«إن للصوت قوة مؤثرة على الناس، سواء للأفضل أو الأسوأ. وفي الوقت نفسه فإن الصوت لا يهب القوة المطلقة لأي شخص؛ لأنه بطبيعته عسير على أن يُملك أو يُسيطر عليه؛ فنزعته الطبيعية هي التحرك بحرية خلال الهواء، فبقدر براعة الإنسان فإن الصوت يُتلاعب به دائمًا، ويعد الصوت أيضًا شيئًا مجردًا ومتملصًا جدًا (..)».[1]
الصوت باعتباره تكشفًا ذاتيًا
في تجربة غير مخطط لها أتلمس عمري في التسجيلات الصوتية التي شاركتها في عالم الإنترنت منذ عام 2013م، تتميز المنصة باكتراثها فقط بالصوتيات، تتواجد الكلمات هناك بصفتها وصفًا أحيانًا لما يرفعه مستخدمو الشبكة، وأحيانًا أخرى في التعليقات التي يضيفها المستمعون إلى تلك التسجيلات.
تكونت علاقتي مع الصوت في عمر مبكر، وإن أخذت شكلًا مغايرًا منذ بدايتها، إذ شملت تنويعات من الأفعال تتتشارك في صميمها في عنصر الصوت. فالإذاعة المدرسية كانت مسرحًا حيًا لمشاركة القصائد التي فُتنت بها، وفرقة الكورال الإنشادي حوَت تمارين ضبط أصوات المجموعة ليظهر النغم صافيًا؛ إلا أني في خضم كل تلك الأنشطة لم يخطر لي قط أن أسمع صوتي أو أن أقدر على تمييزه، كان دافعي الأول هو القصيدة ذاتها، أن أشارك روعتها مع الآخرين، والأثر الذي تتلاعب بها الكلمات بأحاسيسي.
لستُ قادرة على تذكر نشوء فكرة تسجيل صوتي، لكنني أتذكر استخدامي لجهاز البلاك بيري، المملوك لأختي، حينما سمعت صوتي لأول مرة. مثلما شكك الآخرون بإنتماء الصوت لي، كنت قد فعلت ذلك قبلهم، إلا أنني قررت أن أقرأ لهم مباشرة كما فعلت في تسجيلي الأول. لم يكن ليمر عليّ هذا الاكتشاف بسهولة، كان بمثابة ندبة موجودة طوال الوقت في جسدي وكنت بحاجة لمرآة تكشف لي ما لم يستطع بصري الوصول إليه.
اختَبَر صوتي الكثير، ومن خلاله لمست طريقي نحو عالم استطعت التعبير فيه عن نفسي بحرية أكبر، قابلية استخدام كلمات الآخرين وتشكيل معانٍ تمسني بطريقة أو بأخرى منحني قوة خفية، ناعمة ومؤثرة، تمامًا كما تنقل آذر نفيسي عن مذكرات توين في كتابها «جمهورية الخيال»: «التعبير هو الشيء الجوهري في الفن. لا أبالي بما يعبر عنه، ولايمكنني أن أحكم ما الذي يعبر عنه، عمومًا، إلا أن التعبير هو الذي أحبه إلى درجة العبادة، إنه الشيء الذي أفاخر به، بكل طبيعتي المتهورة».[2]
تعقّب الصوت في أغاني الحب الخليجية
يخبئ الصوت في مكنونه إمكانيات تتعدى معرفتنا به، ولا يمكن النظر له على أنه وسيط تتجلى قيمته بجريان اللغة من خلاله.
أريد أن أخذ فكرة وجود الصوت البدهية إلى مدى أوسع، حيث تكون الهمهمة فيه إشارة كبرى على ضعف الاهتمام، في حين أن تنهيدة خافتة قادرة على هز زوايا الروح؛ فنحن إن توقفنا للحظة لانتبهنا إلى أن عالمنا وإن كان ظاهريًا ساكنًا أجوفًا، فإن لصمته صوت لا يخجل من الإفصاح عن نفسه في حضرة الانتباه.
لوقت طويل علقت في ذاكرتي أغانٍ بعينها تتمحور حول تجلي صوت المحبوب وحضوره الفارق في حياة مُحِبه.
في عام 1994م غنّى الفنان السعودي أسامة عبدالرحيم ما كتبه الشاعر الكويتي بدر بورسلي له، أغنية «سرى صوت»[3] في ألبوم يحمل الاسم نفسه، خلال 11 دقيقة نتلمس فيها طريقًا معبدًا بكل الاحتمالات التي يمكن للصوت تشكيلها، ففي هدوء الليل سرى صوت ما محدثًا وقعًا في نفس السامع، ليحمله على نحو شاعري لإطلاق صراخ يقلب حالة الليل الساكن إلى جلجلة ملفتة تؤكد على أنها قادرة على فعل أي شيء في مقابل الحصول عليه، وعندما يبدأ المقطع الثاني «شريتك.. ياللي في همسك شجن ساحر.. حديثك هدهد بروحي وأنا ساهر..» نلاحظ التشكلات الأخرى، من الهمس والهدهدة ومدى تأثيرها في نفس المُحِب، ليصنع بعدها بدر وأسامة صورة وجودية يلعب فيها الصوت دورًا جوهريًا، فنسمع جملة مثل: «يا ساحرني ولا تدري.. بصوتك.. بصوتك.. ابتدأ عمري».
هناك عنصر هام في تكوين أغنية حب مثل هذه، وهو الليل، هذا ما أظنه على الأقل، فبعد المحاولات الحثيثة لإبقائه لآخر لحظة ممكنة ولـ«يبقى زادي الباكر» يحدث الغياب «ولكن صوتك المسموع رحل في الشمس!» وهنا يقف المُحب متورطًا من هذا الرحيل الحارق الذي لا قدرة له على إيقافه إلا حينما يهمس «ولا أقدر أجيس[4] الشمس.. ولا أقدر بدون الهمس!».
«الصوت يعيش وقته ويتبدد بسرعة» عندما قرأت اقتباس ديفد هندي لدوقلاس كان[5] انتابني شعور غامض حيال آنية الصوت، أعرف أن طبيعته الفيزيائية يصعب اختزالها بطريقة متداولة، بمعنى نحن مقيدون في حياتنا اليومية باللحظات التي تنطلق بها الأصوات والمحادثات دون القدرة على استعادتها متى ما أردنا، إلا أن ما يبقى منها -حتمًا- هو ذكراها.
تحمل أغنية «صوتك يناديني»[6] -للفنان محمد عبده التي غناها لأول مرة في مسرح الزمالك عام 1983م، لتنضم لاحقًا إلى ألبوم المعازيم الصادر عام 1987م- دلالات لا يمكن التغافل عنها؛ إذ تجهزنا الموسيقى قرابة السبع دقائق لنسمع قصة أثارت أشجان المُحِب، فيدعو فيها صوت الآخر إلى فعل التذكر حصرًا، يمارس الصوت أعجوبته في حملنا إلى مناطق أحلامهم، أمكنتهم، لياليهم المقمرة، يُصر الصوت على النداء إلى حد يجلب فيه الحبيب من ذاكرة النسيان إلى ذاكرة حاضرة تشي بكل مافيها رغمًا عن الزمن الماضي وكل ما كان له أن يتغير. هكذا تتجلى قدرات الصوت في تذويب مرارة الوقت، والمسافة، والفقد.
تداعيات المشهد الصوتي للطبيعة
تبدو فكرة التشافي بالطبيعة فكرة رومانسية من على بُعد. قادتني لحظات غياب المعنى وصرف النظر عن الحياة إلى الطبيعة بطريقة عفوية، استطعت الشعور بوجودي الحيّ عندما توقفت لأدرك حركة الشجر الهفيفة، أوراقها الخضراء وهي تحاول بمساعدة الهواء الاقتراب من بعضها، بينما في الخلفية تَنُز أصوات لحشرات متنوعة الهيئة.
يأخذنا علم البيئة الصوتية دراسات المشهد الصوتي إلى مناطق أخرى يرصد فيها العلماء لساعات طوال أصوات الطبيعة وما ينم عنها من اهتزازات، لم يكن ما شعرت به من ارتباط غير حسي بالطبيعة أمرًا اعتباطيًا أو حالة ذهنية توصلت إليها.
إن الطبيعة تتحدث وتهمس وتموج، ففي التجربة التي قام بها برني كراوس[7] عام 1988م لأخذ لقطة صوتية من مكان يدعى (Lincoln Meadows) قبل الشروع في قطع عددٍ من الأشجار فيه، ثم الرجوع إليه بعد سنة لتكرار التجربة بنفس دقة المعايير السابقة. تبيّن له أن ثمة ما قد فُقد في المشهد الصوتي لطبيعة المكان. فبالمقارنة مع صوره من قبل وبعد، لا يبدو لعين الرائي أن هناك اختلافًا فارقًا، لكن ماذا عن مخطط التسجيل واختفاء الترددات منه؟ عن فقدان أصوات ما قُطع من الشجر؟ ارتحال الكائنات الحية التي سكنتها؟ لم تكن مجرد أشجار قُطعت من هنا وهناك، إن حياة كاملة نُزعت دون ملاحظة الأثر الخفي الذي تركه صمتها الأجوف، تمنحنا دراسات المشهد الصوتي نظرة ثاقبة حول تتبع التغيرات غير المرئية في الطبيعة، على تبيان الآثار الخفية للأمكنة، كرس برني كراوس عمره في تكوين أرشيف صوتي ضخم، وواجه في بداية مشواره المهني إشكالية في التفريق بين أنواع الأصوات التي سجلتها أشرطته، لِيَسُك برفقة زميله ستواريت جايج ثلاث مصطلحات:[8]
Biophony: لوصف الأصوات الصادرة عن الكائنات الحية المجهرية منها إلى الأكبر حجمًا.
Geophony: لوصف الأصوات النابعة من الطبيعة وحدها، مثل: حفيف الرياح، وخرير الماء
Anthropophony: الأصوات التي يصدرها الإنسان، وباستطاعتنا تطويعها من موسيقى، وكلام، إلى ما يصدر من دون وجود معنى له أو ما يسمى بالضوضاء.
يؤمن كراوس بتميز كل مشهد بأصوات فريدة لا تطابق صوت أي موقع آخر، العجيب أن دافع رحلته الأولى وتجوله في الغابة عام 1968م[9] كان لغرض إنتاج ألبوم موسيقي، تملك الرعب كراوس حينها فلم يعرف في لحظاته المبكرة كيف يصغي لكل هذا الإنفجار الصوتي المهيب، أستطيع تخيل تلك اللحظة وأنا أستمع إلى ألبوماته المسجلة، نقرت تلك الأصوات نقرتها في روحي، كانت الحياة التي تحملها صافية لا تثير اهتمام أحد أو تنزع إلى تشويه متعمد، كانت هناك موجودة غير منتظرة لأي شيء لأن يحدث أو في أن يكون، وكنت منقادة للإصغاء لها.
تداخلية الصوت، تخليقٌ للمعاني
ينقلنا الكاتب المصري هيثم الورداني في كتابته التجريبية حول الصوت إلى مناطق نختبر فيها إمكانية الدخول في المشهد الاجتماعي مرة، وفي تمرين آخر للتنصل منه عبر التركيز على الأصوات الصادرة من الأمكنة التي نتواجد فيها، والتي يتشارك أيضًا أشخاص آخرون في تصديرها. شدتني تمامًا هذه التجارب الصغيرة؛ إذ إنني كنت نفسي قد مررت ببعضها، ومشاهدتها مكتوبة بخطوات تأملية عملية كان أمرًا مثيرًا ورائعًا. من بين كل تلك الخطوات، نتلمس فكرة ترددت عليّ أثناء دراستي للموجات الصوتية، ومن ثم الكهرومغناطيسية، أشعرني ذلك بصلة ما مع هيثم؛ إذ إن خلفياتنا العلمية تتشابه.
تتسلل فكرة تداخلية الصوت في جو التعليمات، تمامًا، يتميز الصوت بصفة التداخل والتراكب باعتباره موجة، تستطيع حاستنا السمعية التقاط تفاصيل أصوات كثيرة، إلى جانب أن تداخلها يُمكنها من صنع عجائب لا تفسد أي مشهد، تصنع هذه الخاصية قدرة على الامتزاج، دون التشويه، هذا ما يحدث عند سماعنا لأغنية تتناغم فيها آلات وترية ونفخية وإيقاعية بترددات مختلفة، أو أثناء تواجدنا في السوق حيث أصوات الباعة، وضربات أقدام المتجولين، وأصوات مراوح التكييف، وآلات تعمل هنا وهناك، رغمًا عن ذلك تستقبل أذننا كل هذه التمايزات الصوتية، بينما يصعب أن تُحّمّل الصورة هذا القدر من المدخلات، وهذه التفصيلة تعظم من جوهرية خصائص الصوت.
لا يكتفي هيثم بطرح فكرة مثل هذه، بل ينقلنا إلى مطارح موغلة في الخصوصية لنخوض فيها تجربة سماع أصواتنا الداخلية، أن نتحقق من ماهيتها، ونميزها عن أصوات الآخرين، ثم خطوة إلى الأمام في قراءة كتابه «كيف تختفي» نصل إلى سبع إرشادات لإيجاد معنى للأوقات الخاوية بواسطة الإصغاء للصمت الظاهري حينما ننفرد بأنفسنا لوقت طويل في غرفة، لتبدأ بتشجيع القارئ على اقتناص لحظة الصمت تلك وتسجيلها وهي تلتقط جميع الأصوات الممكنة والتي تمر بها، ثم يدعونا للتغلب على الملل الأول الذي سنصاب به عند الاستماع لما سُجل، فعند نقطة ما، نجد أن ما كان وجوده اعتباطيًا من أصوات تدفق السيارات وصرير فتح النوافذ، وقطرات الماء، ورنين الهاتف، يحدث أن يصير تسلسله مترابطًا ومنطقيًا، ليختم إرشاداته بآخر نقطة فيها: «كرر الاستماع مرة أخرى. لاحظ أن ما تسمعه الآن هو صوت الساعات الطوال الخاوية، وأن المعنى الوليد الذي تطمئن إليه تدريجيًا الآن، هو ذلك الخواء الذي كنت تشعر به، بعد أن أصبح مجردًا من أحاسيسك وأفكارك ووجدانك. عندها ستكتشف أن الخواء في حد ذاته ليس غيابًا لكل معنى، وإنما هو عجزك عن فهم معنى جديد».[10]
[1] الضجيج (تاريخ إنساني للصوت والإصغاء)، ديفد هندي، ص 20، ترجمة: بندر محمد الحربي، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، كلمة، 2016.
[2] جمهورية الخيال (أمريكا في ثلاثة كتب)، آذر نفيسي، ص 124، ترجمة: علي عبد الأمير صالح- منشورات الجمل، طبعة 2016.
[3] أغنية سرى صوت على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=OvMkrJyd9GI
[4] أجيس: ألمس، باللهجة الكويتية.
[5] الضجيج (تاريخ إنساني للصوت والإصغاء)، ديفد هندي، ص 20-21، ترجمة: بندر محمد الحربي، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، كلمة، 2016.
[6] أغنية صوتك يناديني على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=DbPqb_p3EA4
[7] Bernie Krause’s talk: How Does Listening To Nature Teach Us About Changing Habitats?
[8] Anatomy of the Soundscape: Evolving Perspectives, Bernie Krause, Published in Journal of the Audio Engineering Society, January 2008.
[9] https://www.anthropocenemagazine.org/2017/08/biophony/
[10] كيف تختفي، هيثم الورداني، ص 23، مبادرة كيف تـ، الطبعة الثالثة، 2021.