ترجمة: مروان الرشيد
أسلوب تأمُّلات ماركوس أوريليوس ومحتوها
يظهر أن ثمة أجناسًا أدبيةً في الفلسفة القديمة بقدر ما أن هناك كتبًا؛ إذ هناك رسائل سينيكا، وقصائد لوكريتيوس وهرقليطس وبوثيوس، وكُرَّاس إبكتيتوس، ويوميات ماركوس أوريليوس، وترانيم كليانثس، وتوقيعات[1] أبيقور، وطبعًا حوارات أفلاطون.
أما الفلسفة الأكاديمية الحديثة، المحصورة غالبًا في الكُتُب والدوريات المُحكَّمة، فتبدو أنها على نسقٍ واحدٍ عند المُقارنة. ولربما أن القدماء لو نظروا إلى الفلسفات الحديثة، لبدت لهم أنها صيغ مُختلفة لنفس الدوغما، إذ جميعها تلتزم بنفس القواعد الصوريَّة.
وقد يكون الفرق راجعًا إلى القصد العملي للفلسفة القديمة؛ فالفلسفة كانت تُكتَب بأساليبٍ متباينة جدًّا لأنَّ لها غايات عملية مُختلفة، كلٌّ منها يقصد إلى المنفعة الروحيَّة للقارئ أو الكاتب.
فمن المُرجَّح، على سبيل المثال، أن لوكريتيوس قرر إعادة صياغة التوقيعات الأبيقورية نَظْمًا لإغراء القُرَّاء الذين سيكونون عادةً مُناهضين للنظرية. أما التعاليم الشفوية للرِواقي إبكتيتوس فلقد سجَّلها أحد مُريديه -آريانوس النيقوميدي- على صورة كُرَّاس قصير، ليوفِّر لمبتدئي الرواقية دليلًا عمليًّا قريب المأخذ إلى العيش الهنيء.
لقد لاحظ بيير أديو -مؤرِّخ الأفكار- أن المُحدثين يتعجَّلون في تقويم المؤلَّفات القديمة وفقًا لمعايير عصرنا. وكمثال على هذا، يفحص أديو تأمُّلات ماركوس أوريليوس فحصًا مُعمَّقًا: إذ أن هذا الكتاب كان يُعرف لدى العالم القديم باسم ماركوس إلى نفسه، وهو كتاب يتألَّف من اثني عشر كتاب يوميَّات كتبها الإمبراطور الرواقي في السنوات الأخيرة من حياته، بين عاميْ 170 و180 ميلاديَّة.
وهذه الكتابات كانت في جملتها كتابات خاصة، إلى درجة أننا لا ندري عن معنى بعض الفِقْرات؛ إذ أن من الواضح أن قصد هذه اليوميَّات هو الإرشاد الذاتي والتحسُّن -بعض الفقرات تحتوي مواعظ ذاتية قاسية- ولربما أنَّ بعضها كُتِبت في أوقاتِ حَرَجٍ شديد.
كان المرض والإجهاد من علامات حياة الإمبراطور؛ فقد قضى ماركوس حكمه الطويل في حروبٍ دفاعيةٍ مع القبائل الجرمانية في الشمال، ومع الإمبراطورية البارثيَّة الضخمة في الشرق.
ولقد عانى الإمبراطور من نوبات مرض متكررة منذ الصغر. وفي حكمه تفشَّى «لطاعون الأنطوني»، الذي كان أحد أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ الروماني؛ إذ يُقدَّر أنه قضى على ما يقرب من ربع إلى ثلث سُكَّان الإمبراطورية، ولربما كان سبب وفاة ماركوس نفسه.
ويظهر أنَّ قدرًا كبيرًا من التأمُّلات كُتِبَ بينما كان ماركوس في حملات على القبائل الجرمانية الغازية في الحدود الشمالية من الإمبراطورية، في وقت كان الطاعون قد استنزف الجيش الروماني بشدِّة، مما أخلَّ بدفاعات الإمبراطورية وهي تحت وطأة الهجمات المُتكرِّرة.
أُجِّلت حملة كبرى خُطِّط لها في 169 بسبب قلَّة القوات، فاتُخِذت إجراءات ماسَّة لإحلال مجندين جدد يفتقرون إلى التجهيز محلَّ الجنود المُحنَّكين. وأثناء إحدى نوبات المرض في 175، كان ماركوس عرضةً لمحاولة انقلاب من أفيديوس كاسيوس، أحد الولاة الأقوياء في الشرق؛ وقبل أن يتمكَّن الإمبراطور من الدفاع عن نفسه، وقع المُتمرِّد ضحية عملية اغتيال.
لم تكن تلك الحياة المُترفة التي تتجسد في الخيال المُعاصر عن الأباطرة الرومان، والتأمُّلات تفتح لنا نافذةً على العقل الذي تعاطى الصعوبات المعروفة التي عانها ماركوس لسنوات.
وهذه الكلمات النادرة الباقية لأحد الأباطرة ولَّدت قدرًا عظيمًا من الشروح والتعليقات؛ وفي الوقت الذي أشار فيه الكثير إلى أن خيريَّة ماركوس تُشعُّ من الكتابات، يشير آخرون إلى احتقارٍ مُتشائمٍ للحياة.
وعند أديو أنَّ أيَّ تعليقٍ على التشاؤم وكراهية الناس في التأمُّلات ينطوي على افتراضاتٍ خاطئة حيال الجنس الأدبي للكتاب.
القارئ الحديث سيعد التأمُّلات نوعًا من اليوميات أو المُذكِّرات الحميمة التي تُدوَّن فيها الأفكار الخاصة لأجل الأجيال القادمة أو من أجل راحة البال، وهذا جنس أدبي شائع في هذه الأيام ويشبه أسلوبيًّا كتاب التأمُّلات.
يقول أديو: إننا نرى هذه الكتابات الخاصة باعتبارها عملًا «يُروِّح فيه الإمبراطور عن نفسه»، ولكنها في حقيقة الأمر «رياضات» روحيَّة يُقصد منها استظهار المبادئ الرِواقية.
ويُشير أديو إلى أنَّ التمرينات الفلسفية الكتابية يُحضُّ عليها في رسائل إبكتيتوس، الفيلسوف الذي عاش في القرن الأول من الميلاد والذي كان ماركوس يوليه إعجابًا خاصًّا. وعند أديو أن هذه التمرينات «تجعل المبادئ الأساسية للرواقية حاضرة في الذهن على نحو حي».
ولذا، عند أديو، فإن «التشاؤمية» الملحوظة في التأمُّلات يُساء فهمها، لأن هذه الكتابات لا يجب أن تعدَّ كتابات ذاتية: «صيغُ ماركوس أوريليوس المُتشائمة ليست تعبيرًا عن آراء شخصية لإمبراطورٍ خائب الأمل، ولكنها تمرينات روحية تُمارس وفقًا لمناهج صارمة».
إذن يرى أديو أن التأمُّلات وثيقة «ثمينة للغاية» بالمعنى الأركيولوجي؛ إذ أنها حفظت لنا مثالًا على جنسٍ أدبيٍّ كان شائعًا في العالم القديم، ولكنه عرضة للضياع بسهولة بالنظر إلى طبيعته العابرة. فعمل الكتابة هذا له مُفيد لمن سيكون حكيمًا، وليس المُنْتَج النهائي للكتابة: الوثيقة. ويُشير أديو أن هذه الكتابات أدائيَّة وليست وصفيَّة.
إن اعتقدنا صحة رأي أديو، وأنا أراه كذلك، فسيكون في استطاعتنا تقدير الرياضات الروحية الرِواقية، لا باعتبارها «تطوير ذات» من أجل الرفاه العقلي، بل باعتبارها تدريبات تهدف إلى تحقيق وحدةٍ روحيَّةٍ مع ما يعتقده الرواقيين كونًا حيًّا.
الرياضات الروحية والكون الرواقي
المدارس الفلسفية المُتأغرقة الرئيسة -الرواقية والكلبية والشكية والأبيقورية- كانت مدارس خلاصيَّة؛ إذ كانت تفترض أن «اليودايمونية» -كلمة يونانية تُترجم على التقريب: السعادة والرضا- يمكن لأيِّ أحد أن يُحصلها إن فهم الكون على نحو صحيح.
فعند بعض الفلسفات، كالبيرونيَّة، هذه الرياضات والتمرينات وُضِعَت لتوكيد فهمٍ «صحيح» (ولكن ليس صادقًا بالضرورة) للعالم، يعمل إلى الخلف من فهمهم للسعادة. أما الرواقية فكانت مُختلفة، فتصوُّرها الكوني هو ما شكَّل أساس علم أخلاقها. ولأجل استيعاب أهمية الرياضة الروحية الرواقية، من المهم فهم التصوُّر الرواقي للكون ولمكان الذات فيه.
ظهرت المدرسة الرواقية مطلع القرن الثالث قبل الميلاد، أسسها تاجر يُدعى زينون الرواقي. وقد طوَّر الرواقيون الأوائل فهمًا للكون (الكوزموس) ومكاننا منه، له قدم في الروحانية الوثنية وقدم أخرى في ممارسات «الفلسفة الطبيعية» التي تُعدُّ الآن سلفًا للعلوم الحديثة.
وقد كان الرواقيون يعتقدون بوحدة الوجود؛ أي اعتقدوا أن الكون كائنٌ حيٌّ، ويماهونه بزيوس الذي كان إلهًا من نوع ما. والثقافتان اليونانية والرومانية بالطبع كانتا ثقافتي تعدد آلهة: حيث كانت تعبد العديد من الآلهة، وكان الرواقيون يكتبون «الآلهة» بالجمع. فآلهة كهيرميس وأثينا وديونيسوس كانت تُعد إلهيةً وخالدة، ولكن كان لزيوس وضع خاص باعتباره مُولِّدًا لكلِّ الواقع عند الرواقيين.
كل ما حدث حركه ونظمه ما يسميه الرواقية لوقوس إلهي: منطق (أو عقل) إلهي. وهذا المنطق محمول بنَفسِ -نيوما- زيوس. الكون الرواقي إذن هو كائن حيٌّ واحد ومتكامل، تكون فيه جميع الأشياء -الناس والنباتات والغيوم والصحاري والحشرات والمُحيطات- جزءًا مُتأصِّلًا.
والكون مُتألِّف من شيئين: المادة، وهي «الأشياء» الخاملة من حولنا التي تتكون من جُزيئات؛ والنيوما، وهي الطاقة التي تبثُّ الحياة في المادة لتخلق السببيَّة الكونية.
ومن دون النيوما لن يكون للمادة حرارة أو حركة لأجل أن تتشكَّل، فهي تُشكِّل المادة بإسباغ وحدةٍ على الأشياء. وهذا يصحُّ على الجمادات كالجبال والكراسي كما يصحُّ على الناس والحيوانات. والنيوما في الأشياء هي ما تمنحها شكلها وترابطها (يصفها الرواقية بـ«التوتُّر»: تونوس)، ومن دونها سيكون العالم حساءً فوضويًّا من المادة.
والفرق بين الأشياء فرقٌ كمِّي، من حيث قدر النيوما الذي يوجد فيها. فالأشياء الحية -من النباتات إلى البشر- تحتوي على قدرٍ أكبر من النار الممتزج بالنيوما. وبزيادة النيوما، يكون للحيوانات أرواح تمنحها الحركة والتفكير. وللبشر المزيد من النار في روحهم ولذا يمتازون بالعقل، ومن ثمَّ العقل يجعل البشر متمايزين عن الحيوانات الأخرى وقادرين على التواصل مع الإله.
وإن كل الإله يتخلَّل كل شيء، وكل شيء محكوم باللوغوس الإلهي، فإنَّ الكون -كما رآه الرواقية- كامل. والكون يعمل وفقًا للعناية: الإرادة الإلهية. ولهذا، في الأخلاق الرواقية، الأحداث بالضرورة خارج سيطرتنا.
فالأحداث موجهة بعناية اللوغوس الإلهي. وشظية النيوما الإلهية، التي تتألَّف منها روحنا، تُتيح لنا أن نتأمَّل العالم ونعقله، ولكن لا تتيح لنا تغيير مسار الأحداث. كتب ماركوس في التأمُّلات:
«إن كانت الآلهة غايةٌ في الخير والعدل […] إذا كان ذلك كذلك، فما كان لها أن تَدَع أيَّ جانبٍ من تدبيرها المُحكَم للعالَم يَفلتُ منها عن تفريطٍ في العدل أو العقل»[2] (١٢-٥).
كل ما يقع -مهما كان فظيعًا ومهما بدى جائرًا- يقع لخير أكبر لا يمكن أن يستوعبه عقل الإنسان؛ هذا لأنَّ عقل الإنسان ما هو إلا قطعة من الكون، والطبيعة تحول بينه وبين استيعاب الكُليَّة. ولكنَّ العقل البشري، مع ذلك، جزءٌ من الألوهيَّة.
وهاهنا تنبثق الأخلاق الرواقية من الرؤية الكونية: فبدل المجادلة بأنَّ الإله سيعتني بنا إن اتصفنا بالتقوى، يجادل الرواقية أن الأذى الجسدي والحظ التعيس لا يجب أن يكون من دواعي القلق؛ ولذا فالحكيم الرواقي لا تُؤثِّر فيه المُعاناة.
ليست أجسادنا، عند الرواقيين، سوى مادة؛ الإله يكمن في النيوما التي تُحيي المادة، لكنَّ المادة بذاتها لا أهمية لها. والإله لن يؤذي نفسه، ولذا يؤذي ذواتنا الداخلية الحقيقية. ولهذا السبب تُنسب الرواقية إلى الصُمود في وجه الألم وإلى رباطة الجأش في وجه الحظ العاثر.
وعند إبكتيتوس أن العالم المادي، بما فيه أجسادنا، «لا يعنينا». والفيلسوف يُحصي بالضبط «ما لا يعنينا»، وهذه الأمور ستبدو اختزاليةً -بل وربما صادمةً- للقارئ الحديث:
«لا يفقد الإنسان إلا ما يملك. “لقد فقدتُ ملابسي”، أجل هذا لأنه كان لديك ملابس […] الفقد والحزن لا يأتي إلا من الأشياء التي نملكها. “ولكنَّ الطاغية سيقيد..” ما الذي سيقيده؟ ساقك. “وسيقطع..” ما الذي سيقطعه؟ رأسك. ما لن يتمكَّن منه هو شرفك. وهذا سبب الحكمة القديمة القائلة: “اعرف نفسك”».
الفكرة الواردة في هذه الفِقرة تقع على التقاطع بين علم الكون الرواقي وعلم الأخلاق الرواقي؛ فالبشر تحت رحمة العناية، ولكنَّ لهم -خلافًا للحيوانات الأخر- عقولًا: القدرة على تمييز الحَسَن والقبيح في أفعالهم. وهذا العقل قطعة صغيرة من الإله، وبنفس الوقت يعكس العقل الذي يُحرِّك الكون ويُصرِّفه.
هذا العقل، الكامن فينا، يسمح لنا أن نفهم مأزقنا وأن نستخدمه على أحسن وجه. وعقلنا -يزعم الرواقية- يُبرهن لنفسه أن ممتلكاتنا وسمعتنا وأصدقائنا وعائلتنا، وحتى أجسادنا، ليست في طاقة ذاتنا العاقلة.
ما في طاقة ذاتنا العاقلة هو النزوات والرغبات وأسباب النفور. إذن ما فائدة القلق بشأن ما لا نستطيع السيطرة عليه؟ بدلًا من هذا، علينا أن نعمل بما تفضَّلت به علينا الطبية وأن نُنمِّي العقل فينا.
التفريق بينما يمكننا السيطرة عليه وما لا يمكننا السيطرة عليه مُدوَّن ومُعطى في البُعْد الأخلاقي لمبدأ «اللامُبالاة» الرواقي. فكلُّ ما يكون في طاقة العناية، هو مما «لا يُبالى به» عند الرواقيين. وهذا يضمَّن جميع كلَّ المادة، وكلَّ ما يقع خارج سيطرتنا كالثروة والسمعة وحرية العائلة والأقارب.
الأشياء غير المُبالية تنقسم إلى نوعين: مرغوبة وغير مرغوبة. فعلى سبيل المثال، نحن نُفضِّل أن نمتلك مالًا على ألَّا نمتلك مالًا، وعلى أن نكون أحرارًا على أن نكون عبيدًا؛ ولكن لا المال ولا الحُرية له أثر في الفضيلة بحدِّ ذاتها. فأن تكون حرًا أو عبدًا، أو غنيًا أو فقيرًا، هي ظروف متروكة للعناية. أما الفضيلة -واليودايمونية التي تُصاحبها- فتكمن في الكيفية التي نستجيب فيها لظروفنا. ولذا تقول الحكمة الرواقية، أنه لأجل إيجاد الفضيلة علينا أن نعمل وفقًا للطبيعة.
العافية الرواقية
الرياضات الروحية، التي نجدها في كتاب التأمُّلات، تقرن علم الكون الرواقي بخطتها للسلوك. وتحت تعدُّد الرياضات الروحية في النصوص الرواقية تمكن طُرُق أساسية لصيانة العافية. وهذا ليس بحثًا أنانيًّا عن راحة البال، بل توحُّدًا بالكون.
ثلاث أمثلة لهذه الرياضات في التأمُّلات تُتيح لنا سبر هذا التصوُّر، لنرى كيف أن السبل المُتعددة للتأمُّل في مسار الأحداث يمكن أن يسمح بالاتحاد الروحية.
إحدى فقرات «مُساعدة الذات» المبكرة والأكثر شهرة في التأمُّلات هي مثالٌ على ما نُسميه «التفكُّر في الشرور» (Praemeditatio Malorium): تخيُّل أسوأ السيناريوات التي يمكن أن يجد المرء نفسه فيها في يوم ما. وهذا يهدف بالطبع إلى ضمان ألَّا تكون مُتفاجئًا أو قلقًا من الأحداث السلبية غير المتوقعة حين تقع.
«قل لنفسك حين تقوم في الصباح: اليوم سألقى من الناس من هو مُتطفلٌ ومن هو جاحدٌ ومن هو عاتٍ عنيف، وسأقابل الغادر والحسود ومن يُؤثِر نفسه على الناس. لقد ابتُلي كلٌّ منهم بذلك من جرَّاء جهلِه بما هو خيرٌ وما هو شَر، أمَّا أنا وقد بَصُرتُ بطبيعة الخير وعَرفتُ أنه جميلٌ، وبطبيعة الشر وعرفتُه قبيحًا، وأَدركتُ أن مُرتكِب الرذائل لا يختلف عني أدنى اختلافٍ في طَبيعتِه ذاتها -فنحن لا تجمعنا قَرابة الدم والعِرق فحسب بل قَرابة الانتساب إلى نفس العقل ونفس القبس الإلهي- أمَّا أنا وقد بَصُرتُ بهذه القَرابة فلن يسوئني أيُّ واحدٍ من هؤلاء ولن يُعديني بإثمه. وليس لي أن أَنقِم منه قرابتي أو أَسخَط عليه؛ فقد خُلِقنا للتعاوُن، شأننا شأن القَدمَين واليدَين والجفنَين وصَفَّي الأسنان. التشاحُن ضدٌّ للطبيعة، وضدُّها، مِن ثَمَّ، العداوةُ والبغضاء»[3]. (٢-١).
المشاكل غير المتوقعة قد تكون شديدة التدمير، فتتركنا متحيرين مُترنحين لمدة طويلة. وبالتمرُّن ذهنيًّا على المُشكلات، يمكننا أن نلقاها بعقلٍ هادئ؛ لأننا عرَّضنا أنفسنا لها ذهنيًّا.
والفقرة تعني أكثر من مُجرَّد التوقُّع: فنحن ننغمس في بعض أسوأ جوانب سلوك البشر اليومي، قبل أن تُبصِّرنا التعاليم الرواقية أن التعاون فطريٌّ في البشر وأنه الطريق الأمثل إلى إيجاد «الألوهية» في داخلنا.
يُكرر ماركوس المسألة الإبكتيتوسي عن الأمور التي تقع تحت سيطرتنا والتي تخرج عن سيطرتنا، داخل الإطار المُشترك لـ«عقلٍ إلهيٍّ» واحد. وهذا التمرين لا يُجهِّز الإمبراطور للخداع والفضول في البلاط الإمبراطوري من أجل عافيته العقلي فحسب، بل أيضًا يعطي سببًا كونيًّا للتصالُح مع هذا السلوك.
هناك تمرين روحيٌّ شائع يسميه الرواقيون الحديثون «الرؤية العِلْويَّة»؛ فالأسلوب الذي استخدمه الرواقيون للحصول على منظور أفضل لحياتنا من المنظور الأكبر، هو أن نتصوَّر أنفسنا ومحيطنا من رؤية عالية.
وأن نتصوَّر علمنا من الأعلى يعني أن نرى ضآلة الأشياء من حولنا. وهذه الطريقة في «النأي» شبيهة بتلك المُستخدمة في العلاج السلوكي المعرفي من أجل كبح الإفراط في التفكير.
وفي فقرة من التأمُّلات، يدعو ماركوس إلى فكرة الترفُّع عن سفاسف الأمور والاستغراق في الكُل.
«بوسعك أن تُنحِّي الكثير من المُنغِّصات غير الضرورية التي تَكمُن بأكملها في حكمك أنت. عندئذٍ ستُوفِّر لنفسك مكانًا رحبًا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن تتفكَّر في أبدية الزمان، وتتأمَّل في التغيُّر السريع الذي يعتري كل شيء في كل جانب؛ ما أَضيَق البون بين الميلاد والفناء، وما أَوسَع الفجوة الزمنية التي سَبقَت مَولدكَ والفجوة اللانهائية المُماثلة التي تعقُب فَناءك»[4]. (٩-٣٢).
غالبًا ما يُقال لنا في العالم الحديث بأننا «لا شيء» في المنظور الأكبر للأمور، وقد اعتقد الرواقية العكس: اعتقدوا أن حياتنا مهمة ومُكرَّمة؛ هذا لأن كُلَّ إنسان يحمل في داخله نفحةً من الألوهية، وجميعنا جزءٌ من كُلٍّ حيٍّ عظيم.
وبهذا الاعتبار، يُشبِّه إبكتيتوس الإنسان بالقدم؛ فالقدم لا تُبالي بأن تتسخ إن كانت واعية بكونها جزءًا من الإنسان.
فالمكانة والسمعة، والقلق وانعدام الثقة، تلك الأشياء التي يوليها الناس أهمية كبرى، هي هموم متناهية في الصغر: فحياتنا ومضة باهتة في السعة التي لا تُتصوَّر للزمان والمكان. و«بالتجرُّد من السفاسف» التي تجيء في الومضة القصيرة من حياتنا على الأرض، يشير ماركوس إلى أنَّ بمقدورنا أن نُقدِّر أنفسنا على نحو أفضل باعتبارنا جزءًا من الكُل.
كتب ماركوس: «لا شيء يُؤدِّي بك إلى سُمو العقل مثل قدرتك على أن تَعرِض كل عنصرٍ من عناصر خبرتك في الحياة على الفحص المنهجي والصادق»[5] (٣-١١).
والمبدأ الكامن وراء هذا التمرين -كالرؤية العلوية- هو فهم مكاننا في العالم. ولكن بدلًا من رؤية الصورة الأكبر، هذا التمرين يدعو إلى تفكيك الأشياء إلى أجزائها المُكوِّنة الأصغر.
وماركوس يقوِّم الأشياء على نحو يتجاوز الأهمية التي نُسبغها عليها:
«ما أطيَبَ، عندما يكون أمامك لحمٌ مَشْوي أو ما شابه من الأطايب، أن تستحضر في ذهنك أن هذا جثة سمكة، وهذا جثة طائرٍ أو خنزير، ثم أن هذا النبيذ الفاليرني مجرَّد عصيرِ عنب، وأن رداءك الأُرجواني ليس أكثر من فِراءِ خروفٍ منقوعٍ في دمِ المحار! وفي الجماع أنه ليس أكثر من احتكاك غشاءٍ ودَفقة مُخاط. ما أنجَحَ هذه الإدراكات في الوصول إلى قلب الشيء الحقيقي والنفاذ فيه ورؤيته كما هو. كذلك فليكن دأبُك طوال حياتك؛ حيثما تَبدَّت الأشياء خلَّابة المَظهَر فجرِّدها وتَفرَّسْ في طبيعتها الزائفة واخلع عنها كل دعاوى الزهو والخيلاء. الخيلاء هي أعظم مُفسِدٍ للعقل؛ وحيثما تكن واثقًا كل الثقة في أهمية عملك تكن في الوقت نفسه مخدوعًا بها كل الخداع»[6] (٦-١٣).
بالطبع، «الرداء الأُرجواني» هو زيٌّ رسميٌّ لا يرتديه أحد سوى الإمبراطور؛ والصبغة الأرجوانية «الصُّوْري»، المُستخرجة من صدف المرَّيق، كانت تتطلب عملًا شاقًا، ومن ثمَّ كانت غالية الثمن. والرداء الذي يُصبغ بهذا الأرجواني، سيكون من المُرجَّح أنه أفخر الصوف.
يُحلِّل ماركوس الأحداث أيضًا: فينظر في نغمٍ جميلٍ مُطربٍ، فلا يراه إلا سلسلة مُتتابعة من النغمات؛ وليست الرقصة المُغرية إلَّا تتابع حركات ووضعيات. وهكذا هي الحياة، تتابع لحظات، يمكن تفكيكها إلى لحظاتٍ أصغر. وفعل هذا يتيح لنا نأيًا عقلانيًّا، حتى لا «تتمكَّن» منك الحسرات والأحزان.
وهذه التمرينات تُكتَب لتنطبع في العقل المبادئ الأساسية للامتياز الرواقي. ولتحصيل المِثال الأعلى للأباثيا (الطمأنينة)، على من يريد أن يصير حكيمًا أن يلتزم بتمرينات يوميَّة مُصمَّمة للحفاظ على الاقتران بين النفس والعالم -ككُل. وفعل هذا يعني إبطال جميع التعويذات التي للتقويمات الزائفة للأشياء علينا.
ومفتاح هذا -وما تنطوي عليه جميع هذه التمرينات- هي الفكرة الرواقية في اللامُبالاة.
«بوُسعِ الروح أن تفعل ذلك إذا كانت غير مكترثةٍ بالأشياء غير الفارقة. وستكون غيرَ مكترثةٍ بهذه الأشياء إذا نظرت إليها ككلٍّ وإلى كلٍّ منها على حدة»[7] (١١-١٦).
كلمات كتاب التأمُّلات جميلة ومُلهِمة، ولكن الكتب الاثني عشر لا تحتوي فكرةً مُبتكرة أو أصيلة في مجموع الأدب الرواقي. وهذا ما قد يجعل كتاب التأمُّلات أكثر أهمية لسببٍ آخر تمامًا: فكما يقترح أديو، هذا قد يكون دليلًا أوليًّا على التمرينات الرواقية.
فما نجده في التأمُّلات ليس انعكاسًا لحالات عقلية أو لصورة العالم؛ وإنما نجد أثرًا لممارساتٍ طقوسية تهدف إلى جعل الرواقي يبقى على طريق العافية الروحية. وهذا ليس كالعافية العقلي، وإنما إيجاد اتحادٍ بالكون الحيِّ كما فهمه الرواقيون.
الرواقية منهجٌ روحيٌّ في الحياة، وليس منهجًا للتعايُش مع الحياة. واستراتيجيات التعايُش، التي تُحاكي الرياضات الروحية الرواقية، يمكن أن تورث القناعة والرضى، ولكن لا يمكنها أن تعد بشيء يُداني اليودايمونية التي ينطوي عليه البُعْد الروحي للرواقية. وكتابات ماركوس هي شهادةٌ على التوق البشري إلى إيجاد معنى أعمق لأعمال الكون، في الوقت الذي نعترف فيه بعدم مبالاته بمعاناتنا.
[1] نوع من الكتابة الموجزة المُختصرة، ترجمتها بـ«التوقيعات» وهو فن نثري عربي قديم يعتمد على الاختصار والبلاغة والإيجاز. (المُترجم).
[2] من ترجمة عادل مُصطفى لكتاب التأمُّلات (المُترجم).
[3] نفس المرجع.
[4] نفس المرجع.
[5] نفس المرجع.
[6] نفس المرجع.
[7] نفس المرجع.