بعد قراءتك للفلسفة الأخلاقية لفترة من الوقت، قد يُساورك الشك في أن عيشَ حياة فيلسوف أخلاقي أمرٌ مرهق للغاية، ليس لأن قراءة الفلسفة وكتابتها عمل شاق وحسب؛ بل لأنه يبدو أن الفلاسفة يضطرون حتى في أوقات فراغهم إلى أداء حسابات أخلاقية معقدة. أسوأ من ذلك، هو أنهم يعتقدون بأنّ هذا ما يبدو عليه شكل الحياة بالنسبة للآخرين كذلك؛ كما لو أننا نواجه دائمًا قرارات تتطلب منا التوقف ومقارنة خياراتنا مع المبادئ الأخلاقية التي نتبناها. ولا يسعنا التصرف إلا بعد إجراء هذه الحسابات المضنية للصواب والخطأ، والواجب والمنفعة. مجرد التفكير في الأمر مُتعِبٌ جدًا.
تخيّل فيلسوف القرن العشرين البريطاني ستيفن تولمين تصرفًا عاديًا معتادًا، فيه يستعير كتابًا من صديقه. يحتاج هذا الصديق إلى استعادة كتابه: هل يجب على تولمين أن يعيده إليه؟ بحسب تولمين، فإن الإجابة على هذا السؤال ستشمل اللجوء إلى سلسلة من المبادئ الكونية حول صحة الوفاء بالوعد. قرأ هذه الفقرة كنود أجلير لوجستروب، وهو فيلسوف دانماركي من الطراز العتيق ذاته، ووجد أن التفكير المجرد لتولمين يعد إنكارًا للحياة الأخلاقية، وليس وصفًا لها. فلكي نقوم بالشيء الصحيح في هذا الموقف، لسنا بحاجة لمعرفة قابلية التعميم للقواعد المتعلقة بالوفاء بوعدنا.كل ما نحتاج إلى معرفته هو أن صديقنا يحتاج إلى استعادة كتابه.
ونسجًا على نفس المنوال، يتخيل برنارد ويليامز شخصًا يختار إنقاذ زوجته الغارقة بدلًا من أي شخص غريب. قد تشدد النظرية الأخلاقية على أننا يجب أن نتصرف بحيادية، غير أنّ محاولة الخروج بأسباب لتبرير اختيار هذا الرجل لإنقاذ زوجته إفراطٌ في التفكير.
ويسعنا أن نزيد في تعميق هذا الاعتراض: أحيانًا تكون الأفعال جديرة بالثناء من الناحية الأخلاقية إذا كانت تلقائية ولم يُفكّر فيها؛ إذْ إننا نُعجب بشخص يندفع إلى مبنى محترق لإنقاذ من بداخله أكثر من إعجابنا بشخص يتردّد في دخول المبنى ليتحقق من أن هذا هو حقًّا التصرف الصحيح الذي ينبغي فعله. ومع ذلك، كيف يمكن أن يكون الفعل الطائش استجابة مناسبة -ناهيك عن أن يكون مدعاة للثناء- لموقفٍ ما؟
تتمثّل إحدى سبل الإجابة عن هذا السؤال في دراسة ما يحدث في رؤوسنا عندما ننخرط في عمل أخلاقي؛ إذْ لا يتضمن التفكير في مبادئ مجردة إلا جانب قليل جدًا من هذه التصرفات. وفي معظم الأوقات، نرى ببساطة ما ينبغي فعله (وينطبق هذا حتى على الحالات التي لا نمضي قدمًا في تنفيذ ما ينبغي تنفيذه). نرى المعاناة في وجه المصاب؛ فنتوقف لنمد له يد العون. نرى محفظة تسقط بصمت من جيب شخص ما؛ فنناديه على الفور لتنبيهه. إننا لا نفكّر مليًا في هذه التصرفات؛ على أقل تقدير، نحن لا نفكر تفكيرًا واعيًا فيها.
وفي السنوات الأخيرة، تجدّد الاهتمام بفكرة أننا ندرك السمات الأخلاقية الهامة لموقف ما عوضًا عن استنباطها على نحوٍ تأمّلي، أو من خلال تطبيق المبادئ أو النظريات. ولا غرابة في أن يُعرف هذا التوجه بـ«الإدراك الحسي الأخلاقي»، ولا غرابة أيضًا أن يكون هذا الرأي مُثيرًا للجدل إلى حد كبير.
تصب عدد من الأمور في صالح هذا الرأي. حدد بريستون ويرنر ثلاث مزايا رئيسة على الأقل للإدراك الحسي الأخلاقي: 1. متوافق مع كون الإدراكات الحسية هامة في تشكيل الأحكام الأخلاقية. 2. متوافق مع الدور الذي يؤديه شعورنا بالسمات ذات الصلة بالموقف في الحكمة الأخلاقية. 3. متوافق مع ما نخوضه حقًا في حياتنا الأخلاقية؛ وإن لم ينطبق هذا بأي حال من الأحوال عليها بالكامل. إننا نُصدم على الفور بسمات أخلاقية لافتة للعالم من حولنا (حين نقول مثلًا: «هذا قاس!») تمامًا كما نُصدم عندما ندرك حسيًا خصائص أخرى («الجو بارد!»).
التحفظ على هذا التوجه هو أن إدراك شيء ما حسيًا يستوجب وجوده في الواقع بوجه ما. فإذا شعرتُ بأنّ الجو بارد، فأنا أدرك خاصية حقيقية للعالم؛ ألا وهي درجة الحرارة. لكن ما الذي أدركه عندما أرى أن هناك شيئًا ما خطأ أخلاقي؟ يرى بعض الفلاسفة خصائص مثل «الخير» باعتبارها خواصًا غير طبيعية للعالم، ولعل جورج إدوارد مور أشهر مثال حديث على ذلك. بيد أن ما يثير القلق هو فكرة تواجد خصائص مثل «الخير» و«الواجب» بشكل مستقل عن أذهاننا.
تصور مثلًا موقفًا ننظر فيه أنا وأنت إلى نفس اللوحة الفنية. أنا أجدها جميلة ومُبهجة، وأنت تجدها مبتذلة ومثيرة للعواطف. وبعد محاولة نقاش غير مثمر بيننا حول طريقة رؤيتنا للوحة، فإننا نتفق على مضض على أنه بينما ننظر إلى نفس الأشكال والألوان، فإن هذه الخصائص الأخرى التي ننسبها إلى اللوحة ليست في نسيجها نفسه، وإنما في رؤوسنا. مفاد التحفظ هو أن الصفات الأخلاقية مثل الصواب والخطأ قد تكون على هذا النحو أيضًا: ليست سمات للعالم نفسه، بل لردود فعلنا عليه.
صاغ الشكّاك الإسكتلندي في القرن الثامن عشر ديفيد هيوم نسخةً شهيرة من هذا الرأي. لنأخذ مثلاً فعل القتل العمد. ربما تلاحظ عواطف الأطراف المعنية ودوافعها ومعاناتها، لكن لا يمكنك أن ترى خطأ القتل باعتباره خاصّية لهذه الأشياء: «لا يمكنك أن تجده أبدًا، حتى تُحوّل تفكيرك نحو قلبك فتجد شعور الاستنكار ينشأ فيه تجاه هذا الفعل. هذه هي حقيقة الأمر: إنها مسألة شعور، لا مسألة منطق. إنه يكمن في داخلك أنت، وليس في الشيء نفسه».
إلا أن هيوم، مثله في ذلك مثل تولمين، يجرنا -إلى حدٍّ ما- بعيدًا عن تجربتنا الأخلاقية اليومية، بدلًا من تسليط الضوء عليها. إنّ تلك التجربة -كما رأينا- هي تجربة نقوم فيها في الغالب باتخاذ تقييمات أخلاقية على الفور، بطريقة تبدو أقرب إلى الإدراك الحسي، وليس الاستدلال. قد نرى بعد إمعان التفكير في الأمر أن تلك الأحكام الأولية خاطئة أو نتوصل فجأة إلى رؤية الأشياء بشكل مختلف، لكننا نفعل ذلك مع الإدراكات الحسية غير الأخلاقية أيضًا (فقد أرى الملكة تتجول في السوق التجاري المحلي. وتدهشني الفكرة؛ لأنه من غير المرجح أن تتسوق الملكة هنا. ثم أنظر من جديد بإمعان لأرى أن تلك لم تكن الملكة إليزابيث الثانية ممسكة ببعض أصابع السمك من قسم المُجمدات، بل امرأة تشبهها).
لكن خلافًا لما يقوله هيوم، فالإدراك الحسي الأخلاقي ليس مجرد مسألة شعور بالنفور من الأشياء التي تحدث أمامنا؛ بل يتضمن كذلك النظر إلى التفاصيل باعتبارها ذات صلة. تصور مثلًا أننا نجلس أنا وأنت في الفصل الدراسي ونسمع مُعلمنا يرد على شيء قاله زميلنا للتو. أنا لا أسمعُ شيئًا استثنائيًا في كلام المعلم. أما أنت، مع ذلك، فتسمع جميع الانتقادات اللاذعة والإهانات الخفية التي يمكن إنكارها ولكنها قيلت عن عمد، وتشعر بالطعن الذي يتلقاه زميلك أمامك. أنا وأنت نسمع الجمل ذاتها أثناء توجيهها، إلا أن هناك أبعادًا للموقف يمكنك أنت فهمها بينما لا أزال أنا غافلًا عنها.كما أنك لا تضيف ببساطة مشاعر النفور إلى ما يُقال. إنّ رؤية الإذلال يحدث يجعلنا نصدر بالفعل حكمًا تقييميًا بأن ما يحدث خطأ، في حال كانت جميع الأمور الأخرى ذات العلاقة بالموضوع متساوية (ربما تكون هناك حالات تكون فيها إهانة شخص ما مبررة ضمن سياقٍ أوسع، لكن الإذلال بحد ذاته يعد سيّئًا على نحوٍ جليّ وقاطع).
يُحب الفلاسفة التفكير. إننا نحب تمحيص المفاهيم والأفكار، وإجراء تحليلات منطقية معقدة. لذا فمن المنطقي أننا غالبًا ما نفترض أن الحياة اليومية تتطلب تفكيرًا يفوق ما تتطلبه في حقيقة الأمر؛ بيد أن الفريد في الإدراك الحسي الأخلاقي هو إشارته إلى أن معظم أمور حياتنا لا تتطلب ذلك. نحن لا نعيش حياتنا ونفكر بهوس في المبادئ والقواعد الأخلاقية؛ إذْ إننا نرى الأشياء كما هي وحسب. ما سنفعله بعد ذلك هو الاختبار الحقيقي.