أصبحتُ مؤخرًا -والحضارة تشق طريقها نحو الهلاك [أثناء جائجة كوفيد-19]- أتصور نفسي في شاطئ صخري في بقعة من بقاع الكون؛ حيث إنّ الشاطئ عبارة عن جلاميد لا تكترث بأمواج البحر الهائج التي تحط عليه. لا أعرف موقع هذا الشاطئ على وجه الدقة، وكل ما أعرفه عنه أنه بعيد عن أي تجمع بشري، كما أعرف أن الشاطئ موجود منذ ملايين السنين، وسيبقى لملايين السنين. رؤية العالم من منظور هذه الصخور تغمرني بالطمأنينة؛ فلا أوبئة تقض مضجعها، ولا سياسة تقلق يومها. كما أن قلق حياتي الصغيرة ومشاغلها ليست ذات بال من وجهة نظر الصخور العتيقة، ومن باب تطعيم الموقف بالدعابة، أحاول أن أتخيل أن هذه الأمور كانت ذات بال فيما مضى! ففي كل يوم قضيته والقلق ينهشني، أو الخوف يفزعني، أو الغضب سيطر علي؛ هذه الجلاميد كانت هناك: ثابتة، ولا مبالية، ومتصالحة مع الكون.
أحلام اليقظة التي أعيشها لها سلف ممتد يستخدم تغيير المنظور بوصفه سبيلًا إلى بلوغ السلام والاتزان. وهذه الرسالة التي بلورها ريتشارد كارلسون في عنوان كتابه الكلاسيكي: «لا تهتم بصغائر الأمور فكل الأمور صغائر» لها جذور في كتابات الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، الذي نصح قائلًا «اشمل الكون كله واستوعبه في عقلك، وتفكّر في أبدية الزمان متأملًا التغيّر السريع الذي يعتري كل شيء في كل جانب؛ ما أضيق البون بين الميلاد والفناء» [ترجمة: عادل مصطفى، مع تعديل طفيف] (كما يسعك أن تجعل هذه النصيحة أوضح مما قالها ماركوس باستخدام برنامج «جوجل إيرث» الذي يجعلك تقرّب شاشتك إلى أعماق الفضاء في ثوانٍ معدودة). وكما وضّحت كلمات ماركوس، يصح تطبيق ذلك جغرافيًا وزمانيًا: فمن ناحية جغرافية، أنت مجرد هباءة متناهية الصغر في الكون كله؛ ومن ناحية زمنية، فترة حياتك إنْ وضعناها في سياق زمن جميع الحضارات الإنسانية؛ فهي ليست إلا رمشة عين. كما أن تاريخ الحضارات الإنسانية نفسها – كما تعرّف عادةً – لا يشكل إلا 0.0001 % من تاريخ الكوكب.
السكينة ليست الفائدة الوحيدة من تغيير وجهات النظر؛ إذْ توجد مسوغات تعزز اعتقاد أن قدرتنا الإبداعية تزداد حينما ننزع أنفسنا من وجهة نظرنا اليومية؛ حيث عادةً ما تتشكل حلول مشاكلنا تشكلًا أسهل عندما نستثير شعور ما سماه الفنان الكوميدي جورج كارلن «فيجا دي»؛ أي، ذاك الإحساس الذي يرى الغريب في المألوف. أظهرت أبحاث الباحثة في علم الإدارة جينفر مولير وزملاؤها أن الناس يصنفون الأفكار على أنها أفكار إبداعية إذا قيل لهم كان منشأ الأفكار مكانًا بعيدًا، مقارنة بالأفكار التي نشأت في مكان قريب لهم (على وجه التحديد، سألت جينفر الناس عن رأيهم في صنف جديد من أحذية الجري التي تستخدم تقنية النانو لتكيّف نفسها مع قدم منتعلها، ولم يعدّ المشاركون هذه الأحذية مبتكرة إلا إذا رأوا أنها اُخترعتْ في مكان بعيد). أحد تفسيرات هذه النتيجة مفادها أنّك حين تتصور شيئًا في ذهنك باعتباره شيئًا بعيدًا؛ فإنّك تراه من منظور عام، وتراه بوصفه كلًا متكاملًا، مركزًا نظرك على قيمته الكليّة؛ أما إذا نظرت إليه عن قرب؛ فستعلق في وساوس مفرطة، واعتراضات عَرَضية.
وأظن هذا التفسير يفسر كذلك أن أفضل أفكاري تطرأ لي في سفري، كما يحدث لكثير غيري؛ لأن الانفصال الذهني عن تحديات عملي ومشاغلي الشخصية أسهل في هذه الحالة مقارنة بغيرها؛ مما يمهّد لي سبيل التمييز بين الهام والعَرَضي. كما أن التدوين اليومي له تأثير مشابه فادني خصوصًا في الأشهر الماضية، حين لم يكن السفر خيارًا سهلًا؛ إذْ إنّ تقييد المشكلة في ورقة يفرض عليك تبني منظور الغائب في مواجهتها. أحيانًا ينشأ حل محدد لم يخطر لي من قبل، ولكن أغلب الأحيان، تكف المشكلة عن أن تكون مشكلة. وقد لاحظ عالم النفس السويسري كارل يونغ هذا الأمر في مرضاه كذلك؛ إذْ لم تُحل أكبر مشاكلهم، بل تضاءل حجمها. كتب يقول: «ما أفضى من وجهة نظر متدنية إلى أحدّ الصراعات وأشد انفجارات المشاعر [بدا الآن] مثل عاصفة في وادٍ تُرى من قمة جبل. لا يفيد ذلك أن العاصفة انتزعتْ من واقعها؛ بل يفيد أن المرء أصبح الآن فوقها بدلًا من أن يكون فيها».
ما يقع في هذه اللحظات هو تسكين ما يسميه علماء النفس «انحياز التمركز على الأنا»؛ أي، نزوعنا المعتاد إلى رؤية أنفسنا، وهمومنا التي تشغلنا، على أن لها أهمية بالغة في العالم (وتجدر الإشارة إلى أن هذا الانحياز ليس محصورًا على النرجسيين والمصابين بجنون العظمة؛ بل إنّ الحياء المفرط عادة ما يكون نتيجة افتراض أن الآخرين يركزون انتباههم علينا أكثر مما يحدث في الواقع). الإفراط في انحياز التمركز على الأنا يسهل علي تفادي المحادثات الصعبة، أو تفادي المخاطر في عملي التي قد تفضي إلى فشل محرج؛ وذلك لأن جرح الأنا لن يطاق حينها. كلما خفتْ وطأة الانحياز علي؛ سَهُلَ علي رؤية إجابات مختلفة لسؤال «ما الهام في حياتي؟». أشد الأمثلة تطرفًا لإعادة ترتيب الأولويات هذه ما يسمى «تأثير النظرة العامة» الذي يعيشه رواد الفضاء حينما يرون الأرض من الفضاء: كرة حياة هشة، ومتناهية الصغر، ومعلّقة في اللاشيء، وبعبارة رائد الفضاء بَزْ ألدرن: «جوهرة فاتنة في مخمل السماء الأسود». ستبدو الحدود الأقليمية من هذا المنظور زائفة، والحرب أذية للنفس منافية للعقل.
لعل أكثر المفاجآت المتعلقة بهذه التذكيرات التي تذكرنا بضيق أفق همومنا ومدى أهميتها الحقيقية هو أنها لا تفضي إلى العدمية أو الاستسلام؛ إذْ قد تقدح شرارة الشعور بمعنى عميق، وإحساس بالتمكين. يقدّم الفيلسوف إيدو لاندو في كتابه «إيجاد المعنى في عالم ناقص» بعض الإشارات التي تفسّر هذا الشعور؛ إذْ يقول إنّ كثيرًا من الناس يعيشون حياتهم دون تفكير فيها، مفترضين أن حياة الإنسان لن تكون ذات معنى إلا إنْ كانت ذات قيمة في ميزان الكون؛ أي، لا بد أن «يثلم الإنسانُ الكونَ» – كما يقول ستيف جوبز – وإنْ لم يقدر على ذلك بسبب أن ظروف حياته لا تعينه على ذلك؛ فالحياة ذات المعنى ليست خيارًا متاحًا له. ولكن هذا معيار بعيد المنال؛ فمَن سيصبح مثل مايكل أنجلو أو شيكسبير؟ وإنْ كنّا نتحدث حقيقةً عن ميزان الكون؛ فحتى هؤلاء الأشخاص ما كانوا ليثلموا الكون.
فهمُ الحقيقة التي لا مفر منها حول قيمتك الكونية إدراكُ أنّك تسعى إلى بلوغ معيار للمعنى ما كان لك أمل في بلوغه أصلًا. وحينما تتخلى عن هذا الحِمل المستحيل؛ لك مطلق الحرية في اختيار معيار مختلف. ماذا لو أن الأمور ذات المعنى هي تكوين الفن، وبناء منظمة أو عائلة تقدر على بنائها؟ حتى لو كان ذلك إسعاد مجموعة معدودة من معاصريك أو تحسين حياتهم؟ كان الشاطئ الصخري المتخيل في مكانه قبل أن تولد، وسيبقى طويلًا بعد مماتك، وهذا سبب مقبول يسوغ ألا تولي مشاغلك اليومية أهمية كبيرة، كما أنه سبب كذلك يسوغ أن تسعى في إثر أجمح طموحاتك، وتخاطر، وتقذف بنفسك في الحياة؛ وذلك لأن المخاطرة ليست عالية كما تظن؛ ولأنك تعرف في مستهل الأمر -من وجه عميق ومعنى حرفي- أن فشلك لا يعني نهاية العالم.