من المعروف في عالم الإبداع أنّ المبدعين يحدث لهم – سواءً في فنونهم البصرية أو الكتابية أو حتى الموسيقية وربما أحيانًا في الفنون العمرانية – أن يبثوا رسائل معينة في ثنايا العمل. رسائل قد تكون خفية أو غامضة رغم ظهورها، أو حتى واضحة كل الوضوح. ولعلَّ في الجمجمة التي رسمها هولباين في لوحته «السفراء»، أو النظرات التي يوجهها بعض الأشخاص، الثانويين غالبًا، الماثلين في لوحات لبيلاسكويث إلى الرسام وهو يلتقط المشهد، ومن خلاله إلى مشاهديّ اللوحة فيما بعد، أو الحزن المستغرب الذي يرسمه بروغيل الكبير على سحنات شخصيات لوحات له رغم أن اللوحات تعبّر عن الاحتفال بالفرح، على سبيل المثال، نماذج تصلح لإدراك ما نتحدّث عنه، كي نكتفي هنا بأمثلةٍ من الفن التشكيلي طالما أن هذا هو إطار موضوعنا. والموضوع هو بشكلٍ أدقّ لوحة النهضوي رافائيل «مدرسة أثينا»، التي تعتبر ذروة التعبير في رسالتها التي تتراوح بين الوضوح و«المواربة»، عن العقل ومتدرجاته في الفن النهضوي منذ الوقت الذي بات فيه هذا التعبير مقبولاً من الكنيسة كموضوع فني.
غير أنّ ما يدعو إلى الاستغراب في هذا السياق هو أنّ اللوحة أو بشكلٍ أكثر تحديدًا، الجدارية، التي لا تقلّ مساحتها الإجمالية عن 38 مترًا مربعًا، ليست معروضة في قصر أو متحف أو أيّ مكان دنيوي عام، بل داخل الفاتيكان وفي القاعة التي تُعتبر عادةً من أهم قاعات القصر البابوي، «قاعة التوقيع»، كجزء من رباعية جدارية ضخمة تشغل أربعة جدران، لتمثّل على التوالي أربع مقولات الروح الإنسانية: الحقيقة العقلانية، والحقيقة الماورائية، والخير، والجمال. ومن نافل القول أنّ «مدرسة أثينا»، حازت على مدى القرون التالية لإنجازها (بين عاميّ 1509- 1510)، على شهرة تفوق ومن بعيد، شهرة الجداريات الأخرى المجاورة لها، رغم أنّ الزائر يجد نفسه داخل القاعة محاطًا على قدم المساواة، بـ«فضائل» جدارية «الخير»، وبجبل «بارناس»، جدارية «الجمال»، كما بالبعد القدسي الخالص لـ«الحقيقة الماورائية»، إلى جانب البعد الفكري لـ«مدرسة أثينا».
لكننا نعرف طبعًا أنّ هذه الأخيرة إنما اكتسبت شهرتها من انتشارها المدهش خارج الفاتيكان، ومن غرابة وجودها أصلاً في الفاتيكان.
أما الانتشار في «الخارج» فيتوزع على منسوخاتها المتنوعة، واستخدامتها في النصوص الفلسفية، لا سيما على أغلفة وفي ثنايا الكتب التي إما أن تختص بالحديث عن أفلاطون أو أرسطو أو الاثنين معًا في مجال المقارنة الفلسفية بينهما، لكن الحقيقة أنّ هذا البعد المزدوج يشكّل مركز الجدارية، من ناحية أن الفيلسوفين الإغريقيين يلتقيان معًا في مركز الصدارة منها، كما يعرف الذين رأوا الجدارية مباشرة أو منسوخة.
ولعلَّ ليس في إمكان أحد أن ينسى الرسالة الأولى التي عبّر عنها رافائيل في هذا العمل الفني / الفكري. أيّ الرسالة المركزية متمثّلة في الحركة التي تبديها يد كل من الفيلسوفين وهما يقتربان من عمق اللوحة نحو المتفرج عليها، عابريْن الرواق تحت ظل الأقواس التي تعلوهما. فأفلاطون يشير بيده إلى السماء وهو متأبط كتابه الماورائي «تيماوس»، فيما أرسطو يسير إلى جانبه مهدّئًا ويده تشير إلى الوجود الدنيوي المحيط بهما هو المتـأبط كتابه «الأخلاق (إلى نيقوماخوس)». والحال أن المعنى الأساس للوحة يكمن في موضعة مؤسسيّ الفلسفة على هذه الشاكلة تعبيرًا عن المجابهة بين نمطين من التفكير الفلسفي الإنساني المتكامل على أيّ حال بالنسبة إلى الفكر النهضوي – لن يبرحا عالم الإنسان حتى اليوم بين فكر دنيوي وفكر أُلوهي – إذ كانت ثمّة على الدوام محاولات لاحقة للتوفيق بينهما؛ ولا سيما من قبل الفلاسفة المسلمين كالفارابي الذي وضع دراسة في «الجمع بين رأييّ الحكيمين»، وابن رشد الذي سيضع كتابه «فصل المقال»، حول الموضوع نفسه تقريبًا.
صحيح أنّ أفلاطون وأرسطو يشغلان نقطة المركز في الجدارية، لكنهما مع ذلك يشكلان جزءًا وحسب منها. ومن ثمّ فإن عنونتها بـ«مدرسة أثينا»، تبدو هنا محكمة. فـ«المدرسة»، هي في نهاية الأمر بنيان فكري متكامل يأوي عددًا كبيرًا من مفكرين ومبدعين في مجالاتٍ أخرى عديدة، ينطلق من أثينا كرمز متجذر للفكر الإنساني أو بالأحرى لمعرفة الإنسان لنفسه، اتباعًا لما قاله عرّاف معبد دلفي لسقراط، وصولاً إلى الحقب التي وصل بها هذا التفكير إلى ذروته، وتتوقف لدى رسام الجدارية في زمنه النهضوي.
وليست الجدارية في هذا السياق سوى خارطة ذلك الفكر؛ إذْ توضح تقسيماته وأنواعه وجدالاته، دون نسيان بعض آلهة الأولمب الذين كانوا يشكلون جزءًا من لغته التأسيسية، مرموزًا إليهم بمنحوتتين في حجارة الجدارين المحيطين يمينًا ويسارًا بالقاعة الرئيسية لـ«المدرسة». وكذلك دون – بالطبع – نسيان سقراط الذي نشاهده على مبعدة ثلاث أو أربع شخصيات إلى اليسار من تلميذه أفلاطون، بالرداء الأخضر، فيما يبدو يحدّث حوارييه المحيطين به مفسرًا متدرجات الحكمة الأربعة الموجودة أسفل وسط المشهد على شكل أربع درجات متتابعة.
لكن ما يجب أن يلفت نظرنا هنا قبل أيّ شيء آخر عدا عن فلاسفة التأسيس الثلاثة هؤلاء، إنما هو الهندسة المعمارية للمكان التي تأتي على عادة رافائيل في لوحاتٍ عديدة أخرى له، باذخة غنية متناسقة في خطوطها ومنحنياتها تكاد تستبق ما سيكتبه هيغل بعد عصور، حول فن العمارة في «جمالياته»، وما سيشرحه عن علاقة الهندسة بالفلسفة وعلاقتهما معًا بمفهوم الخلود عند المواطن الإغريقي الذي كان يرى في خلود المدينة خلودًا له وفي عمرانها مبررًا لوجوده؛ بل حتى إنجازًا «فرديًا» لذلك الوجود. ومن الواضح أن هذا ما جعل اسم رافائيل يرد دائمًا إلى جانب اسمي الفنانين النهضويين ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو بصفتهم نقطة الانتقال في الفنون من التعبير الديني إلى التعبير الإنساني، وربما في استئنافٍ للفكر الإغريقي الذي كان قد راح في سباتٍ عميق في العصور المظلمة، ولا سيما عصور آباء الكنيسة حتى الوقت الذي أيقظه فيه المؤرخون والفلاسفة السريان والعرب معًا، وعلى رأسهم طبعًا ابن رشد الذي كوّن من خلال اشتغاله على أرسطو، مدرسة فكرية متكاملة في الحياة الجامعية الأوروبية في القرون الوسطى.
مهما يكن، يمكن القول إنّ اسم رافائيل لم يكن – وحتى اليوم – الاسم الأكثر شهرة أو شعبية بين الثلاثي طبعًا. ومع هذا يشكّل وجوده وعمله تلك النقلة الانعطافية التي عايشها الفن النهضوي من التعبيرية الفنية والجمالية الخالصة في اتجاه التعبيرية الفكرية. ولعلَّ هنا تكمن الميزة الرئيسية التي تسم فن رافائيل. ويقينًا أن قسمًا رئيسيًا من تلك النقلة يمكن تلمّسه اليوم تحديدًا في بعض تلك الجداريات التي تعتبر من التحف المعروضة على جدرانٍ معينة في الفاتيكان، ومن دون أن تكون ذات طابع ديني على الإطلاق. بل نكاد نقول إنها تبدو في سماتٍ منها كثيرة مناوئة لصفاء الفكر الديني، مندفعة نحو أبعاد فكرية وفلسفية أحيانًا لم يكن من شأنها أن ترضي المحافظين. ولكن لم يكن لهؤلاء حيلة إذ كان سيد الفاتيكان في ذلك الحين الحبر الأعظم المتنوّر جوليوس الثاني. وحين انتهت حياته كانت تلك الأعمال الرافائيلية، وغير الرافائيلية الكبرى، قد أضحت ملتصقة بالعمران الفاتيكاني يستحيل المسّ بها. ولعلَّ الأروع من بينها هي تلك الرباعية التشكيلية الرائعة التي حقّقها رافائيل، تحديدًا في إحدى أهمّ وأجمل قاعات الفاتيكان مركز البابا والكرسي الرسولي في إيطاليا، غير بعيد من وسط مدينة روما.
اليوم إذ نتأمل تلك الأعمال الجدارية، قد لا نلاحظ تمامًا ما فيها من بعدٍ انعطافي، وذلك بالتحديد لأنه منذ أنجز رافائيل تلك الأعمال، صار ذلك البعد هو الأساس، وصار ما عداه أمورًا تنتمي إلى ما – قبل – تاريخ – الفن. ولعلَّ السِّمة الأساسية التي يمكن بها اختصار ذلك كله هي أن رافائيل في تلك الأعمال إنما نجح في البرهنة على انتصار الأفكار الإنسانية، حتى داخل الكنيسة نفسها. وكان هذا أمرًا جديدًا وشجاعًا في ذلك الحين. ويقينًا أنه لولا وجود البابا المتنوّر جوليوس الثاني يومها، لما أمكن رافائيل أن يفعل ما فعل.
مهما يكن من أمر، إذا استثنينا ستة أو سبعة مفكرن أساسيين لا يمكن للعين أن تخطئهم، سيصعب في نهاية الأمر التكهن، وعن يقين، بهوية الـ 58 مفكرًا الماثلين في الجدارية. فلئن كان من المنطقي أن يكون سقراط، وهيراقليطس، وديوجين، وفيثاغوراس من بين الذين أجمع الباحثون والمؤرخون على حضورهم الواضح في المشهد، وليس بالطبع انطلاقًا من سحناتهم، بل من موقعهم في الجدارية وممن يحيط بهم من أسماء معروفة بارتباط أصحابها بهم، استند الباحثون إلى تلك المعطيات لكي يخمّنوا هذه الشخصيات، وبعض تلك التخمينات باتت رائجة منذ أزمنة طويلة، لكن بعضها لا يزال قيد المجادلة والسجال حتى اليوم. غير أنّ المؤكد في المقابل هو التوزيع التصنيفي الذي اشتغل عليه رافائيل بعد أن غاص مطولاً في دراسة تاريخ الفلسفة منذ ما قبل السقراطيين وحتى زمنه.
ويمكننا أن نتبع أولئك الباحثين في هذا الإطار لنجدنا أمام ما يمكننا اعتباره برنامجًا فلسفيًا، يتوخى التعبير عمّا يُسمى في لغة الفلاسفة عادةً: «أقسام الفنون». ولسوف يدهشنا في هذا السياق ما قام به الرسام حين ربط تشكّل الجدارية نفسه بذلك التقسيم بشكلٍ محكم؛ إذْ يقول لنا إنّه لم يترك شيئًا للصدفة، وليس ثمّة هنا ما هو عشوائي. فكل مفكر هنا ماثل في مكانٍ يدل عليه، إن لم يكن باسمه، فعلى الأقل بالفئة الفكرية التي ينتمي إليها.
وهكذا إن انطلقنا من مركز الجدارية حيث أفلاطون وأرسطو يتجادلان، أو على الأقل يتوليان التحكيم في الجدال العام القائم في القاعة، سنجدنا على الفور في قلب الفكر الكلاسيكي، كما عهدناه ونعهده حتى اليوم. ومن الواضح بالنسبة إلينا أن أفلاطون وأرسطو ليسا معزولين في برجٍ يخصهما، بل تحيط بهما حلقة أقرب إليهما تصغي باهتمامٍ بينما يبدو سقراط أصلاً غير بعيد منهما ينشغل فقط بالتحاور مع مريديه. ونحن هنا يمكننا الحديث عن «مجموعة سقراط»، التي انطلاقًا منها يمكن التجوال بين مجموعات تكاد تفصح في توزعها وترابطها عن كونها تمثّل الفنون الليبرالية السبعة، كما كانت مصنفة في الحقبة الإغريقية.
ولنبدأ هنا من أسفل الجدارية إلى اليسار حيث «فن النحو وقواعد اللغة»، وفي محاذاته «الرياضيات والموسيقى»، وإلى اليمين «الهندسة والفلك»، وفي خلفيتهما حلقة «الفصاحة والجدل». ومن المؤكد هنا أن المجموعتين في مقدمة الجدارية ترمزان إلى علم الأرقام في سمتيه: الموسيقى والفلك، وهو ما يعبّر عنه اللوح الذي يحمله تيلوجيس ممكنًا أباه فيثاغوريس من الاشتغال انطلاقًا منه، وفيما هو يدوّن، نشاهد فيلسوف قرطبة ابن رشد وراءه يتأمل فيما يدونه.
وعلى هذا النحو نكون قد تعرّفنا على «مجموعة فيثاغوريس»، المشتغلة على النحو والرياضيات، والموسيقى. وفي مقابل تلك الجماعة إلى اليمين على نفس المستوى، لدينا «مجموعة إقليدس»، المهتمة منطقيًا بالهندسة والفلك، وهي المجموعة التي يتيح وجودها لرافائيل أن يوجّه تحية إلى البابا جوليوس الثاني وفكره التنويري، وقدراته الاستراتيجية، ولكن بالتحديد بصورةٍ مواربة، لعلَّ في الإمكان تعميمها على العديد من ملامح الشخصيات المرسومة. فمثلاً، يرى الباحث دانيال آراس أنّ أفلاطون يحمل هنا ملامح ليوناردو دافنشي، وفي السياق ذاته لا شك أن الشخصيات الرئيسية في هذه الجدارية تتشابه مع ملامح شخصيات مزامنة للحقبة التي رسم فيها رافائيل اللوحة. ومن ثمّ سنجد المهندس المعماري برامانتي وميكائيل أنجلو خلف ملامح فيثاغوريس أو ملامح رافائيل نفسه خلف ملامح هيراقليطس الذي لكونه فيلسوفًا متشائمًا ويميل دائمًا إلى اعتزال الآخرين، صوّره رافائيل جالسًا وحده في مقدمة الجدارية مستندًا بكوعه الأيسر إلى كتلة رخام غارقًا في التفكير، لا يقابله على الدرج نفسه غير بعيد خلفه إلى اليمين سوى ديوجين الكلبي الذي بدوره كان يميل إلى التشاؤم والابتعاد عن الآخرين.
أما بالنسبة إلى البابا فتقول حكاية متداولة شكك فيها الباحثان الفرنسيان، بيار شاستيل ودانيال آراس، لكنهما ذكراها لطرافتها، وجاء فيها أن رافائيل لتقديره المطلق لأفلاطون كان في الأصل يريد أن يصوّره على ملامح البابا، لكنه أُخبر بأنّ هذا لا يجوز بالنظر إلى أنّ للبابا قداسته الخاصة، وهكذا أبدله بدافنشي، لكنه وزّع ملامح العديد من مساعديّ البابا واستراتيجييه، من أمثال دوك دوربينو على شخصياتٍ عديدة وليس فقط في هذه الجدارية، بل في الجداريات الثلاث الأخرى، لا سيما تلك المتحدثة عن «الحقيقة الغيبية»، بشكلٍ يُبيّن عن تمجيد لسياسات البابا نفسه واختياره لمساعديه.
الأعمال التي نشير إليها هنا هي إذن، تلك الجداريات التي تزيّن جدران «غرفة التوقيع»، التي كانت في الأصل مكرّسة للمكتبة البابوية، ثم حُوّلت لتصبح غرفة المحكمة. ومن بين تلك الأعمال اخترنا هنا طبعًا التوقف عند أشهرها وأقواها وأكثرها دلالة على ما كان رافائيل يرمي إليه: لوحة «مدرسة أثينا»، التي لا تزال تعتبر إلى اليوم واحدة من أروع اللوحات في تاريخ الفن التشكيلي.
هذه اللوحة، ورفيقاتها على الجدران الأخرى للقاعة، رسمها رافائيل (1483 – 1520)، وهو ابن الرسام جيوفاني سانتي دي بييترو، خلال العشرية الأولى من القرن السادس عشر. وكما يجمع المؤرخون كانت كردّ فعل إنساني على ما كان يرسمه منافسه مايكل أنجلو في ذلك الحين، إذ كان هذا الأخير منكبًا على إنجاز تزيين سقف كنيسة «سكستين»، بتلك المشاهد الدينية الرائعة. يومها كان المهندس برامانتي، النهضوي الإنسانوي، على خصامٍ مع مايكل أنجلو، فعرّف البابا إلى رافائيل، الآتي حديثًا من مدينة فلورنسا، فكان أن كلّف البابا الرسام الشاب تحقيق لوحات لمكتبته. ورافائيل الذي كان – على غرار برامانتي – مولعًا بالفكر الإنساني، استطاع في نهاية الأمر أن يمرّر، بين ما حقّقه، لوحة «مدرسة أثينا».
ونعود هنا إلى سؤال لا بد من طرحه ومررنا عليه أعلاه: من أين أتى رافائيل بفكرة هذه الجدارية؟ بكل بساطة هي استطراد لما كان رافائيل قد رصده في مكتبةٍ نهضوية في «أوربينو»، حيث عاش ودرس ردحًا من الزمن، وكانت هناك لوحات تمثّل الشعراء والفلاسفة واللاهوتيين. وفي الفاتيكان طوّر رافائيل الفكرة وملأ جداريته بالفلاسفة والعلماء، جاعلاً الصدارة فيها كما أشرنا، لأفلاطون – المثالي – الرافع يده في اتجاه السماء في إلهامٍ إلهي ملحوظ، ولأرسطو – الواقعي – رجل الحسّ الإنساني السلبي الذي جعل اتجاه تعبيره الجسماني صوب مجموعة من المناطقة وعلماء الجغرافيا واللغة وما شابه ذلك.
في تلك اللوحة الساحرة والغريبة، التي يصل عرضها إلى نحو ثمانية أمتار، ملأ رافائيل المكان بكل أولئك الذين أغنوا الفكر – والفكر الإنساني خاصة – حتى زمنه بأعمالهم، لا سيما منهم أولئك الذين لم يكن من شأن الكنيسة أن ترضى عنهم الرضى كله. ومع هذا، فيما كان يرسم اللوحة لم يكن ليخامره أدنى شك في أنّ الحبر الأعظم كان سيوافق عليها؛ إذ بعد كل شيء، حرص رافائيل، على أن يجعل من العناية الإلهية مصدرًا للإلهام المثالي والواقعي سواءً بسواء.
لوحة «مدرسة أثينا»، التي تعتبر اليوم من أشهر أعمال رافائيل، حقّقها هذا الأخير حين كان في السابعة والعشرين من عمره. فيما كان في السابعة عشرة حين حقّق أول عمل كبير له (لوحة «سان نيكولاس دي تولنتينو»)، وهي اللوحة التي فتحت أمامه أبواب الفاتيكان فولجها محمّلاً بثقافةٍ عريضة وفكر إنساني لم يخب لديه طوال حياته، هو الذي حين دعاه البابا جوليوس الثاني وسأله عمّا يهدف من خلال عمله، أجاب: «التعبير عمّا هو حقيقي وخيّر وجميل». والحقيقة أن هذا الأمر كان جديدًا – على الأقل من ناحية الإفصاح عن النيّات في ذلك الحين – ومن هنا اُعتبر عمل رافائيل، دائمًا فاتحة تجذّر البعد الإنساني في فنٍ من الفنون الأكثر بُعدًا عن الدنيوية الإنسانية في ذلك الحين. ومن هنا جاء ذلك التقسيم، لدى مؤرخيّ الفن، بين ما هو قبل رافائيل وما هو بعده.