق غير المتاحة أو غير المسبوقة أو غير البديهية من الحاجة إلى التساؤل والمساءلة. من لا يُسأل لا يفكّر. ثمّة ترادف مزعج ودفين بين «المفكّر» و«المسؤول»: من يغامر خلف ظلّه ويمتحن حدود نفسه، ومن يعرّض ذمّته للخطر وللتهمة.
من أجل ذلك على كل تفكير أن يخضع لإمكانية السؤال مهما كانت مؤلمة أو متوحّشة أو متنمّرة. ليس كالسؤال ضمانة لسياسة المعنى التي يرتئيها كاتب ما. وعلى الرغم من كل ادّعاءات بعض العدميين، فإنّه لا أحد يفكّر «وحده» أو من أجل وحدته. فبمجرّد أن يبدأ في التورّط داخل لغته، تنزلق «النفس» في «أنفاس» الآخرين دون أيّ حماية أو ضمانات مسبقة. ليس هناك هوية جاهزة لمن يفكّر. ولا يعني ذلك أنّه قد اعتزل أهله أو تخلّى عن آلامهم. بل فقط: أنّه غيّر علاقته بانتمائه، إذْ دفع به إلى تجريب احتمالات أخرى للكينونة في العالم ليست أبدًا غريبة عنه. لا أحد يغترب خارج لغته إلاّ عرضًا. إنّ عقد اللغة الأم أقوى من كلّ العقود الأخرى. لكنّه عقد يقتضي التحوّل إلى ذات مخلصة إلى الداخل: هناك دوما نمط من «الوجود» الذي ورثناه من مصادر أنفسنا لكنّنا لم نَكُنْه من قبل. وهناك دوما «أنا» متعبة من التراث الذي يلقي بكلكله على أفق ذاتها، وهي ما فتئت تحاول أن تخفّف من رطانته القديمة، وذلك بتعليمه كيف يقولنا مرّة أخرى دون خطل أو وجل. وهناك قصّة كبرى لها حرّاس هوويّون كُثُر ما لبثوا يسدّون الطريق إلى أنفسنا الجديدة كأنّهم مكلّفون من الآلهة بشطب المستقبل وتحويل الحياة إلى إصطبل لتربية الحقيقة.
إن «المحاورة» هي أفضل مكر سعيد لتسريب الأسئلة وتهريبها إلى العقل، إلى الداخل حيث يدّعي أيّ تفكير أنّه حصّن نفسه ضدّ وحشة الممكن. «حار» ههنا بكلّ معانيه: حار الثوب: نظّفه؛ حار الطعام: نقص؛ حار البيع: كسد؛ حار عن الشيء: رجع عنه؛ وحار إليه: رجع إليه، وحار بصره: لم يقو على النظر إلى الشيء، وحار الماء: اجتمع ودار. من «يحاور» يعتمل كل هذه المعاني وأخرى وليس له من أداة سوى السؤال. وحده السؤال ينظّف تفكيرًا ما من ظلماته التي لا يراها؛ وحده يقوده إلى نقصه وكساده؛ وحده يرجعه عن نفسه وإليها؛ وحده يساعده على أن يقوى على النظر إلى ما يريد؛ وحده يمهله من الداخل كي يجمّع أشتاته ويدور حول نفسه.
من يسألك يدفعك إلى «خصام» أصيل مع ذاتك، مع «مَن» صرت دون أن تعلم. ليس ثمّة كاتب يعرف سلفًا من سيكون. هو فقط يقود علاقة متوتّرة بين الأرض والسماء في قلبه: بين أرض الكينونة وسماء اللغة. «من سيكون» هو أحد اختراعات الكتابة. لكنّه لن يكون من دون خصام أصليّ يقبع داخل اللغة التي يتكلّمها. نحن لا نكون أرض أنفسنا إلاّ نادرًا. إنّ أجسادنا ليست خاصة. وما يفعله الكاتب هو استرجاع جسده الخاص بالكتابة، أي بإبداع سماء مناسبة لما يقول. نحن نرث الأرض التي هي جملة مصادر أنفسنا: كل «التراث» هو أرضنا المحضة؛ لكنّ الأرض لا تتكلّم؛ هي لم تعد تخاطبنا، ونظّمت صمتها بشكل نهائيّ. ومن ثمّ كل كاتب هو خبر سار للأرض التي تحملك ولا تراك: هو مكلّف باختراع سماء مناسبة لما سيكون، هو صيّاد «الآتي» في لغته. لكنّه لن ينجح في ذلك وحده. ليس هناك كاتب متوحّد إلاّ مجازًا. كلّ كاتب هو جمهرة من المتكلّمين الصامتين. هو شبكة لصيد العصر في قِبلة أو في قُبلة.
قال هيدغر: «في الخصام الجوهري إنّما ينهض المختصمان، الواحد فالآخر، إلى التمسّك بماهيتهما. على أنّ التمسّك بالماهية ليس هو أبدًا التشبّث بحالة عارضة؛ بل هو ترك النفس تأخذ وسعها في الأصليّة المحتجبة للمصدر الذي من شأن الكينونة الخاصة. وضمن الخصام، يجرّ الواحدُ الآخرَ فيما أبعد من ذاته. فيصير الخصام بذلك دومًا خصاميًّا أكثر، وأصيلًا أكثر ممّا هو أصيل».
لا يجب على أيّ مفكّر أن يدافع عن جداره. هو فقط يبني جدارًا كي لا يسقط. ما ضرّ لو سقط جدار آخر. إنّ المدن – وهي مخترعة الجدار في كل مكان – هي نفسها اختراع متأخّر عن نفسه. نعني كان يمكن ألاّ يكون. فلسنا «النوع البشري» الوحيد الذي عاش على الأرض؛ إنّ نظراءنا من نوعنا، قد انقرضوا، وانقرضت معهم قصص هوياتهم. على المفكّر أن يتهيّأ للأسئلة بوصفها خبرًا سارًّا للغة؛ لأنّ مدعاة السؤال ليست مشكلًا شخصيّا؛ ذلك أنّ الخصام هو «جوهري» في كينونة من يتكلّم: أنت «خصم» يا صاح، حتى وأنت صامت، إن صمتك تهمة، ربما كانت أخطر من كلّ ما قيل بصوت عال. ولأنّ مساحة اللغة أكبر من كل كاتب، فهو مجرّد «مستعمل» متأخّر، ويعاني من داء «الكلام»؛ أي من الرغبة الملحّة في احتمال «الكلوم» التي تفتحها اللغة في كينونته الخاصة. ومن يكون خصمًا بشكل أصلي – أي بفضل الفراغ الخاص للغته – فإنّ عليه أن يتمسّك بماهيته. إنّ ماهيته هي اللغة التي يتكلّمها. ما عدا ذلك هو فضول قد يصبح في بعض الأوقات تهمة. ولذلك فماهيتي ليست حالة عارضة، إنّها إمكانية اللغة الوحيدة لانتمائي إلى نفسي. هناك مصدر لكينونتي الخاصة لا أراه. لكنّه سوف يكون دومًا «ما يمكنني» أن أقصّه على نفسي كي أراه: إلهًا يكون أو دولةً أو جسدًا خاصًا أو جنسًا، إلخ … في كل مرة عليّ أن أخترعه كي «أسكن» العالم. وكل كتابة هي تمرين على سكن العالم الذي تسمح به لغة ما. سكن هو نوع أصلي ومحتجب من الخصام حول معنى الكينونة في العالم المتاح لجيل من الناس. ولذلك لا معنى لتفكير لا يجرّنا خارج أنفسنا أو فيما أبعد من ذواتنا. هذا الجرّ خارج أنفسنا وهذا الإبعاد في ذواتنا هو أفق الإمكان الذي يجعل الأسئلة لقاء هشًّا بشًّا بالمستحيل الذي ينتظرنا ساخرًا من كلّ ملكاتنا الكسولة. إنّ التفكير في حاجة جوهرية إلى الأسئلة التي تسمح لما فيه من خصام أن يخاصم نفسه بعداوة أكثر سخاءً، ولما فيه من أصالة أن يتأصّل بإخلاص أكثر إحراجًا لمن نكون.
لكنّ الكاتب أو المفكّر ليس معطى جاهزًا لأيّ كان. علينا أن ننتظر مجيء الكاتب أو المفكّر لوقت طويل. ليس كل من يكتب كاتبًا؛ فاللغة أكثر كرمًا من ذلك. هي متاحة أيضًا لمن يحرسون صمتهم أو صممهم بكلّ ما أوتوا من رقابة الطواغيت. علينا أن نتعلّم كيف ننتظر الآتي فينا دون كلل ولا هوادة. إنّ ما يستطيعه مفكّر ما هو الآتي، ما عدا ذلك هو حبّ ميّت. طبعًا، إنّ الأديان والدول تفضّل الصامتين عن أنفسهم، حيث لا يكون الكلام إلاّ «مكاء وتصدية»؛ صفيرًا ضدّ براءة الآتي، وتصفيقا لأصوات الموتى. ولكن من يتوقع الصمت من إله؟ أو التفكير من دولة؟ إنّ الدولة جهاز انتظار ميّت. وعلى من أراد أن يلتقي بالكاتب أو بالمفكّر فإنّ عليه أن ينتظر نفسه بعيدًا عن الأصنام. فمن ينتظر الآتي لا ينتظر «ما ليس بعد». إنّ الآتي هو «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»؛ كذا فقط، هو يمكنه أن يدّعي أنّه لم يأت من قبل في أفق حجر. لذلك من ينتظر مجيء المفكّر في قلبه، عليه أن يخترع الطريق إلى حيث لم يذهب أحد من قبل.
لكنّ من ينتظر طويلًا، عليه أن يخترع أكثر ما يمكن من المساء. هو سوف يجهد نفسه كي يمنع الليل من أن يرخي سدوله بلا رجعة، سوف يظل يحاول بكلّ قواه أن يحجز مكانًا في النهار. عليه أن يقنع «مينرفا» (Minerva) ربّة «التفكير» في الميثولوجيا الرومانية (حيث أنّ اسمها مشتقّ من الجذر الهندي-الأوروبي القديم *men- الذي يعني «فكّر» و«تذكّر»، ومنه «mens» في اللاتيني، أي «العقل» و«الفهم»، ولكن أيضًا «mania» في اليوناني، أي «الجنون» و«الخرف»، و«ménos»، أي الشجاعة والشوق والإرادة، إلخ) لأنّها وُلدت من جمجمة أبيها، ألاّ تأخذ في الطيران قبل المساء الأخير الذي ينتظره. عليه أن يخترع «مينيرفا بلا مساء»، مينيرفا لا تريد الطيران قبل المساء الأخير؛ قبل أن يأتي «الآتي» الخاص بها، الآتي الذي هو كلّ الكينونة الممكنة للغة ما.
إنّ نبوءة هيغل قد كانت مكر الروح الخاص بالأوروبيين في مطلع القرن التاسع عشر: «بومة مينيرفا لا تبدأ طيرانها إلاّ مع حلول المساء»[1]؛ هي مينيرفا «تؤجّل» نقاش النهار؛ لأنّ «الوعي بالذات» لا يبلغ إلى «روحه» أبدًا إلاّ في «النهاية»، لكنّ النهاية هي ما لا يأتي أبدًا. إنّ السلطة التي لدينا كي ننقد ماضينا هي تعادل ما نحبكه من ادّعاءات حول «من» يكون مستقبلنا، إنّ مينيرفا لا تنتظر أحدًا كي تأخذ في الطيران، ولا هي تستشير أحدًا في الوجهة التي سوف تأخذها، نحو الماضي الذي تحت جلدها أو نحو المستقبل الذي يرنو إليها وهو يتوارى مثل ألم قديم. لكنّ المؤكّد أنّها لا تأخذ في الطيران إلاّ لأنّ المساء لم يعد يستطيع تحمّل انتظاره. قال: «عندما ترسم الفلسفة رمادها على الرماد، عندئذ يكون شكلٌ ما من الحياة قد صار هرمًا، وبالرماد على الرماد هي لا تستطيع أن تعيد له شبابه؛ بل فقط أن تعترف به؛ إنّ بومة مينيرفا لا تبدأ طيرانها إلاّ مع حلول المساء»[2].
نحن نكتب اليوم أنفسنا باللون الرمادي، ليس فقط لون المطبعة الحديثة، بل لون ما سمّاه غارسيا ماركسير «غرفة الواقع». إنّ الفلسفة مهما كانت وعودها أو أطماعها السرّية، هي في جوهرها «رماد على الرماد» – لون عالم هرم على ورق هرم – ولكن أيضًا، محاولة مرعبة أحيانًا لصيد العصر في قلبك: أن تتركه مفتوحًا أمام الأسئلة الغريبة عنه. لم يكن المتنبّي يدرك كلّ مساحة السؤال التي أشار إليه بيتُه: «أتى الزمان بَنُوه في شبيبته، فسرّهم وأتيناه على الهرمِ». إنّ من يسكن «شكلًا من الحياة» أصابه «هرم» ميتافيزيقي لا مردّ له، هو يعرف جيّدًا أنّه «لن يعيد له شبابه» (verjüngen) أبدًا، بل بإمكانه فقط أن «يعترف» (erkennen) به. إنّ التفكير لا يعيد الشباب لأيّ أمّة هرمت؛ بل فقط يتدرّب على الاعتراف بها. فما معنى أن «نعترف» بأنفسنا؟ كل كتابة لا تساعد حضارة أو شعوبًا أو مجتمعات على الاعتراف بنفسها، هي فضول لئيم. لكنّك لن تساعد من تنتمي إليهم إلاّ إذا سمحوا لك بأن تجرّب على نفسك كلّ الألم الذي يتطلّبه الرحيل عنهم. وليس كالتفكير فنًّا في الرحيل دون مفارقة أحد. لا يجب أن يُعاقب أحد لأنّه «يفكّر»، نعني يتدرّب على الاعتراف بنفسه. والعقاب الوحيد الذي يستحقّه من يدّعي ذلك هو «السؤال»: أي تحميله «فقرنا» بوصفه إرثًا جوهريًّا.
قال هيدغر: «لن يكون التفكير القادم فلسفة[..]، كذلك لن يمكن للتفكير المقبل أن يخلع عنه، كما اشترط هيغل، اسم ‘حب الحكمة’ وأن يصير في هيئة المعرفة المطلقة[..]، إنّما الفكر في نزول إلى خصاصة ماهيته المؤقّتة، وإنّ الفكر ليجمع اللغة في الكلم البسيط؛ فإذا اللغة هي لغة الكينونة كما تكون الغيومُ غيوم السماء. إنّ الفكر يودع بقوله في اللغة أخاديد لا تظهر. وإنّها لأكثر خفاءً من الأخاديد التي يخطّها الفلاّح خلال الحقل بخطوة تطول على تؤدة» (رسالة في الإنسانوية).
ليس المفكّر المقبل «فيلسوفًا» بل هو في غنى عن ذلك. كل كاتب هو مقطع من شخصيّة مفكّر مقبل لا يراه. ولذلك هو أبعد ما يكون عن ادّعاء لقب يُحسد عليه على مائدة اللئام. بل هو فقط «من» تجشّم شيئا أناخ عليه بكلكله: أن ينزل بالفكر إلى «خصاصة ماهيته المؤقتة». في أفق إمكان كلّ شعب هناك «فقر» ما من «الفكر» يحجبه ادّعاء التفكير من طرف المزيّفين، وهمُ كُثْرُ. بل في الواقع كل شعب له أدعياؤه الذين يمثّلون دور التفكير دون أيّ استعداد حقيقي للموت داخله. لكنّ من يفكّر حقّا هو يقود ماهيته إلى فقرها الخاص، أي إلى ما هو «مؤقّت» فيها، إلى العمر الميتافيزيقي الذي تخفيه بعقاقير اللغة. ولأنّنا نخرج من عالم له سرديات كبرى لا تزال في صحّة ميتافيزيقية جيّدة، مثل الإله التوحيدي، فإنّ التفكير لا ينتج سوى «أخاديد» في اللغة، وإنْ كان المزّيفون سوف يستكثرونها عليك في النهاية. ولذلك هو لن يجد من حيلة أخرى لكي يأخذ في الطيران سوى أن يؤجّل المساء. هو لن يجد من وسيلة أخرى لترك الطريق إلى نفسه سالكًا سوى أن يقبل طواعية بأن يكون «غيمًا». وكان نيتشه قد أوصى في بعض شذراته: «من أراد أن يكون برقًا، عليه أن يظل غيمًا لمدة طويلة».
ولذلك من السخف أن يدافع مفكّر ما عن «نفسه» كأنّه هو المقصود بالسؤال. إنّ سهم «السؤال» موجّه دومًا إلى الفكرة وليس إلى الشخص. و«نحن» ما نزال بعيدين كثيرًا عن الفصل بين «النفس» و«الفكرة»، بين ما يقوله كاتب وبين «شخصه» الصغير. إنّ الفكرة كبيرة دومًا، وهي في الغالب لا ترانا. ولا يفعل من يفكّر سوى أن يستدعيها فقط إلى جهة أنفسنا، حتى يصبح التورّط في حقل الحقيقة أكثر يسرًا من ذي قبل. ولذلك عليه دومًا أن يستقبل الأسئلة هاشًّا باشًّا كأنّه خبر سار من المستقبل. وكل الذين «يحاورون» هم كرماء وهّابون للممكن، ومدرِّبون جيّدون على المستحيل.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] – „ die Eule der Minerva beginnt erst mit der einbrechenden Dämmerung ihren Flug.“
[2] – Hegel, Grundlinien der Philosophie des Rechts. Vorrede: „ Wenn die Philosophie ihr Grau in Grau malt, dann ist eine Gestalt des Lebens alt geworden, und mit Grau in Grau läßt sie sich nicht verjüngen, sondern nur erkennen; die Eule der Minerva beginnt erst mit der einbrechenden Dämmerung ihren Flug.“