مقدمة
نحتفل، فخرًا واحترامًا، باليوم العالَمي للفلسفة، تلك الرحلة العقلية الحوارية التي تأخذنا نحو أعماق الفهم والتأمل. ولكن، هل يجب أن يقتصر الأمر على الاحتفال؟ أم هناك دعوة صامتة تتردد داخل أروقة الواقع، تحث الفلسفة أن تكون أكثر من مجرد حفل تكريمي، وأن تعبث بأعماق واقعنا اليومي؟
ففي عالَمنا هذا، الذي يتقلّب بين تيارات الأزمات السياسية، وزوابع تغيّر المناخ، تتوجه الفلسفة كغواصة داخل بحر هادئ، تبحث عن اللؤلؤ وسط الأعماق. فهي ليست مجرد ذكرى أو حفلة، بقدر ما هي منبع نلتقط منه الأسئلة، وعالَم نغوص فيه بحثًا عن الإجابات.
في هذا السياق، تقدم لنا الفلسفة منصة للتأمل في الأسئلة الكونية الأساسية التي تتعلق بالوجود، والمعرفة، والأخلاق، والقيم؛ وتدعونا إلى النزول صوب أعماق الفكر، وتحدي الأحكام المسبقة، والتساؤل حول الأشياء التي نعتبرها مفروغًا منها، وتذكّرنا بكلمات سقراط الخالدة «المعرفة هي الفضيلة».
ومن جهة أخرى، تعزز الفلسفة مَلَكة التفكير النقدي، والقدرة الرائعة على تقييم المعلومات والأفكار بطريقة منظمة ومنطقية. فتكون بهذا الوصف، المنظار الذي نختبر عبره صحة الأفكار، والسلاح الفعال الذي نستخدمه لتحليل المشكلات، واتخاذ القرارات الصحيحة، والبوصلة التي توجّهنا في عالَم يعج بالمعلومات، والأفكار المتضاربة.
تُعد الفلسفة إذن، بما تحمله من قوة التحليل والتأمل، مثابة انفجار قوي للذهن البشري، فهي تكسر الأغلال، وتنير الطريق نحو الفهم الأعمق والأكثر ثراء. ونقف هذا اليوم، على حافة الفكر، ونعيد التأكيد على أهمية الفلسفة، والتفكير النقدي في بناء عالَم أكثر تفاهمًا وسلامًا؛ فهما منبع التسامح، وأداة ناجعة للتغيير الاجتماعي، والتناغم العالَمي.
وهكذا، تتبنى آراء الفلاسفة عبر العصور أخلاقيات عالَمية، مُؤَكِّدَةً الدور القوي للفلسفة في بحث القضايا الكونية، وإيجاد حلول لها، بما في ذلك الحروب، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتوترات الجيوسياسية؛ وبالنظر إلى مختلف التقاليد الفلسفية حول العالَم، فإننا نجد فيها أدوات فعالة للفهم، وحل النزاعات.
وفي الإطار ذاته، ليست الفلسفة فكرة مجردة فقط، بل شهادة حية على إنسانيتنا المشتركة، فدعونا نعي، في هذه الذكرى التي نحتفل فيها بيوم الفلسفة العالَمي، الدور الحاسم الذي تلعبه في حياتنا اليومية، وفي العالَم ككل.
ولمقاربة الموضوع، نطرح الأسئلة التالية: ما أهمية الفلسفة؟ وكيف تنوعت آراء الفلاسفة حول الإنسانية؟ وما القناعات الفلسفية حول الحروب والنزاعات تحديدًا؟ وكيف ساهمت الفلسفة في فهم النزاعات وتعزيز التفاهم؟ وأخيرًا ما الدور الحاسم للفلسفة في أوقات الصراع والحرب؟ هي أسئلة مهمة، لأنها تتعلق بجوهر الفلسفة ورسالتها، كما قال هيجل: «التاريخ هو عملية تطور الروح المطلقة»، فالفلسفة أداة يمكننا استخدامها لِفهم هذه العملية، وتوجيهها نحو الأفضل.
أولًا: أهمية الفلسفة
الفلسفة هي حب الحكمة، وهي ذاك النشاط العقلي الذي يسعى لفهم معنى الحياة والوجود، وإلى حل المشكلات الكبرى التي تواجه الإنسان، مثل مشكلة الحقيقة، والأخلاق، والجمال، والحرية، والعدالة، وغيرها. ورغم اعتماد الفلسفة التفكير العقلي، فهي ليست مجرد رياضة ذهنية، إنما هي نشاط له آثار عميقة على حياة الإنسان، إذ تُدعّمه كي يفهم نفسه والعالَم حوله بشكل أفضل، ويطوّر مهارات التفكير النقدي والتحليلي لديه، وأيضًا تُكسبه القدرة على اتخاذ قرارات واعية، وعيش حياة أكثر سعادة ومعنى.
ناهيك على أن الفلسفة ليست مجرد تشكيلة أفكار مجردة، بل خريطة طريق يمكن أن تُعيننا على التنقل وسط عالَم معقّد مليء بالتحديات، فهي تساندنا على فهْم عدم اليقين والمخاطر التي نواجهها، وحل النزاعات وبناء السلام، وتعزيز التفاهم بين الثقافات المختلفة. كما تنفع الفلسفة الروح أيضًا لا العقل فقط، إذ تسعفنا في البحث عن معنى الحياة، والتعامل مع المعاناة والموت، وعيش حياة أكثر انسجامًا مع الذات والآخرين والطبيعة. وعليه، فالفلسفة ليست نشاطًا فرديًّا، بل مشروعًا جماعيًّا يشارك فيه جميع البشر، فهي لا تسعى إلى تقديم إجابات جاهزة، بل تدعو للتفكير والمناقشة والحوار.
وبناء على ما تقدم، تكون الفلسفة أداة ضرورية لبناء مستقبل أفضل، إذ تساعدنا على مواجهة التحديات العالَمية مثل تغير المناخ، والتفاوت الاجتماعي، وتساعد على تطوير مجتمعات أكثر عدلًا واستدامة، ثم بناء عالَم أكثر سلامًا وازدهارًا. يقول رابوبرت في هذا الصدد: «شاع بين الناس أن الفلسفة موضوع لا تتناوله إلا عقول خاصة، وأنها لا تلذ إلا لقوم نظريين، لم يروا في الحياة خيرًا من أن يجهدوا عقولهم في حل مسائل هي إلى الخيال أقرب منها للحقيقة، وأنها تبحث في خيالات عقيمة لا ينبني عليها في الحياة عمل، وإنهم في زعمهم لمخطئون»(1)، وعليه فالفلسفة لا تقبع فوق الرفوف والمكتبات، بقدر ما يمكنها الإسهام في الواقع كذلك.
ثانيًّا: آراء الفلاسفة في الإنسانية بين التمركز والاندماج(2)
تُعد الإنسانية مجموعة من وجهات النظر الفلسفية والأخلاقية، التي تركز على قيمة وكفاءة الإنسان، سواء كان فردًا أو جماعة، وتفضّل عمومًا التفكير والاستدلال (أي العقلانية والتجريبية) على المذاهب أو العقائد الثابتة أو المنزلة الإيمانية. وقد تنوعت آراء الفلاسفة في الإنسانية عبر العصور، فهناك من يرى الإنسان محور الكون، له الحق في السعادة والحرية، وهناك من يراه مجرد حيوان عاقل مصيره مرتبط بالطبيعة. ويمكن تقسيم هذه الآراء إلى قسمين رئيسيين:
القِسم الأول: آراء تركز على التمركز الإنساني
ترى هذه الآراء الإنسان محور الكون، وله مكانة خاصة فيه، فهو مخلوق عقلاني ذو كرامة أخلاقية، وعليه السعي لتحقيق حرّيته. ومن أبرز الفلاسفة الذين يمثلون هذا القِسم:
-سقراط: كان من أشد المدافعين عن كرامة الإنسان، وكان يؤمن بأن الإنسان مخلوق عقلاني، وعليه استخدام عقله في التفكير، والبحث عن الحقيقة(3).
-أفلاطون: كان يعتقد أن الإنسان لديه روح خالدة، تجعله مختلفًا عن الحيوانات(4).
-أرسطو: كان يؤمن أن الإنسان حيوان عاقل، وأن العقل يميز الإنسان عن الحيوانات الأخرى(5).
-كانط: كان يؤمن أن الإنسان لديه كرامة أخلاقية، وعليه التصرف وفقًا لقانون الأخلاق(6).
-ألبير كامو: كان يؤمن بأن الإنسان مخلوق حر، وعليه تحمّل مسؤولية أفعاله.
القسم الثاني: آراء تركز على الاندماج الإنساني
ترى هذه الآراء الإنسان جزءًا من الطبيعة، ومصيره مرتبط بها، فهو مخلوق عاقل، ولكنه ليس مخلوقًا كاملًا، لأنه عرضة للخطأ والضعف. ومن أبرز الفلاسفة الذين يمثلون هذا القسم:
-أوغسطينوس: كان يؤمن بأن الإنسان مخلوق شرير، وعليه التوبة عن خطاياه لينال رحمة الله(7).
-توما الأكويني: كان يعتقد بأن الإنسان مخلوق عقلاني، وعليه استخدام عقله في خدمة الله(8).
-جان جاك روسو: كان يؤمن بأن الإنسان مخلوق خيّر بطبعه، والمجتمع هو الذي يفسده(9).
-نيتشه: كان يؤمن بأن الإنسان مخلوق عابر، وعليه ابتكار قيمه الخاصة بنفسه.
-مارتن هايدغر: كان يؤمن بأن الإنسان كائن وجودي، وعليه إيجاد معناه الخاص للحياة.
وهكذا، رغم اختلاف هذه الآراء، فإنها تكمّل بعضها، فجميعها يؤكد على قيمة وكفاءة الإنسان، ودوره المهم في الكون. كما يمكن القول إن الإنسان مخلوق مركّب، فهو يجمع بين التمركز والاندماج، أي أنه مخلوق عقلاني، ولكنه ليس مخلوقًا كاملًا، فهو عرضة للخطأ والضعف، وفي الوقت نفسه مخلوق ذو كرامة أخلاقية، وعليه أن يطمح لتحقيق السعادة في حياته.
ثالثًا- الآراء الفلسفية حول الحرب والنزاع
لطالما كانت الحروب والنزاعات حقيقة دائمة من حقائق الوجود البشري، وهي ظواهر معقدة لها جذور في الطبيعة البشرية، والمجتمعات السياسية، والعلاقات الدولية. وقد تَصارع الفلاسفة منذ فترة طويلة مع تعقيدات هذه الظواهر، مقدمين وجهات نظر متنوعة تعكس الاعتبارات الأخلاقية، والسياسية، والوجودية. واستمرت رؤاهم في تشكيل فهمنا للحرب، وأسبابها، وإمكانية المسارات المؤدية إلى السلام. لذا، يمكن تقسيم الآراء الفلسفية حول الحرب والنزاع، لثلاثة اتجاهات رئيسة:
الاتجاه الأخلاقي: يركز هذا الاتجاه على الأخلاقيات والقيم الإنسانية، وينحو لتحديد معايير أخلاقية لقبول الحرب أو رفضها. ومن أبرز الفلاسفة الذين دافعوا عن هذا الاتجاه، نجد:
-أفلاطون: في كتابه «الجمهورية»، تصور مجتمعًا مثاليًّا يحكمه ملوك العدالة والفضيلة، وبالتالي يقل احتمال نشوب الحرب(10).
-أرسطو: في كتابه «السياسة»، أكد على أهمية القيادة الأخلاقية، والحاجة لقيام الدول بوضع حدود واضحة لمنع النزاعات(11).
-كانط: في كتابه «السلام الدائم»، دعا لإنشاء عصبة الأمم لمنع اندلاع الحروب، متخيلًا مستقبلًا تحكمه المُثل الكوسموبوليتية(12).
الاتجاه السياسي: يركز هذا الاتجاه على التحليل السياسي للحرب والنزاع، ويطمح لِفهْم أسبابها ونتائجها. ومن أبرز الفلاسفة الذين دافعوا عن هذا الاتجاه، هناك:
-القديس أوغسطين: في كتابه «مدينة الله»، حدد الشروط التي يمكن بموجبها تبرير الحرب أخلاقيًّا، مؤكدًا الحاجة لقضية عادلة، ونوايا صحيحة(13).
-القديس توما الأكويني: طور نظرية الحرب العادلة، مشددًا على مبادئ التمييز والحصانة من قتال غير المقاتل(14).
-كارل فون كلاوزفيتز: في كتابه «في الحرب»، حلل الأبعاد السياسية والنفسية للحرب، مشددًا على أهمية الاستراتيجية والسعي لتحقيق النصر(15).
الاتجاه الوجودي: يركز هذا الاتجاه على الوجود البشري، ويبتغي فهْم الحرب والنزاع من منظور وجودي. ومن أبرز الفلاسفة الذين دافعوا عن هذا الاتجاه، هم:
-جان جاك روسو: انتقد آثار الحضارة على السلوك البشري، مشيرًا إلى أن المساواة الاجتماعية غالبًا ما أدت للعنف والنزاع(16).
-توماس هوبز: قدم نظرة قاتمة لطبيعة الإنسان، فاعتبر أن المجتمع بدون سلطة مركزية قوية، سيتجه إلى حالة حرب دائمة(17).
جدير بالذكر، إن وجهات نظر الفلاسفة حول الحرب والنزاع، قدّمت نسيجًا غنيًّا من الرؤى حول الأبعاد الأخلاقية والسياسية والوجودية لهذه الظواهر؛ على الرغم من اختلاف وجهات نظرهم، إلا أن خيطًا مشتركًا يظهر، تمثّلَ في القلق العميق بشأن رفاه الإنسان والسعي لتحقيقه السلام. بالمقابل، عندما نتنقّل عبر تعقيدات المشهد العالَمي المتغيّر بسرعة، تصير حكمة هذه الرؤى الفلسفية مثابة منارة، تُذكّرنا بالضرورة المستمرة للبحث عن بدائل للعنف، وتنمية التعاطف، وتعزيز الحوار عبر الحدود في عصر يتميّز بتواصل غير مسبوق. كما يدعو إرث الفلسفة حول الحرب والنزاع، إلى الانخراط في النقد الذاتي، مما يدفعنا للمضي قُدمًا، من أجل عالَم يسود فيه التفاهم والرحمة والدبلوماسية، عوضًا عن ويلات الحرب.
رابعًا– الفلسفة ضياء في خضم الظلام
فيما نحتفل بيوم الفلسفة العالَمي، هذه فرصة للتفكير في تأثير الفلسفة العميق على حياتنا، ودورها الحاسم في خضم النزاعات والحروب؛ فغالبًا ما تُعتبر الفلسفة مسعًى تجريديًّا فقط، والصواب إنها أكثر من مجرد تخصص، فهي بمثابة شُعلة توجّهنا عبر تعقيدات الوجود، وتغذّي إيجابيات التفكير النقدي، والتعاطف، والتفاهم.
لأجل هذا، تشجعنا الفلسفة في جوهرها، على التساؤل والاستكشاف والبحث عن المعنى؛ إنها تزوّدنا بالأدوات اللازمة للتعامل مع المعضلات الأخلاقية، وأسئلتها التي تنشأ أوقات النزاع. كما توفّر لنا في أوقات الحرب منصة للحوار، وتسهّل تبادل الأفكار ووجهات النظر، وهو أمر ضروري لتعزيز التشاور، والسلام.
كما نتعلّم، من خلال الفلسفة، تقدير وجهات النظر المتفاوتة، وفهم الاختلافات الثقافية، والإقرار بالإنسانية التي تربطنا جميعًا؛ ومن هذا القبيل، قال سقراط حكمته الشهيرة: «الحياة التي لم تُفحص لا تستحق أن تُعاش»، مؤكدًا على أهمية الاستبطان والتحليل النقدي، اللذين يعتبران أساسيين في الاستقصاء الفلسفي؛ مما يعني أن الانخراط في الفلسفة، يمكّن الأفراد من تنمية قدرة الخطاب العقلاني، والتفاوض، والمصالحة، وهي الصفات الحيوية لحل النزاعات.
عمومًا، يبقى التأثير التاريخي للفلسفة على النزاعات والحروب لا لبس فيه، حيث كانت أعمال الفلاسفة عبر التاريخ -مثل كونفوشيوس ولاوتزه سون تزو في الصين، إلى مفكّري عصر التنوير في أوروبا مثل فولتير وروسو وكانط– مثابة مهماز للتغيير الاجتماعي والوئام العالَمي. لقد أثّرت أفكار هؤلاء الفلاسفة على السياسة، والحوكمة، وسلوك الحرب، وشكّلت الطريقة التي تتعامل بها المجتمعات مع النزاعات، وتأمل حلَّها.
في الإطار ذاته، دعت شخصيات العصر الحديث، مثل مارتا نوسباوم وكمي أنتوني أبياه إلى أخلاقيات عالَمية، مؤكّدين الحاجة للتأمل الفلسفي في معالجة القضايا العالَمية، بما في ذلك النزاعات المسلحة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والتوترات السياسية. ويؤكد عملهما على فكرة أن الفلسفة لا تقدم فقط بصائر نظرية، ولكن أيضًا أطرًا عملية لتعزيز السلام والعدالة.
علاوة على ذلك، توفر التقاليد الفلسفية من جميع أنحاء العالم، وجهات نظر فريدة لفهم النزاعات وحلها؛ مثلًا لا حصرًا، يشجع مبدأ «الميتا البوذي» على التعاطف والرحمة، مما يوفر منظورًا بديلًا لحل النزاعات. كما أن الفلسفة الإفريقية المتجذرة بعمق في القيم الجماعية، تلقي الضوء على أهمية الرفاهية المشتركة، والمصالحة في أعقاب النزاع.
نخلص إلى أن الفلسفة في جوهرها، تقف شاهدة على إنسانيتنا المشاعة، متجاوزة الحدود والأيديولوجيات؛ لذا فهي تدعونا لمواجهة الحقائق المزعجة، وتحثنا على ممارسة التفكير النقدي، والتصرف الأخلاقي. وفي هذه المناسبة، التي نحتفل فيها بيوم الفلسفة العالَمي، دعونا ندرك أهميتها الدائمة في حياتنا فرديًّا وكونيًّا.
خامسًا- الدور الحاسم للفلسفة أوقات الصراع والحرب
تبرز أهمية الفلسفة بشكل خاص، في أوقات الصراع والحرب، فبينما يتعارك البشر مع تعقيدات هذه الظروف، يوفر البحث الفلسفي وسيلة للتواصل مع الأبعاد الأخلاقية والفكرية، المتأصلة في مثل هذه الأوضاع الصعبة. إن اختراع مفاهيم جديدة من صميم مشاكلنا أمر ضروري؛ فمن المهم بالقدر نفسه، إدراك أن الفلسفة لا تحل محل العلوم في التعامل مع القضايا العَملية، بل تقدم نهجًا تحليليًّا لفهم الحقائق، والأفكار، والقيم الأخلاقية.
وفي سياق مواز، يوجد تاريخ طويل من الصراع والحرب لدى الإنسانية جمعاء، غالبًا ما يكون مدفوعًا بإيديولوجيات مختلفة أو صراعات على السلطة أو نزاعات على الموارد. في هذه الأوقات المتقلّبة، فإن الحاجة للتأمل الفلسفي يبقى أمرًا ملحًّا، حيث تُقدم الفلسفة إطارًا لطرح تساؤلات حول الافتراضات، وفحص المعتقدات بشكل نقدي، وتقييم الآثار الأخلاقية للأفعال. ويمكن للأفراد والمجتمعات، بواسطة منظار الفلسفة، استكشاف الأسباب الجذرية للنزاعات، وتدقيق الأعراف الاجتماعية السائدة، وقصْد طُرق بديلة للحل والسلام.
من هذا القبيل، تكمن إحدى الإسهامات الرئيسة للفلسفة أوقات الصراع، في قدرتها على تعزيز التعاطف والتفاهم؛ وبالخوض في النظريات الأخلاقية والقيمية، يمكن للأفراد اكتساب رؤى إيجابية حول وجهات نظر الآخرين، مما يعزز نهجًا أكثر نجاعة لحل النزاعات. وأبعد من هذا، يشجع الخطاب الفلسفي المبادرة للحوار، والتأمل، واستكشاف وجهات النظر المتنوعة، مما يعطينا بيئة ملائمة للاحترام المتبادل، والتعاون المثمر.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب الفلسفة دورًا حيويًا في تشكيل مفاهيم العدالة، والأخلاق أوقات الصراع؛ إنها تدفعنا للتشكيك في شرعية الإجراءات، وطبيعة الحقوق، والمبادئ التي يقوم عليها السلوك العادل. في حين، يؤدي الانخراط في التفكير الفلسفي، إلى تشجيع الأفراد المشاركين في النزاعات على التفكير في العواقب طويلة الأمد لقراراتهم وأفعالهم، وبالتالي ابتغاء نتائج أخلاقية عالية، حتى داخل محنة الاضطرابات نفسها.
من المهم ملاحظة أن الفلسفة، مع كونها تقدم أدوات لا غنى عنها لمواجهة النزاعات والحروب، فهي ليست بديلًا عن الأساليب التجريبية للعِلم عند معالجة التحديات العَملية؛ حيث في الغالب ما يزوّدنا العِلم بوسائل لفهم العالَم المادي، وتطوير التكنولوجيا، وحل المشاكل الفورية؛ إلا أن الفلسفة تكمل ذلك عبر توفير إطار مفاهيمي لتفسير، وتأمل، وتقييم الآثار المترتبة على الاكتشافات العِلمية، والتقدم التكنولوجي بشكل نقدي.
والنتيجة، تعطي شراكة الفلسفة مع العِلم تذكيرًا مفاده: رغم إن الأدلة التجريبية والابتكار التكنولوجي يدفعان للتقدم، فيجب أن تكون موجَّهة باعتبارات أخلاقية، وفهْم أوسع لتأثيرها على المجتمع. ويمكننا بواسطة الفلسفة فحص المعضلات الأخلاقية الناشئة عن التقدم العِلمي والتكنولوجي، مما يضمن بقاء القيم الإنسانية، والضرورة الأخلاقية في مقدمة مساعينا.
خاتمة
في ختام المقالة، لا يمكن المبالغة في التصريح بأهمية الفلسفة أوقات الصراع والحرب، ولكنها تُقوي –على الأقل- ضرورة التفكير النقدي، والوعي الأخلاقي، والتفاهم المتعاطف، وتُوطد التعامل مع القضايا المعقدة على مستوى عميق. ثم يَبرز دورها في معالجة النزاعات بنحت مفاهيم تتناسب مع مشاكلنا، والاعتراف في الوقت نفسه، بأن الفلسفة والعِلم قوتان متكاملتان في سعينا لمواجهة التحديات العَملية، والتساؤلات الوجودية الأعمق. ليس هذا فقط، بل يُزَودنا تبني البحث الفلسفي الأدوات الفكرية اللازمة لمواجهة تعقيدات الصراع، مما يقودنا إلى ردود فعل مدروسة، وإنسانية، ومستنيرة أخلاقيًّا.
وفي نهاية هذا الرحلة الفكرية العميقة، نجد في الفلسفة شجرة مثمرة، تغذي عقولنا وأرواحنا أوقات العنف والصراع. ومن خلال الفلسفة، نتحصل الأدوات اللازمة لفهم وتحليل النزاعات التي نواجهها، ولتشكيل قرارات مليئة بالحكمة والأخلاق.
على الصعيد نفسه، ليست الفلسفة نظّارة نرى بواسطتها العالَم فقط، بل جسورًا تمتد بين الاختلافات، وتدعونا للبحث عن الحلول السّلمية للنزاعات، وهي الحافز الذي يطلق العنان لأفضل ما في الإنسانية، ويدفعنا نحو بناء عالَم يسوده العدل والسلام.
فلتكن الفلسفة حياة نعيشها، وتجربة نتشاركها، لا حروفًا نقرأها على الورق فقط. فهي قوة تجعلنا قادرين على الوقوف في وجه التحديات، والبحث عن الحقائق، والسعي لتحقيق التقدم الحقيقي.
ففي هذا العالَم المضطرب، يمكننا أن نجد الأمل والهدوء في الفلسفة؛ فهي تعلمنا كيف نعيش بحكمة، كيف نحب بعمق، وكيف نتعايش بسلام. وبذلك، تصبح ليست فقط فكرة نحتفل بها، بل طريقة حياة نعيشها.
الإحالات والهوامش
(1) مبادئ الفلسفة، أ.س. رابوبرت، ترجمة أحمد أمين، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ط2/2018، ص15.
(2) لمزيد من التفصيل، هذه كتب أخرى تناولت موضوع الإنسانية: كتاب “الإنسان والطبيعة” لسقراط، وكتاب “الجمهور” لأفلاطون، وكتاب “الأخلاق النيقوماخية” لأرسطو، وكتاب “اعترافات القديس أوغسطين” للقديس أوغسطين، وكتاب “خلاص الإيمان” لتوما الأكويني، وكتاب “العقد الاجتماعي” لجون لوك، وكتاب “الإنسان الأخلاقي” لإيمانويل كانط، وكتاب “هكذا تكلم زرادشت” لفريدريك نيتشه، وكتاب “الغريب” لألبير كامو، وكتاب “الفلسفة الهوية والذات” لمارتن هايدغر، وكتاب “الوجود والعدم” لجون بول سارتر.
(3) جمهورية أفلاطون، أفلاطون، ترجمة ودراسة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، ط1/2004م، ص389.
(4) نفسه، ص:371.
(5) أرسطو، السياسة ( (R. W. Carlyle & Joachi، التحرير، مطبعة جامعة كامبريدج، 2013، ص130.
(6) إيمانويل كانط، السلام الدائم ودراسات أخرى في العلاقات الدولية T. Humphrey، مطبعة جامعة إنديانا، 1991، ص117.
(7) مدينة الله، القديس أوغسطين، ترجمة الخور أسقف يوحنا الحلو، دار المشرق، بيروت، ط2/2006، ص145.
(8) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية (1952). Summa theologica ،(T. S. Hart & Mulligan، التحرير، Blackfriars.، ص102.
(9) روسو، ج. ج، العقد الاجتماعي وكتابات أخرى ( (J. Franklin. فرانكلين، 1982، ص210.
(10) جمهورية أفلاطون، أفلاطون، مرجع سابق، ص309.
(11) أرسطو، السياسة ( (R. W. Carlyle & Joachi، مرجع سابق، ص110.
(12) إيمانويل كانط، السلام الدائم مرجع سابق، ص145.
(13) مدينة الله، القديس أوغسطين، مرجع سابق، ص105.
(14) توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، مرجع سابق، ص163.
(15) فون كلاوزفيتز، في الحرب، ترجمة سليم شاكر الإمامي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1/1997، ص12.
(16) روسو، ج. ج، العقد الاجتماعي، مرجع سابق، ص241.
(17) توماس هوبز، الليفياثان، ترجمة ديانا حبيب حرب وبشرى صعب، هيئة أبو ظبي للثقافة، ط1/2011، ص113.