نوابت الملة أو كيف نـتـرجـم «مصـادر أنفسنـا» من أجـل «إيـمـان حـر»؟ | حمزة فنّين

تستغرق 22 دقائق للقراءة
نوابت الملة أو كيف نـتـرجـم «مصـادر أنفسنـا» من أجـل «إيـمـان حـر»؟ | حمزة فنّين

’’العابرون معهم جهاتُهم‘‘. (النِّـفَّـري، كتاب المخاطبات)

’’إنّ وضعية التأويل بما هي تَملُّكٌ تفهُّمـيٌّ للمـاضي هي دائـماً وضعيةُ الحاضر المعـيش‘‘[1].

’’رُبما يستطيع الفيلسوفُ أن يذهبَ إلى المستقبل دون مصادرِ ذاته، لكنهُ لا ينصحُ أحداً بفعلِ ذلك. مصادرُ أنفسنا هي الانتماءُ بما هو كذلك دون أيّ إضافةٍ أخرى. والانتماءُ هو طقوسُ العبورِ دون الحاجةِ إلى أيِّ إثباتٍ آخر. ومجرَّدُ الإجابة الصامتة عن السؤال ”من؟” كافيةٌ للانتماء. الانتماءُ مثل الحبّ: حيثُ لا حبّ لا مُستقبل لأحد. والسردُ هو الذي سيجمعُنا في المستقبل. ويلٌ لمن سيموتُ وحيداً بلا قصة‘‘[2].

تـقــديـــم

ما الذي كان يهمُّ فتحي المسكيني عندما طرقَ سؤالَ: ما هي الفلسفة الإسلامية اليوم؟[3] ما الذي رامَهُ من خلال العودة إلى هذا الماضي الذي يُمثل جزءاً من مصادر أنفسنا؟ أيُّ أفقٍ تأويليٍّ أسعفهُ على هذه المَهمَّة؟ كيف يُمكن أن يُسعفنا بعضٌ من مصادر أنفسنا على الانخراط في إتيـقا تتخذ صيغةَ ”إيمانٍ حُـرٍّ”؟

السؤالُ عن ”الفلسفة الإسلامية اليوم” ليس سؤالاً عن واقعٍ فلسفيٍ حاضرٍ في العالم الإسلامي اليومَ، وإنما هو، أساساً، سؤالٌ طريفٌ عن ضربٍ من علاقةِ الحاضر، حاضرنا، بالماضي، ماضينا؛ أي كيف يُمكن أن نُفكّر اليومَ في ماضينا الذي ”ولى على الشاكلة التي ارتضاها لنفسه غير آبهٍ بحُكمنا عليه”[4]؟ كيف يُمكن أن نفكّر في ”مصادر أنفسنا” اليومَ؟ كيف يُمكن للحاليِّ أن يستأنفَ تاريخه الخاص؟ الفلسفة الإسلامية هي مصدرٌ من مصادر أنفسنا، وأسلافنا من المُتفلسفة (الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن باجه، ابن رشد…) هم مصادرُ لأنفسنا لم نُفكِّر فيهم بعدُ بما هُم كذلك، أي أنّنا لم نُفكّر بعدُ بما يكفي في أنفسنا، نحنُ الأرواحُ الجديدة، بما نحنُ كذلك. مُحاولة التفكير[5] هذه هي ما يتعهّد هذا المكتوبُ بأن يَقف على بعض عناصرها ومُستلزماتها.

 إنّ ما كان يهمُّ المسكيني أساساً، في انخراطِه في مُحاولة التفكير هذه، هو مُحاولة نزعِ الغرابة عن الفلسفة الإسلامية وإخراجِها من غُربتها لكي تُصبح حاضنةً لوجودنا (existence) في الحاضر وراعيةً له، أي إمكاناً من إمكانات تفكيرنا الحاليّ لا ينفصل عن مشاكلنا وآلامنا. ذلك لأنّ حاضرنا يجعل هذه الفلسفة تظهر لنا[6]، للوهلة الأولى، على أنه ما عادَ يربطُها أي رابطٍ بما تأسَّست عليه الفلسفةُ الحديثةُ منذ ديكارت وما انخرطت في التفكير فيه من قضايا ومسائل، وما صاغته من مواقف وأطروحات؛ وهو ما يجعلها تبدو، ثانيةً، أنها ما عاد بإمكانها أن تُسعفنا على التفكيـر في وُجودنا الحالي.

-1-

إنّ التوتُّر القلق الذي أصبحت تُوسَم به الفلسفةُ الإسلامية هو ما يجعل مُحاولة التفكير هذه أكثر إلحاحاً علينا، نحن الذين لم نعدُ نقصد أو نُلقي السمعَ إلى مصادر أنفسنا، فأصبحت مهجورةً وساقطةً لدينا. وليست هذه المحاولة استشراقاً معكوساً، وإنما هي ’’تلمُّسٌ، على جهة المساءلة العنيدة، لما تستطيعُه هذه الفلسفةُ وما يعتملُ فيها من إمكاناتِ تفكيرٍ، لم نتملّكها بعدُ‘‘[7]. هذه المساءلة تعني أن هذه الفلسفة، بما هي سؤالُ بداياتٍ بالنسبة لنا[8]، لم تستنزف بعدُ إمكانات وجودها، أي أنه لا يزالُ بإمكانها أن تقولَ حاضرنا إن نحنُ أحسنا الإصغاء إليها، أي الإصغاءُ بما هو ضربٌ تأويليّ خاصٌّ بالحاضر المعيش. قولُ الحاضر هذا هو ما يسوقُه المسكيني تحت اسم ”حداثتنا الخاصة”[9]، أي كيف يُمكن أن نُفكّر في ”مصادر أنفسنا” باعتبارها مدخلاً لبناء فلسفةٍ مُساوفةٍ لحداثتنا الخاصة، بما أنّ كل تفكير في الحداثة لا يصدُر عن توسُّطٍ مع مصادر أنفسنا لا يُمكن أن يكون سوى ”مقايسةٍ فاسدة”[10]. الانطلاقُ إذن من أرضية لا تستدعي مصادرَ أنفسنا ولا تقيمُ حواراً معها، بل وتحاول أن تكفّ عن الانتماء إليها من أجل انخراطٍ كلّي في حاضر كونيٍّ، لا يُمكن إلا أن يكون انطلاقاً أخطأ طريقه.

ليست الفلسفةُ الإسلامية تُـراثاً، وكلُّ محاولة لتحويلها إلى وثائق تُراثية، تختزلُ هذا الفيلسوفَ أو ذاك في هذا المذهب أو ذاك، لا يُمكن إلا أن تحولَ بيننا وبين التفكير فيها بما هي كذلك. يوقفنا المسكيني على أن التفكير في هذه الفلسفة اليوم يقتضي أساساً أن نُفكّر فيها كما تحدَّدت في سياقها الخاص (فضاء الملّة) منذ الكندي إلى ابن باجه، أي بما هي ”إتيـقا” في جوهرها تدور في فلك معرفة الإنسان لنفسه وبقدر طاقته[11]؛ إن الإتيقا بما هي الحياة اليومية للفيلسوف لا ترومُ سوى تحصيلِ هدفٍ واحدٍ، الهدف الأسمى، وهو السعـادة؛ ومن ثم فهي (الإتيقا) الضرب الوحيد من التفكير الذي يُمكن أن نستأنفه اليوم ونحنُ نسأل عن الفلسفة الإسلامية[12]، لأن سؤال الإنسان لا يفتأ يعود ويؤولُ فاتحاً كل مرة على آفاق رحبة للتفكير.

 لا يهمُّ المسكيني، إذن، في طرقه للفلسفة الإسلامية مسائل معينة بالضبط يجب شرحها أو التعليق عليها، وإنما يهمُّه بالدرجة الأولى وجودُ هذه الفلسفة نفسه داخل فضاء الملّة، أي المسائل التي قد لا تكون هذه الفلسفة طرحتها، لكنها لا تفتأ تُفكّر من خلالها أو تفترضها، وهي المسائل التي يُحدّدها المسكيني في لفظ ”الإتـيــقا”[13]؛ الإتيقا وليس الأخلاق، ذلك لأننا اليوم لا يجب أن نغفل عما تبلور منذ سبينوزا وكانط ونيتشه إلى دولوز وفوكو وريكور بصدد هذه المسألة، أي إيقافُ كلّ واحدٍ منهم على التمايُز الماهوي بين مطلب ”الحياة السعيدة” ومقتضيات الفعل الأخلاقي؛ فالأوّل ميدانه ”الإتيقا” بما هي فضاءُ مُحايثةٍ لا ينفصلُ عن فنّ الوجود اليوميّ، أما الثاني فهو ”أخلاق” تستلزمُ بالضرورة خضوعاً وطاعة لأوامر متعالية ومفارقة[14].

التفكيرُ في الفلسفة الإسلامية في أفق ”الإتيقا” المبلورة داخلها هو الذي يُمكن أن يكون مُثمراً وخصباً شريطة أن نفلحَ في التعبير عن مشاكلنا الحالية من خلال هؤلاء المتفلسفة الذين يُمثّلون مصادر أنفسنا، و’’لن يكون ذلك مُمكناً بانتساخهم كحيواناتٍ أثرية، بحجة الأصالة، ولا بإسقاط ادعاءات المناهج الحديثة عليهم، بتعلّة الضرورات الأكاديمية، بل خاصة بمحاولة التعرّف على ذواتنا ”الحالية” فيهم، وذلك ببناء إمكانات للتفكير من خلالهم وتخصيبها وتعديدها، بطرح أكثر ما يُمكن من الأسئلة المُحرجة لنا ولهم‘‘[15].

-2-

انطلاقاً من الفقرة الأولى من كتاب التنبيه على سبيل السعادة للفارابي، يُحدِّد المسكيني ”الإتـيــقا” بأنها ’’تشوُّق كلّ إنسانٍ إلى السعادة والسعي نحوها على أنّها كمالُ ما له‘‘[16]. إنّ مسألة السعادة هذه لدى الفارابي لا ترتبطُ بأفقٍ متعالي/ أخلاقي في صيغة الحرام والحلال، كما هو الأمر عند الغزالي مثلا، وإنما هي سعادة مُحايثة تدور في فلك الجميل والقبيح بما هي مفاعيل عقلية مشتقة من ماهية الإنسان نفسه ولا تُطلب إلا لذاتها، أي أنها لا تُغادر حقل الممكن والمُستطاع في أفق الإنسانية[17]. هكذا فهي ”إتيقا” وليست أخلاقاً. ولعلّ مردّ هذا الأفق الذي ينخرطُ فيه الفارابي هو أرسطو الذي يُعتبر مرجعاً أصليا بالنسبة إليه، أليس هو الذي حدّد في المقالة السابعة من الأخلاق إلى نيقوماخوس أن الآلهة لا تعرف فضيلة ولا رذيلة، وأنه ليس ثمة وراء الموت لا خير ولا شر، وأن الحياة تستحق الحياة[18]؟ هذا يعني أنه لا يُمكن أن نرسم حياة للبشر بمعيارٍ خارجٍ عنهم؛ أي أن حياتهم ليست حياة ”أخلاقية”، وإنما حياة ”إتيقية”.

بيد أن إتيقا الفارابي هذه لا تلبثُ أن تنفتح على السياسة/ الوجود المدني، وهي بذلك تتهدد بفُقدان مُحايثتها، فتتحوّل إلى أخلاقٍ، لأن السياسة إذا ما تعلّقت بالسلطة لن تلبث أن تستحيلَ أخلاقاً مُتنكّرة[19]. يُمكن أن نؤوّل الأمر هكذا، لكن المسكيني يوقفنا على أفقٍ آخر لتأويل هذه المسألة عند الفارابي، أفق ينطلق من التفكير في أحد أهم المفاهيم في تصوّر أرسطو لـ ”الإتيقا” وتحقيق التوسّط بين فعل السعادة وفعل المدينة، وهو مفهوم الــ ”فرونيزيس” (φρόνησῐς)[20]. يصعبُ أن نجد مقابلا واحدا لهذا اللفظ عند الفاربي، إذ يُمكن ترجمته بـ ”التبصُّر” أو ”الحصافة” أو ”جودة الروية”، لكن الأقرب إلى الإيفاء بالغرض هو مفهوم ”التعقُّل”[21]، لكن بأي معنى؟ التعقّل هنا ليس بما هو نشاطُ النفس الناطقة في إدراك المعرفة، وإنما بما هو ظاهرٌ في قول الفارابي: ’’فهؤلاء إنما يعنون بالعقل على المعنى الكلي ما يعنيه أرسطو بالتعقُّل‘‘[22]، وذلك، يُضيف الفارابي، في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق التي تبحث في الفضيلة الفكرية الأساسية في ”إتيقا” أرسطو، وهي الـ ”فرونيزيس”، أي ’’جودة الروية في استنباط ما ينبغي أن يُفعل من أفعال الفضيلة‘‘.

إن مفهوم ”التعقُّل” هذا هو الذي يُمكنه أن يؤسِّس لضرب موجَب/ إيجابي من العلاقة بين الإتيقا والسياسة، بين السعادة والمدينة، وذلك من حيث هو ’’قدرة على استنباط ما هو عملي، وتسديد جهود البشر نحو الفعل الجميل، بما هو كمالُ ما لنفوسهم، لا مدعاة للثواب والعقاب‘‘[23]. أي أنه كلّ ما كان المحكومون قادرين على ”التعقُّل”، كل ما كان الحاكمُ في غنى عن أيّ بُعدٍ ”أخلاقي” في علاقته برعاياه. هكذا فالإتيقا هي التي تُؤسّس لإمكانية الوجود المدني/ السياسة في أفق ”التعقّل”، تُؤسّسها على إمكانية استنباط سعيد لنمطِ وجودٍ إنساني يكون الإنسان بمقتضاه فاضلاً ومواطنا في الآن نفسه.

هكذا يفتحنا الفارابي هنا على إمكانية سعيدة للتفكير في علاقة الإتيقا بالسياسة، وهي الإمكانية التي يُمكن أن نعثر عليها أيضا عند سبينوزا، أقرب المُحدثين إلى تفكيرنا القديم بعبارة المسكيني، لكنها قد قُتلت مع الفلسفة الحديثة (مكيافيللي، هوبز، هيغل، كانط)، ثم أُعيد بعثُها في الفلسفة المعاصرة مع إعادة اكتشاف/ قراءة سبينوزا ومع فلاسفة آخرين مثل غادامير وريكور وشتراوس وأرندت[24]. رغم أنّ مفهوم الإنسان في سياقنا لا يزال فقيرا ومُتهافتا، إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نُقيم حواراً اليوم مع الفارابي بصدد التفكير في مسألة تأسيس الوجود المدني على الإتيقا، لا الأخلاق: رُبّ درسٍ لم نفرغ بعد من مساءلته.

-3-

إذا كان الفارابي قد فتحنا على ضربٍ سعيدٍ من الإتيقا في علاقتها بالسياسة، فإن ابن باجه هو الآخر قد فتحنا على ضرب سعيدٍ من الإتيقا لكن بمعزلٍ عن السياسة، أي عن ”المدينة الفاضلة”، وهو ما صاغه في إشكالية: كيف يُمكن تدبيـر المُتوحِّد؟ أو بتعبير آخر: كيف يُمكن للمُتوحّد أن يُدبِّر نفسه؟  

يعود المسكيني إلى ابن باجه، أي إلى مسألة المُتوحّد، في أفق ما فتحت عليه الفلسفة المعاصرة من خلال تفكيرها في مسألة الوجود الإنساني في أفق واقعة الموت، أي بما هو وحدة وقلق لا يفتآن ينهشان الإنسان، كما ينهشُ النسر كبدَ بروميثيوس، حتى أصبحَ ”غريباً” و”مُغترباً”، أي بدون وطن ميتافيزيقي يركُن إليه، وهو ما لا يفتأ يُهدّده بالضياع، ضياع ذاته. لكن إذا كان هذا الضربُ من التفكير يطرح المسألة طرحاً سالباً، أي دون أن يُفكّر إلا في مسألة ”الوحدة”/ ”الوحيد”، الوحدة بما هي حالٌ يحتمله الوحيد باعتباره واقعةً أنطولوجية لا مفرّ من خوضها واختبارها والخضوع لها ومُعاناتها بما هي همٌّ أساسي لا مفرّ منه؛ فإن ابن باجه يُمكن أن يُسعفنا على إعادة التفكير في هذه المسألة، لكن بضربٍ موجب لا سالب، أي التفكير في هذه المسألة في أفق ”التوحُّد”/ ”المُتوحّد”، وليس ”الوحدة”/ ”الوحيد”؛ إن التوحّد ليس هو الوحدة، إن التوحّد موقفٌ ”إتـيـقــيٌّ” ’’يتكلّفُ معنى الوحدة على نحوٍ يقصده قصداً، لأنه ضربٌ من السلوك الذي يتهيّأ له الفيلسوف تهيؤاً مخصوصاً‘‘[25]. إن التوحّد، أو تدبير المُتوحّد، هو التخريج المُوجَب لمسألة ”الوحدة”.

هكذا يكون التوحّد بهذا المعنى سبيلاً لتجاوُز ”الفشل الفلسفي” الذي انتهى إليه المعاصرون في بلورة معنى ”إتيقي” للوحدة لا ينزلقُ في أية نزعة عدمية، أي بلورة معنى موجَب لغربة الإنسان في العالم تُسعفه على تجنّب الاغتراب وذوبان الذات داخل ”الهُم”؛ فابن باجه لم يُفكّر في مسألة ”المُتوحّد” في أفق وجودٍ إنساني زمانيّ مفتوح على واقعة الموت بما هو كذلك، وإنما فكّر فيها في أفق وجودٍ إنساني يحتمل ضرباً أساسياً من العلاقة مع الأبــدية[26]، أي التوحد بما هو تمرين خاص على الخلود، تمرينٌ يجد صيغته في جعل الفلسفة مذهباً في السعادة وليس هيرمينوطيقا لواقعة الموت. هذا ما يجعل ابن باجه مُحاوراً واعداً يجب استئنافُ التفكير معه فيما أوقَف عليه، وهو ما لا يخرُج عن صميم مشاكلنا الحالية[27].

يكتب ابن باجه في تدبير المتوحد:

 ’’وكأنّ السعداء إِن أَمكَن وُجودهم في هذه المدن فإنما يكون لهم سعادةُ المُفرد […] وهؤلاء هم الذين يَعنيهم الصوفية بقولهم الغربـاء، لأنهم وإن كانوا في أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، [فإنهم] غرباءُ في آرائهم قد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أُخر هي لهم كالأوطان […] ونحنُ في هذا القول نقصد تدبير هذا الإنسان المُتوحّد‘‘[28].

هذا المعنى الذي ينبسطُ هنا للغربة يختلف كثيراً عن المعنى الذي بسطه المعاصرون والذي يُعاني من أفقه العدمي؛ إذ إنّ المطلب الباجي للغربة ليس هو العودة إلى الذات المفقودة وإنما مطلبها هو تحصيل السعادة، تحصيل السعادة داخل هذه الغربة المُتوحّدة لا خارجها، إذ هي بمثابة ”الوطن” وليس ”اللاوطن”. هكذا يُصبح التوحد ضرباً من أدب العزلة[29]. إن هذا الاختلاف ليجد منبعه من الفهمِ المُختلف لمسألة الموت؛ فإذا كان أفق ”الوحدة” يفترض غربة الذات ومعاناتها من القلق إزاء إمكانية الموت التي لا تستطيع أن تتغلّب عليها، فإن أفق ”التوحّد” يفترضُ سفراً سعيداً نحو الموت في غياب شامل لأية إمكانية عدمية يُمكن أن يحملها، وبالتالي فهو لا يُقلق الذات ولا يؤدي إلى اغترابها داخل ”الهُم”، بل هي تُقيم داخل مدينة ”الهُم”، المدينة الفاسدة، وفي الوقت نفسه تُؤسّس وطنها الذي ترتقي إليه في صيغة ”سعادة المُفرد”.

إن ابن باجه بتخريجه هذا للمسألة يكون قد غادر أرض إشكالية المدينة الفاضلة المأمولة وانخرط في التفكير في وجود الفيلسوف بما هو ”هنـا”، أي مُنتمٍ إلى المدن القائمة والموجودة في زمانه، المدن غير الفاضلة، وبالتالي يُصبح الإشكال هو: كيف يُمكن للفيلسوف أن يُدبر وجوده، أن يُصبح فاضلاً وسعيداً، داخل مدنٍ فاسدة؟ وهو يُدبّر وجوده التوحُّدي هذا في أفق المفرد فقط، لأنه هو، أساسا، يكون في هذه المدن بمثابة ”نابتة” (العشب النابت من تلقاء نفسه بين الزرع). هذا ما جعل ابن باجه يؤسّس لإتيقا تخرج عن إطار المدينة الفاضلة، وتجعل هدفها هو تحصيل سعادة المفرد التي هي وحدها الممكنة[30]. وهو بذلك يُخرج التفلسف من الحدث الأفلاطوني الذي قضى بإدخال مبحث المدينة في أفق الفلسفة، ويُعيده إلى السؤال عن واقعة هذا الفيلسوف كما ينبُت في مدن زمانه[31]. ومادام أنّ النابتة هو شرطُ إمكان المدينة الفاضلة، فإن المسكيني يفترض أنّ ابن باجه يكون بتخريجه هذا للمسألة، قد قام بما يُشبه الارتداد الفينومينولوجي إلى القَبل الذي يسبق حدوث المدينة الفاضلة، أي البحث في الإمكان الأصلي لهذه المدينة، الإمكان الذي يتخذ صورة ”نابتة” غريب ومتوحد عليه أن يُدبِّر توحُّده هذا خير تدبيـرٍ[32].

إنّ التوحد هو استعمالٌ فلسفي لفسحة الانتظار، انتظار المدينة الفاضلة، ولهذا فهو تدبـيــرٌ[33]، وهو أيضا بهذا المعنى هجرة؛ فالمتوحّد/ الفيلسوف يُهاجر[34] إلى وطنه، أي إلى أفقٍ آخر غير الأفق الذي تنفتح عليه مدينته التي يعيش في كنفها، لكن دون أن يُغادر أرضها. هذا هو قدرُ كلّ ”نابتة”، كلّ من تفلسف في نطاقٍ لم تحدُث فيه الفلسفة حدوثا طبيعيا[35]؛ إنّ هذا الفيلسوف/ النابتة يُواصل ما كان يفعلُه اليونانيُّ/ الوثنيُّ لكن في صيغة ”توحّد”، أي يُواصلُ التفلسُف بما هو ضربٌ من إتيقا السعادة التي كان اليونانيّ يحياها يومياً، اليونانيّ الذي لا ”يُؤمن” إلا بقدر ما يكون سعيداً، أي بقدر ما يكون في صداقةٍ مع الآلهة[36].

-4-

ليس الفارابي وابن باجه هنا إلا أُنموذجين مُترجمان على نحوٍ من التعاملِ/ التلقّي الموجب لـ ”مصادر أنفسنا”، وهما لا يخلوان من عناصر “إيمانٍ حُـرٍّ”. يُمكن القول إن سؤال ”الإيمان الحرّ” لم يكن سوى الهمّ الذي استولى على المسكيني وأخذ بتلابيب كتاباته منذُ فلسفة النوابت، وهو الهمّ الذي يجد صياغته المُكتملة في كتابه الإيمان الحر أو ما بعد الملّة. منذ التسعينيات، إذن، والمسكيني يُحاول أن يقبض على بعض مستلزمات هذا ”الإيمان الحرّ”. ولا تهمّنا هنا الصيغة الأخيرة لهذا الإيمان، وهي مبسوطةٌ نظرياً في تصدير الإيمان الحر[37]، وإنما يهمُّنا إبرازُ عنصرين لهذا الإيمان في إطار العلاقة الصحية والسعيدة التي نسجها المسكيني مع الفارابي وابن باجه.

لا يكتسب الإيمانُ الحرّ طرافته الحقيقية إلا إذا نُظر إليه من زاوية سكان المُستقبل، لكنّ هذا لا يعني أنه لا يُقيم أي علاقة مع الماضي، بل إنه، على العكس من ذلك، لا يفتأ يعود إلى ماضيه، لا يفتأ ينتمي إلى ذاكرته ومصادر نفسه إلى حدّ اللعنة، ذلك أنّ ’’الماضي ليس شيئاً؛ بل هو إمكانيةُ الذاكرة العميقة التي تدعونا إلى اختراعها في كلّ مرة‘‘[38]، و ’’مصادر أنفسنا من المعلّقات والقرآن إلى فقهاء عصور الملّة وشعرائها وفلاسفتها، ومن الحياة اليومية للنبوة إلى الحروب الإمبراطورية للخلافة، هناك تجارب معنى تدعونا إلى استئناف العلاقة معها على نحوٍ يليقُ بنا‘‘[39]. وهو استئنافٌ يعملُ على إعادة ترجمتها بطريقةٍ صحية وسعيدة، أي بطريقةٍ تليقُ بنا نحن الأرواح الجديدة، تنطلق من الحاضر المعيش وتتخذ شكل إتيقا للعناية بالنفس في هذا الحاضر، الحاضر الذي يمتلكُ وعياً حاداً/ تراجيدياً بأن العالم القديم قد مضى بغير عودة، وأنّ ”المستقبل لم يعد كما كان”[40].

إنّ التعقُّل (أو الـفرونيزيس)، بما هو سعيٌ يهدفُ في نهاية المطاف إلى جعل الناس يُقبلون على الفعل الجميل باعتباره كمال ما لنفوسهم وليس باعتباره مدعاة للثواب أو العقاب، لهو عنصرٌ أساسيٌ في ”الإيمان الحرّ”، إذ إنّ هذا الإيمان ”مُتعقِّلٌ”، أولاً، من حيث أنه ليس حرّا حرية سالبةً (خارجية) وإنما هو حرٌّ حرية موجبة (باطنية)، أي أنه ”حريةٌ حُرّة”، ولا يُمكن أن تكون كذلك إلا بانطلاقها من داخلها (كمالُ ما للنفس) وليس من خارجها (الثواب/ العقاب)[41]؛ كما أنه ”مُتعقّل”، ثانياً، باعتباره إيماناً خالصاً من شوائب التملّق الدنيويّ للمؤمن التقليدي، ومن الفضول الأخرويّ[42]، ذلك ’’أنّ صناعة الآخرة في كلّ ثقافة توحيدية هي فضولٌ حوّله المُتفقّهون إلى آلةِ استبدادٍ أخلاقيٍ على الأبرياء‘‘[43]. إن الإيمان الحرّ باعتباره تعقّلاً هو سبيلٌ لمُحاربة آلة الاستبداد هذه وإعادة الأمور إلى نصابها؛  أما العنصر الثاني فيُمكن أن نلتمسه في كون الإيمان الحرّ لا يخرج عن أن يكون إتيقا في تدبير المُتوحّد، وإن كان مُتوحداً ”جديداً”، أي المُتوحّد في عصر ”ما بعد الملة”، ذلك لأنه (الإيمان الحر) اختيار فلسفي ينبُت داخل مجالٍ لم تحدُث فيه الفلسفة حدوثاً طبيعياً، إضافةً إلى أنه، مثل تدبير المُتوحد، لا يُمكن أن يكون إلا إيمان ”الفرادى”، أي العقول والأرواح الحرة التي لا يُمكن أن تنخرط في أية جماعة هووية جاهزة[44].


[1] Martin Heidegger, Intérprétations phénoménologiques d’aristote, Traduit de l’allemand par J.-F. Courtine, (Paris : Trans-Europ-Repress, 1992), 17; Phenomenological Interpretations in Connection with Aristotle, trans. John van Buren, in: Martin Heidegger, Supplements, ed. by John van Buren. (New York: State University of New York Press, 2002), 112.

[2] فتحي المسكيني، الإيمان الحر أو ما بعد الملة. مباحث في فلسفة الدين، (الرباط-بيروت: مؤمنون بلا حدود، 2018)، 52.

[3]  فتحي المسكيني، فلسفة النوابت، (بيروت: دار الطليعة، 1997)، 69.

[4] العبارة لـمحمّد موهوب، ”حدود المُحدثين في مقاربة الدين: مساءلة”، ضمن الكتاب الجماعي: الوحي والعالم: جدلية مرجع الوجهة ومرجع الحركة في عالم متغيّر، أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء يومي 17 و18 مـاي 2016م بالرباط، تقديم أحمد عبادي، تحرير عبد السلام طويل، تنسيق محمد المنتار، (الرباط، الرابطة المحمدية للعلماء، 2017)، 355.

[5] ’’بالمعنى الذي تكونُ فيه المُحاولةُ حيلةَ ما هو حاليّ لاستئنافِ تاريخه الخاصّ‘‘. (المسكيني، فلسفة النوابت، 11).

[6] المصدر نفسه، 68.

[7] المصدر نفسه، 69.

[8] ’’تتحدّد الأهمية الفلسفيةُ لسؤال البدايات، كعنوان لا ينفكّ يتجدّد بتجدُّد الظروف والرهانات، من كونه يكسر جبرية التسلّل التاريخي، على ما ذهبت إليه الاتجاهات التاريخية التي تعتقدُ أنّ كلّ فترةٍ تاريخيةٍ سابقة إلا وهي ضرورةٌ فقيرةٌ من جهة الغنى التاريخي، من جهة المعنى، بالمقارنة مع الفترة اللاحقة عليها. وبقدر ما يكون العودُ إلى هذه البدايات، بمعنى ما، غير ذي جدوى بالنسبة للمؤرّخ (حسب هذا التصوّر الهيغلي للتاريخ) باعتبار هذه البدايات قد استنفذت إمكانيات وجودها، بقدر ما يكون العود إليها ضرورياً بالنسبة للفيلسوف (خارج التصوّر الخطي المُتصاعد للتاريخ) باعتبار أن ما تمَّ في التاريخ ليس سوى واحدٍ من الإمكانات التاريخية التي حبلت بها كلّ مرحلةٍ من مراحل الوجود البشري‘‘.

انظر: محمّد موهوب، تُرجُمان الفلسـفة، (مراكش: المطبعة والوراقة الوطنية، 2011)، 199.

[9] المسكيني، فلسفة النوابت، 69.

[10] نفسه.

[11] المصدر نفسه، 69-70.

[12] يؤكد المسكيني أنّ التفكير اليوم في الفلسفة الإسلامية لا يُمكن أن يتخذ صورةً أنطولوجية صرفة، ما دام أن سند هذه الأنطولوجيا قد تمّ تجاوزه مع التصوّر الحديث للعالم، وبالتالي ما عاد التفكير فيه اليوم مُمكنا.

[13] المصدر نفسه، 71.

[14] المصدر نفسه، 71-72.

[15] المصدر نفسه، 81.

[16] أبو نصر الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة، تحقيق جعفر آل ياسين، (بيروت: دار المناهل، 1985)، 47-49؛ المسكيني، فلسفة النوابت، 72.

[17] المصدر نفسه، 72.

[18] المصدر نفسه، 73.

[19] المصدر نفسه، 74.

[20] Prudentia, prudence, Klugheit.

[21] المصدر نفسه، 75.

[22] الفارابي، رسالة في العقل، (بيروت: دار المشرق، 1983)، 5؛ المسكيني، المصدر السابق، 76.

[23] المصدر نفسه، 76-77.

[24] المصدر نفسه، 79.

[25] المصدر نفسه، 84.

[26] تجدُر الإشارة هنا إلى ما أخذه هنري كوربان، في أفق تأويلٍ معين، على هيدغر؛ يقول في أحد نصوصه: ’’[…] وهنا يظهرُ أخيراً المعنى الميتافيزيقي لكلمة “الـغــرب”؛ أي التدهور والانحطاط والغروب، وهو المعنى الذي مثّل له السُّهرَوَرْدي [المقتـول] في قصته القصيرة والشاجنة “الغربة الغربية“. وقد أقف يوماً ما عند هذه القصة وأُبيّن كيف أنها كانت هي اللحظة الحاسمة والمفصلية التي جعلتني أرمي بثقـلِ التناهي الذي جُبِلت به السماء المكفهرة للحرية الهيدغرية.  كان عليَّ أن أدرك، تحت هذه السماء المكفهرة، أنّ الـ “هنـا” (Da) الخاصة بـ “الدازاين” (Dasein) قد كانت جزيرةً صغيرةً تائهةً؛ كانت، على الحقيقة، جزيرة “الغربة الغربية”‘‘.

إنّ ما يقف كوربان عليه هنا هو مسألة “الوجود من أجل الموت”، والتي دعا كوربان في مقابلها إلى “الوجود من أجل ما وراء الموت”، إذ إنّ أكثر ما كان يخشاه، في حدود هذه القراءة، هو أن تُخفق الإنسانية اليوم أمام هذه الحرية، حرية الوجود من أجل ما وراء الموت؛ فليس صحيحاً ما يُردّده البعض من أن “الموت هو جزءٌ من الحياة” إلا إذا كنا نفهم الحياة في بعدها البيولوجي فقط، في حين أن الحياة البيولوجية ليست سوى مشتق من حياة أخرى هي المنبع وعنها لا تستقل. وتحت هذا الأفق، فإن “الوجود من أجل الموت” لا يكشف عن الموت إلا بما هو حاجز وطريق موصد وليس بما هو منفـذ وطريق عبور، وبالتالي فنحن لن نخرج من هذا العالم أبداً؛ أما أن نكون أحرارا للوجود من أجل ما وراء الموت، فإن هذا يفتحنا أمام آفاق وعوالم أخرى أكثر رحابةً. (انظر ص. 32 من الكتاب الخاص بهنري كوربان ضمن les cahiers de l’Herne).

[27] المسكيني، فلسفة النوابت، 85-86.

[28] ابن باجه، تدبير المتوحد، ضمن رسائل ابن باجه الإلهية، حققها وقدم لها ماجد فخري، (بيروت: دار النهار، 1968)، 43.

[29] المسكيني، فلسفة النوابت، 86.

[30] المصدر نفسه، 95.

[31] المصدر نفسه، 96. ولا يعني هذا أن ابن باجه ينكر وجاهة مبحث فلسفة المدينة.

[32] المصدر نفسه، 97.

[33] المصدر نفسه، 100.

[34] الهجرة هنا ليس بمعناها المكاني، أي هجرة من مكان لآخر، وإنما هي هجرة يُمكن أن تكون في المكان نفسه، أي الهجرة من أفق إلى آخر، من نمط وجود إلى آخر. هكذا يُمكن فهمُ الهجرة أيضا في السياق الإسلامي إذا ما استحضرنا أن أهل المدينة/ يثرب هم بدورهم كانوا مُطالبين بأن يُهاجروا، أن يُهاجروا وهم في ديارهم، أن يهاجروا داخل ديارهم.

انظر:

Mohamed Maouhoub, « Utopie et Histoire. Esquisse du cas de l’Islam », Diogène, vol. 273-274, no. 1-2, 2021, 147-161.

[35] المسكيني، فلسفة النوابت، 108.

[36] انظر حديث المسكيني ضمن: (آخر اطلاع بتاريخ: 11-01-2023)

[37] المسكيني، الإيمان الحر أو ما بعد الملة، 9-35.

[38] المصدر نفسه، 20.

[39] نفسه.

[40] على حدّ تعبير أحد المجهولين.

[41] أو ما يُمكن تسميته بـ ”حرية الحرف” وحرية الروح” عند كانط؛ يقول: ’’بيد أنه ما بين إنسانٍ ذي أخلاقٍ حسنة وإنسانٍ خيّرٍ أخلاقياً، إنما لا يوجد (أو على الأقل لا يجوز أن يوجد) أي فرقٍ فيما يخصّ توافق الأفعال مع القانون؛ إلا أنها عند أحدهما لا تتخذُ القانون على الدوام، أو لا تتخذه أبداً، بوصفه الدافع الأوحد والأسمى، في حين أنها لدى الآخر إنما تتخذه كذلك في كلّ وقت. يُمكننا القولُ عن الأوّل إنه يتّبع القانون بحسب حرفه (بمعنى فيما يتعلق بالفعل الذي يأمُر به القانون)؛ أما عن الثاني فنقول إنه يُراعيه بحسب روحه (وإن روح القانون الخلقي إنما يُكمن في أن يوجد هذا القانون وحده باعتباره دافعاً كافياً)‘‘.

انظر وقارن: إمانويل كانط، الدين في حدود مُجرّد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، (بيروت: جداول، 2012)، 80-81.  

[42] المسكيني، فلسفة النوابت، 11.

[43] نفسه.

[44] المصدر نفسه، 19.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.