يدعونا جون بول سارتر في رائعته «الكينونة والعدم» -التي كُتبت خلال الاحتلال النّازيّ لفرنسا- إلى تخيّل مشهدٍ من الحياة اليوميّة: إنّك تدخل المقهى، حيث ستلتقي فيه صديقك بيير، لكنّك تأخّرت عن الموعد. ثم تنظر حولك للبحث عن بيير في المقهى، فتجد أنّه ليس هناك.
ولكن ما تعنيه فكرة أنْ تلحظ شخصًا ليس في مكان ما؟ لا ريب أنّك ترى العديد من الأشياء كالكراسي، والطاولات، والفناجين، والصّحون، والزّبائن، ولكن كلّ ما يمنحك إياه المقهى ليس سوى معطياتٍ حسية إيجابيّةٍ، أي المشاهد، والأصوات، والرّوائح، وما شابه ذلك؛ إذْ لا وجود لفجوة مرئية وملموسة على شكل بيير تطفو في المكان. رغم ذلك، لا يزال غياب بيير يلزم المكان، وهو أمرٌ نلاحظه على الفور؛ حيث تنظر إلى كلّ وجهٍ، وكلّ كرسيٍّ فارغٍ، وستعيدك هذه الأمور كلّها إلى الموضوع الأساسي وهو أن هؤلاء الأشخاص «ليسوا بيير».
لاحظ أنّك لم تستدلّ بأنّ بيير ليس هنا. إذْ إنك لم تحتج إلى القيام بعمليّة تحليلٍ منطقيٍّ واعٍ، بل كل ما قمت به هو أنّك لاحظت أنّ بيير ليس موجودًا في المكان الذي توقّعت أن يكون حاضرًا فيه.
ثمّ تبدأ بممارسة لعبةٍ ما: إنّ بيير ليس هنا، ولا نابوليون أيضًا! لكنّك لم تلحَظْ عدم وجود نابوليون هنا عندما دخلت إلى المقهى. إنّ غياب بيير واقعةٌ حقيقيّةٌ، أمّا غياب نابوليون فليس كذلك.
ما الذي تخبرنا به هذه التّجربة؟ بحسب سارتر إنّ إدراك «الوقائع السّلبيّة» -كالبحث في غرفةٍ مُكتظة، وملاحظة أنّ صديقنا ليس حاضرًا فيها، أو التّحديق في كومةٍ من الحُطام وملاحظة أنّ المدينة قد دُمّرت- يُظهر لنا أنّ الوعي لا تحدّده المعطيات الحسية التي يتلقّاها من العالم الخارجيّ. فنحن لسنا ككاميرا لا تسجّل إلاّ كلّ ما يحدث أمامها، إنّما نستطيع ملاحظة ما ليس موجودًا أمامنا، أو ما ليس موجودًا بعد، أو ما لم يعد موجودًا هناك. ويقول سارتر :إنّ هذا الأمر يُبين أمرًا جوهريًا، ألا وهو أنّ الوعي وحده حرٌّ من بين الأشياء كلّها في الكون.