تقدّم لنا موسيقى البوب مخزونًا لا متناهيًا من الأفكار في الحبّ. إذا حصرنا استماعنا بكلمات أغاني فرقة بيتلز سنجد طروحاتٍ مفادها أنّ كوننا محبوبين ليس أمرًا سيّئًا، وأنّ الحبَّ لا يمكن شراؤه، وأنّه يستحيل حبّ شخصٍ مدّة ثمانية أيّامٍ في الأسبوع. وتتضمّن الأغنية نفسها ذات السّيناريو البعيد الاحتمال («Eight Days a Week»، 1964) الجملة الآتية: «أرجو أنّك تحتاجين حبّي مثلما أحتاج أنا إليك«. وتشير هذه الجملة إلى أنّ لينون ومكارتني كانا يغنّيان من ورقة التّرنيمة نفسها التي غنّى منها مصدرٌ قديمٌ في الأفكار حول الحياة الشّبقيّة، ألا وهو أفلاطون.
في مائدة أفلاطون «Symposium» تقول الفيلسوفة ديوتيما إنّ إيروس، وهو إله الحبّ عند الإغريق، فقيرٌ ومتطلّبٌ من دون حذاءٍ أو منزلٍ. وتقصد بكلامها أنّ حبّك شخصًا ما يعني دائمًا رغبتك في شيءٍ لا تملكه (ووفقًا لذلك لا تستطيع الآلهة أن تكون فلاسفةً، إذ تعني «الفلسفة» «حبّ الحكمة»، لكنّ الآلهة تملك الحكمة أصلًا).
بحسب هذا الرّأي يكون الحبّ ضربًا من الرّغبة غير المشبعة، واشتهاءً لامتلاك خيرٍ مفقودٍ، -خصوصًا- شخص أو شيء جميل. ويثير هذا الأمر مشكلاتٍ، حتّى لو كان مقبولًا. مثلًا، ألا تستطيع حبّ شخصٍ بعد اكتمال سعيك إليه؟ فلنراجع زواجًا طويلًا وسعيدًا حيث «امتلك» فيه الثّنائيّ بعضهما سنينًا، لكنّ هذا لا يسقط واقع أنّهما لا يزالان يحبّان بعضهما.
هذه الأحجية القائمة بين أفلاطون والبيتلز راجعها فيلسوفٌ يهوديٌّ من القرن السّادس عشر وهو يودا أبرافانيل والمعروف أيضًا باسم ليون أبريو. يبدأ كتابه «محاوراتٌ في الحبّ»، منشور بعد وفاته سنة 1535، بمقابلةٍ ما بين الحبّ الحقيقيّ والرّغبة المحضة. إنّ الرّغبةَ توقٌ إلى ما نفتقر إليه، فيما الحبّ هو موجّهٌ إلى الأشياء التي سبق لنا أن امتلكناها. تكمن مشكلة رغبتنا في خيراتٍ مادّيّةٍ في أنّنا نخسرها حتّى في أثناء الاستفادة منها. إذ لا يدوم استمتاعك بالطّعام، أو الثّراء، وسرعان ما تجده مفقودًا عندك. وفي هذا الإطار يستمدّ أبرافانيل فكرةً أخرى من أفلاطون: لا جدوى في مسعاك خلف اللّذّة المادّيّة؛ لأنّها تتطلّب إشباع رغباتٍ سرعان ما ستراودك عند إشباعها. وتقول شخصيّات محاورة أبرافانيل أنّه بمقابل ذلك يتوجّه «الحبّ النّبيل» إلى الخيرات المستدامة التي لا تستنفد عند الاستعمال، كمثل الفضيلة. لذا الحبُّ هو أعلى شكلٍ من أشكال الرَّغبة، أي «الرّغبة في التّمتّع باتّحاد ما استحصلنا عليه». يمكن أنْ ينشأ حبٌّ بين شخصين إنْ أكرما بعضهما روحيًّا، فالشّهوة الجسديّة هي أدنى أشكال الرّغبة وتشبه الجوع أكثر من الحبّ الحقيقيّ.
ولأنّ أبرافانيل ابن عصر النّهضة سأل كيف يمكن تطبيق هذه الأفكار على الله وعلى علاقتنا به. فالله لا يمكنه أنْ يفتقر إلى شيءٍ، فلا تعتريه رغباتٌ شبيهةٌ برغباتنا في الطّعام، أو المال، أو الجنس. طبعًا يتمتع الله بالكمال، ولكنّه يحبّ ما خلقه، راغبًا في أنْ تكون خليقته أكثر كمالًا وأقرب إلى منزلته المثلى. أمّا نحن فيمكننا محبّة الله، ولكنّنا نعجز عن امتلاكه امتلاكًا تامًّا. ويبدو وقع هذا الكلام سيّئًا، ولكنّه يحمل محاسنَ. فيما نتلمّس طريقنا نحو إدراك الله إدراكًا كاملًا نستطيع تقدير خير الله اللامتناهي، أي ستُشبع رغبتنا فيه تدريجيًّا وجزئيًّا، إذ دائمًا سيُترك مجالٌ أمام التّحسين.
لقد حقّقت محاورات أبرافانيل نجاحًا باهرًا، فأثّرت لاحقًا على مؤلّفي كتبٍ في الحبّ، ومن بينهم الفيلسوفة توليا دارغونا التي صدرت محاورتها في الموضوع نفسه سنة 1547. فقد وضعت الكاتبة نفسها شخصيّةً تجادل صديقها بينديتو فارتشي في الكتاب حيث تعيد دارغونا صياغة تعريف أبرافانيل للحبّ الحقيقيّ. تناقش الشّخصيّتان أنّ فكرة أبرافانيل في موضوعٍ لا متناهٍ للحبّ هي فكرةٌ لا معنى لها؛ لأنّه لا شيءَ لا متناهٍ فعليًّا كما أكّد الفلاسفة منذ العصور القديمة. لكنّهما يتّفقان أنّ الأمرَ مقبولٌ؛ لأنّ اللامتناهية المحتملة هي ممكنةٌ تمامًا. على سيبل المثال، لا يمكنك العدّ وصولًا إلى عددٍ لا متناهٍ، لكنّك تستطيع العدّ من دون التوقّف عند حدٍّ. وهذا ما يبدو عليه الحبّ، وهو ليس محصورًا بمحبّة الله. عندما يحبّ شخصان بعضهما حبًّا حقيقيًّا تكون رغباتهما لا متناهيةً بهذا السّياق، أي لا يمكنهما الاكتفاء من بعضهما حرفيًّا.
يعود الفضل إلى مفكّري هذا العصر، بخاصّةٍ مارسيليو فيتشينو الذي ترجم أعمال أفلاطون كلّها إلى اللاّتينيّة، بحيث نستطيع الكلام عن «الحبّ الأفلاطونيّ». والحقّ أنّ محاورات أفلاطون تتطرّق صراحةً إلى الرّغبة الجنسيّة، إذ لم يتوانَ أفلاطون عن استغلال الشّهوة لأغراضٍ فكاهيّةٍ، كما في تزاحم الرّجال للجلوس قرب شابٍّ جميلٍ على المقعد ما يوقع الجالس في آخره أرضًا. وغالبًا ما تكون الرّغبة الشّبقيّة في محاورات أفلاطون بين الرّجال، أو بالأحرى بين الرّجال والشّبّان. وشكّل هذا الأمر صعوبةً لدى قرّاء النّهضة الذين نبّهوا إلى ما اعتبروه شذوذًا في أخلاقه، ما خلا أولئك القرّاء الذين لم يستسيغوا أفلاطون أساسًا.
عوضًا عن ذلك استرشد الأفلاطونيّون النّهضويّون خطاب ديوتيما في المائدة الذي شجّع على السّعي خلف تصوّرٍ للجمال نفسه تاركًا الرّغبة الجسديّة للأجساد الجميلة. وبناءً على ذلك قدّم هؤلاء الأفلاطونيّون فهمًا لإيروس روحيًّا وخاليًا من الجنسانيّة. ولكنْ كما سبق لنا وأنْ رأينا أنّهم احتفظوا بفكرة أفلاطون أنّ الرّغبة مرتبطةٌ بشعور نقصٍ أو عيبٍ؛ إذ لن يختبر كائنٌ كاملٌ كالله هذا النّوع من الرّغبة، لكنّ الأمر نفسه لا ينطبق على البشر. حتّى لو استطعت امتلاك كلّ ما رغبت فيه فواقعة كونك عبدًا للزّمن وحدها تشير إلى أنّ لديك رغبةً لم تُشبع بعد، وهي احتفاظك بما سبق لك امتلاكه. وعلى حدّ قول أفلاطون: «الحبّ هو الرّغبة في امتلاك الخير أبدًا». وهكذا كما حاولت فرقة البيتلز صياغة الفكرة: كلّ ما تحتاج إليه هو الحبّ.