في يوم التأسيس، يوم بدينا، كان ممَّا لا شك فيه أن قناة الثقافية ستؤدي دورها الرئيسي في نقل الثقافة. وبصفتي رئيسًا لمحتوى الأزياء في الثقافية، بدأت بالعمل على إعداد وإنتاج حلقة خاصة مع خبيرة التراث وأستاذة الأزياء والمنسوجات التقليدية د. ليلى البسام. لم يكن صعبًا بالنسبة لي اختيار الشخص الذي سيقابلها، فقد كان اسم ريم الكنهل واضحًا في السياق الذي وضعته للحلقة. الكنهل، مصممة أزياء سعودية أسست علامتها، التي تحمل اسمها، في 2010 بعد تخرجها من معهد المهارات والفنون في الرياض. سبق للكنهل أن خاضت عدة تجارب في محاولة «عصرنة» الأزياء التقليدية وجعلها مناسبة للعصر الحديث. وبعد 4 سنوات من تأسيس العلامة، اختارتها فرانكا سوزاني، رئيسة تحرير مجلة فوغ الإيطالية سابقًا، لتكون ضمن 20 موهبة دولية تعرض تصاميمها في دبي، ومن بعد سنة، فازت الكنهل بجائزة «تصميم الأزياء» في حفل توزيع جوائز المرأة العربية. سيرة ذاتية نادرة على مستوى المصممين في المنطقة، تجعل منها ذات خبرة كافية لخوض حوار عميق عن الأزياء التقليدية السعودية. قبل بدء تصوير الحلقة وعند وصول د. ليلى البسام وبعد اللقاء بينهما خلف الكاميرا، تتذكر البسام أحد التصاميم التي قدمتها الكنهل والتي كانت عبارة عن فروة رجالية تم تحويلها لقطعة عصرية للنساء. يبدو أن الدكتورة أيضًا تعلم الكثير عن المصممة التي ستحاورها.
بدأت الحلقة بمعيار ثقيل؛ إذْ كان ثاني سؤال يتعلق برغبة المصممين الشديدة في إضافة الفن الطليعي إلى الأزياء السعودية، مثلما فعلت كوثر الهريش، مؤسسة علامة «كاف باي كاف» في نسخة كأس السعودية للعام الماضي، حينما قدمت قطعة «محاريب» المستوحاة من مثلثات القط العسيري، وكذلك فعلت دار «قرمز» التي حولت أبراج الدلم إلى قطعة فنية يمكن ارتداؤها، و«أباديا» لشهد الشهيل التي قدمت ضمن أسبوع الرياض للموضة، قطعة ذهبية وُضع على الجزء العلوي منها نواة التمر المصبوغة بالذهبي. كل هذه التصاميم بالفعل مستلهمة من الثقافة السعودية، بل أن كل واحدة منها تروي قصة مختلفة، لكنها في ذات الوقت، ليست مستوحاة من ملابسنا القديمة. بشكل مفاجئ، كانت البسام مؤيدة لهذا الحراك الفني الذي بدأ ينهض في الموضة السعودية، وتجد أن عناصر الثقافة لابد أن تكون متواجدة في تصميم الأزياء، كما أضافت الى أنها مهتمة جدًا بالأبواب النجدية وتجد أن هنالك رابطًا بين الهندسة المعمارية وتصميم الأزياء يمكن لكثير من المصممين أن يستلهموا منه. وحتى عندما سٌئلت بشكلٍ مباشر عما يسمى بالموضة بـ«الآفان قارد»، وهي الأزياء الفنية التي عندما تراها في عروض الأزياء تبدأ بالتساؤل عمّن سيرتديها، قالت البسام إن لا مانع من ذلك، كما أشادت بتصميم السعف أو كما سمته «السفرة» الذي قدمته كوثر الهريش في أسبوع الرياض للموضة، وهو عبارة عن طبقات دائرية ومتتالية من الخوص أو سعف النخل تأخذ بالفعل شكل السفرة التي اعتاد أجدادنا على الأكل عليها. لكن البسام أيضًا تدرك تمامًا أهمية دورها كمؤرخة، وتلتمس العذر للمصممين، لكونهم من وجهة نظرها، لم يجدوا الطريقة أو الفرصة للاطلاع على التاريخ العميق للأزياء السعودية، وكان هذا أحد دوافعها لإطلاق كتابها «الأزياء التقليدية السعودية: المنطقى الوسطى» الذي لاقى انتشارًا واسعًا بين المهتمين في تصميم الأزياء. ركزت البسام على أهمية تطوير الأزياء التقليدية، على الرغم من أنها أيضًا أشارت إلى وجود حدود ويجب ألا تخرج الأزياء التقليدية من أصالتها وما يميّزها. ولكن كيف نحقق هذه المعادلة الصعبة؟
من وجهة نظري، أعتقد أنه يجب على المصممين أن يدركوا المعنى الضمني لهذه الأزياء وما الذي تمثله بالنسبة للمجتمع، كما ينبغي عليهم معرفة قصتها، ودوافع صناعتها أو تكوينها. كل هذه التفاصيل المعنوية هي الأساس، وهي ما ستجعل المصممين يحافظون على جوهر الزي التقليدي. فمثلًا في أزيائنا التقليدية، تأتي الحشمة بأسلوبٍ طاغٍ على التصاميم، في ثوب النشل والبنخق، وحتى البشت والصاية بالنسبة للرجال، بالإضافة إلى وجود التفاصيل الدقيقة فيها مثل طريقة التطريز والرسم وأحيانًا استخدام المعادن وبعض المواد الطبيعية التي تدل على الإهتمام الكبير في الزينة والأناقة. أصبحت الآن الحشمة والأناقة عوامل رئيسية في الأزياء التقليدية، يمكن لأي مصمم أن ينطلق منها لتطوير التصاميم التراثية.
الألوان، وهي الجزء الذي يملك أقل حيّزًا في أزيائنا التقليدية، يمكن أن يكون له دور كبير في مرحلة التطوير، وأيضًا في جانب التعايش مع أشكال المناخ المختلفة، مثل اختيار الألوان الصيفية والشتوية أو الباردة والدافئة. تقول د. ليلى البسام في الحلقة إنه لا يوجد رمزية في ملابسنا التقليدية، بغض النظر عن كون بعض منها صُنع بهدف التكيف مع الطقس. وبالفعل، هذا الدافع يأتي من قدرة الإنسان البارعة على تحويل بيئته لبيئة ملائمة له، وليس بدافع الرمزية. التطوير أيضًا يمكن أن يكون بدمج الأزياء الرجالية بالنسائية، ولكن أيضا بحدود، حيث تقول البسام إنها سبق وأن شاركت كمحكمة في لجنة أحد مسابقات تصميم الأزياء واعترضت على ارتداء أحد العارضات للعقال، ولكنها ذكرت أن المرأة السعودية استطاعت أن تأخذ الأزياء الرجالية وتعيد تصميمها بطريقة تتناسب معها، مثل الفروة، وهي لبس رجالي لكنها أصبحت اليوم ملائمة للنساء. التبسيط، وهي الأداة التي تحوّل أي قطعة فارهة ثقيلة إلى قطعة يمكن ارتداؤها بشكل يومي، وهي أكثر تجربة طرأت على الأزياء التقليدية حول العالم لكونها أصبحت ضرورة، فأزياء اليوم أصبحت أقل طبقات وأقل وزنًا وأكثر خفة وعملية. أما بالنسبة للاستلهام فالإنسان ابن بيئته، وما يراه هو ما يتعلمه، لذلك كانت الأزياء التقليدية مستوحاة من الطبيعة، مثل الزبون المديني الذي يأتي غالبًا باللون الوردي الموجود في الورد الطائفي.
الأزياء التقليدية هي المفتاح الأول للتعرف على الهوية، ومن خلالها يمكن للأفراد أن يعمقوا معرفتهم ببعضهم دون حتى التحدث. لذلك، يجب على المصممين أن يستمروا في الحفاظ على هذه الأزياء وابتكار طرق جديدة لتشكيلها بشكل مختلف وتطويرها بحيث تصبح ملائمة لليوم وأقرب للجيل الجديد الذي يخرج إلى الشوارع والأماكن العامة في يوم التأسيس فخورًا ويرتدي أزياء أجداده. عملية نقل قطعة لباس عاشت قبل 3 قرون إلى اليوم ليست سهلة، لكن الأزياء بطبيعتها تحارب الزمن وتأبى أن تنهزم، ولذلك، تسير الموضة بشكل دائري وتكرر نفسها حتى تستمر، ومن الصعب جدًا ابتكار قصة لباس جديدة، والأصعب أيضًا هو إقصاء قطعة عاشت لوقت طويل. ولهذا، ستعيش الأزياء التقليدية السعودية معنا أكثر خصوصًا في هذه الفترة التي تعزز فيها هيئة الأزياء جهود المصممين وتساعدهم في تكوين منظورهم الإبداعي، وخصوصًا مع وجود مؤخرين مثل د. ليلى البسام التي أعلنت في الحلقة أنها ستعمل على كتب أخرى لباقي مناطق المملكة بعد أن قدمت كتاب أزياء المنطقة الوسطى. تعيش الثقافة في مجال الأزياء مرحلة حساسة على مستوى العالم، حيث أصبح من المحرم -ضمنيًا- على أي مصمم أن يستخدم ثقافة لا ينتمي لها في تصاميمه، وهذا يجعل للمصممين السعوديين ميزة كبيرة، فهم كما وصفت د. ليلى البسام، يملكون كنزًا.