مقدمة المترجم:
تيودور إيليتش أويزرمان 1914-2017 فيلسوف ومؤرخ للفلسفة، سوفيتي وروسي. عضو في أكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1981، ولاحقًا في الأكاديمية الروسية للعلوم منذ عام 1991، وقد حصل على الدكتوراة في الفلسفة عام 1951، وعلى درجة الأستاذية عام 1953، فيما حصل على جائزة الدولة للاتحاد السوفييتي عام 1983، وعُدَّ في أيّامه الأخيرة أكبر خبير روسي في فلسفة كانط.
يتناول أويزرمان «ماهية الفلسفة» في هذا التقرير الذي قدّمه ضمن سلسلة التقارير التي كانت تُقدَّم وتُناقش في اجتماعات المجلس الأكاديمي لمعهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وقد انطلقت هذه الجلسات عام 2006.
وتضمَّنت ترجمتنا هذه التقرير بالإضافة إلى مداخلات الأكاديميين الآخرين المشاركين في تلك الجلسات، والذين قاموا بمناقشة الأفكار التي يطرحها أويزرمان، وجميعهم من حمَلة درجة الدكتوراة المخضرمين في الفلسفة، وفي علوم إنسانية أخرى؛ إذْ كانوا يعملون حينها في الجامعات أو في البحث العِلمي.
– تقرير تيودور إيليتش أويزرمان
أعتقد أنَّكم جميعًا ستوافقونني على أنّ السؤال عن ماهية الفلسفة سيبدو لمَن لَم يتدرب في الفلسفة سؤالًا أوليًّا، سؤالًا تم الحصول عليه من كتيب شائع أو كتاب مدرسيّ، وهذا الشخص الذي ليس لديه خبرة في الفلسفة سيهز كتفيه عندما يرى أنّ أكثر الفلاسفة شهرة على مستوى العالم -مثل هايدجر- يكتبون كتبًا تُدعى: «ما هي الفلسفة؟»، وحين ينشر أورتيجا إي غاسيت كتاب «ما هي الفلسفة؟» ثم ينشر ما بعد الـحداثيين مثل جيل دولوز وفيليكس جواتاري أيضًا كتاب «ما هي الفلسفة؟»، ويمكنني أن أسرد العديد من المؤلفين الآخرين المعروفين كفلاسفة والمشهورين بكتابتهم عن «ما هي الفلسفة؟»؛ لذا، ثمّة مشكلة هنا، وكما قال إريك يودين، أحد الفلاسفة الموهوبين الذين ماتوا مبكرًا، إنّ الفلسفة هي مَشَكلة المعروف، أيّ عندما يصبح المعروف مشكلة، وفي زمانه، حتى هيجل قال إنّ المعلوم لا يعني بعد المعلوم، وقد لاحظ ديكارت أنّه لا يستطيع إثبات كيفية اختلاف اليقظة عن النوم بأيّ شكلٍ من الأشكال، ومع أنّ الحقيقة بدَت واضحة، إلا أنّ ديكارت كان بحاجة إلى دليل، أمّا البراغماتي الأمريكي، فرديناند شيلر، الذي كرّس له الراحل ميتروخين أطروحته للدكتوراة، فقد قام بهذا الصدد، بألعوبة فكرية: «إذا كان الملك ينام 12 ساعة في اليوم ويرى نفسه متسولًا في المنام، وينام المتسوّل 12 ساعة في اليوم ويرى نفسه في المنام ملِكًا، فلا فرق بينهما».
لذا فإنّ سؤال «ما هي الفلسفة؟» هو بالفعل سؤال معذّب للفلاسفة، وكما قال فيخته، لا يكاد يوجد نصف دزينة من الأشخاص يعرفون ما هي الفلسفة. سيقول عالِم الرياضيات: ما أفعله كمتخصِّص هو الرياضيات، وسيقول الفيلسوف أيضًا: ما أفعله كمتخصِّص هو الفلسفة. لكن جميع الفلاسفة، وحتى الأشخاص الذين يعرفون القليل عن الفلسفة، يميّزون بسهولة بين النصوص الفلسفية والنصوص غير الفلسفية، وسيقولون دائمًا إنّ «فلسفة عِلم الحيوان» للامارك ليست فلسفة، على الرغم من وجود بعض الأفكار الجديرة بشخص فيلسوف هناك؛ وهذا يعني أنّ الفلاسفة الذين لا يتفقون مع بعضهم بعضًا في أيّ شيء، يتفقون مع ذلك على شيء واحد، وهو أنّ الفلسفة يُمكن دائمًا تمييزها عن غيرها.
لماذا أصبحت الفلسفة مشكلة؟ جون ديوي، الذي يبدو أنّه لَم يقم بدراسة الفلسفة كفلسفة، مع ذلك اعترف في محاضرته الأخيرة: «في الوقت الحاضر، السؤال الأهمّ في الفلسفة هو ما هي الفلسفة بحدّ ذاتها، وما هي طبيعتها؟ وما هي وظائف الأعمال الفلسفية؟»، وبالنسبة لهذا المفكر البراغماتي، فإنّ مثل هذه الصياغة للسؤال تثير الدهشة إلى حدّ ما.
النقطة المهمة هي أنّ أرسطو، على سبيل المثال، يقدّم تعريفه الخاصّ للفلسفة، لكن هذا، في جوهره، تعريف فلسفة أرسطو، وهايدجر بدوره يقدّم تعريفه الخاصّ للفلسفة، ولكن هذا ينطبق فقط على فلسفته، وليس من الصعب، بالطبع، وصف فلسفته بجانب فلسفة شيلينج، وسارتر، إذا أخذنا كلّ واحد منهم على حدة، ولكن كيف يُمكن وصف الفلسفة بشكل عام، بالنظر إلى حجم الاختلافات بين المفكرين؟ وهل يعني هذا أننا بحاجة إلى تجريد أنفسنا من كل ما يميّز هايدجر عن توماس الأكويني، أو جون ديوي عن جان بول سارتر؟ ولكن بعد ذلك ما الذي يبقى؟ الذي يبقى عندها هو مفهوم تجريدي معيّن للفلسفة، لا يقدم شيئًا لأيّ أحد.
هذا هو السبب في أنّ السؤال عن «ما هي الفلسفة؟»، لا يبدو للفيلسوف سؤالاً حول معنى الفلسفة فحسب، ولكنه -إذا أردتم- حول معنى الحياة نفسها، وفي الواقع، هذه هي الطريقة التي يعرّف بها هايدجر الفلسفة، وزملاؤنا، بالطبع، يفكرون أيضًا في ماهية الفلسفة، فيكتب رئيس المجلس المحترم الأكاديمي غصينوف مقالة «الغرض من الفلسفة»، مقترحًا أن من الأفضل التحدث عن «الغرض من الفلسفة» بدلاً من التحدث حول «ما هي الفلسفة؟»؛ إذ سيحد ذلك من درجة اللغط.
يعرّف الأكاديمي ستيوبين، في عمله «المعرفة النظرية» -المعروف ليس فحسب في بلدنا، لكن أيضًا في البلدان الناطقة بالإنجليزية- الفلسفة على أنَّها الوعيّ الذاتي للثقافات. هذا تعريف مثير للاهتمام، لكن عندها، بالطبع، تثار مسألة تنوع الثقافة؛ حيث يحصي بعض الباحثين حوالي مائتيّ تعريف للثقافات، ألا يعني ذلك إمكانية أن يكون هناك عدد مماثل من الفلسفات المختلفة؟ من ناحية أخرى، هناك فلسفة الثقافة كمجال خاصّ للبحث، وعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار «موسوعة العلوم الفلسفية» لهيجل بلا شك نوعًا من الوعي الذاتي للثقافة، بينما يقول خوسيه أورتيغا إي غاسيت إنّ الموضوع الوحيد للفلسفة هو الكون، بكل معنى الكلمة، ليس الكون الفيزيائي فحسب، ولكن أيضًا الكون الروحي، أيّ ما هو أكثر من الكون الفيزيائي، ومن الحياة. وبالطبع، هناك العديد من التعريفات الأخرى، فيما يقول الوضعيون الجدد وفتجنشتاين إنّ الفلسفة ما هي إلا محاولة لتوضيح العقل الذي يحجبه استخدام المصطلحات العِلمية، وهذا هو الخيَار الأول، أمّا الخيَار الثاني فهو المطالبة بتحرير العقل، الذي يحجبه استخدام مصطلحات الوعيّ العادي.
بدوري ماذا يُمكنني أن أستنتج؟ اسمحوا لي أن أقتبس -ممّا أكتبه في كتاب «الفلسفة كتاريخ للفلسفة»-، ما يلي: «الفلسفة، على عكس أي علم، مهما كان مستوى تطورها التاريخي، توجد كمجموعة غير محددة من المذاهب الفلسفية التي تعارض بعضها بعضًا، وينفي كلّ منها الآخر، وفي نفس الوقت يكمل كلّ منها الآخر، هذه هي الطريقة الأساسية للفلسفة، كما كانت بالفعل في القرن الأول من وجودها التاريخي، وبقيت كذلك في عصرنا، وليس هناك من سبب للاعتقاد بأنّ الفلسفة في فترة ما في المستقبل ستفقد تنوّعها، الذي يشكّل ميزتها، كشكل معيّن من أشكال المعرفة؛ لذا من الوهم الاعتقاد بأنّ التعددية الفلسفية موجودة فقط حتى يتم إنشاء ذلك النظام الذي يحلّ الأسئلة التي لم يتم حلّها بعد. إنّ هذه التعددية موجودة لأن الفلسفة موجودة وستظلّ موجودة ما دامت الفلسفة موجودة».
ويقول الأكاديمي غصينوف في مقالته «الغرض من الفلسفة»، إنّ فكرة التعددية الأساسية للفلسفة لها أهمية أساسية، وأنا أعترف أنني توصلت إلى هذا الاستنتاج منذ وقت ليس ببعيد، منذ حوالي عشر سنوات، أمّا قبل حوالي عشرين عامًا، فقد كتبتُ في مجموعةٍ نُشرت في سويسرا، أنّ تعددية المذاهب الفلسفية هي ظاهرة تاريخية عابرة، وربما في ذلك الوقت كنتُ مقتنعًا بأنّ المادية الديالكتيكية يجب أن تكمل تاريخ الفلسفة، وحتى هيجل قال أيضًا، إنّ التاريخ ليس له بدايته فحسب، بل له نهايته أيضًا، ولكن الحمد لله أنني تمكّنتُ من تصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبته.
ما الجيّد في تعدد وجوه الفلسفة؟ ما الجيّد في أن توجد فلسفات مختلفة؟ لقد قال سبينوزا: «إنّ فلسفتي قد لا تكون الأفضل، لكنّها صحيحة»، وقد كان هذا هو وهم سبينوزا العقائدي، وأيّ فيلسوف يبني نظامه الخاصّ هو أيضًا لا يخلو من هذا الوهم، وقد تمّ تدمير هذه الأوهام بواسطة أنظمة أخرى، وهكذا يتم إثراء محيط التفكير الفلسفي، ومن ثمّ تنشأ مشاكل جديدة، وأفكار ومفاهيم جديدة، وما بعد الحداثيين مثل دريدا أو ليوتار، والأشخاص المستعدون للإنكار، على غرار نيتشه، وهايدجر جزئيًا، يثرون أيضًا مفهوم الفلسفة بنفيهم؛ فكلّ نفي ماهر للفلسفة هو أيضًا فلسفة، وفي كثير من الأحيان، تصرّفت الفلسفة ليس فقط كنقد لفلسفة أخرى، ولكن أيضًا باعتبارها نفيًا للفلسفة بشكل عام؛ فتذكّروا قول فيورباخ: «فلسفتي ليست فلسفة»، ولكن مَن الذي يفكر في عدم اعتبار فيورباخ فيلسوفًا؟ وقد اعتقد ماركس وإنجلز أيضًا أنّ فلسفتهما ليست فلسفة.
إذن، تعددية التعاليم الفلسفية هي الثراء الحقيقي للفلسفة، وكلّما كانت الفلسفة تعددية؛ أصبحت أكثر ثراءً؛ لذا فلنكن تعدديين.
– فاديم ميخايلوفيتش ميجوييف
بالطبع، يجب الاعتراف بأن الجدال حول عدم وجود فلسفة واحدة للجميع لا جدوى منه؛ إذ الفلسفة الواحدة، أو نوع واحد من الفلسفة الإنسانية، هما غير موجودين، ومع ذلك، التفكير في التعددية واعتبار أنّ هناك تعريفًا ما للفلسفة في هذا الأمر، يبدو لي غير كافٍ؛ لأنّ الفن بدوره جمعيّ، ألا يوجد الفن كمجموعة متنوعة من الأنواع والأصناف والاتجاهات والأساليب؟ إنّي لا أرى أيّ اختلاف جوهري هنا.
أود العودة إلى تعريف ف. س. ستيوبين، إنّه قريب مني أيضًا، وسأقول باختصار، مهما كان تعريفنا للفلسفة، هناك شيء واحد مهم: الفلسفة جزء من الثقافة. قد لا نتفق بعد على كيفية تعريف الفلسفة؛ لأنّ الفلسفة ليست جزءًا من كلّ ثقافة، ولا أؤمن بوجود الفلسفة في كل ثقافة -بالنسبة لي- ففي النهاية، الفلسفة هي اختراع الهيلينين، وهي جزء من الثقافة الأوروبية إلى جانب بعض الأشياء الأخرى، ومن المهم جدًا أن نفهم لماذا وجدت أوروبا نفسها مجبرة على الاعتراف بنفسها ليس من خلال الدين فحسب، كما هو المعتاد في جميع الثقافات ما قبل الأوروبية وغير الأوروبية؛ إذ ذات مرّة، عرّفت روسيا نفسها أيضًا من خلال الأرثوذكسية، والصين من خلال الكونفوشيوسية، وما إلى ذلك؛ فلماذا يحتاج الأوروبي -وليس أيّ أوروبي، ولكن المتعلِّمون، بالطبع- إلى تعريف نفسه ليس بالإشارة إلى الآلهة، ولكن بالإشارة إلى الأفكار؟ لن أناقش هذه المسألة، بالتفصيل ولكن السبب شيء واحد: أوروبا قد اكتشفت الحريّة؛ لذا الفلسفة ليست مجرد وعي ذاتي للثقافة، ولكن الفلسفة وعيّ الذات لدى الشخص الذي أدرك نفسه حُرًّا، وهذا هو الوعيّ الذاتي للإنسان الحُرّ، وبهذا المعنى، بالنسبة لي، يتمّ وضع الفلسفة، كما كانت، في المنطقة الواقعة بين الدين والعلم، ويمكن سحبها في اتجاه أو آخر؛ لذا توجد فلسفة علمية وهناك فلسفة دينية، وإذا كان هذا، من الناحية المجازية، إلزاميًا في تكوين الثقافة الأوروبية، فالتخلّص من أحد هذه العناصر يعني التخلّص من الثقافة الأوروبية.
لنقل إذن إنّ الدين في الثقافة الأوروبية مسؤول عن حقيقة أنّ الشخص يجب أن يكون طيبًا وأخلاقيًا، والعلم مسؤول عن مسألة أنّه يجب أن يكون قويًا، ومسلحًا بالتكنولوجيا والمعرفة، والفلسفة مسؤولة عن ضمان أنه حُرّ، وهي نظرة إلى عالم الإنسان الحُرّ؛ باعتبارها المؤسَّسة الوحيدة المعروفة لي في مجال الثقافة التي تحمي حُريّة الإنسان، كما فهمها كانط. وعندما تكون الحريّة في حالة سيئة، وعندما تغادر إلى مكانٍ ما، حينها تبدأ أزمة المعرفة الفلسفية.
– فلاديسلاف ألكساندروفيتش ليكتورسكي
سأقول بضع كلمات، لأنّ الموضوع يمكنك مناقشته لساعات. كان التقرير ممتعًا للغاية، وأنا أتفق في كثير من النواحي مع ما قاله تيودور إيليتش، ولكن أريد فقط أن أُبدي ملاحظتين أو ثلاث ملاحظات صغيرة.
أولاً: الفلسفة مستحيلة بدون تاريخ الفلسفة، وهناك موقف (وهو غير موجود لدى تيودور إيليتش، برأيي، ولكنه عبّر عن نفسه أكثر من مرّة) في أنّ الفلسفة هي فهم تاريخ الفلسفة. أنا لا أتفق مع هذا الموقف، لأنّه -وتخيّلوا ذلك- إذا تمسك جميع الفلاسفة بمثل هذا الموقف، فلن يوجد تاريخ للفلسفة؛ لذا مثل هذا الموقف يدحض نفسه. إنّ كل فيلسوف يحاول حلّ مشكلة ما، وبالنسبة لي، الفلسفة هي الحل لنوع معيّن من المشاكل.
عن أيّ مشاكل يدور الحديث؟ هذا هو الشيء الأصعب، لأن في الواقع، وقد وضح تيودور إيليتش ذلك تمامًا، كل فيلسوف يفهم الفلسفة بطريقته الخاصّة ويصوغ مشكلة جديدة، وبالطبع، أي مفهوم ومشكلة فلسفية كبيرة تتم صياغتها بشكل مختلف نوعًا ما، والأهم من ذلك، أنها تأخذ طرقها الخاصة في الحلّ، وهذا هو معنى مناقشة مشكلة «ما هي الفلسفة؟».
ومع ذلك، يمكن تحديد العديد من المشكلات الثابتة في كامل تاريخ الفلسفة الغربية، وهذه ليست فقط مشكلة الحريّة التي تحدث عنها فاديم ميخايلوفيتش، هذه المشكلة بالفعل متناقضة؛ لأنّ الحريّة مرتبطة بالضرورة، ويمكن للمرء أن يتحدث كثيرًا عن هذا الموضوع، وبشكل عام.
المشاكل الأساسية هي: ما الواقع؟ ما الوجود؟ ما الذات؟ وما «الأنا»؟، وكلّ هذه مشاكل متناقضة لا يمكن حلّها بشكل لا لَبس فيه بمساعدة منهج علمي بحت، وقد صاغها الفلاسفة بطرق مختلفة، ولم يحاول كل فيلسوف كبير الإجابة على ماهية الفلسفة فحسب، بل حاول حل هذه المشكلات بطريقته الخاصّة، بل وخَلق رؤية جديدة تمامًا للعالَم أيضًا.
ثانيًا: عندما يطرح الفلاسفة سؤال: «ما هي الفلسفة؟»، فإنّهم جوهريًا يناقشون ليس فحسب مسألة الفلسفة، كما قال تيودور إيليتش، بل سؤال «ما هي الثقافة؟»، و«ما هو الإنسان؟»، وفي كل مرّة، مع تغيّر الثقافة نفسها، وتغيّر الإنسان، سيتم إعادة إنتاج هذا السؤال باستمرار ودائمًا.
ثالثًا: تخص هذه الملاحظة تعددية المفاهيم الفلسفية، هذه حقيقة، وربما ستكون كذلك دائمًا، لكن -كما ترون- مِن المهم للغاية التعرّف على هذه الحقيقة، وتوضيحها، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ كل فيلسوف يحاول حلّ المشكلات وتبرير حلّه للمشكلة لا يمكنه إلّا أن ينطلق من رؤيته الخاصّة، والموقف القائل إنّ الجميع على حقٍّ، وكل هذا كان وسيظل كما كان، لا يمكن أن يكون موقف الفيلسوف؛ لذا، إذا اعترفتُ بأن هناك وجهة نظر مختلفة، فعندئذ، مثل كل فيلسوف، أجادل معها، وأحاول دحضها، لإثبات أن فهمي هو الأفضل، وسيظلّ الأمر كذلك دائمًا، وسيعتقد كل فيلسوف أنّ الجميع على حقّ، لكنه على حقٍّ أكثر من أي شخص آخر، وإلاّ فإنه لن يكون فيلسوفًا، وهذا مهم جدًا. وهناك شيء آخر مرتبط بهذا: فعلى الرغم من أنّ في النهاية، يتم إعادة إنتاج نفس الحلول بشكلٍ أساسي، إلا أنها ففي كل مرّة يتم إعادة إنتاجها على مستوى جديد، لذا، بالنسبة لي، وربما تكون كلمة «تقدّم» فيما يتعلق في هذا السياق قوية جدًا، ولكن -برأيي- هناك حركة موجودة للفكر الفلسفي، وبرأيي هذه الأشياء مهمة للغاية، وهي لا تدحض ما قاله ثيودور إيليتش، ولكن ربما يمكن اعتبارها إضافة له. وبعد كل شيء، الفلسفة -وأنا أتفق هنا مع تيودور إيليتش،وفاديم ميخائيلوفيتش- هي طريقة مهمة لنقد الثقافة، وطريقة لخَلق الثقافة، هي ليست مجرد انعكاس فوقي للثقافة؛ بل إنها، في نفس الوقت، طريقة لإعادة تفسير الثقافة.
وبعد، أودّ بشكل عام، أن أشكر المتحدث مرّة أخرى على إظهاره بشكلٍ فعليّ أنّ مثل هذه المشكلات المهمة ليست فحسب للفيلسوف، ولكن -برأيي- لكل من يفكر في مصيريّ الثقافة والإنسان، اللَذين ناقشناهما وسنناقشهما بشكلٍ دائم.
– مارييتا تيغرانوفنا ستيبانيانتس
أودّ أن أشكر تيودور إيليتش والمجلس الأكاديمي على طرح هذه المشكلة، التي لا تقتصر فحسب علينا نحن المهتمين بالفلسفة، ولكن أعتقد أنها مهمة بشكل خاص لأولئك المهتمين بالتقاليد الفلسفية غير الغربية، لأننا نحتاج أنّ نقرِّر وأنّ نُثبت لأنفسنا، أنّ الفلسفة لا تزال موجودة في هذه التقاليد والثقافات؛ لذا من المهم جدًا طرح السؤال حول ماهية الفلسفة وما إذا كانت موجودة في الشرق.
بالطبع، لا يمكنني أن أتفق مع وجهة نظر فاديم ميجوييف القائلة بأن الهيلينيين فقط هم القادرون على التفلسف، وإذا ما تذكرنا أصل الكلمة، فالفلسفة هي حبّ الحكمة (وبطريقة ما مازلت أحبّ هذا التعريف)، وهكذا فالشخص الحكيم هو الأفضل من غيره للإجابة على الأسئلة التي يواجهها الناس العاديون من حوله، مع المشاكل الوجودية، ومشاكل الحياة، ومشاكل معنى الحياة، وهذا ما ترتبط به مكانة الإنسان في الكون، ما يعني نشوء السؤال الذي يطرح نفسه حول ماهية الكون، وما إلى ذلك وما يشبه ذلك، ولذا أفكر في أنّه لا ينبغي لأحد أن يرفض ما هو متأصل في أصل كلمة «فلسفة»؛ فهو في الحقيقة حُبّ الحكمة.
والآن حول التوجّه إلى الآلهة، فإن قيل إنّ الثقافات التي تنتمي إلى الشرق ليس لديها فلسفة، فأعتقد أنّ الثقافات الشرقية، مثل الحضارات الهندية والصينية، لا تندرج تحت هذا التعريف على الإطلاق؛ لأنّ في الصين، يمكن القول إنّه لم يكن هناك آلهة على الإطلاق، إذ لم يكن هناك سوى السماء. أمّا إذا تحدثنا عن الهند، فهم أيضًا لم يلجأوا إلى الآلهة عند حل المشاكل الوجودية، في حين توجّهوا إلى التقاليد، ربما إلى تلك التي ارتبطت بالحكماء؛ وربما بهذا المعنى يمكن للمرء أن يلوم الشرق على عدم كونه حُرًّا.
لكن من ناحية أخرى، فإنّ ف.أ.ليكتورسكي يتحدث عن أهمية تاريخ الفلسفة، لكن هذا أيضًا تقليد تم تناقله، لذا دعونا نكون أكثر حذرًا في مثل هذه البيانات الصنفية، وإذا تحدثنا عن التعريف، فأنا لست مقتنعة تمامًا بأنّ الشيء الرئيس في الفلسفة هو التعددية، التعددية المرتبطة بماذا؟ وحول أيّ موضوع؟ وبأيّة طريقة؟ إلخ. ويبدو لي أنه ربما يجدر بنا أن نتذكر في هذا الصدد كلمات فيخته حول إشكالية المجهول، الذي يبحث عنه الإنسان باستمرار، وحول التفكير المستمر، والبحث المستمر عن إجابات للأسئلة الوجودية.
-إريخ يورييفتش سولوفيوف
إنّ الموضوع الوارد في تقرير تيودور إيليتش «فلسفة الفلسفة» أو فلسفة الفلسفة نفسها، هو موضوع للحكماء، ومن بيننا جميعًا -يبدو لي- أنّ تيودور إيليتش فقط لديه كل الحقّ في المطالبة بمثل هذا الموضوع؛ إذ لا يتطلّب معارف كبيرة فحسب، ولكن بشكلٍ عام، تجربة حياة معقدة للغاية وطويلة، ولا اعتبر استنتاجه بأنّ تجربة الفلسفة هي تجربة التعددية، أطروحة مثبتة، بل توكيدًا مُختبرًا ومحسوسًا بعمق.
بدأ تيودور إيليتش ببيان أدلَى به إ. غ. يودين، وهو أنّ «الفلسفة هي إشكالية المعروف»، وربط هذا البيان بعبارة هيجل: «ليس كل شيء معروف معروفًا»، لذا، بضمّ هاتين العبارتين، سأجرؤ على قول هذا: الفلسفة هي إشكالية المعلوم، والتأثير الرئيس للفلسفة -في رأيي- لم يعد المعرفة على الإطلاق. لقد تعلّمنا مؤخرًا والحمد لله، أنّ نفكر بهذه الطريقة، وأن نتعامل مع هذا بهدوء أكثر، وأن نقبل بأنّ الفلسفة ليست عِلمًا، لكن -برأيي- بالمعنى الدقيق للكلمة، الفلسفة ليست معرفة على الإطلاق؛ لهذا السبب، أحب مجموعة الأفكار التي قدّمها لنا ياسبرز كمعتقد فلسفي، وأعتقد أنّ مفهوم الإيمان الفلسفي أكثر دقة، وأكثر كفاءة من تعبير «المعرفة الفلسفية»، وفي هذا الصدد أودّ أن أعلّق على خطاب فاديم ميخائيلوفيتش، الذي يضع الفلسفة بين العِلم والدين، بالنظر إليها في بُنية الثقافة.
لا أحب حقًا كلمة «بين»، لكنني أوافق على أنّ الجهد الرئيس للفلسفة هو موقف ثابت تجاه هذين المجالين الثقافيين: العلم من ناحية والدين من ناحية أخرى، ويبدو لي أنّ ما يحاول تيودور إيليتش التأكيد عليه في تقريره مهم للغاية فيما يتعلّق بمشكلة علاقة الفلسفة بالدين. الدين هو نوع من الإيمان لا يمكن أن يكون تعدديًّا ويسعى بالضرورة إلى وحدة الاعتقاد، وفي العلاقة معه -وفقًا لخطاب فاديم ميخائيلوفيتش- تعمل الفلسفة كوصيّ وحامل للتعددية، أو الحريّة، ويبدو لي أنّ هذا الموضوع أصبح متوترًا بشكل خاصّ في العالم الحديث؛ حيث تعدّ التعددية المعتقدية والتعددية الطائفية أمرًا شديد الحساسية، وبشكل عام، مشكلة سياسية بالفعل.
– فالينتينا غافريلوفنا فيدوتوفا
أود أن أقول إنني و م. ت. ستيبانيانتس كنّا ذات مرّة معًا في «حوار الثقافات» في المنتدى العالمي، حيث تحدث فيزيائيّ -يدير أحد معاهد ماكس بلانك، وهو تلميذ سابق لهايزنبرغ- بخطاب رائع للغاية -برأيي- وقد قال فيه، إنّه ينطلق من موقع راسل-أينشتاين، في البيان الشهير: «اسعوا لتعلّم التفكير بشكلٍ مختلف». وذكر أنّهم حينها كانوا خائفين من الأسلحة الذريّة، ومن الحرب، واليوم هو خائف من كارثة بيئية، ومن التضييق الاقتصادي لأفق الحياة.
ويربط هذا بحقيقة أنّ الصورة المادية الميكانيكية للعالَم قد تغيّرت، وجوهرها أنّ الواقع كمعيّن، يبدو وكأنه معيّن، كما يقول عن نفسه إنّه يعمل على المعدن، حيث لا يوجد شيء أكثر متانة وتعيينًا، ولكن عندما يعمل مع هذا المعدن ويرى أنّه حقيقة معينة، فأثناء قيامه بتحويل هذا المعدن، فإنّه يتوقف عن فهم ماهية المعدن، وما هو واقع المعدن. ويبدو لي أنّه يتفاعل، بنفس الطريقة، مع حالة التغيّرات الثقافية، ومع حقيقة وجوب أن نتعلّم جميعًا كيف نفكر بشكل مختلف؛ لأنّ الواقع في كل مرّة يتحول إلى جوانب وخصائص مختلفة تمامًا، واليوم لا تسمح لنا التغيرات السريعة في فهمه كشيء.
ذات مرّة، على الأرجح، ابتهج الناس، بعد أن تلقوا تلك الصورة المادية الميكانيكية، وابتهج آدم سميث، معتمدًا على نيوتن، وما إلى ذلك، ولكن اليوم -كما أعتقد- يحدثنا تيودور إيليتش، في الوقت الذي يؤكد فيه على تعددية الفلسفة، كيف نتعلّم التفكير بشكلٍ مختلف، وفي كل مرّة بشكل مختلف عندما تظهر أمامنا مسائل جديدة.
– إدوارد فلاديميروفيتش غيروسوف
أكثر ما يُمكن أن يثيره الفلاسفة هو السؤال عن ماهية الفلسفة، وبالطبع، صياغة السؤال ذاتها، كما وردت في تقرير تيودور إيليتش، تساهم بشكلٍ أكبر في رغبة الجدل حول الفلسفة، لكن وكما تعلمون، ليس الفلاسفة وحدهم قد وضعوا معانٍ مختلفة جدًا لكلمة «فلسفة»، حيث يمكن -مرة أخرى وبقوة شديدة- إثارة حتى الأشخاص الذين ليس لديهم علاقة حرفية بالفلسفة؛ لأنّ هذا في الواقع سؤال أبديّ، وسؤال ليس له حلّ نهائي، باعتباره سؤالًا حول معنى الوجود، وحول معنى كل شيء، أو ما سيوجد، وما إلى ذلك، وهذا المعنى له دائمًا مسحة من الذاتية.
صحيح، أنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل يبقى العلم كليًا بمعزل عن مشكلة المعنى؟ لا، إنّه يساهم في حل هذه المشكلة أيضًا، لكن بطريقته الخاصّة؛ بالبحث عن المعنى الفيزيائيّ والمعنى الكيميائيّ وما إلى ذلك، أي على نطاق أضيق بكثير، وهنا، بالطبع، من المهم جدًا عدم إغفال ميزة أخرى للفلسفة، وهي أنها تبحث عن المعنى على أسس عامة للغاية، فماذا يعني ذلك؟ هذا يعني: أن نضع هذه الظاهرة التي نسعى إلى فهمها أو تلك في اتصال مع الفضاء، ومع الأزمنة، وبشكلٍ عام مع معاني الظواهر الأخرى، إلخ. وهذه هي فعليًا مهمة وأهمية الفلسفة العظيمتين.
جميل ما قاله فاديم ميخايلوفيتش عن إنّ الفلسفة هي وعيّ الحريّة، ولكن وعيّ عدم الحريّة هو أيضًا فلسفة؛ ولذا أعتقد أنّه لا يجوز إنكار بقاء الفلسفة، وليست الفلسفة الهيلينية فحسب، بل الفلسفة الشرقية، والفلسفة الشمالية والجنوبية، وهلُمّ جَرَّا.
– عبدالسلام عبدالكريموفيتش غصينوف
اسمحوا لي أيضًا أن أضيف بضع كلمات في سياق المناقشة، إذ أكدّت مناقشة اليوم فكرة تيودور إيليتش الرئيسة حول التعددية باعتبارها سِمة محددة للفلسفة: لقد تحدث الجميع عن مسألة موضوع الفلسفة! ومن الواضح أنّ للفلسفة العديد من السِّمات المحددة، ولكن مع ذلك، فإنّ التركيز على ميزة الفلسفة هذه بشكل خاص وأساسي أمر مهم للغاية، وعلاوة على ذلك، يبدو لي أنها خاصّة بالفلسفة أكثر من المجالات الثقافية الأخرى منها حتى الفن، وبالطبع، من المعروف أنّ الفن القديم يحتفظ بأهميته حتى الوقت الحاضر، لكن مع ذلك يمكننا أن نوافق على أنّه في عالم الثقافة الفنية في الوقت الحاضر إسخيلوس وسوفوكليس على سبيل المثال، لا يحتلّان المكان الذي يحتلّه أرسطو وأفلاطون في عالمنا الفلسفي، أي أننا نتحدث عن نوعية مختلفة جوهريًا للفلسفة، وبعد كل ذلك، تكمن المشكلة في أنّ الفكر النظري اليوم لا يمكنه أن يتوجه إلى العصور القديمة، رغم أنه يجد بالفعل بعض مصادره هناك، لكن في نفس الوقت، أودّ أن ألفت الانتباه وأؤيد فلاديسلاف ألكساندروفيتش في حقيقة أنّ تعددية الفلسفة لا تعني على الإطلاق أنّ الفلسفة خالية من تجربة الحقيقة، وأودّ أن أؤكد أكثر، أنّ تعددية الفلسفة تجد مكملاً لها في سعي كل من الأنظمة الفلسفية ليس فحسب من أجل الحقيقة، ولكن -إنْ صح القول- من أجل الحقيقة المطلَقة، وهذه هي خصوصية النظم الفلسفية، بالطبع، لَم يخلق الجميع أنظمة مثل أفلوطين وهيجل، التي، بدا وكأنها، أجابت على جميع الأسئلة، لكن حتى أولئك الفلاسفة الذين لم يفعلوا ذلك، قد انطلقوا من حيث المبدأ، من حقيقة أنّهم يقدمون الصورة الصحيحة الوحيدة للعالَم.
الفهم الصحيح الوحيد للمشكلات التي يتعاملون معها، بهذا المعنى لا يتركون مجالًا لفلسفاتٍ أخرى، أي لا توجد مثل هذه الفلسفات التي من شأنها أن ترى تبريرها في حقيقة أنها تتعامل مع هذه المشكلة الجزئية، فيما يتعامل غيرها مع جزئية أخرى، ويتعامل آخرون مع جزئية ثالثة، وحتى أولئك الذين ينتقدون الفلسفة، من هذا المنطلق، يتخذون موقفًا مشكِكًا، يعرضون مع ذلك موقفهم الخاصّ -برفض الدوغمائية الفلسفية-كما لو أنّه الموقف الوحيد الصحيح، ويبدو لي أنّ من المهم جدًا إدراك هذا الأمر والعلاقة بين هذين التعريفين للفلسفة: فمن ناحية، هي تعتبر تعددية بشكلٍ أساسيّ، لكنّها يمكن أن تكون تعددية بشكل أساسيّ فحسب بقدر ما تدّعي ضمن الكتلة التعددية أنها صحيحة في مظهرها الواحد، ولكن في مطلَق التعبير الأكثر كمالاً، وشكرًا لكم.
– ت. إ. أويزرمان (ردا على عبدالسلام غصينوف)
تعقيبًا على حديثكم، أودّ أن أقول إنّ ما تقولونه صحيح تمامًا بالنسبة للأنظمة الفلسفية الكلاسيكية، أمّا بالنسبة لما بعد الحداثة الحديثة -خذوا باتاي، وليوتار، ودريدا، ودولوز- فجميعهم من أنصار اللاّمنظومية أيّ إنّهم يركزون على إنكار أي ادعاء بالحقيقة الكاملة والحقيقة المطلَقة؛ وبهذا المعنى، فهم يتبعون نيتشه، وما قلتموه يميّز، بالطبع، التاريخ الكامل للفلسفة الكلاسيكية، وبما في ذلك الماركسية.