لطالما كان للشباب مثالياته، وللشيخوخة تأمّلاتها وشيء من الذنب على سوء التصرف في الماضي. أنا شيخ في الرابعة والسبعين من عمري، وأحد أفراد الفئة الأكثر عرضةً لخطر الإصابة بكوفيد-19 في هذه الجائحة الراهنة، أجد نفسي متحيّرًا أحيانًا في أمري وأنا أتلقّى رسائل متناقضة من الإعلام. أيجب أن أبقى في المنزل عازلًا نفسي؟ وإن فعلت، فكيف أزجّي وقتي؟
بدأت بزيارة ملفي الشخصي على موقع لينكد إن، وهي منصة إلكترونية لبناء الشبكات المهنية. انضممت إلى المنصة قبل نحو تسع سنوات، عندما كنت على مشارف نهاية مسيرتي الأكاديمية، وكنت أنشر فيها منشورات جادّة ونيتي الترويج لعبقريتي، متخيلاً أن لا أحد في قطاع التعليم يستطيع الاستغناء عن إمكاناتي الفريدة. شرعت الآن في تحديث ملفي الشخصي، فإذا بي أدهش بمدى تغيّر إدراكي للحياة على مرِّ هذه السنوات.
أعقبت ذلك بإعادة مشاهدة فيلم كنت أهواه كثيرًا عندما كنت في السادسة عشرة، التحفة السينمائية “الختم السابع” لإنغمار بيرغمان الذي صدر عام 1957م، وهو ليس فيلمًا عن الإجراءات البيروقراطية كما يوحي عنوانه، بل فيلمًا مستلهمًا من سفر رؤيا يوحنا، حيث يبرز في الفيلم الموت والطاعون والمجاعة من بين فرسان الرؤيا. لطالما أسرتني تلك المشاهد المصوّرة بالأبيض والأسود. كانت رهانات لعبة شطرنج التي تُلعَب طوال أحداث الفيلم بين شخصية الموت والفارس العائد من الحملات الصليبية لا تتعلق فحسب بحياة الفارس وروحه، بل بمشاعره إزاء الربّ وخيبة أمله في الدين والبشرية. ولكن وأنا أعيد مشاهدة الفيلم الذي تدور أحداثه في زمنٍ اجتاحه الطاعون، في خضم ظروف كوفيد-19، استوقفني زوال الانبهار الذي كان يعتريني في شبابي، والرعب العظيم الذي حلّ محلّه!
قررت في تلك اللحظة اقتطاع الوقت للتأمل، فاستويت على كرسيّ المفضل، وصببت لنفسي كأسًا كبيرة من النبيذ الأحمر، والتمست كتبي الفلسفية. ما لم أدركه في بادئ الأمر هو مدى العون الذي وجدته في أعمال فلاسفة من أمثال رينيه ديكارت (1596-1650) في استيعاب عملية التقدّم في السن وفهمها، لا سيما في ظل أزمة عالمية وقابلية التضرر منها. ستكون الفلسفة دليلي الذي لا أحيد عنه.
لطالما كنتُ مهتمًا بشدة بقراءة الفلسفة، خاصةً أعمال المفكرين الأوروبيين وغير الناطقين بالإنجليزية. وتعمَّق هذا الاهتمام لدي مع تقدمي في السن، وتعمّق معه الإدراك بأن ما أقرأه له تطبيق شخصي، وأن مقاربتي للأمر لها بعدان: لاهوتي وتاريخي.
انتقلت أفكاري بدايةً إلى ديكارت، وإلى افتراضاته إزاء العلم. لا مراء في أن ديكارت كان مفكّرًا علميًّا عظيمًا. وأن مقاربته الاستبطانية العقلانية بدت أيضًا أنها قد باعدت بين العلم من جهة والتفسيرات والتجارب العلمية المبسّطة التي كانت شائعة في أيام دراستي من جهة أخرى.
طرح ديكارت في كتابه »التأملات في الفلسفة الأولى« (1642م) آراءه حول طبيعة التفكير، وافترض منهجية قائمة على ذلك لاستقراء معرفة موثوق بها من تجاربنا الحياتية. تأمّلت في تأمّلات ديكارت، فتبادرت إلى ذهني بضعة أسئلة. هل يمكن أن يوجد العقل المتأمّل بذاته، متحرِّر من أي قيود مادية أو تاريخية أخرى؟ وهل هذه الحرية العقلية ممكنة، أو نافعة، مع التقدّم في العمر؟ أم أن المسنّين مكبّلون فكريًّا بحالتهم الجسدية المتدهورة، مُحتَجزون على نحوٍ ميؤوسٍ منه في دوامة تاريخية من الحنين إلى الماضي؟ تبدو هذه التساؤلات تساؤلات جوهرية حول العمر حفّزتها قراءة ديكارت، ومنها إشارته في “التأملات” إلى طفولته والاعتقادات الباطلة التي كان يؤمن بها منذ ذلك الحين:
«لقد تلقّيت منذ حداثة سنيّ قدرًا كبيرًا من الآراء الباطلة وحسبتها صحيحة، فكل ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذا حظها من قلة الوثوق لا يمكن أن يكون إلا مشكوكًا فيه جدًا. وإذن فيلزم إذا أردت أن أقيم شيئًا متينًا في العلوم أن أبدأ كل شيء من جديد..».[1]
هذا تجلٍّ باهر خرج من رحم الفلسفة لينير التاريخ والعلم، إن التقدّم في السن لا يعني تلقائيًا إتيان الحكمة. فالحكمة هدف ينبغي أن يعمل المرء في طلبه. يقول ديكارت إن علينا أولًا أن نفهم طبيعة المظهر والواقع في العالم.
قرأت صفحات ملفي في لينكد إن في ضوءٍ جديد اقتبسته من مقولة الفيلسوف أعلاه، فأدركت أن ما كنت أحسبه يومًا بيانًا أكاديميًا مؤثّرًا لبناء العلاقات المهنية في المستقبل أضحى الآن عبر النخر التدريجي والتأمل على مدار تسع سنوات شيئًا بالغ الاختلاف. ربما يكون هذا هو جوهر التقدم في السن؛ عملية “النخر”، إضافة وحذف مستمرين لعناصر من الحياة بالتوافق مع قراءاتي وأفكاري الفلسفية.
[1] التأمّلات في الفلسفة الأولى، رينيه ديكارت، ترجمة: د. عثمان أمين، ص95، مكتبة الأنجلو المصرية. المترجمة