مقدّمة
تُصرّ الحداثة على مبدأ مهمّ جدًّا، وهو: التّدرّج في الأفكار، من الواضح تمامًا إلى المركّب تعقيدًا؛ ثمّ تُصرّ كذلك على مبدأ آخر هو التّفكيك، بمعنى لمعرفة الأشياء معرفة جيّدة، لا بدّ من معرفة تفاصيلها، وبما أنّ التّفاصيل لا متناهية تقريبًا، فإنّ معارفنا تظلّ دائمًا سطحيّة ومنقوصة إن لم نغص في كُنهها بمبدأ التّركيب.
رأينا في المقالة السّابقة، أنّ الحداثة الغربيّة تدرّجت مع كوبيرنيك في الفَلك، إلى أن وصلت ذروتها في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر الميلاديّين، ومع جاليليو في مواجهَتِه للمُحاكَمة الكنَسيّة الشّهيرة، وُصولًا إلى إسحاق نيوتن والمبادئ الفيزيائيّة لقانون الجاذبيّة، مرورًا بديكارت رائد الحداثة الأوّل بوجهِها الفلسفيّ؛ إذ تسرّبت مفاهيم الحداثة من موضوع إلى موضوع، ومن عِلم إلى عِلم، ومن مجال إلى مجال آخر، حيث تفرّعت خيوطها في شتّى الاتّجاهات.
ولكن هيمنة العلوم الفيزيائيّة والمشاهدات الفَلكيّة على الحداثة، لم يمنع بزوغ أسماء أخرى في مجالات متنوّعة، نال منها الأدب نصيبه أيضًا، كالأديب الحداثيّ -صاحب مقالتنا- فرانسوا دو لاروشفوكو (1613-1680م).
ورأينا سابقًا أيضًا، نظرة خاطفة عن حياة دو لاروشفوكو، التي بدأت بالسّياسة والحرب ثمّ عرجت على ثقافة الصّالونات الأدبيّة، إلى أن استقرّ به المطاف مصابًا بداء التهاب المفاصل، فجلس في بيته مُنكبًّا على أدب الحِكَم والتّوقيعات المُفعمة حداثة، التي توّجها بكتابه «حِكَم وأفكار».
لأجل هذا، سنتحدّث في الجزء الثّاني من المقالة(1) عن مواضيع: الصّداقة والأخلاق ثمّ السّياسة باعتبارها تطبيقًا لهما، بحيث سنتلمّس الخيوط الحداثيّة الفلسفيّة في الأدب انطلاقًا من هذه الثّيمات، كم أشرتُ إليه، وبالتّرتيب نفسه أيضًا:
أوّلًا: الصّداقة عند دو لاروشفوكو
كغيرها من المواضيع التي تناولها دو لاروشفوكو بالدّراسة والتّحليل، نجد موضوع الصّداقة، وإن بدا يعطي فيها نصائح وتجارب شخصيّة ممّا لاقاه في تجربته السّياسيّة التي باءت بالفشل نتيجة صداقات فاسدة، إلّا أنّ طريقة تناوله للموضوع أشبه بالدّراسة والتّحليل منها إلى إسداء نصيحة، فالكِتاب «حِكَم وأفكار» اعتمد فيه على لفظ الجمع كثيرًا، بمعنى خرج من السّياق الضّيّق إلى رحابة الحداثة الواسعة، فبدأ بالتّحليل ثمّ التّركيب، بتوضيح المفاهيم وتحديد الأسس، بالبدء بالسّهل ثمّ الصّعب فالمُركّب، بينما استعماله صيغة الجمع، تلك، دليل على أنّه يتحدّث عن حقبة بأكملها؛ وتلكم أسس الحداثة وأعمدتها.
والصّداقة، حسب دو لاروشفوكو، تحصيل حاصل لدى الإنسان باعتباره كائنًا مُجتمعيًّا، حتّى وإن رافق الأغبياء فـ«لا شكّ أنّ رجلًا نافذ العقل غالبًا ما يكون مرتبكًا من دون رفقة الأغبياء»(2)، بحيث يحتاج الإنسان بفطرته إسداء النّصح وتوجيه الإرشاد ببذل وكرم إذ «لا شيء يعطيه المرء بسخاء إلّا نصائحه»(3)، التي يفرِط فيها ولا ينتبه لتصرّفه هذا إلّا بعد ما يستشكِل عليه الأمر، وبتعبير دو لاروشفوكو، «ما يجعلنا في منتهى التّقلّب إزاء صداقاتنا، يكمن في صعوبة معرفة مزايا الرّوح، وسهولة معرفة مزايا العقل»(4).
يواصل دو لاروشفوكو تفكيكه لموضوع الصّداقة، ويصفها بأنها ليست إلا شراكة وكسب مصالح لدى السّواد، بل هي في النّهاية –عند أغلبهم- كسب مغنم ما، لا أقلّ ولا أكثر، بحيث «ما دعاه النّاس صداقة ليس سوى شراكة، وتدبير متبادل للمصالح، وتبادل للخدمات والمساعي الحميدة، وليس في الأخير سوى تعامل يعد فيه حبّ الذّات نفسه بمغنم ما يكسبه»(5)، وعليه فالارتياب والشّكّ من الأصدقاء مخجل أكثر من خداعهم لنا، ولا يمكن التّأسّي من هذا الخداع، أو بالأحرى هذا النّكوث؛ لأنّنا نكون نحن مَن مهّدنا لهم السّبيل، وفَعَلْنا ذلك بأنفسنا ثقة في من لا يستحقّها.
وفي السّياق نفسه، يزيد دو لاروشفوكو الجرعة في تفكيكه لموضوع الصّداقة، مُشرِّحًا إيّاها، وجازمًا في الوقت عينه كون الصّداقة منفعة، فيقول: «كثيرًا ما نذهب إلى الاقتناع بحبّ النّاس منّا نفوذًا، ومع ذلك فإنّ المنفعة وحدها هي التي تنتج صداقتنا، ونحن لا نقترب منهم للخير الذي نريده لهم، بل لذلك الذي نريده منهم»(6).
لا عجب في هذه النّظرة القاتمة عن الصّداقة زمن الحداثة، وإلّا لَما كانت هذه الأخيرة الباعث الحقيقيّ لدو لاروشفوكو على الكلام والتّعبير بكلّ جرأة وحرّيّة، مادام العصر ينطق حداثة بأكمله؛ فاستطاع أن يخرج من الزّاوية الضّيّقة للمعنى الحقيقيّ للصّداقة، إلى المكان الفسيح الذي يليق بها، خيرًا أم شرًّا، حسنًا أم قُبحًا. وما أسعفه كثيرًا تجربته السّياسيّة التي باءت بالفشل، والتي كان في خضمِّها أحوج ما يكون إلى صداقة صديق حقيقيّ؛ فتشريح الصّداقة كان من منطلق ما يعيشه لا كما يحلم أن تُعاش.
بينما، بعد التّحليل يبدأ دو لاروشفوكو في التّركيب طبعًا، وهو المنهج الحداثيّ بامتياز، فيقول: «لا شيء أقلّ صدقاً من طريقة طلب النّصائح أو تقديمها، فالذي يطلبها يبدو أنّه يكنّ اعتباراً وإجلالاً لمشاعر صديقه، رغم أنّه لا يفكّر إلّا في جعله يوافق على مشاعره الخاصّة، وجعله ضامنًا لسلوكه، والذي يَنصح يدفع ثمن الثّقة بحماسة محتدمة ومترفّعة، مع أنّه لا يبحث في الغالب في النّصائح التي يقدّمها إلّا عن مصلحته الخاصّة أو مجده»(7).
وأخيرًا يُجْمل دو لاروشفوكو كلامه عن موضوع الصّداقة بِحِكْمَة رائعة، مفادها وإن كانت الصّداقة انتهاز فُرص في أغلبها، إلّا أنّنا «لا يمكننا أن نحبّ شيئًا إلّا في علاقته بنا، ونحن لا نفعل شيئًا آخر غير اتّباع ذوقنا ولذّتنا عندما نفضّل أصدقاءنا علينا، غير أنّ الصّداقة بهذا التّفضيل وحده يمكنها أن تكون حقيقيّة وكاملة»(8). فالخير والشّرّ قيمتان متناقضتان متصارعتان دائمًا وأبدًا، وهي الجدليّة التي لم تفارق الكائن البشريّ –ولن تفارقه- منذ ظهوره على وجه البسيطة إلى الآن. مثلما حدّد فولتير في معجمه الفلسفيّ الصّداقة بكونها زواج الرّوح، وهذا الزّواج عُرضة للطّلاق، إنّها عقد ضمنيّ بين شخصين حسّاسيْن فاضلَيْن، فالإحساس بمعنى مخالطة النّاس، والفاضل بمعنى أن يعرف ما هي الصّداقة الحقيقيّة(9).
ثانيًّا: الأخلاق عند دو لاروشفوكو
نالت الأخلاق عند دو لاروشفوكو ما نالته عند سابقيه، إلّا أنّ الحال تغيّر مع الحداثة التي تبدأ بالوضوح أوّلًا ثمّ المُركّب فمُركّب المُركّب، وعليه كانت الأخلاق موضوع اهتمام شديد، فانبرى الأدب إلى مجابهة القِيم والفضائل والأخلاق والسّعادة، وغيرها من المواضيع التي تصبّ في هذا الاتجاه؛ وما كانت لَمسة الأدب المُميَّزة هي البعد العقلانيّ في ملامسة الموضوع، والجِدّة التي لم تكن سابقًا دون منهج.
كعادته يجسّ دو لاروشفوكو موضوع الأخلاق بالتّحليل، أوّلًا –كما أشرنا سابقًا- اعتمادًا على أُسّ من أُسس الحداثة، فيقول: «ما نأخذه على أنّه فضائل ليس في الغالب سوى تجميع لأعمال مختلفة ومصالح مختلفة، يتوصّل الحظّ أو براعتنا إلى ترتيبها، وليس دائمًا بسبب الشّجاعة أو العفّة»(10)، إذن ما هي الفضيلة؟ وما هي الأخلاق؟ وكيف نحدّدهما؟ تناول دو لاروشفوكو الموضوع من البداية، فنظر إلى الأهواء التي تُمتحَن لصعوبة التّحكّم فيها، فعمومًا «ديمومة أهوائنا لا تتوقّف علينا أكثر من ديمومة حياتنا»(11)، فيُقرّ أنّ للأهواء ظُلْم ومصلحة خاصّة تجعل من الخطير اتّباعها، ومن الضّروريّ الاحتراس منها حتّى لو بدت صائبة جدًّا؛ إذ كثيرًا ما تُولِّد نقائضها «فالبخل ينتج التّبذير أحيانًا، والتّبذير ينتج البخل، وغالبًا ما يكون الإنسان حازمًا بسبب الضّعف، وجسورًا بسبب الخجل»(12)، فكان تأكيده أنّنا مهما اعتنينا بتغطية أهوائنا بمظاهر الورع، فهي تلوح دائمًا من خلال هذه الأحجبة.
لِنقرأ هذه الحكمة: «في الشّرّ كما في الخير، يوجد أبطال»(13)، إنّها حِكمة أبديّة من دو لاروشفوكو، الذي زكّى فيها موضوع الخير والشّرّ النّسبيّ في الأخلاق، ففي الشّرّ أبطال وفي الخير أبطال كذلك؛ فعدّهما متساويان أي البطل نفسه يوجد هنا وهناك، وينتقل من ضفّة إلى أخرى حسب حاجة الإنسان نفسه، فـ«تضِيع الفضائل في المصلحة مثلما تتلاشى الأنهار في البحر»(14)، فلا نَمدَح عادة إلّا في المقابل لكي نُمْدَح، إذ «ثمّة ملامات تمدح، ومدائح تهجو»(15)، وهو تعبير واضح في نسبيّة الخير والشّرّ، ومواجهة اللّوم بالمدح، والمدح بالهِجاء لَخير دليل بالإضافة لِما سبق. فلا يكفي أن يتحلّى المرء بخصال حميدة، يجب أن يُحسن التّصرّف بها؛ لأنّ «النّفاق تحيّة تقدّمُها الرّذيلة للفضيلة»(16)، وكثيرًا ما ينال الإنسان الإعجاب في مسيرة حياته بسبب عيوبه، أكثر ممّا ينال بسبب خصاله الحميدة.
وهذه حِكم كلّها من دو لاروشفوكو تدلّ على تفرّع الموضوع وكثرة دروبه ونسبيّته، كما يتّضح جليًّا حينما يقول حول خصالنا كلّها دون استثناء: «كلّ خصالنا غير موثوق بها ومشكوك في أمرها، في الخير كما في الشّرّ»(17)، ما نستشفّه من هذه الحِكم التّاليّة المُشبَعة بهذا التّضادّ الجليّ، حيث يقول: «الخير الذي نلناه من أحدهم يؤدّي إلى السّكوت عن الشّرّ الذي يرتكبه بحقّنا»(18)، كما يقول: «بمقدار ما يكون من السّهل على المرء خداع نفسه من دون أنْ يدرك ذلك يكون من الصّعب خداع الآخرين من دون أن يدركوا ذلك»(19)، كذلك يقول: «الوسيلة الحقيقيّة لخداع النّفس هي أن تظنّ نفسك أذكى من الآخرين»(20)، وقال أيضًا: «الأكثر مهارة ينصرفون طيلة حياتهم إلى التّظاهر باستنكار التّحيّل لاستخدامه في بعض المناسبات الكبرى، ومن أجل بعض المصالح الكبيرة»(21)، ثمّ يضيف قائلًا: «ليس النّاس عرضة لنسيان ذكرى الحسنات والشّتائم فحسب، بل هم يحقدون أيضًا على من أحسنوا إليهم، ويكفّون عن كره مَن ألحقوا بهم الإهانات»(22)… وغيرها كثير.
والنّتيجة أن بيّن دو لاروشفوكو بوجه أدبيّ حداثيّ أخلاقيّ -إن صحّ التّعبير- مفعول تداخل الأخلاق العقليّة مع الأخلاق الدّينيّة المسيحيّة، الأخلاق كما يجب أن تكون لا كما هي موجودة مليئة بالاضطراب والارتباك، لا تأتي إلّا تعبيرًا عن نقص في البراعة، ويبدو اهتمام الإنسان بمكافأة الخير والانتقام من الشّرّ، عبوديّة يشقّ عليهم الخضوع لها، كأنّها الاستثناء، لا القاعدة التي تقول: «التّحلّي بفضائل سامية لازم للتّوصّل إلى تحمّل الحظّ السّعيد، أكثر من تحمّل سوء الحظّ»(23).
وأخيرًا رغم كون «الشّرّ الذي نمارسه لا يجلب لنا ذلك المقدار من الاضطهاد والحقد الذي تجلبه لنا خصالنا الحميدة»(24)، ورغم كون «المصلحة تتكلّم كلّ أنواع اللّغات، وتُمثّل أدوار كلّ الشّخصيّات، بما فيها دور الشّخصيّة المنزّهة عن المصلحة»(25)، فإنّ دو لاروشفوكو بعد تحليله السّابق كلّه، يختم بالتّركيب في موضوع الأخلاق، مُصرًّا على وجود الأصدق منها، وإن كانت نادرة، فـ«الصّدق هو انفتاح قلب، لا نجده إلّا عند عدد ضئيل من النّاس»(26). وثنائيّة الخير والشّرّ هاته ستطغى على موضوع الجزء الأخير، كما طغت عليه منذ القِدم، ولكن هاته المرّة كما نقول: من مُنطلق حداثيّ أدبيّ.
ثالثًا: السّياسة عند دو لاروشفوكو
كانت السّياسة، وما تزال، الموضوع الشّاغل لفكر البشريّة، كيف لا، وهي منشأ الأمم واندثارها، وهي العِقد الذي ينتظم فيه مجتمع أو ينحلّ، وهي ساحة قتال ومعارك دائمة سواء مباشرة أو غير مباشرة. لكن مع بدء الحداثة الكبرى حوالي القرن السّابع عشر ميلاديّ، تمّ التّطرّق لهذا الموضوع من زوايا متعدّدة كانت مع مكيافيلي الأمير السّياسيّ بامتياز، المُخالط دروب الحرب والسّياسة ودهاليزها، وقَبْله بدأت مع أفلاطون بالمدينة المثاليّة التي كان ينشُدها والتي لم تتحقّق أبدًا إلى الآن، وفي العصر الإسلاميّ يمكن أن نتحدّث عن أبي نصر الفارابي، الذي وسّع دائرة المدينة الأفلاطونيّة لتشمل الأمّة السّياسيّة الكبيرة في الأقطار الإسلاميّة كلّها.
وفي السّياق نفسه، كان للأدب رؤية على موضوع السّياسة، تجلّت مع دو لاروشفوكو، الذي مارسها وقتًا ليس باليسير، فرأى واكتسب كيف تُدار المعارك، وللأسف خسرها كلّها؛ ما جعله يناول خيبة أمله فيها بعد إصابته بجرح بليغ أقعده عن الحرب نهائيًّا.
وكما قلنا: إنّ السّياسة تطبيق للصّداقة والأخلاق، وفيها يظهران أو يختفيان حسب المصلحة الخاصّة قبل العامّة، لذا سنقتبس من دو لاروشفوكو كلامًا قاسيًا غير ما مرّة، عندما لا تبقى لا صداقة ولا أخلاق في التّعاطي معها؛ فنجده يقول: «المصلحة تشغِّل كلّ أنواع الفضائل والرّذائل»(27)، وليست عنده السّياسة سوى «تلك المآثر الكبيرة والسّاطعة التي تبهر العيون، يقدّمها السّياسيّون باعتبارها نتائج مقاصد عظيمة، بينما تكون عادة من نتائج المزاج والأهواء»(28)، إنّنا نراه يفكّك ويُدقّق في السّلوك السّياسيّ، مُتراوحًا بين الخير والشّرّ حسب المصلحة التي أشار لها، معرجًا على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبما أنّه هُزم في جميع حروبه كان حانقًا على هاته العلاقة السّياسيّة الخادعة، فـ«اقتراف الشّرّ مع غالبيّة النّاس ليس أخطر من الإفراط في الإحسان إليهم»(29)، وهي حقيقة تداولها السّياسيّون كثيرًا على مرّ التّاريخ، التي وصفها مكيافيلي بـ«الأمير القويّ الشّجاع»، بمعنى ممارسة الشّرّ تؤدّي إلى حفظ الدّولة وحفظ أمنها، أكثر من ممارسة الخير الذي يعتبره الصّديق قبل العدوّ خوفًا وجُبنًا. إلى جانب القوّة يجب أن يكون الأمير حاذقًا ذكيًّا في مهاراته المختلفة الجيّدة، ومنها أن «ليست رأفة الأمراء في الغالب إلّا سياسة لكسب محبّة الشّعوب»(30)، ومن هذا المنطلق يعممّ دو لاروشفوكو النّصح للسّياسيّ النّاجح، ويدعوه لكي يكون أنانيًّا أنانيّة حميدة، قائلًا: «على الإنسان الحاذق أن يرتّب مصالحه وفق الأولويّة وينجزها وفق ترتيبها، إنّ جشعنا كثيرًا ما يخلّ بذلك فيجعلنا نسعى إلى كثير من الأشياء في وقت واحد، وبالرّغبة في الأقلّ أهمّيّة، نفوِّت الأكثر قيمة»(31)، فالارتياب الذي يشعر به الإنسان السّياسيّ، مبرِّر كاف لخديعة الآخر، إن كان الهدف تحقيق شيء أسمى؛ لأنّ حبّ العدالة عند غالبيّة النّاس، ليس إلّا ابتعادًا عن الظّلم وشقائه.
يمضي دو لاروشفوكو في تحليله، ويشير إلى مهارة السّياسيّ الفطن التي «تكمن في معرفة كيفيّة التّظاهر بالسّقوط في الفخاخ التي تُنْصَب لنا، ولا يمكننا أبدًا أنْ نكون مخدوعين بطريقة أسهل إلّا عندما نفكّر في خداع الآخرين»(32)، لتظهر من جديد نسبيّة ثنائيّة الخير والشّرّ، فالنّيّة التي تكون عند الإنسان في عدم الخداع أبدًا وهي الخير، تُعرّضه إلى أن يكون مخدوعًا دائما إنّه الشّرّ.
لنختم هذا المحور مع دو لاروشفوكو، بتركيب ماتع حول موضوع السّياسة، كما فَعَلت الحداثة طبعًا؛ وعليه فالتّصالح مع العدوّ ليس إلّا رغبة في جعل وضع الدّولة أفضل وهذا جيّد، فهناك إرهاق الحروب وتطوّرات لا تُحمد عاقبتها، والمحافظة على أمن الشّعب أمر غاية في الأهمّيّة، وإن مرّ عن طريق «مدح الأمراء بفضائل لا يمتلكونها»(33)، فقد تصير سِلبيّة في حقّهم، حتّى إن «تلاشى المظهر البرجوازيّ في الجيش أحيانًا، لكنّه لا يتلاشى في البلاط أبدًا»(34)، وهي التي يقصد بها دو لاروشفوكو الحفاظ على هيبة الدّولة وقوّتها؛ فالحقيقة لا تصنع من الخير في العالَم، بمقدار ما تصنعه مظاهرها من الشّرّ.
خاتمة
كان دو لاروشفوكو من النّماذج التي يُمكن الحديث عنها في مواضيع أخرى واهتمامات أخرى غير الأدب قطعًا، وبما أنّ الحداثة كانت صادمة للإنسان الأوروبيّ اضطرارًا وليس اختيارًا، فقد شكّ في كلّ شيء كان يعرِفه ويَعْلَمه، بدءًا من التّعليم الأرسطيّ المدرسيّ إلى عِلم الفلَك البطليميّ، مرورًا بالعِلم اللّاهوتيّ الأوغسطينيّ، إلى باقي العلوم الأخرى المختلفة.
وقد اعتُبر دو لاروشفوكو حالة فريدة في دمْج أساسيّات الحداثة مع مواضيع الأدب والحِكم والأمثال، وحالة فريدة أيضًا في احتواء الفكر الجديد وفهمه والنّسج على منواله، وحالة فريدة كذلك في إنتاجه لِحِكَم وتوقيعات لا تتجاوز السّطرين على الأكثر، ولكنّها مازالت خالدة بمعانيها وحمولتها الفكريّة، والأدبيّة، والسّياسيّة، والأخلاقيّة، والرّوحيّة والعِلميّة، وغيرها، فكان خير مثال على تفوّق المدّ الحداثيّ، وانصهاره في شتّى مناحي الحياة الإنسانيّة.
الإحالات والهوامش
(1) تحدّثنا في الجزء الأوّل من المقالة عن مواضيع: الإنسان والمرأة ثمّ الحبّ باعتباره تطبيقًا لهما.
(2) حِكَم وأفكار، فرانسوا دو لاروشفوكو، ترجمة محمد على اليوسفي، مراجعة كاظم جهاد، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، مشروع كلمة، أبو ظبي، ط1/2017م، ص: 39.
(3) المرجع نفسه، ص: 34.
(4) المرجع نفسه، ص: 29-30.
(5) المرجع نفسه، ص: 30.
(6) المرجع نفسه والصفحة نفسها.
(7) المرجع نفسه، ص: 35.
(8) المرجع نفسه، ص: 30.
(9) قاموس فولتير الفلسفي، فولتير، ترجمة يوسف نبيل، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ط1/2018م، ص:153. بتصرف.
(10) حِكَم وأفكار، فرانسوا دو لاروشفوكو، مرجع سابق، ص:ـ17.
(11) المرجع نفسه، ص: 17.
(12) المرجع نفسه، ص: 18-19.
(13) المرجع نفسه، ص: 46.
(14) المرجع نفسه، ص: 43.
(15) المرجع نفسه، ص: 40.
(16) المرجع نفسه، ص: 52.
(17) المرجع نفسه، ص: 90.
(18) المرجع نفسه، ص: 54.
(19) المرجع نفسه، ص: 35.
(20) المرجع نفسه، ص: 37.
(21) المرجع نفسه، ص: 36.
(22) المرجع نفسه، ص: 19.
(23) المرجع نفسه، ص: 21.
(24) المرجع نفسه، ص: 21-22.
(25) المرجع نفسه، ص: 23.
(26) المرجع نفسه، ص: 27.
(27) المرجع نفسه، ص: 58.
(28) المرجع نفسه، ص: 18.
(29) المرجع نفسه، ص: 56.
(30) المرجع نفسه، ص: 19.
(31) المرجع نفسه، ص: 27.
(32) المرجع نفسه، ص: 35.
(33) المرجع نفسه، ص: 69.
(34) المرجع نفسه، ص: 79.