ترجمة: رهف الشهراني – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
يبدو أنَّ كل ما حقَّقته الفلسفة منذ عدة قرون إلى اليوم ما هو إلاّ طرح للأسئلة ومناقشتها، فلماذا لا تَقبل المشكلات الفلسفية الحلول؟
يبدو أنَّ الفلسفة لم تكلَّل بالنجاح، بالرغم من تاريخها الغربي الذي يقدَّر بـ 2500 سنة، ولها باع طويل في طرح المشكلات، هناك أسئلة عن الموجودات وماذا نعرِف عنها، مثل: هل نمتلك إرادة حُرّة؟ هل ثَمَّ عالَم خارجي؟.. وهلمّ جرًّا. وثَمَّ أيضًا أسئلة عن التحليل والتعريف، مثل: ما الذي يؤكد صحة جملة ما؟ ما الذي يجعل فعلًا ما صائبًا؟ ما السببية؟ ما الإنسان؟.. كل هذا مجرد عيّنة صغيرة؛ فما من نظريةٍ مجردة إلاّ قد تساءل عنها فيلسوف.
رغم غزارة الأسئلة والقرون العديدة التي مضت في حلِّها، لم يتمكن الفلاسفة بعد من إيجاد الإجابات. لقد اجتهدوا طويلًا، لكن لم يُسفر أيّ شيء مما قالوه عن إجاباتٍ لتلك الأسئلة. لم يستغرق الفلاسفة الآخرون وقتًا طويلًا في رصد الثغور في محاولات غيرهم للإجابة، ولا في الكشف عن عيوب فرضيّاتهم المشبوهة. تُسد الثغور في تلك الإجابات ويتمّ عرضها للنقاش مجددًا، لكن ماذا سيحصل عندما تظهر ثغور جديدة؟ أو عندما تفشل الترقيعات الأولى وتنكشف العيوب القديمة؟ تتمثّل الفلسفة بكونها سلسلة لا نهائية من النقاشات، ولا تعدو أسئلتها أن تكون مشكلات مستعصية الحلّ.
لدينا هنا تحفة صغيرة من القرن الثامن عشر تُعرف باسم “مسألة مولينو”، سُميّت بذلك تكريمًا للعالم والسياسي الأيرلندي ويليام مولينو (1656-98)، الذي طرح سؤالًا حيّر الفلاسفة منذ ذلك الحين؛ فقد تخيّل شخصًا أعمى منذ ولادته، وكان قادرًا على استكشاف شكل المكعب والكرة باللمس. يتعلّم هذا الشخص التعرّف إلى هذه الأشكال وتسميتها. فلنفترض الآن أنَّ هذا الشخص شُفيَ من العمى، هل سيتمكن من تحديد المكعب والكرة بالنظر فقط؟ فلنتخيّل وقوفه على مسافةٍ من هذه الأشكال، هل سيستطيع التمييز -بسهولة- بالنظر أيّهما الكرة وأيّهما المكعب؟
إليك تجربة فكرية مشابهة تُعرف الآن بـ “حُجة المعرفة”، يمكنك من خلال قراءة الكتب المناسبة معرفة كل شيء عن التركيب الكيميائي للنشادر أو “الأمونيا”، ويمكنك من خلال قراءة المزيد من الكتب معرفة كل ما يتعلّق بكيفية عمل نظام الشَّم لدى الإنسان، لا سيما كيف يتفاعل استجابةً لجزيئات “الأمونيا”، مثل معرفة التغيّرات المميزة التي تحدث في الغشاء المخاطي وفي الأعصاب الشَّمِّيَّة. مع مراعاة كل المعلومات النظرية الموجودة في الكتب، هل ستستطيع معرفة كل شيء عن رائحة الأمونيا؟ أو أنَّ شيئًا ما يتعلّق برائحة “الأمونيا”، والتجربة النوعية لتلك الرائحة الحادة النفّاذة التي لن تفهمها من تلك الدراسة النظرية بدون التجربة؟
تُولِّد هذه التجارب الفكرية وغيرها من التجارب المشابهة نقاشاتٍ متواصلة، فالأمر ليس مجرد أنَّ هناك جوانب مختلفة لأيّ لغز من هذه الألغاز لحلّها، بل يمكن تقديم حُجة افتتاحية قوية لوِجهات النظر والحِفاظ عليها، رغم حقيقة كون وِجهات النظر تلك تتعارض. مثال ذلك التجربة الفكرية الثانية، فيبدو أنَّ معرفة رائحة “الأمونيا” -كما في الواقع- ليست من نوعية المعلومات التي تستطيع معرفتها بقراءة الكتب، لكن هل هناك حقائق عن التجربة البشرية لا يستطيع العلم فهمها وتدوينها في الكتب؟ هل يمتلك البشر أكثر ممَّا يمكن وصفه علميًّا؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أنَّ البشر ليسوا أنظمة فيزيائية بحتة، وهو استثناء مذهل لما تخبرنا به العلوم الطبيعية عن العالَم.
أنارَت التجارب الفكرية الطبيعة البشرية أو أخفقت بشدة؟ لا جواب صريح لهذه المعضلة ولا لغيرها من المعضلات الفلسفية. تقدّم الفلسفة ابتكارات متزايدة دون توافق في الآراء. لا يتطلب التقدّم إجماعًا في الرأيّ بالطبع، فهناك فلاسفة قد حلّوا إشكالًا فلسفيًّا ما دون أن يُعترف به بصورةٍ شاملة، ولكن قد يكون مدى توافق الآراء من عدمه في مجالٍ ما، مؤشِرًا على مقدار التقدّم الذي تمّ إحرازه.
هل التفاوت بين العلم والفلسفة صادم، حيث إنَّ للعلم بداياتٍ أقدَم من الفلسفة، فلا يستطيع الفلاسفة الاتفاق حتى فيما حقَّقوه، إلى جانب الجدل والنقاش الوحشي بينهم. ثَمَّ توافق وتقدّم ملحوظ بين العلوم الطبيعية. ترضخ كثير من المشكلات العِلمية للتجارب واختبار النظريات، ولكن يبدو أنَّ الفلسفة تتعثّر دومًا.
هذا التناقض مع العلم ربما يستدعي ردَّيْنِ سريعَيْنِ يشكك كلاهما في الصورة المطمئنة التي تَبني المعرفة لبِنة لبِنة. أكَّد كارل بوبر في كتابه “منطق البحث العلمي” (1959)، أنَّ العلم عَرَّضه للدحض المختبري، وهو المغالطة بالتجربة والملاحظة. ولكنَّ بوبر يضيف أنَّ هذا يتضمن إظهار النظريات المقترحة بمظهرٍ خاطئ من خلال التجربة، فيما لا تُظْهِرُ أيَّ نظريةٍ علميةٍ على أنَّها صحيحة أو قد تكون صحيحة. قد يمكننا أن نطبّق تفسير بوبر للعلم على الفلسفة، فقد يمكن اعتبار أنَّ الفلسفة تتبع أسلوب التخمين الجريء نفسه الذي يمكن دحضه بالأدلة، رغم أنه لم يُؤكَّد بتاتًا.
نظرة بوبر بأنَّ للملاحظة دورًا سلبيًّا ومغالطًا في العلم فقط، لها أكثر نتيجة مشكوك فيها، ومفادها ألَّا دليل رصدي لأيّ نظرية علمية، ولكن لننحِّ جانبًا ما إذا كان قد وصف الأسلوب العلمي وصفًا صحيحًا، ولنتوسّع أكثر في تفسيره للفلسفة. لا تضع النظريات الفلسفية غالبًا توقعات لما نلاحظه؛ لذلك لا يمكن نقض تلك النظريات باكتشاف أنها تضع تكهنات خاطئة لما نلاحظه. فعندما أطلق جورج بيركلي سنة (1710) المذهب التصوّري أو المثالي القائل بأنَّ الأجسام المادية مجّموعة أفكار في عقولنا، لم يكن يضع توقعات لأيّ ملاحظة. لدينا توقعات مناقضة لأخرى، وهي تتحدى التوقعات التي تصنعها النظريات الفلسفية. كل ما نلاحظه -وفقًا لبيركلي- إنما هي أفكار في العقل -لاحظ كما تشاء، فلن تدحض ما قاله بيركلي-؛ لذلك علينا مراعاة ماهية نظير الملاحظة إن كنَّا سنطبّق تفسير بوبر للطرق العلمية على الفلسفة، ومن هنا تبدأ المشكلة.
أيُّ نظرة فلسفية مثيرة للاهتمام لها مزاعم غير واضحة، وإلّا فلن تكون لها فائدة. ثمّ يجب الدفاع عن تلك المزاعم؛ فإنَّ تجارة الفيلسوف الرابحة هي النقاش. يجب الآن أن يحوي النقاش افتراضات، وهي ما يُفترض أن تستند إليه التتمّة، وهذا يطرح سؤالين: ما الذي يُوجِد افتراض نقاش ما؟ ولماذا نقبل تلك الافتراضات؟
ثَمَّ إجابة عن السؤال الأول، وهي تروق لعدة فلاسفة مفادها أنَّ افتراضات نقاشاتهم مصدرها الحدس -أيّ: ما مَالوا إلى التفكير فيه بعد مواجهة مشكلة فلسفية. لمَّا سمعتَ بمعضلة مولينو صعقت لمعرفة أنَّ الشخص لم يستطع تحديد كل شكل، فهذا حدسك، فإن كان يدهشك ألَّا بد من وجود أمر غير عقلانيّ بخصوص من يرتكب الأفعال الشائنة، فهذا حدس آخر. الفلاسفة كأشخاص منحازين لديهم كثير من حدسهم الخاص. أحد العقبات تكمن في امتلاك كل فيلسوف لحدسه المناقض بصورةٍ متبادلة، فلذلك قد لا يكون حدسًا صحيحًا. وحتى لو تشارك أكثر الفلاسفة في حدسهم، فهناك عقبة أخرى، وهي مَيل حدس غير الفلاسفة من الثقافات غير الغربية عنهم. وأخيرًا حتى لو تشاركنا جميعًا الحدس نفسه، فماذا بعد؟ إن لم نفطن لمصدر حدسنا -وهو ما لم نفطن له-، فلن نعرف ما الذي نستند إليه إن انقدنا لذلك الحدس. قد نكون جميعًا على خطأ. يبدو حدس الفيلسوف نظيرًا ضعيفًا لملاحظات العلماء.
ذكرت مسبقًا أنَّ هناك ردَّيْنِ سريعيْنِ على كون الفلسفة تتناقض بصورةٍ متعارضة مع العلم، يستند الرد الثاني إلى عملٍ مختلف لفيلسوفٍ علميّ آخر، وهو توماس كون، الذي يرفض”كون” في كتابه “بنية الثورات العلمية” (1962)، النظرة الشائعة للعلم بأنَّ لديه تاريخًا حافلًا من التقدّم الراسخ، وأنَّ إسهامات العلماء المتتالية على مرّ الأجيال تحسِّن بعضها سلالة بعض، وتبني المعرفة العلمية بتزايدٍ ثابت. يظنُّ كون أنّ نظرة كتلك تقبل بسذاجة تاريخًا مؤثرًا لنفسه كتبه المنتصرون؛ حيث إنَّ المنتصرين هُم علماء أيّ برنامج بحثي سائد صدف أن يكون. ويدافع كون، تماشيًا مع هذه النظرة عن سردٍ تاريخي بلا تسلسل للأفكار بين البرامج البحثية في الجوانب المتضادة للثورات العلمية. إنّه يزعم عدم وجود عُملة مشتركة في الأفكار ما بين أرسطو وغاليلو، ولا بين إسحاق نيوتن وألبرت أينشتاين. يتحدث الطرفان المختلفان عن شيئين مختلفين؛ فحيثما برز التقدّم العلميّ فإنه يقتصر على فترةٍ محددة لبرنامجٍ بحثيّ، إذ يُولد البرنامج، ثمّ يهيمن على مجاله فترة من الزمن، ثمّ يفنى عقب ذلك.
أفكار كون، مقلقة مثيرة للجدل. يكفي للتفريق بين العلم والفلسفة الإدلاء بإجابةٍ مقيّدة. تغيّرت أمور كثيرة بشأن الإدراك العلميّ على مرّ العقود، فمن الجهة التفكرية للعلم -وهي الحافَّة القاطعة للعلم- لن يغيّر الشك المزيد في المستقبل، ولكنَّ الإدراك العلميّ للأشياء قد تغيّر. حُلَّت كثير من المشكلات العلمية، ولكن يظلّ المجتمع العلميّ واثقًا من هذه الحلول، واحتمالية احتياج هذه الحلول للمراجعة أو التخلّي ضئيلة. مِن الشواهد على تماسك القوانين التجريبية: “قانون التربيع العكسي” الذي يحكم الضوء والصوت، و”قوانين كولومبو للتفاعل المغناطيسي والكهربائي”، و”قوانين أوم وأمبير وفارادي الكهربائية”. هذه المبادئ الفيزيائية مؤكدة ثابتة بإحكامٍ، فهل نستطيع أن نقول الشيء ذاته عن الفلسفة؟ بل إنَّ قوانين المنطق ما زالت في خضمّ النقاش.
إذا كنَّا قد امتلكنا حِسًّا بكيفية اللعب في مجال الفلسفة، فيمكننا اللجوء للتشخيص. ما الخطأ الذي حدث؟ لماذا ترفض المشكلات الفلسفية الحلول؟ سأراعي خمس إجابات، والإجابة الأخيرة شخصية.
الإجابة الأولى تتحدى التشاؤم. الخبر الجيّد أنَّ بعض المشكلات الفلسفية قد حُلَّت، ومثال ذلك: يزعم نعوم تشومسكي أنَّ معضلة العقل والجسد قد حُلَّت منذ قرون؛ عندما اعتبر رينيه ديكارت أنَّ الجسد مادة تتمدد في الفضاء، بالإضافة إلى تأثيرها في الأشياء أو تأثّرها بها بـ الاتصال فقط. أمَّا العقل فهو مادة واعية، لكن ينقصها التمدد. فإذا كانت العقول لا يمكنها الاتصال حرفيًّا، فلن يمكنها التفاعل. وهنا تظهر مشكلة كيفية تفاعل الأجساد مع العقول. ولكنَّ نيوتن بافتراضه وجود قوّة جاذبة؛ أتاح للأشياء التأثير في بعضها دون اتصال. تتبدد معضلة الجسد والعقل؛ لأنّه لا جواب لأحد الجانبين؛ إذ لا وجود لما يُسمَّى الجسد.
إن نجحت هذه الإجابة، فهذا لن يكون مجرد مثال على مشكلةٍ فلسفية محلولة، بل إنَّ العلم أوجد الحلّ مِن قبل. رغم ذلك، لستُ مقتنعًا؛ لأنّ نيوتن قد كشف خلَلًا في نظرة ديكارت للجسد، أيّ: إنَّ نظرية ديكارت عن الجسد باطلة. إذن، ليس هناك ما يُسمَّى بـ”الجسد” كما يفسِّره ديكارت، لكنَّ هذا لا يَعني عدم وجود الجسد. هناك كثير من النظريات الباطلة حول النجوم والإنسان، لكنَّ ذلك لا يَعني عدم وجود النجوم والإنسان. بل إذا كان ليس للنجوم ولا الإنسان وجود كما تفسِّره تلك النظريات الباطلة، فهناك ما يُسمَّى بـ”الجسد المادي” كما تميّزه الكواكب ورؤوسنا. تبقى معضلة ديكارت عن العلاقة بين عقول ذات خصائص استثنائية بأجسادٍ ذات خصائص، مختلفة تمامًا. يوضّح إصرار هذه المعضلة الحقيقة العامة التي تنصّ على أنَّ إيجادَ مثال واضح على مشكلةٍ فلسفية محلولة، ليس بالأمر السَهل.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.