ما الذي استعاره إروين شرودنغر من الفلسفة الهندية؟ | أليبيك شاريبوف | ت: رسلان عامر

تستغرق 7 دقائق للقراءة
ما الذي استعاره إروين شرودنغر من الفلسفة الهندية؟ | أليبيك شاريبوف | ت: رسلان عامر

قال ([1]) جيفري تشوسر([2]): «كل جديد هو قديم أُحُسِنَ نسيانه»، والاكتشافات الأخيرة لفيزياء الكم ليست سوى تأكيد تجريبي للاقتراحات التأملية للأنظمة الميتافيزيقية القديمة، وهذا المقال يركز على المنظور العالمي للفيزيائي الشهير إروين شرودنغر، الذي غالباً ما يتم تذكر اسمه الأخير بالاقتران مع كلمة «قطة».

 

فيزيائي ميتافيزيقي

ينتمي إروين شرودنغر إلى تلك الكوكبة من علماء الفيزياء المتفلسفين (إلى جانب بور وهايزنبرغ وآخرين) الذين، أثناء قيامهم بدراسات نوعية مركزة بشكل ضيق، طرحوا مع ذلك أسئلة عامة حول معنى الحياة، وببساطة، كان شرودنغر عالمًا ذا توجه ميتافيزيقي، وهو بنفسه قد اعترف بذلك علانية.

حتى الانقلاب الذي قام به كانط على الميتافيزيقا، فسره شرودنغر على أنه تقييد منهجي لتأثير الميتافيزيقا على تفسير الحقائق الراسخة في العلوم التخصصية، وليس كإزالة جوهرية للأسس المتعالية، وبهذا الصدد، يقول شرودنغر إن إحدى مهام العلم الحديث هي التحويل التدريجي للميتافيزيقا إلى فيزياء، ويمكن لأفكار شرودنغر نفسه أن تكون مثالًا على هذا التحويل، وإن كان جزئيًا.

على الرغم من عدم اتساق ذلك مع الصورة النمطية التي لدينا عن نموذج العالِم، إلا أن شرودنغر في الواقع كان شخصًا له آراء مناهضة لما هو شائع بين العلماء، ولم يكن يعتبر التقدم العلمي والتكنولوجي أهم إنجاز لأوروبا، وعلاوة على ذلك، كان يعتقد أن المجالات الأخرى لتطوير الفكر والثقافة والمعرفة في أوروبا الغربية أصبحت مهملة بسبب تضخم العلوم والتكنولوجيا، وإليكم ما كتبه بنفسه عن هذا: «العلوم الطبيعية، التي استعبدتها الكنيسة بشكل مخجل لقرون، رفعت رأسها، وبوعي حقها، بدأت مهمتها السماوية بضرب بطولي مليء بالكراهية لمعذبتها القديمة، دون الأخذ بعين الاعتبار أنها -وإن كانت غير كافية بل وناسية لواجباتها- كانت الحافظة الوحيدة لخير الآباء المقدس وصلاحهم. ببطء وبشكل غير محسوس، كادت شرارة الحكمة الهندية القديمة تتلاشى، عندما قام المعلم المعجز على نهر الأردن مرة أخرى باحياء شعلتها، التي شعت علينا طوال الليل المظلم في العصور الوسطى؛ وأضاءت بخفوت شمس اليونان المنبعثة، التي في أشعتها نضجت الثمار التي نتناولها اليوم. عامة الناس لا يعرفون أي شيء عن هذا، والجماهير أصبحت غير مستقرة وفقدت واعظها، ولم يعودوا يؤمنون لا بالله ولا بالألوهة، وصاروا ينظرون إلى الكنيسة بشكل رئيس كحزب سياسي، وإلى الأخلاق كقيد مؤلم فقد توازنه ودعامته معا، كما لو كان فزاعة مستحيلة انزلق إليها الإيمان لفترة طويلة. ومن الممكن أن نقول، إنّ أوان التأسّل الرجعي (atavism) الشامل قد حان، والإنسانية الغربية تتعرض للتهديد بالعودة إلى مرحلة التطور السابقة التي تم التغلب عليها بشكل سيئ، والأنانية الواضحة غير المحدودة ترفع فمها المكشوف، وبعادة تعود بنوعيتها إلى عصور ما قبل التاريخ، تشهر قبضة لا تقاوم على قائد دفة السفينة التي فقدت قبطانها».

 

أنت ذاك

يعتمد التوجه الميتافيزيقي لتفكير شرودنغر على مبدأ الهوية المشترك لجميع التعاليم القديمة، الذي يتم التعبير عنه بالشكل الأتمّ في نظام الفيدانتا([3])، التي يقول أحد أقوالها العظيمة :أنت ذاك (tat tvam asi)، والمعنى العام للفيدانتا يُعبر عنه بمنتهى الدقة في هذه الصياغة القصيرة، ويتلخص في حقيقة أن الواقع هو شيء واحد، ونوع من العقل العالمي (براهمان)([4]).

أما الفروق الفردية التي نراها فهي نتيجة جهل وعينا (الأفيديا)([5])، ويكفي الخروج من مستوى الوعي الفردي المحدود إلى مستوى الوعي العالمي (الكوني)، وستختفي في نفس اللحظة جميع الاختلافات بالنسبة للعارف، وسيكتسب (أو يدرك) الوحدة مع كل ما هو موجود.

بالسير على خطى الفيدانتا يعبّر شرودنغر عن أفكار مطابقة بإيجاد التشابه الأساسي في الآراء التي تبدو للوهلة الأولى مختلفة في أفكار مفكري الماضي، ويستنتج شرودنغر أن تنوع الأحكام يرجع إلى تنوع الموضوع، في الوقت الذي يبدو فيه أن الجوانب المختلفة للموضوع قد تم التقاطها من خلال الوعي العاكس، ووفقا لشرودنغر، يجب أن يحاول العرض النقدي عدم التأكيد على التناقضات، كما يحدث عادةً، ولكن اختزال هذه الجوانب المختلفة في لوحة واحدة.

إن أكثر ما يميز الإنشاءات الفلسفية لشرودنغر هو الطريقة التي يجادل بها عن التصورات الميتافيزيقية القديمة، وقد تحدثنا أعلاه عن سعي شرودنغر لترجمة الميتافيزيقا بشكل تدريجي إلى لغة الفيزياء. هذه النية، هي جد غير معتادة في التفكير الأوروبي الثنائي (binary)، وعندما تجسدت، أدت إلى نتائج غير متوقعة وفتحت مجالًا كاملًا من الأبحاث الواعدة، ولكن بشكل عام، الحقائق الميتافيزيقية، تم طرحها، إما بلغة الصور الشعرية الغامضة، أو بلغة المفاهيم الفلسفية الأكثر عمومية.

يستخدم شرودنغر، كونه عالمًا، لغة العلوم الطبيعية، وبالتالي مفاهيم محددة ودقيقة، إنه بعيد عن أي نوع من الثنوية([6]) في إدراك وفهم الوجود، وفي هذا الصدد، فإن كل التقليد الأوروبي المتمثل في تقسيم العالم إلى هذا العالم والعالم الآخر، القادم من أفلاطون، قد استنفد بالكامل تقريبًا مع بداية القرن العشرين.

في ظروف أزمة المعاني المتعالية، يقع بعض المفكرين في الخطابة العدمية (الوضعيون، الوضعيون الجدد، ما بعد الوضعيين)، بينما يبحث آخرون عن طرق بديلة للميتافيزيقا، متجهين إلى التراث الأحادي (monistic)([7]) للأنظمة الميتافيزيقية الشرقية، وذلك، على وجه الخصوص، ما فعله شرودنغر، حيث اكتشف تقريبًا جميع أسس الفيزياء الحديثة في الفلسفة الهندية القديمة.

إن السمة المميزة للأنظمة الميتافيزيقية الشرقية، والتي يمكن اعتبار الفيدانتا جوهرها بلا شك، هو ما يسمى بالتعالي المحايث (immanent transcendence)، أي الموقف الذي بموجبه لا يقع الواقع الأعلى في مكان ما بعيدًا عن أشياء العالم المرئي، لكنه يتموضع في أساسها بشكل لا ينفصم، ويكمن فيها هي نفسها، وشرودنغر يلتزم بنفس الموقف فيما يتعلق بترتيب الأشياء (أو العالم).

وهو يتعامل بسخرية مع الأفكار الساذجة حول الوجود المنفصل للجسد والروح، لكنه لا ينكر على الإطلاق وجود الأخيرة، وفي هذه النقطة، تتجلى نظرة مادية ميتافيزيقية نوعية إلى الواقع، وهي سمة مميزة للميتافيزيقا الأحادية في الشرق، التي تموضعت أفكارها وأحكامها في أساس رؤية شرودنغر للعالم.

 

وعي واحد عند الجميع

وفي النهاية، من خلال الربط بين حكمة الفلسفة القديمة (الميتافيزيقا) وإنجازات العلم الحديث، يصوغ شرودنغر مفهومه للفردانية المفتوحة (open individualism)، ووفقا لهذا المفهوم، فإن وعي كل شخص هو في الواقع وعي واحد، أو مجال واحد من الوعي.

والتناقض بين التعددية الواضحة لوعي الأشخاص المختلفين والأطروحة القائلة بوجود وعي واحد في الواقع، وفقا لشرودنغر، يمكن حله بسهولة بمساعدة مثال بلورة متعددة الجوانب تخلق مئات الخيالات الصغيرة لكائن وحيد موجود، دون مضاعفة هذا الكائن فعليا.

ذات مرة كتب باسكال المحب لطرح «الأسئلة العويصة»: «عندما أفكر في زوال وجودي، المنغمس في الأبدية، التي كانت أمامي وستكون بعدي، وحول عدم أهمية الفضاء المشغول من قِبلي، ولكن أيضًا المرئي بالنسبة لي، المنحلّ في فضاءات لا متناهية، غير معروفة بالنسبة لي وغير عارفة عني، أرتجف من الخوف وأسأل نفسي في حيرة: لماذا أنا هنا وليس هناك؟ لأنه لا يوجد سبب لوجودي هنا وليس هناك، ولا يوجد سبب لوجودي الآن، وليس لاحقًا أو من قبل»، وقد أجاب باسكال بنفسه على تساؤله بروح الوجودية الدينية، بأنه، وكما يقولون، هذه هي إرادة الرب، وطرق الرب غامضة([8]).

يجيب شرودنغر، بصفته شخصًا بعيدًا بنفس القدر عن الأفلاطونية والمسيحية، على هذا السؤال بروح الفيدانتا: «لا يمكن أن تكون وحدة المعارف والمشاعر، التي تسمي إرداتها “نفسك”، قد ظهرت مؤخرًا في نقطة معينة وفي وقت محدد من لا شيء، وبالأحرى، هذه المعارف والمشاعر والرغبات هي أبدية بشكل جوهري ولا تتغير وهي واحدة فقط من حيث العدد في كل الناس، حتى في جميع الكائنات الحية».

قد يبدو ذلك غريبًا، إلا أن شرودنغر يؤكد وحدة مصدر جميع أنواع الوعي من خلال الإشارة إلى التجربة اليومية، وخلافًا للاعتقاد الشائع بأن تفكير كل فرد هو مجال محدود تماما وأن هذه المجالات لا تشترك في أي شيء مع بعضها بعضًا، فإن الممارسة تظهر عكس ذلك تمامًا.

على سبيل المثال، إذا نظرت مجموعة من الأشخاص إلى موضوع واحد، دعونا نقول شجرة، فسيجدون، بناءً على تبادل الآراء، ولسبب وجيه، أن الجميع يدرك هذه الشجرة بنفس الطريقة، وفي هذه الحالة، يجب أن نفترض حتما أن هذه الشجرة هي في نفس الوقت جزء لا يتجزأ من وعي متعدد، وتنتمي في نفس الوقت إلى العديد من «الذوات» وهي مشتركة بينهم، ولاحظوا، إنها ليست موضوعًا مشتركًا للإدراك، ولكنها مكوّن مشترك للإدراك، ما يعني في جوهر الأمر أنها حالة وعي واحدة.

وفقًا لشرودنغر، في هذه الحالة سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن الوعي المنفصل هو مجرد جزء، وجانب من جوانب الوعي الكوني (على سبيل المثال، هذا بالضبط ما كان سبينوزا يعتقده)، لأن مثل هذا الافتراض يثير عددًا من الأسئلة الجديدة: أي جانب هو أنت، وما الذي يميزك موضوعيًا عن البقية، وما إلى ذلك؟

وسيكون الافتراض الصحيح، وبطريقة لا يمكن تصورها، أنك أنت، وكذلك أي كائن واعٍ آخر -مأخوذا بحد ذاته- هو الكل في الكل، لذلك، حياتك الحقيقية، التي تحياها، هي أيضا لا تقتصر على كونها جزءا من أحداث العالم، ولكنها بمعنى معين كل أحداث العالم، لكن هذا الكل لا يتصف بأنه ممكن الفهم بنظرة واحدة، بل إنه ما يعبر عنه البراهمة([9]) بصيغة مقدسة سرانية، ولكنها في جوهرها صيغة بسيطة وواضحة جدًا: أنا في الشرق وفي الغرب، أسفل وفوق، أنا العالم كله.


المصدر


[1] – أليبيك (علي بيك) شاريبوف (Alibek Sharipov): هو كاتب كازاخستاني، وهو يحمل درجة ماجستير في العلوم الإنسانية، وقد نشر هذا المقال في 2-11- 2016، وتجدر الإشارة أن الحواشي المرفقة بهذه الترجمة هي من وضع المترجم.

[2] – جيفري تشوسر (Geoffrey Chaucer)، أحد مشاهير الشعر الإنكليزي، وقد عاش بين عامي 1343 و1400م.

[3] – الفيدانتا (Vedanta): هي إحدى المدارس الأصولية الست في الفلسفة الهندية الكلاسيكية، يعني اسمها «خاتمة الفيدا (Veda) الكتاب المقدس عند الهندوس»،  ولها عدة فروع، تركز جميعها على المعرفة  والتحرر، ولديها نقاشات مستفيضة في مبحث الوجود وقضية الخلاص ونظرية المعرفة، وأشهر هذه الفروع هو «الأدفائيتا» (Advaita) أي «اللاثنوية، أو الواحدية»، التي تعتقد بأن البراهمان هو المبدأ الأوحد في الوجود، وفيه يتمثل الواقع الحقيقي الواحد.

[4] –  البراهمان (Brahman): هو الجوهر الروحي الأسمى أو الحقيقة المطلقة اللانهائية، وهو الوعي الأبدي الموجود في كل مكان، وفي الفيدانتا الواحدية يتم التمييز بين البراهمان الذي يمثل الوجود الحقيقي الأعلى، وبين عالم الظواهر الوهمي، الذي يعيش فيه الناس نتيجة جهلهم وعدم معرفتهم لحقيقة البراهمان ووحدتهم الجوهرية مع هذا البراهمان.

[5] –  الأفيديا (avidya): هي كلمة سنسكريتية  تعني الجهل أو المعرفة الخاطئة، وعكسها «فيديا» (vidya) التي تعني المعرفة الصحيحة، وهي في الفكر الهندوسي تدل على المفاهيم الخاطئة وسوء فهم الوجود، من قبل النفس الفردية الجاهلة المنغمسة في الشهوات والغايات الدنيوية في العالم الظاهري؛ وهذا المفهوم تشترك فيه بشكل عام  كل من الهندوسية والبوذية والجاينية، ولكنها تختلف في التفاصيل.

[6] – الثنوية (Dualism): هي مذهب فلسفي يقوم على الاعتقاد بوجود مبدئين أساسيين أو جوهريين في الكون، كالروح والمادة على سبيل المثال، أو وجود عالمين مختلفين بطبيعتهما الجوهرية، كهذا العالم والعالم الآخر مثلا.

[7] – الواحدية (Monism): هي على عكس «الثنوية» ترفض وجود أكثر من مبدأ أو جوهر أو واقع في الكون، وتصر حصرًا على الواحدية، وفي الفيدانتا الواحدية مثلًا، هذا المبدأ هو «البراهمان»، الذي يمثل الجوهر والواقع الحقيقي الأوحد.

[8] – هذه  هي من الكتاب المقدس، العهد الجديد، رسالة القديس بولس إلى أهل رومية (11: 33).

[9] – البراهمة (brahmins) هم الطبقة العليا في المجتمع الهندوسي التقليدي، وهي طبقة رجال الدين.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.