ما أصل كل الشرور؟ رأى الرسول بولس -في إحدى رسائله المشهورة إلى تيموثاوس- أنَّ المال أصل الشر. في حين قال ريتشارد دوكينز -بعد ألفي عام »إنَّ الدين هو أصل الشرور«. وذهب توماس هوبز إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث قال: »لم يكن المال أو الدين هو ما أفسدنا، بل إنَّ الطبيعة البشرية هي مصدر مشاكلنا«. ادَّعى هوبز أنه بدون هيمنة قوية تحكمنا، سنسفك دماء بعضنا بعضًا. ومن ثم ستكون الحياة في الوضع الطبيعي «قصيرة ووحشية وكريهة».
يروي جان جاك روسو في «خطاب حول أصل التفاوت» قصةً مختلفة. يقر روسو أنَّ الأمور ستصبح وحشيةً سريعًا إذا تُركنا نتصرف وفقًا لأهوائنا ومآربنا الشخصية، لكنه يضيف بعدها «نحن –المتحضرين- لسنا نماذج صالحة للطبيعة البشرية». في الواقع ما يسميه هوبز حالة الطبيعة ليس أكثر من وصف للسلوك البشري الاجتماعي؛ فالطبيعة البشرية الحقيقية -كما يرى روسو- لا تتميز بالجشع العنيف، بل بالرحمة. ويحاول روسو -مثل بول ودوكينز- تتبُّع مصدر الشر مدعيًا أنَّ أصلَ الشر فسادٌ مُستحدث؛ ليس المال أو الدين، إنما التنشئة الاجتماعية نفسها.
يرسم روسو -لتوضيح وجهة نظره- تخطيطًا لتاريخ تخميني للمجتمع البشري -الغرض منه أن يكون تجربة فكرية أكثر من كونه تاريخًا حقيقيًّا- يبدأ بالبشرية في حالة من الجهل السعيد. تدور قصة روسو عن التنشئة الاجتماعية حول الفضاء أو المساحة خاصة: كيف قام الأفراد بتقسيم المساحات فيما بينهم عبر التاريخ؟ لسوء حظنا هذا التاريخ في تنظيم الفضاء ليس تاريخًا سعيدًا. أو بتعبير آخر أوجز/ أسهل: جذر كل شر هو مفهوم الملكية.
بحسب وجهة نظر روسو لمسألة الحالة الطبيعية كان الجنس البشري يعيش حرًّا في جميع أنحاء العالم نائمًا تحت الشجرة الأولى أو في الكهف الأول الذي وفر له المأوى. في هذه الحالة يتخيل روسو أنَّ البشر كانوا أحرارًا حقًّا وأفرادًا حقًّا؛ أحرارًا؛ لأنهم لم يعتمدوا على أي شخص آخر، وأفرادًا حقيقيين نظرًا إلى تنعمهم بالحرية. كانت الثورة الأولى -في هذا الوضع- هي اختراع الأدوات الحجرية لحفر الأرض وقطع الأشجار وتشكيل الأكواخ الأولى. هذا التقسيم الجديد للمساحة أنشأ الأسرة، وكذلك أنشأ شكلًا أوليًّا من أشكال الملكية.
يرى روسو أنَّ ثمة ارتباطًا وثيقًا بين المساحة التي يشغلها البشر وبين تطور الشعور والعقل. بعبارة أخرى: إننا مرتبطون بما يجعلنا الآن بشرًا؛ ففي هذه الأكواخ الأولى يعتقد روسو أنَّ الجنس البشري طور عادة «العيش معًا»، وهي عادة تؤدي إلى «أرقى المشاعر التي عرفتها البشرية»، ألا وهي الحب الزوجي والعطف الأبوي. لاحِظ النزعة الفردية المفرطة في تفكير روسو، حيث يقول: «حتى هنا في الوحدات العائلية الأولى حيث تنمو مثل هذه المشاعر الجميلة، يفقد المرء حريته ويخطو الخطوة الأولى نحو تدهور النوع».
الخطوة الثانية مرتبطة بالمساحة أيضًا؛ فقد استقرت التجمعات العائلية في أحياء دائمة تعيش في أكواخ متجاورة، وطوَّرت العائلاتِ اتصالات أصبحت مع مرور الوقت تبعيات، وشجع القرب المكاني الناس على مقارنة حياتهم بالآخرين. يقول روسو: إنَّ الغيرة جاءت بالحب أيضًا. لأول مرة، يمكن التمييز بين الناس على أساس المرتبة. لقد اختفت المساواة.
انطلاقًا من هنا كان من المحتم أن يرى شخص مصلحةً في أن يحصل على ما هو مخصص لشخصين، ولكن كيف يمكن لشخص واحد أن يحتفظ بالأشياء لذاته مدة طويلة؟ قام روسو بتجسيد هذا التطور -المعروف باسم اختراع الملكية- على شكل حدث، فكتب أنَّ «الإنسان الأول -بعد أن شغل قطعة من الأرض- فكر مليًّا، ثم قال: “هذه الأرض ملكي”. ووجد أشخاصًا ساذجين بما يكفي لتصديقه، وهكذا أصبح المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني». انطلاقًا من هذا التملُّك تنبع كل «الجرائم والحروب والقتل… والأهوال والمآسي البشرية». يستمر روسو في التحسُّر على عدم وجود شخص ذي نظر ثاقب يزيل كل هذه العقبات، أو يرفع النقاب، ويصرخ في أقرانه: «احذروا الاستماع إلى هذا الدجال. أنت ستزول متى نسيت أنَّ ثمار الأرض ملك لنا جميعًا، والأرض نفسها لا تخصُّ أحدًا».
للأسف لم يظهر مثل هذا المنقذ. وبدلًا من ذلك، أدَّى هذا الاعتراف الأول بالملكِيَّة إلى وضع القوانين الأولى لحماية مطالب المغتصب والحفاظ عليها. والقانون -في هذه القصة- لا ينبع من العدالة، ولكن من خوف المالك أنَّ ما اكتسبه بالقوة قد يُنتزع منه بالقوة أيضًا. ولمنع دورة العنف هذه اخترع الأثرياء حالة الطبيعة الهوبيزية كحكايةً أخلاقيةً، وهي عالم من اللصوص المسلحين الذين لا يستطيع محاربتهم إلا المؤسسات القانونية التي يمكنها وحدها أن تحفظ ممتلكات الأغنياء والفقراء على حد سواء. كانت هذه المسألة -كما يقول روسو- «أدهى خطة خالجت العقل البشري على الإطلاق، وهي خطة حوَّلت الاستحواذ العنيف إلى حق غير قابل للتغيير، وقد نجحت؛ فقد انجر الجميع بتهور إلى قيودهم آملين في الحفاظ على حريتهم».
إذا كان أصل كل الشرور يعود إلى ذلك التسييج الأول، فإنَّ تمدُّد الشر يعتمد على مسألتين: القانون والتكنولوجيا. فالقانون -كما رأينا حقًّا- يضفي الشرعية على مبدأ تملُّك المساحة بالقوة؛ إذ بدون سلطة القانون المهيبة، ستكون الملكية محفوظة ما دام مالكها لا يزال محتفظًا بقوته، ولن تمتد الملكية إلا بقدر ما يُظهر المتملكون قوتهم. أمَّا في ظل وجود القانون وسائر المؤسسات القوية التي ترعى هذه الملكية حتى الشرطة، فإنَّ هؤلاء سيتمكنون من الاحتفاظ بالممتلكات إلى الأبد، لا بل حتى توريثها لذريتهم ولأجيال لاحقة. ولن يكتفوا بالاعتماد على قوتهم الشخصية فحسب، بل سيتمكن المالكون من الاعتماد على القوة الكاملة للدولة.
تأتي التكنولوجيا في القصة واضحة كوسيلة لزيادة القوة التي يمكن بها الدفاع عن الممتلكات. ولكن نظرًا إلى أنَّ الأسلحة متاحة لكل من المالكين وغير المالكين أيضًا؛ فهي تُعد سلاحًا ذا حدين. ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن التكنولوجيا تبدو حاجة ضرورية تسبق الدفاع عن الممتلكات؛ إذ بها يتمكن المالكون من توسيع الحيز الذي يمكنهم المطالبة به. في المشهد المتخيل الذي رسمه روسو يدعي المالك الأول أنَّ الأرض ملكه عبر تسييجها والإقرار اللفظي بأنها ملكه. هاتان الوسيلتان محدودتا النطاق بالضرورة؛ إذ تقتصران فعليًّا على المساحة التي يمكن للشخص أن يتملكها باستعمال مطرقته وسياجه. كما أنها محدودة اجتماعيًّا؛ إذ تنحصر في حدود الأشخاص الذين تلقوا بيان المِلكيَّة: «هذه ملكي».
تغير الوضع جذريًّا مع اختراع رسم الخرائط الحديث في أوروبا التي حلت محل تقنيات رسم الخرائط في العصور الوسطى تلك التي مثلت المساحة بمصطلحات اختبارية وأسطورية. في خرائط العصور الوسطى كان يُشار إلى الفضاء أو المساحة بحسب ما يختبره المرء؛ حيث تم تحديد الطريق إلى المساكن وفقًا لما يحيط بها من معالم بارزة، ويتم رسم الطريق كمسار، لا حسب منظور عين الطائر (من أعلى) الذي نعرفه اليوم، وعلى نطاق أوسع كانت المساحات غير المتكشفة في العالم يُشار إليها بمخلوقات أسطورية مثل التنانين. بينما أنتجت الأساليب العلمية الحديثة لرسم الخرائط مفهوم الفضاء المجرد المتجانس الذي يمكن للفرد من خلاله أن يتحرك نظريًّا تحركًا خطيًا، كما تم توحيد ذلك الفضاء المتجانس المجرد من خلال خطوط خيالية تتقاطع مع الأرض؛ وعلى نحو أكثر تحديدًا، تُسمَّى خطوط الطول وخطوط العرض. لذا لم يعد المجهول يمثله الأسطوري؛ لأنَّ الإسقاطات يسهل توسيعها.
وهكذا في 7 يونيو 1494م وقعَّت البرتغال وإسبانيا -تحت رعاية البابا- معاهدة تورديسيلاس التي قسمت الأراضي المكتشفة حديثًا التي تسمى بالعالم الجديد، بينهما على طول خط الطول -وهو خط متخيل يمتد من قطب إلى قطب عبر سطح الأرض- 370 فرسخًا غرب جزر الرأس الأخضر قبالة سواحل إفريقيا. ناهيك عن أنَّ المساحة التي كانوا يقسمونها لم يرها أي من الطرفين. بعد ما يقرب من 400 عام، في مؤتمر برلين عام 1884م تكررت الحيلة نفسها؛ حيث قسمت القوى الأوروبية إفريقيا فيما بينها دون الإشارة إلى سكان تلك الأراضي أو حتى الادعاء بأي سيطرة فعلية للقوى الإمبريالية على الأرض.
في هذا المقام تتجلى قصة روسو تجليًا واضحًا: ما يجب أن يكون حقًّا لكل شخص بات مُسوَّجًا لصالح القلة، ولم ينتهِ الأمر هنا، فاليوم ثمة مساع لتقسيم الطبقة العميقة من البحر وكذلك القمر، لا بل أثمن مساحة: أفكارنا وخوالجنا؛ لأن استغلال هذه الموارد المتاحة يصبُّ في مصلحة أحدهم. ويبقى السؤال: هل سيكون هناك هذه المرة من سيصرخ «احذروا هؤلاء الدجالين»؟