المقدمة
علاقة الإنسان بالعطر أزليَّة، نشأت منذ القدم؛ فقد استخدم مستحضرات تقليدية، مثل: الأعشاب، والتوابل، وبعض أنواع البخور، وكذلك الزيوت العِطرية الطبيعية، مثل: العنبر، والمسك، وغيرها من الروائح.. ومع مرور الزمن تطورت هذه العلاقة حتى أصبحت صناعة وتدرَجت لتصل إلى شكلها الحالي الذي نعرفه. لذا من الطبيعي أن تنتقل هذه العلاقة إلى فضاءِ السرد، حيث استحضر الروائيّون العطور في رواياتهم، بحسب احتياجات ومتطلبات نصوصهم الروائية. وفي الروايات التي تصنّف تاريخيًا على أنها روايات قديمة حضرت تعبيرات تدل على الرائحة العطرية، مثل: (“تحمل الريح عطر الورد”، و”فاح منها أريج عطر”). مثل هذه الأوصاف كانت أوصافًا تعبّر عن الروائح العطرية بشكلٍ عام دون الدخول في تسمية العطر، بل إنّ هناك روايات كلاسيكية شهيرة لم تحظَ شخصياتها بعطرها الخاصّ، كـ: رواية «مدام بوفاري»، و«آنا كارنينا»، وحتى الروائي مارسيل بروست -وهو الروائي الذي كان في سباعيته »البحث عن الزمن المفقود«، يبحر في التفاصيل- لم يسمِ عطور شخصياته، بل كان يذكر مصادر العطور في جملٍ عابرة، كـ: »وغاصت في عطرٍ من عطور الزعرور«. “إنها زهرة ذابلة لا عطر لها، فاح شذا دوّار الشمس، وغمرها بهذا العطر الدافئ، معطر برائحة الفانيلا”. وفي مثل هذا الوصف العمومي تحضر سيرة العطور في الروايات القديمة، وأيضًا نجده في بعض روايات أميركا الجنوبية، أمثال: غابرييل غارسيا ماركيز، وماريو فارغاس يوسا، وإيزابيل الليندي. كذلك بعض الروايات النسائية الشهيرة تخلو من مفردة أسماء العطور تمامًا، كـ: رواية شارلوت برونتي “جين إير“، ورواية إيميلي برونتي «مرتفعات ويذيرنغ»، ورواية مارغريت ميتشل «ذهب مع الريح»؛ وربما يفسِّر هذا الغياب مفاهيم كتابة الشخصية الروائية في ذلك الزمن، حيث كان التركيز على وصف الملامح الجسدية، والملابس، والأحذية، والأثاث دون الاهتمام بتسمية عطور الشخصيات الروائية. ويبدو غير مفهوم تغييب ماركات العطور في روايات ذلك الزمن، خاصةً عندما نعرِف قِدَم تاريخ صناعة العطور: «عطر أكوا دي كولونيا أقدم عطر في التاريخ، صدر عام 1533، لشركة سانتا ماريا نوفيلا، التي مقرَّها في مدينة فلورنسا الإيطالية».
يظلّ حضور العطر أو غيابه عائدًا إلى ذائقة الروائي، فهناك روائيّون يندر حضور العطر في رواياتهم، كـ: الروائي إحسان عبد القدوس، الذي تصنف رواياته على أنها الروايات الرومانسية القائمة على المشاعر والعواطف إلّا أن أغلب بطلات رواياته حُرمن من ذكر أسماء عطورهن. كذلك نجيب محفوظ شحيح جدًا في استحضار العطر في رواياته، وشحّه في إكرام شخصياته باستحضار أسماء العطور يتناغم مع ما قالته عائشة أحمد عبد الجواد في رواية «بين القصرين»، عن والدها: «ليس في بيتنا كلّه نقطة بودرة، أو كحل، أو أحمر شفاه، كأن ليس به نساء». نقول وكأنّ روايات نجيب محفوظ ليس بها شخصيات نسائية حتى يهمل ذكر الإكسسوارات المرتبطة بالتفاصيل الأنثويّة. مقابل بعض الروائيين المولعين بذكر العطور في روايتهم. وفي روايات العصر الحديث نجد أنّ الروائيّات أكثر استحضارًا للعطر، وربما يرتبط الأمر بتعدد ماركات العطور، وتغيّر أنماط الحياة، حيث منح الروائي مساحة في اختيار عطر شخصيته.
إنّ هذه التأملات والآراء لا تمثّل أحكامًا قطعية، ولكنها نتاج جهد شخصي في قراءة الروايات، وبحسب ما أُتيح لي من الاطلاع على عوالم العديد منها وتأمل هذا الجانب فيها. لذا، فهي لا تمثّل دراسة عن تاريخ العطر أو تاريخ حضوره في الأعمال الروائية، بل تقدّم رؤية مختصَّة بكيفية هذا الحضور، وكيف قدّمه الروائيّون في أعمالهم.
أسماء العطور وامرأة تَخترع عطرها
التصريح باسم عطر الشخصية الروائية سواءً بذكر نوعه أو باسم الشركة المنتجة، يأخذنا إلى حالةٍ من التأمل في حضور أو غياب التسمية، وفي تصوّري الأمر يعتمد على طبيعة تفاصيل الشخصيات، وعلى تقنية السارد في وصفه للأحداث. وفي بعض الحالات نجد ذكر اسم العطر ضرورة تضيف إلى المشهد الروائي، وأحيانًا يمنحنا دلالة ما تشير إلى تلك الشخصية، بل قد يصبح شاهدًا زمنيًا أو شاهدًا جغرافيًّا، وهذا ما نجده في عطر «أغنية الريح» لفرانشيسكا، بطلة مقاطعة «جسور ماديسون»، لروبرت جيمس والر: «وضعت عطر “أغنية الريح” مرّة أخرى، طلاء شفاه خفيف على الوجنتين العاليتين، وجه لاتيني، ظلّ زهريّ أفتح حتى من لون الفستان». وفي رواية «ألف شمس ساطعة»، لخالد حسيني، نجد أن استحضار اسم العطر مقترن بفيلم عطر «تيتانيك»، ومن ثمّ هناك ارتباط زمني بين أحداث الرواية وتاريخ إنتاج فيلم «التيتانيك»: «عند نهر كابل، انتقل الباعة إلى مجرى النهر اليابس وسرعان ما أصبح متاحًا، في تجويف النهر الذي أيبسته الشمس، شراء سجاجيد “تيتانيك”، وقماش “تيتانيك”، من أثوابٍ مصفوفة على عرباتِ يد، كان هناك مزيل عرق “تيتانيك”، معجون أسنان “تيتانيك”، عطر “تيتانيك”، “بَكورا” “تيتانيك”، وحتى برقع “تيتانيك”».
في العصر الحديث قد يكون ذكر اسم ماركة العطر في بعض أعمال الروائيين العالميين حالة تسويقية وترويجية لذلك العطر، بينما لا يكون التصريح باسم العطر مهمًا عند روائيين آخرين. وفي حالةٍ مختلفة الأمر قد تصل إلى تتعرَّف بطلة الرواية، في أوراق أشجار الخزامى الجافَّة على هُويّتها العطرية، وتخترع عطرها، ففي رواية «المريض الإنجليزي» لمايكل أونداتجي، التي تدور أحداثها في نهاية الحرب العالمية الثانية، في فيلا مهجورة، في قريةٍ إيطالية، حيث تعتني الممرضة هانا برجلٍ يُدعى اسزلو ألمانسي، وهو رجلٌ مصاب بحروقٍ شوّهت جسده، ولأنّه غامض ومتعدد الجنسيات سُمّي بـ: “المريض الإنجليزي“. في تلك الفيلا، ومن خلال العناية بذلك المريض، بسبب ظروف الحروب القاسية تخترع هانا تفاصيل حياتية تلائم تلك الظروف الصعبة؛ لذا يستثمر السارد هذه الحالة في توصيف احتياجها للرائحة العطرية؛ ما يجعلها تظن أنها كانت من خلال تلك الوُريقات الجافّة تخترع وتتعرَّف على عطرها: «ينصب السيخيُّ خيمة في طرف الحديقة، حيث اعتقدت هانا أنّ الخزامى نمَتْ مرّة. عثرت على وُريقاتٍ جافّة في تلك المنطقة لفّتها على أصابعها وحدَّدت هُويّتها. بين فينة وأخرى، بعد المطر، كانت تتعرَّف على عطرها».
وقد يمرّر الروائي اسم العطر بحيلةٍ روائية، فمثلاً في رواية «العتمة» لسلام عبد العزيز، نجد السؤال عن اسم العطر وإن كان يخالف الاتيكيت النسائي في التصريح بشكلٍ مباشر عن الرغبة في معرفة اسم العطر إلاّ أنه في هذه الحالة مبرَّر؛ لأنه جاء من طالبةٍ مراهقة تسأل معلّمتها: «أبلة إيش اسم عطرك؟ تُفاجأ بالسؤال، لكنّها تُجيب بهدوءٍ دون أن ترفع رأسها عن الواجب: pleasure بليجر، وتُكمل سيرها للركن المتبقي الملاصق للجدار، وتتبعها نظرات منى وهي تقوم بحركة استنشاق العبير المتبقي من عطرها». وفي رواية «مرايا ساحلية» لأمير تاج السر، يتكرَّر السؤال ولكن بصيغةٍ أخرى: «ما اسم عطرها يا عزيزو؟ إنَّه (أوراق الخريف)، إنَّه (سرتية الهند)، إنّه (بنت السّودان)، إنَّه عطر (السيّد علي)».
في المقابل إذا كانت بطلة رواية «هما»، لغازي القصيبي، تنكر على الرجل أن يتذكّر نوع عطر المرأة: «لا أتوقّع منك أن تكون كاميرا تسجّل كل شاردة وواردة من تصرفاتي. وحتى إسفنجتك التي تمتصّ كل معلومة تسقط عليها لا أتوقّع منها أن تمتصّ أيّ معلومة عن طول حاجبي أو لون حذائي أو نوع العطر الذي أستعمله، وهل توجد امرأة ذكيّة تتوقّع من رجلٍ طبيعي أن يتذكّر نوع عطرها؟». نجد أنّ الحالة مغايرة عندما يمنح الروائي شخصيته الروائية الفراسة؛ فيخمّن اسم عطر الشخصية الأخرى، ولا يتعرَّف عليه فحسب، بل ويصفه بدقةٍ متناهية، وهذا ما حدث في رواية «ظل الريح» لكارلوس زافون: «حسنًا. منذ نصف ساعة جاءت إلى هنا شابَّة حسناء تسأل عنك. كان أبوك حاضرًا وأنا أيضًا. وبوسعي أن أضمن بأن الشابَّة لم تكن شبحًا أو طيفًا. إنني مستعد لأصف لك حتى عطرها. عطر لافاندا، لكنه مائل إلى الحلاوة مثل حلوى الشامبيلا التي خرجت للتَوّ من الفرن«. لكن قد يأتي ذكر اسم العطر في روايةٍ أخرى من باب التخمين مثل هذه العبارة في رواية «زحف النمل» لأمير تاج السر: «أشمُّ رائحة عطر نسائي لعلّه عطر (كوكو) الحالم».
وفي حالاتٍ أخرى قد يكتب الروائي مشهدًا فيه تفاصيل دقيقة، بحيث يسمّي الأشياء، لكنه يتجاهل تسمية العطر، ويكتفي بعبارة “زجاجة عطر” وهذا ما نجده في هذا المشهد من رواية «غاتسبي العظيم» للروائي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد: «كانت قد استبدلت بثوبها رداءً بنيًّا من الموسلين التصق بجسدها عند ردفيها ـ الأقرب إلى الاتساع ـ، عندما ساعدها “توم” على النزول على رصيف المحطة في نيويورك، وعند كشك الجرائد اشترت نسخة من جريدة “تاون تاتل” وصحيفة سينمائية، كما اشترت من الصيدلية بعض “الكولد كريم”، وزجاجة عطر».
أمَّا في رواية «خان الخليلي» لنجيب محفوظ، نجد أنّ اسم العطر يتكرّر في مشهدين من الرواية، ولكن في مرّةٍ يسمّيه «عطر البنفسج» ومرّة أخرى يسمّيه «شذا البنفسج»، ومع ملاحظة أنه حدَّد نوع العطر، ولكن لم يسمِ الشركة المنتجة لذلك العطر. والمفارقة أنّ نجيب محفوظ خصّ شخصية رشدي بالتعطّر والأناقة رغم أنه الأقل حضورًا في الرواية، وتجاهل أحمد عاكف، الشخصية التي استحوذت على السرد، بل أنه تجاهل شخصية نوال، الفتاة المعشوقة وتجاهلها مبرَّر؛ إذ كانت فتاة صغيرة تُرى في الرواية من خلال مشاعر وعيون أحمد عاكف، ثمّ رشدي عاكف. لكن عندما نتأمل سياق أحداث الرواية وطبيعية تلك الشخصيات فسنجد هذه الخاصية التي مُنحت لرشدي مناسبة لشخصيته ولأسلوبه في الحياة فهو الشاب الدنجوان المُفعم بحبّ الحياة. والملاحظة الأخرى أن نجيب في المشهدين قرنَ استخدام العطر بتسريح الشَعر، وهذا الاقتران دقيق جدًا في الوصف؛ فشخصية مثل شخصية رشدي تشكّل العناية بالشَعر أهمية كبرى عنده: «فتح النافذة ودهن شَعره بالفازلين وسرَّحه بعنايةٍ فائقة، وتعطَّر بعطر البنفسج الأثير لديه فصار في أحسن حال». وفي مشهدٍ آخر من ذات الرواية، «وأقبلَ نحوهم ـقبل مضيّ ربع ساعةـ يخطر في بيجامته وقد سرَّح شَعره الأسود، وتعطَّر بشذا البنفسج». وروائي مثل غابرييل غارسيا ماركيز في رواية «الحب في زمن الكوليرا»، لا يمكن أن يفوت تسمية العطر الذي يستخدمه بطل روايته الطبيب جيفينال ايربينو خاصةً، وأن ذلك المشهد قائم على ذكر تفاصيل الطقوس اليومية لتك الشخصية: «بعد ذلك يستحمّ، ويشذّب لحيته، ويصمغ شاربـه بـمستحضـرٍ مـشبـع بـكـولونيا فارينا غيغينير الأصلية». والروائي صنع الله إبراهيم في رواية «ذات»، لم يكتفِ بإعلان اسم العطر، بل جعله دلالة على أناقة شخصيته الروائية: «فيما عدا ذلك لم يكن هناك ما يعيبه: كان وسيمًا، أنيقًا، مسلّحًا بالضروريات الذهبية: علبة السجائر، والولاعة (رونسون)، الخاتم، عطر أولد سبايس، الحذاء الضيق المدبَّب، معرفة بأنواع الطعام وبروتوكولاتها».
العطر في حالةٍ غرائبية
قد يذهب الروائي في استحضار العطر إلى توظيفه في حالةٍ غرائبية في مشهدٍ ربما يصدم القارئ مثلما فعل شفيق القبَّار مع جثة جليلة، في رواية «فسوق» لعبده خال، التي قُتلت ودفُنت في المقابر التي كان يحرسها، فقام باستخراجها من لحدها ووضعها في فريزر حتى تحتفظ بحالتها التي ماتت عليها؛ كي يستطيع، كلما أخرجها ليلًا أن يتأملها ويتحدث إليها. وهذا ما سوف نقرأه في هذا المشهد لشفيق القبَّار الذي يتعاطى مع جثة جليلة بذلك العشق الشاذ: «كان شيئًا يحوك في داخله، فلا يستقر على حال. نهض وتناول زجاجة العطر ورشّ بها الجثة كاملة، وردد من غير أن ينظر إليها: لا تحسبي أني منزعج من هذه الرائحة. لا والله لا تزعجني رائحتك. والعطر الذي أرشّه عليك، ليبقى. بخّ قارورة عطر نسائية في كامل الغرفة. كان هذا هو عطر جليلة، ذلك العطر الدبق الذي ظلَّ معلقًا في غرفتها، وفي ملابسها، وفي خزانة شفيق التي حوت زجاجة عطر كاملة يجاورها غطاء لنفس الزجاجة. كان سخيًّا في تبذير زجاجة العطر، ولا يزال اسمها على فمه».
العطر حالات من الشك والارتياب
أحيانًا، يستحضر الروائي العطر في حالةٍ أخرى بعيدة عن الصورة الرومانسية النمطية، بل أنه قد يكون باعثًا للاتهامات العاطفية كالغيرة والشك فنجد ناصر بطل رواية «سقف الكفاية» لمحمد حسن علوان، يعبّر عن ظنونه وتوجّسه تجاه عطر سكابتشلر، بقوله: «لا أدري لماذا كنتُ أشكُّ دائمًا أن تعلُّقكِ الغريب بعطر سكابتشلر، واحتفاظكِ بقارورةٍ كبيرةٍ منه في غرفتكِ، بالرغم من أنه عطرٌ رجالي، كان وفاءً لعطر حسن؟ هل حقًا كان هذا عطره؟». نلاحظ في هذه العبارة أن السارد يذكر اسم العطر ولا يكتفي بأن يتوجّس من وجوده، الذي يعتقد أنه يمثّل ذكرى لرجلٍ آخر، بل يستنكر عليها -أساسًا- أن تحتفظ بعطرٍ رجالي. وقد يمتد سوء الظن في حضور العطر إلى التوجّس من استخدامه ففي رواية «لا تطفئ الشمس» لإحسان عبد القدوس، يحضر العطر واسم الماركة عطر «أربيج»، في هذه الحالة الارتيابية، عندما توصي ليلى، بقولها: «خلّيكي عاقلة استني. خدي حطّي كمان شوية بارفان. وسكبت قطرتين من عطر “أربيج” فوق أصبعها، ومرَّت به خلف أذنيها. ونظرت إليها نبيلة كأنها تبحث عن شيء في وجهها، ثمّ قالت لها في صوتٍ ثابت: ليلى. خلّيكي عاقلة».
وفي رواية «ابنة الحظ» لإيزابيل الليندي، يصبح الحدس الأنثوي حاضرًا عند شمّ الرائحة في التكهن بخيانةٍ ما، وإذا ما تجاوزنا هذا الحدس الرهيب فإننا نرى في هذه العبارة تعبيرًا محددًا عن العطر، يُعرِّف بالمكان، بأن النساء المكسيكيَّات لهن عطرهن الخاص: «وكانت إلزا تحجم عن التَّقصِّي، لأنَّها تستطيع أن تشمّ الرائحة: لقد كان مع امرأة، بل يمكنها كذلك أن تميِّز عطر المكسيكيَّات الحلو». ومثل هذه الإشارة إلى أن لكل شعبٍ خصوصيته في العطر، وأن رائحة ما قد تدل على جغرافية ذلك المكان، سنجدها في رواية «والليل رقيق» للروائي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد، كان هناك: «عطر الرّوس الذي يفوح على طول الشاطئ، بمحالِ بيع الكتب، ومخازن البقالة المُغلقة قبل أحد عشر عامًا».
العطر – ذكريات غير جيدة
قد يأتي العطر في صورةٍ من الذكرى غير الجيدة للشخصية الروائية، وهذا ما نرصده في رواية «زائرات الخميس» لبدرية البشر: «وجلست أمام المرآة حيث تحبّ أن تنظر إلى نفسها دائمًا مدَّت يدها إلى قارورة العطر فوق التسريحة، شمَّته، ثمّ رشَّت منه على ساعدها الأيسر، وسألتها: “أووه. عطر شيرير! كم هو قديم، كرهته يوم كنت حاملًا بك”. فقالت لها: “كرهت العطر أم كرهتني؟”». وتتجلَّى في هذه العبارة عدة إشارات، إذ نجد الساردة لا تذكر اسم الماركة فحسب، بل وتصفه بأنه عطر قديم، ولكن الأم تكرهه؛ لأنه يرتبط بآثار الحمل، والساردة أيضًا تستفيد من هذا الاستحضار لذلك العطر في طبيعة العلاقة بين الأم والابنة، في قولها: «كرهتِ العطر أم كرهتني؟».
أمَّا في رواية «السندباد الأعمى – أطلس البحر والحرب» لبثينة العيسى، يأتي استحضار العطر في حالةٍ مختلفة ومغايرة، حيث يذكر ضمن متروكات الميت، ما نجده في هذه العبارة عن متروكات نادية، بطلة الرواية، التي قُتلت في جريمة شرف: «دزينة من دهن العود، ثلاثون زجاجة عطر فرنسية، تنانير سوداء إلى منتصف بطة السّاق، ستة أقلام كحل، وزوجي ماسكارا، أحمر شفاه نبيذي، وآخر عنّابي قانٍ، ومشمشي». نلاحظ أن الساردة تمنح القارئ في حصرها تلك المتروكات المتعددة -مع ملاحظة أنني قد اقتبست ما يختصّ بموضوع المقال، وتركت ذكر أسماء الأشياء الأخرى-، تعبير عن شخصية وذائقة نادية، التي كانت مُحبَّة للحياة، كما نلاحظ أن هناك تضادًا في ذائقتها العطرية، حيث العطور الشرقية، والفرنسية، مع ذكر العدد: «دزينة من دهن العود، ثلاثون زجاجة عطر فرنسية».
وحضور العطر ضمن قائمة تتكّون من عدة أشياء نجده عند عبده خال، في رواية «مدن لا تأكل العشب»، وكذلك في رواية «ترمي بشرر»؛ إذ نجد أنّ حضور العطر في الأولى فيه توافق وتناسق مع بقية الأشياء المكتوبة من خديجة في رسالة الى أختها مريم، التي أهدتها تلك الأشياء البسيطة، وحتى نوع العطر «جنة النعيم»، يتوافق مع تلك البساطة: «أختي مريم: تجدين مع الرسالة وصيّة أربع كرت، وبدلة ليوسف، وثلاثة بناجر كل بنجر لواحدة من البنات ومضربين عطر جنة النعيم». أمَّا في رواية «ترمي بشرر»، نجد أن العطر لم يتفرد بحضوره في تلك الهدية التي أُهديت من صاحب القصر، بل حضر أيضًا ضمن أشياء أخرى، ولكن لا رابط بينهما: «لم أطق الانتظار، رغبت في معرفة محتوى هديتي، فأزلت تغليفها. كانت مكوَّنة من ثلاثة أجزاء: حبوب منشطة جنسيًّا، وزجاجة عطر، وشريط فيديو».
وإذا كان هناك تضاد في الذائقة العطرية لبطلة رواية «السندباد الأعمى»، فإنّ بطلة رواية «كمياء الخيبة» لإيمان الخطاف، أيضًا لديها ذلك التضاد، إذ نجد حضور العطر الشرقي «العنبر»، وكذلك عطر آخر لا تسمّيه الساردة، ولكنها تذكّر مكوّناته العطرية: «حاولت التماهي مع مظهر خولة القديم، بقميصٍ أبيض يشبه ذاك الذي كنت أرتديه عندما كنت طالبة جامعية، وتنورة مخملية قصيرة، ورسمة كحل كلاسيكية فوق جفنيّ، وعطر برائحة العنبر الفاخر». وفي عبارةٍ أخرى تستحضر العطر الشرقي: «ثمّ أعطيت روزالين كِسرة من بخور فاخر أحضره منصور في إحدى زياراته إلى الهند، لتعطّر البيت برائحته الزكية».
وفي رواية “القارورة” ليوسف المحيميد، نجد أن منيرة الساهي بطلة الرواية، لديها ذلك التضاد في ذائقتها العطرية، إذ تضع عطر «شانيل مودموزيل»، وأيضًا تضع عطرًا شرقيًا «دهن العود»، وكل جزء من جسدها يختصّ بعطره المناسب بحسب ذائقتها: «كانت تضع عطر شانيل مودموزيل على صدرها وشَعرها، وتفرك شحمتي أذنيها بأصابعها المغمورة بدهن عودٍ مخلط».
أمَّا عن ذكر عدد زجاجات العطور فقد لا يأتي في حالةٍ محددة كشاهد على الذائقة العطرية للشخصية الروائي، بل قد يأتي في أشكالٍ مختلفة، منها: التهكم والسخرية، كما في رواية «أيام وكتب» لأحمد الحقيل، حيث يسخر الزوج من زوجته، من عدد العطور التي تمتلكها: «تقول نورة إنني مجنون، ومهووس أوكيه، ممكن، ولكن من الصعب أخذ شهادتها بجدية؛ فهنالك خمسون عطرًا على شوفنيرتها، لا تتعطَّر إلا باثنين منها».
العطر جدل واتهامات
في الجانب الآخر، قد يكون استحضار العطر بعيدًا عن وظيفته الرومانسية؛ إذ يحضر كحالة جدليّة يستدلّ بها الروائي على مواقف شخصيته الروائية، فالروائي ماريو بينيديتي في رواية «من منّا»، وعلى لسان بطل الرواية يُدين النساء اللواتي يستخدمن العطور الرخيصة كمحرّض على استدعاء الحنين والذكريات: «يوجد نوع آخر من النساء لا تنطبق عليه هذه الحالة: أولئك اللاتي يستعملن العطر الرخيص على أنه نوستالجيا». أمَّا فرجينيا وولف في رواية «أورلاندو»، وبملابسات شخصية بطل الرواية الذي يخضع لتغييرٍ للجنس، فإنّ هذه الحالة المضطربة لتلك الشخصية تجعله يحكم من خلال تجربته القصيرة كامرأة بأن العطر من النِعم التي يجب على المرأة أن تحرص عليها؛ لكي تَنعم بمتع الحياة: «على أن المرأة لا بُدَّ أن تكون مطيعة، عفيفة ومحتشمة، ومعطّرة جيدًا، ومرتدية أجمل الملابس، فكَّرت: والآن عليَّ أن أدفع لنفسي ثمن هذه الرغبات، فالنساء لم يُفطرن مطيعات، ولا عفيفات، ولا محتشمات، ولا معطّرات، ولا مرتديات أجمل الثياب. بل يصلن إلى هذه النِعم، التي بدونها لن ينعموا بمتعةٍ من مُتع الحياة، بالانقياد إلى أكثر قواعد السلوك والتهذيب المُملَّة».
ويجمع بطل رواية «قواعد العشق الأربعون» لأليف شفق، وبطل رواية «زائرات الخميس» لبدرية البشر، موقفًا عدائيًا مشتركًا من المرأة المتعطِّرة. حيث يرى ديفيد في قواعد العشق الأربعون، أن رائحة النساء يجب أن تكون رائحة نساء: «تنفَّست إيلّا تنفُّسًا عميقًا وتعطَّرت ببعض العطور، من طراز إيترنيتي لشركة كالفن كلين، كانت الزجاجة تنتظر في درج الحمّام منذ زمن طويل، إذ لم يكن ديڤيد من هواة العطور، وكان يردّد أنّ رائحة النساء يجب أن تكون رائحة نساء وليست رائحة عطر الانيلّا أو عيدان القرفة. واعتقدت إيلّا أنّ الأوروبيين من الرجال قد تكون لهم وجهة نظر مغايرة لوجهة نظر زوجها. أليست للعطور أهمِّيَّة كبيرة في أوروبا؟». وفي رواية «زائرات الخميس»، كانت شخصية الأبّ لا تحبّ المرأة المتعطِّرة، ولكن دون أن تشير الساردة إلى سرِّ عدم المحبَّة، غير أننا نفهم من سياق السرد أنها ربما نتاج تشدّد ديني أو اجتماعي، مع ملاحظة أن الساردة اختارت تعبير «لا يحبّ»، ولم تستخدم مفردة «يكره»، وهذا له دلالته: «دخلت أمّها بسحرها الطاغي ورغبتها الفارهة في الحياة مهما كانت الظروف: أصباغ الحنّاء في يديها، ودهن الورد مشبع في ثناياها، والياسمين مبثوث في ثيابها، رغم أنّ والدها لا يحبّ المرأة المتعطِّرة».
وفي رواية «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» لأميمة الخميس، يحضر العطر في حالةٍ مقايضة لبطل الرواية مزيد الحنفي، لكن الساردة تتحفّظ على اسم العطر مع ملاحظة أن أحداث الرواية تدور في القرن الرابع الهجري، ومن الطبيعي ألاّ يكون هناك أسماء ماركات للعطر: «كانت علاقتي قد توطّدت معه واطمأن إلى رفقتي بعد أن سمع بعض أهازيجي وترانيمي بالقصائد، فظلّ يطلب مني أن أرفع صوتي بالحداء كي تطرب إبله مقابل قارورتين من العطر الثمين اختارهما من بضاعته، ولأنني لا أعرف التفريق بين العطر الخبيث والجيد، تركت له مهمة اختيار مكافأتي من العطور».
العطر رغبة
العطر في الروايات النسائية غالبًا ما يأتي رومانسيًا وممزوجًا بالرغبة الحسِّية والتأجّج العاطفي، وهو مقرون بتذكّر الماضي، حيث العطر من بواعث الحنين لشخصيةٍ كانت تقترن به عاطفيًا. وأحيانًا لا تكون هناك عاطفة، بل مجرد تذكّر للعطر ولرائحة الرجل، ما نجده عند بطلة رواية «هند والعسكر» لبدرية البشر: «قدَّم لي كيسًا صغيرًا تخرج منه قرنفلتان، واحدة بيضاء والأخرى حمراء، وصندوقًا صغيرًا أبيضَ فيه عطر فرنسيّ، نسائيّ ناعم، من ماركة “آنيس”. يرتجف قلبي كلَّما شمَمته حتى اليوم». وكذلك للعطر حضور مشابه، في روايتها «زائرات الخميس»؛ إذ تقول: «وبعثت فيها رائحة عطر جابرييل ستراز العالقة بأنفها التَّوقَ لعناق رجلٍ لن تشمَّ رائحة عرَقه أبدًا». وبشرى خلفان في روايتها «دلشاد»، لا تسمّي العطر، ولكن تصفه بالرائحة، وهذا الوصف مناسب لزمن الرواية؛ ففي تلك المرحلة الزمنية لم يكن استخدام زجاجات العطر شائعًا في منطقة الخليج العربي: «قبَّلني عبد اللطيف فلم أفهم، ثمّ قبَّلني مرّة أخرى فما عدتُ أريد أن أفهم، بل أردتُ منه أكثر؛ كانت رائحته حلوة، رائحة هيل وقرفة وقرنفل وزعفران، وأردتُ أن أستنشقه كلّه، وأن أسحب رائحته كلّها إلى داخلي، فتمتلئ رئتاي بها».
وفي رواية «الآخرون» لصبا الحرز، تصادفنا حالة أخرى لحضور العطر، حيث العلاقة العاطفية الافتراضية التي تجعل البطلة تعرِف اسم عطر الطرف الآخر، لكنها لم تشمّه، فتكتفي فقط بالتخيّل: «لا شيء بيننا حقيقي، أنا لستُ إلّا إلكترون شاردًا بالنسبة إليك، لا شيء حقيقي! شممتُ عطرك الـ premier jour، ولا أعرف كيف هو».
بينما في رواية «حرير الغزالة» لجوخة الحارثي، يحضر العطر في مفارقةٍ طريفة، كيف أنّ رائحة عطر الرجل تأخذها إلى تذكّر رائحة أخرى غريبة الوصف، وهو ما كانت تفعله آسية معها في مراهقتها: «حينما يمرُّ بجانب مكتبها في أوَّل الصباح، تشمّ عطره Boss، وفي آخر النهار، بعد يوم مجهِد، تشمّ بمروره رائحة أخرى، رائحة جسد بريّة تُذكِّرها بأوَّل مراهقتها، حين كانت آسية تحشر رأسها تحت إبطها، لتُبرهن لها بتباهٍ أنَّ شعرًا قد نبَتَ لها هناك قبل أن ينبت لغزالة».
وقد يأتي العطر لوصف حالة تأنّق البطلة فيما تتهيأ لمناسبةٍ ما، أو في خروجها، وغالبًا ما يجيء ذكر العطر في تلك الحالة خفيفًا كإشارة عابرة، كما حدث عند خروج عزيزة، بطلة رواية «غراميات شارع الأعشى» لبدرية البشر: «رششتُ ثوبي برشّةٍ من عطر إنترنتي الخفيف، ثمّ وضعتُ عباءتي على كتفيّ وغطائي الشفّاف على وجهي. قبل أن أخرج سمعتُ صوت والدي يقول: أوصلك يا عزيزة؟».
لكن ليست كل الشخصيات الروائية النسائية تمتاز برفاهية تذكّر العطر واستعادة الذكريات المصاحبة له، فحميدة بطلة رواية »زقاق المدق« لنجيب محفوظ، عندما هربت من حارتها وذهبت مع فرج إبراهيم، لم ترافقها الدهشة وهي ترى زجاجات الروائح العطرية فحسب، بل لم ترَ فيها فائدة او انتفاع يناسبها: »ورأت زجاجات الروائح العطرية منضودة على التواليت، ولكنها كانت تراها لأوّل مرّةٍ في حياتها، فلم تهتدِ إلى وجه الانتفاع بها في مأزقها، ثمّ تناولت مشطًا عاجيًّا وسوَّت شَعرها في عجلةٍ ولهوجة، ومسحت بطرف فستانها وجهها، وألقت على المرآة نظرةً أخرى«.
أمَّا عندما يكون السارد رجلاً ويكتب على لسان امرأة، فإنه يحاكي ما تكتبه المرأة الساردة في مثل هذه المشاهد، لذا نجد هذا الوصف في رواية «لوعة الغاوية» لعبده خال: «وأسفل المخدة نامت زجاجة عطر لم تعد محتفظة إلاّ باليسير منها، شممتها فانبثقت رائحة مبخوت تملأ تجاويف خشمي». وفي حالةٍ أخرى يحضر العطر مقرونًا بالرغبة والحسِّية عند الحبيب السالمي، الذي لا ينتبه إلى عادات شخصياته الروائية في استخدام العطور، فنجد أبطاله ينعمون بذات الصفة في محبَّة العطور. وفي رواية «الاشتياق للجارة»، يقول عن بطله: «وفي بعض الأحيان، أتعطَّر مرَّة أخرى بعد أن أكون قد فعلت ذلك أثناء الاغتسال وفي الحقيقة، أنا حريص على أن أتعطَّر صباح كلَّ يوم، فأنا أحبّ العطر كثيرًا، لا لأنَّ رائحته تعجبني فحسب؛ وإنَّما لأنَّه يحسِّن مزاجي الذي يكون متعكِّرًا عادة بعد الاستيقاظ ويمنحني إحساسًا قوِّيًّا بالثقة بنفسي أيضًا». بل في مشهدٍ آخر كانت تقول له بريجيت التي تختار عطره ويثق في ذوقها: «لم أرَ في حياتي رجلًا يحبّ العطر مثلك، تقول لي باستغراب، عندما تلاحظ أنَّ قنِّينة العطر التي أهدتني إيَّاها قبل شهر بدأت تنفذ. ماذا تفعل بالعطر؟ هل تشربه؟».
وفي رواية «روائح ماري كلير»، نجد حالة البطل مشابهة لبطل رواية «الاشتياق للجارة»، في محبَّة العطور: «وممّا يزيد في فرحي هو أنّي أجد نفسي في قلب الجناح الذي يحتوي على العطورات، وعلى ما يسمّونه هنا “الملابس الداخليّة الناعمة”، أعترف أنّ هذا الجناح يهمّني أكثر من غيره في مثل هذه المحلّات التجاريّة الكبرى؛ لهذا السبب أشعر دائمًا بانجذابٍ قوي إلى “بازار دولتي دو فيل”، وغاليريات “لوبرنتان”، و”لافيات”، و”مونبارناس”؛ لتوافرها على أجنحةٍ كبيرة وراقية للعطورات». ومع أن الرواية تحمل عنوان «روائح ماري كلير»، إلاّ اننا نجد أن محبَّة بطل الرواية للعطور تحجب روائح ماري، التي يأتي الحديث عنها بشكلٍ طفيف في عباراتٍ محدودة لا يتناسب وعنوان الرواية، ومنها تلك العبارة: «أشمّ رائحتها. أمسك بملابسها. أسمع وقع خطواتها. ألمس جسدها. أتفحّص أمشاطها. مشابك شعرها. قوارير عطرها». أو في عبارةٍ أخرى: «لا أغادر الفراش ليس فقط لأنّي لا أشتغل في ذلك الصباح، وإنّما أيضًا لأنّي أخشى أن أفسد هذا الإحساس بالانتشاء الذي يغمرني إن تركته أتقلّب قليلًا، ثمّ أرقد على ظهري. مخدّتها الآن فوق أنفي تمامًا رائحتها قويّة، خليط من العطر والعرق. رائحة أنثى نائمة، لذيذة ومخدّرة، تزيد في إحساسي». وفي رواية «الساعة الخامسة والعشرون»، لقسطنطين جيورجيو، كان وصف الكاتب للعطر مخيفًا، وذلك عندما وصف السارد الزوجة وهي تشمّ رائحة عطر الرجل العملاق في وصفٍ لا يُنسى: «تشعر أنه تغلغل في قطع الأثاث والسّجاد والجدران، إنه لن يبرحها أبدًا. لقد اخترق ذلك العطر أثوابها وبشرتها وشَعرها وقميصها، ولن يخرج منها ولو أمضت العُمر في الاغتسال».
العطر حجاب
وقد تستخدم رائحة العطر لطمس رائحةٍ أخرى فبطل رواية «فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي، المدخن يُكثر من استخدام العطر؛ كي يزيل رائحة التدخين ولا يُكتشف أمره، لكنه يفشل في ذلك: «رششتُ عطرًا بما يشبه استحمامًا قبل دخولي البيت، والدتي تعرف ماذا يعني تركي لشارعنا القديم، كانت قريبة مني جدًا ليلتي تلك، فتحت ذراعيها على وِسعهما تعانقني طويلًا فور دخولي الأوّل، في حين أرخيتُ ذراعيّ لأبادلها عناقًا، تشمَّمتني، همستْ في أذني: “عطرك حلو!”، استطردتْ: “لكن أنفاسك كريهة”، اعتصرتني بين ذراعيها، تؤنبّني على التدخين».
وكذلك فعلت بطلة رواية «جبل الزمرد» لمنصورة عز الدين، ذات الحيلة، حيث أنها استخدمت العطر أيضًا في التمويه على رائحةٍ أخرى، ونلاحظ أنّ هذا العطر، وهو «ميس ديور»، لم تستخدمه البطلة على ملابسها أو جسدها، بل في فضاء الغرفة وحدَّدت حجم الاستخدام بأن رشّت منه رشّتين فقط، على عكس بطل سعود السنعوسي، الذي تعامل مع العطر كما لو أنه يستحمّ به: «رششتُ عطرًا بما يشبه استحمامًا». بينما تقول منصورة عن بطلتها: «أغلقت الألبوم، وأخرجت سيجارة حشيش مخبَّأة في حقيبة يدها، أشعلتها، ووقفت تدخنها أمام الشبّاك المفتوح، وهي تنظر شاردة إلى مدرعة جيش تصفع عينيها كلَّما أبصرتها رشَّت رشَّتين من “ميس ديور”، في فضاء الغرفة للتمويه على رائحة الدخان». وفي رواية «ابن طراق» لبدر السماري ومحمد السماري، نجد أن التمويه في استخدام العطر يأخذ بُعدًا أكبر من محاولة إخفاء رائحة التدخين إلى سلوكٍ جديد في شخصية طرقي: «لكن مصاريف تدخينه تضاعفت كثيرًا؛ إذ أصبح يسوّك أسنانه طيلة اليوم، يتمضمض، ويتناول حبوب النعناع المنعشة، ويتطيَّب بدهن العود وزجاجة عطر فرنسي بعد كل سيجارة. كل أفعال طرقي الظاهرة كانت تشير إلى التزامٍ ديني».
عطرٌ رخيص
مفردة “عطر رخيص”، يتكرّر حضورها في الكثير من الروايات، ويختلف توظيفها من روائيّ إلى آخر، وإن كان غالبًا يستخدم هذا الوصف لرداءة ذوق الشخصية الروائية في اختيار العطور، وغالبًا ما تُوصف به الشخصيات الروائية النسائية، ونادرًا ما يُوصف به رجل. وقد يحضر كدلالة على الحالة المادية المتدنية أو كتعبير ساخر، مثل عبارة الروائي ماريو بارغاس يوسا، في روايته «حفلة التيس»، فهو يذكر وصف عطر رخيص، وأيضًا لا يتحرّج من ذكر اسم ماركة العطر «نايس»: «راح يعطّر الجوّ، فتعرَّف هو على ذلك العطر الرخيص المُسمَّى “نايس”، الذي يعلنون عنه في الإذاعات». وفي رواية «منتجع الساحرات» لأمير تاج السر، يحضر أيضًا وصف عطر رخيص: «زعمت أنها تريد صندلاً من الجِلد الأملس، ومروحةً من الريش، وقارورةً من عطر “يو آر” الرخيص».
وكذلك يفعل عبده خال، إذ يكرّر صِفة العطر الرخيص، في أكثر من رواية، حيث نجده في رواية “نباح“، يستخدم ذات الوصف: “وضعت يدي على أذني فاقتربت بشفتيها، شعرت بحرارة أنفاسها، وشمَمت رائحة عطرها الرخيص”. وفي رواية “صدفة ليل“، يحضر ذات الوصف: “في غرفةٍ امتزجت فيها الرطوبة وسوء التهويَّة برائحة عطرٍ رخيص”. لكن هشام العابر بطل رواية “أطياف الأزقة المهجورة – الشميسي” لتركي الحمد، ضاق ذرعًا بعطر سويّر الرخيص؛ ما جعله يبادر بشراء عطرٍ ويصفه بـ: “العطر الغالي“، لكنه لا يسمّي ماركة العطر، وكان أوّل شيء فعله عندما استلم الراتب هو أن اشترى زجاجة عطر غالية لسويّر، بخمسةٍ وعشرين ريالاً دفعة واحدة، فقد ضاق ذرعًا بعطر الليمون الرخيص الذي لا يفارقها: و”فرحت سويّر بالهدية مثل طفل أهدوه لعبة جميلة، واستنشقتها بعمقٍ ولذةٍ كبيرة، وقد أسبَلت عينيها”.
وإذا كان تركي الحمد ذكر قيمة العطر في الحالة السابقة واعتبر تلك الزجاجة غالية الثمن، فإنّ جوخة الحارثي أيضًا تذكر قيمة العطر واسمه في رواية «حرير الغزالة»، فهو عطر «قمر ١٤»، الذي يعرضه صهيب في دكانه بستة ريالات، لكن الرقم المذكور لا يمنح تصوّر حقيقي عن رخص أو غلاء ذلك العطر إلا لمَن عاش تلك المرحلة الزمنية وعرف تفاصيل المكان الذي تدور فيه أحداث تلك الرواية: «يرتدين الفساتين الملوَّنة الزاهية، بأحزمةٍ عريضة من الوسط، وأحذية بكعوبٍ أنيقة، وإيشاربات شفَّافة فاتحة، يفوح منها عطر “قمر ١٤“، الذي يعرضه صهيب في دكانه بستة ريالات». وقد يأخذ حضور وصف العطر الرخيص في الرواية صفة الشتيمة الخالصة، كما في رواية «البحث عن وليد مسعود» لجبرا إبراهيم جبرا: «ولو تبقّى لي يوم واحد من الحياة، فسأتزوَّج مريم. سأترك هؤلاء النسوة اللواتي ملَلت (…)، وعطرهنّ الرخيص».
أمَّا آني آرنو في كتابها «أنظر إلى الأضواء يا حبيبي»، فتأخذنا بعيدًا عن وصف العطر بالعطر الرخيص، وتقدّم لنا مشهدًا عن مدى أهمية العطر عندما تكون الخيارات محدودة ماديًا، في هذا المشهد الإنساني بين الجدة والحفيدة تتصارع في داخل الجدة رغبتها في إرضاء الحفيدة وعدم مقدرتها المادية: «عند الصندوق، جدل بين جدّة وحفيدتها التي تبلغ نحو ستة أو ثمانية أعوام: “تريدين كيكي أم العطر؟ ماذا تفضلين؟ — العطر في السلّة منذ الآن على ما يبدو — لا يمكن الحصول على كل شيء في الحياة هل تظنين أن جدتك لديها كل ما تريد؟ وأنت الشيء نفسه أيضًا”. “أريد كيكي” رفعت الجدّة العطر من السلة، — ماركة والت ديزني —، وضعته فوق كومة من السكاكر بالقرب منها، بينما راحت الفتاة الصغيرة لتحضر كيكي استعادت الجدّة خلسة بحركةٍ خاطفة زجاجة العطر، وألقت بها داخل السلّة، دون أن تنبس ببنت شفة، بهيئةٍ غير راضية تعرف أنها مخطئة بتصرّفها هذا لم تستطع منع نفسها من القيام بذلك؛ فهي ترغب في إسعاد حفيدتها وكسب محبتها».
العطر والفكاهة
في بعض الروايات يصاحب استحضار العطر طرافة ما، وهذا الحسّ الفكاهي قد يجرده من رومنسيته ويجعل القارئ يبتسم لذلك الموقف الطريف، كما حدث لبطل رواية «غرابة في عقلي» لأروهان باموق، الذي تحوّل اعتناؤه بأناقته ورائحته إلى حالةٍ فكاهية يتندر عليها زملاؤه في الصفّ، وقد أطلقوا عليه اسم العريس: «لأنني أعتني كثيرًا بربطة عنقي وسترتي، وآتي إلى الصفّ صباح بعض الأيام مدهونًا بالعطر، الذي يستخدمه والدي طبيب النسائيّة بعد الحلاقة بشكلٍ مفرط، أطلقوا عليَّ لقب العريس».
أمَّا في رواية «ظل الريح»، فنجد أن الأناقة والرائحة تعتمد على عطرٍ مسروق: «في تمام السابعة مساءً وجدتني واقفًا على عتبة منزل الدون جوستابو برسلوه، مرتديًا أفضل ما عندي من ثياب ومستحمًا بعطر فاروون داندي الذي سرقته من والدي».
والروائي أمير تاج السر يكتسب حضور العطر في رواياته ملمحًا ساخرًا أيضًا وهذا يعود إلى اتكائه على الحسّ الساخر في السرد وأيضًا إلى استخفافه بشخصياته الروائية، ولهذا فإنّ حضور العطر بتلك الطريقة يتناغم مع معطيات السرد في تلك الروايات ولهذا نجده في رواية «العطر الفرنسي»، يستحضر العطر بتلك الطريقة: «اطلعها على صورةٍ مهتزة تجمعه بتمثال الزعيم الصيني ماو، أهداها ساعة إيبل مقلّدة، وعطر كوكو مقلّدًا أيضًا، وعاد مبهورًا ليكتبها اسمًا لمحلّه». وأيضًا في رواية “العطر الفرنسي“، يحضر الحسّ الساخر: «انحنى على رفٍّ تحتي في محلّه، أخرج قارورة لعطرٍ نظيف، رشَّه في وجهي، وهو يهمس: أليس عطر كوكو الأصلي؟ ولم تكن لدي فكرة أيضًا، كانت ثقافتي العطرية قد توقفت منذ عهد بعيد، ولم تتجاوز عطور الصاروخ». وفي مشهدٍ آخر يستخفّ بالصبي أيمن، في قوله: «كانت الرائحة التي شممتها بغتة، جارفة بشدة. إنها رائحة عطر ماكسي الذي يستخدمه الصبي أيمن داؤود الشهير في الحيّ بـ “أيمن الحضاري”. كان صبيًا يدرس في إحدى المدارس الثانوية في المدينة، لكنه أيضًا عرِف سِكة التكنولوجيا والإنترنت ومواقع الدردشة». وفي رواية «منتجع الساحرات»، يواصل طرافته في استحضار العطر: «كان يتعطَّر بعطر توم فورد الملائكي، الذي صُمِّم ليبقى على الجسد تسعةَ عشرَ يومًا وساعتين، ولا يهذّب شاربه إلا بمقصاتٍ من طراز” بابا حسين”، التي تُصنع له خصيصًا في شنغهاي».
في رواية «شقة الحرية» لغازي القصيبي، حضرت ثلاث حالات متباينة من الرومانسية إلى الطرافة في استحضار العطر: «وجاء الظرف الأزرق، وأطلَّت الورقة الزرقاء تحمل أصداء شاحبة من عطر “شانيل 5″». وفي مشهدٍ آخر يحضر العطر في سياقٍ طريف ومختلف: «ظلّ فؤاد، بذهولٍ متزايد، يتأمّل هذه المرأة الجميلة التي ترتشف البيرة، وتنفث الدخان في وجهه. يرقب هذا المزيج الغريب من رقّة الأنثى وعنف التمرّد، كيف تخفي هذه الملامح الوسيمة كل هذه الشحنات من الغضب؟ كيف استطاعت أن تجمع بين النقيضين». وكذلك في هذا المشهد نجد الزوج وقد استرد كل شيء، حتى زجاجات العطر: «تمَّ الطلاق بأمر المحكمة. واستعاد صاحبنا كلّ ما دفعه، المهر والشبكة وكل شيء. حتى زجاجات العطر التي أهداها لفريدة في شهر العسل أصرّ على استردادها. واضطرت إلى شراء زجاجاتٍ جديدة واعطائها له».
الخاتمة
قد يرتبط العطر بحضورٍ أموميّ مختلف، بعيدًا عن حالته الرومانسية، كما في رواية «شارع العطايف» لعبد الله بن بخيت، حيث تتجلَّى علاقة ناصر بطل الرواية بأمّه، ورغم أن السارد استخدم تعبير «عطور أمّه»، دون تسميتها إلّا أن القارئ سيستنتج من سياق الأحداث، وكذلك من زمن الرواية أن خلاصة تلك العطور هي عطور شرقيّة: «كانت عطور أمّه تبادره بقوة حضورها، خليط من الروائح تحتاج إلى طاقةٍ كونية لتفكيكها، صارت شيئًا واحدًا، صارت رائحة أمّه».
وإذا كانت سالمة، إحدى شخصيات رواية «سيدات القمر» لجوخة الحارثي، التي تقول عنها الساردة: «استحمَّت بالماء المخلوط بأعشابها الخاصة، لم يلمس الصابون جسدها منذ خُلقت». فإنّ هناك شخصيات روائية تماثل سالمة في التعاطي مع العطر ولم تستعمله قطّ؛ بسبب قناعات ذائقتها مع الرائحة وهذه القناعة كانت تؤمن بها بطلة رواية «امرأة الجزيرة السوداء» للروائية ماريا فاس، التي كانت تتحدث كثيرًا عن الرائحة، لكن عندما سألتها داليا:
«-يا أليسا، هل عثرت أخيرًا على عطرك؟
-أنا لم أستعمل العطر قطّ».
انتهت هذه الرحلة الثريّة -بالنسبة لي-، في تتبّع عطور الشخصيات الروائية، في بعض الروايات بكل التنوع والاختلاف في ملامح ذلك الحضور. ومن خلال تلك الرحلة يتضح لنا أن حضور العطر في أيّ روايةٍ له دلالته وارتباطه بسياق الأحداث، ويعبّر عن الشخصية الروائية التي تستعمل ذلك العطر. وأن لكل شخصية روائية عطرها الخاصّ، الذي يناسب ظرفها النفسي والشخصي، وأيضًا يلائم زمن ومكان الرواية.