ظهرت في الآونة الأخيرة الكثير من الأخبار، والمقالات ذات العناوين الرنّانة، عبر العديد من المواقع والمجلاّت العِلمية، التي تتحدث عن إنجازٍ عِلمي غير مسبوق، سيغيّر خريطة العلوم الفيزيائية، وربما الفلسفية أيضًا إلى الأبد؛ ألا وهو تمكُّن مجموعة من الباحثين من صناعة الأجسام الأوليّة للمادة من لا شيء على الإطلاق، مِن العدم.
فور انتشار خبر الإنجاز الجديد، اشتعلت ردود الفعل بين المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيّد ومشكِّك، فذهب فريق إلى إنكار نتائج التجربة الجديدة إنكارًا تامًا، واصفًا إيّاها بالبروبغاندا العِلمية غير الدقيقة، بل وامتد النقد إلى حدّ اتهام المروجين لها بالتحيّز ضد العلوم اللاهوتية، وذهب الفريق المنافس إلى التهليل بالنتائج الثورية للتجربة الجديدة التي أجابت بشكلٍ نهائيّ على أكبر أسرار الكون؛ وهو سؤال: الوجود مِن العدم.
وبين هذا وذاك، تضيع الكثير من التفاصيل الهامّة التي علينا أن ندركها أولًا قبل أن نحاول البناء وتكوين مواقف فلسفية ووجودية على الاستنتاجات التي يكشف عنها العِلم الحديث يومًا بعد يوم.
السببيّة: معضلة المنطق وركنه الأهمّ
يُمكن تعريف المنطق على أنّه العِلم الذي ترتكز عليه كافّة العلوم الأخرى، التجريبية منها وغير التجريبية؛ فهو المعنيّ بتنظيم الأفكار حتى لا تسقط في أفخاخ التناقض أو اللاّ معقولية، ويأتي في قلب عِلم المنطق قانون السببيّة، الذي تعود إرهاصات صياغته الأولى -على نحوٍ منهجيّ- إلى نحو ثلاثة قرون قبل الميلاد، تحديدًا عندما وضع الفيلسوف اليوناني الموسوعيّ أرسطوطاليس ما يُعرف بـ«نظرية العِلل الأربع».
أرجع أرسطو في نظريته الأشهر أيّ شكل من أشكال الوجود المادي إلى أربع عِلَلٍ أو أسباب، وهي: العِلة المادية، والعِلة الصورية، والعِلة الغائية، والعِلة الفاعلة. ولنوضح الفكرة بشكلٍ بسيط، يمكننا أن نضرب مثالاً بالكوب الزجاجي الذي نستخدمه في الشرب، لهذا الكوب أربعة أسباب لوجوده حاله كحال أيّ وجود لشيءٍ مادي من أيّ نوعٍ ما -انطلاقًا من الذرّات ووصولاً إلى الأجرام السماوية الهائلة- فإذا انطلقنا لتحديد العِلل الأربع للكوب، سنجد أنّ عِلته المادية هي ببساطة الزجاج الذي صُنع منه، أمّا عِلته الصورية فهي الشكل الأسطواني الذي يظهر فيه، وعِلته الغائية هي إجابة السؤال لماذا صُنع الكوب، والتي ستكون للشرب بالطبع، وأخيرًا عِلته الفاعلة هي الشخص الذي قام بصناعة الكوب، أو السبب وراء صناعة الكوب برّمته.
انطلق الشكل التجريبي لقانون السببيّة من العِلة الأخيرة التي حددها أرسطو وهي العِلة الفاعلة، التي تعني أنّ لكل حركة في الكون سبب دفع بها إلى التحرّك، وأنّ الحركة التي تصنع الأشياء والموجودات هي حركة دائمة ومُسبَّبة، بمعنى أنّ كل ما يحدث في الكون له ما يحرِّكه، وهكذا صعودًا حتى أن نصِل إلى ما يُطلق عليه: «المحرِّك الأول» أيّ الخالق، وهو عند أرسطو «محرِّك لا يتحرَّك»، ليس له سبب؛ بل هو أزليّ الوجود، حاضر بذاته ولذاته.
امتد قانون السببيّة وتفرّع وظهر في الفلسفات المسيحية والإسلامية إلى أن وصل إلى العِلم التجريبي الحديث وتحديدًا الفيزياء النيوتنية؛ حيث أشار الفيزيائيّ الأشهر إسحق نيوتن -مؤسس الفيزياء الحديثة- إلى قانون السببيّة، من خلال القانون الثالث للديناميكا الحركيّة: «لكلّ فعل ردّ فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه». بالإضافة لقانون حفظ الطاقة الشهير المتفرِّع من فيزياء نيوتن: «الطاقة لا تُستحدث من العدم». وأخذت الفيزياء النيوتنية في التطور والتقدّم بشكلٍ ثابت ومتزن بناءً على القوانين الحتمية لروابط السبب والنتيجة، إلى أن ظهرت فيزياء الكمّ في مطلع القرن العشرين؛ لتوجِّه ضربة قوية إلى فيزياء نيوتن التقليدية بل وإلى الفيزياء برمتها، وبالطبع امتدت آثار تلك الهزّة المزلزِلة إلى فاعلية قانون السببيّة ذاته.
فيزياء الكمّ: ثورة اللّايقين
كانت الفيزياء حتى مطلع القرن العشرين مستقرة وحتمية، كل شيء يسير وفق قوانين محددة تربط السبب بالنتيجة؛ فإذا قمنا بإجراء الحسابات الصحيحة لأيّ حالةٍ فيزيائية في الكون يمكننا أن نستنتج الإجابات الصحيحة والمحددة، وبكلمةٍ واحدة كان 1+1=2، حتى جاء الفيزيائي الألماني ماكس بلانك عام 1900، وطرح تفسيره الجديد لطبيعة الضوء الصادر من الذرّات -التي يتشكّل منها كل شيء في عالمنا- والذي كان يتعارض مع قوانين الفيزياء التقليدية، ذلك التفسير الذي كان اللبنة الأولى في الجدار الكبير لفيزياء الكمّ الذي شُيّد على مدار العقود اللاحقة، على يد العديد من الفيزيائيين العمالقة أمثال: إيرفين شرودنغر، ونيلز بور، وفيرينر هايزنبرغ؛ وغيرهم.
صُدم المجتمع العِلمي برمته بالنتائج المثيرة التي كشفت عنها فيزياء الكمّ، حيث كانت طبيعة الذرّات ببساطةٍ لا تسير وفق القوانين الحتمية التي تحكم الكون على المستوى الأكبر، وبالتحديد حركة الذرّات، فقد اكتشف هايزنبرغ -الذي نال جائزة نوبل في الفيزياء لاحقًا بسبب هذا الاكتشاف- أنه لا يمكن معرفة أماكن الذرّات على نحوٍ يقينيّ أبدًا، وهو ما عُرف بـ «مبدأ عدم التأكد»، وهذا لا يرجع إلى ضعف الإمكانيات أو تأخر في تقنيات البحث والرصد، بل إن ذلك يعدّ جزءًا من طبيعة الذرّات نفسها؛ كان هذا الأمر يعدّ جنونًا بلا ريب، ذلك ما دفع نيلز بور، بأن يقول: «إذا قرأتَ ميكانيكا الكمّ ولم تشعر بشيءٍ من الغرابة؛ فإنكَ حتمًا لم تفهمها».
كيف لا يمكننا أن نتأكد أبدًا من نتائج رصد ظاهرة فيزيائية مهما أجرينا من حسابات؟ كان كل ما يمكن الوصول إليه هو استنتاج نتيجة احتمالية، فجأة لم نجد بين يدينا سوى احتمالات، وكأنّ القانون أصبح هو غياب القانون، ما أصاب الفيزيائيّ -في القرن العشرين- ألبرت أينشتاين بصدمةٍ مروِّعة، دفعته إلى معارضة استنتاجات فيزياء الكمّ، في مقولته الشهيرة: «إنّ الله لا يلعب النرد!»، ببساطةٍ وفي جملةٍ مقتضبةٍ تحوّلت الفيزياء من 1+1=2 إلى 1+1= ربما يكون 2.
إذن، ما تأثير هذه الكارثة المنطقيّة على قانون السببيّة؟
زعم البعض من المفكرين أنّ فيزياء الكمّ قد دمّرت الوجاهة المنطقية لقانون السببيّة، الذي هو ببساطةٍ -كما ذكرنا آنفًا- العلاقة التي تربط السبب بالنتيجة، إلّا أنّ تلك المزاعم تفتقر إلى الدقة بشكلٍ ما؛ حيث إنّ ما قد نقضته فيزياء الكمّ لم يكن قانون السببيّة بل الحتميّة؛ أيّ لم نعد نستطيع الخروج بنتائج متشابهة على المستوى الذرّي حتى وإن تكرّرت المعطيات نفسها بلا أيّ تغيير، وهذا بالطبع لم يكن أمرًا مرعبًا بالنسبة إلى الفيزياء فحسب، بل إلى المنطق أيضًا.
ولنوضِّح الفكرة ربما نعود مجددًا إلى الكوب الزجاجيّ الذي ذكرناه آنفًا، تخيّل أنك تلقي عدة أكواب زجاجية متطابقة تمامًا من ارتفاعٍ شاهقٍ على أرضيةٍ صلبة أحدهم تلو الآخر، نفس الكوب ومن نفس الارتفاع وعلى نفس الأرضية وفي نفس الظروف الجويّة، حيث يتحطّم الكوب عند الاصطدام في مرّة، وفي المرّة التي تليها لا يتحطّم، ثمّ في المرّة الثالثة يظلّ معلقًا في الهواء ولا يسقط، وفي المرّة الرابعة يطير إلى أعلى! ربما بدأت الصورة أن تتضح في ذهنك الآن؛ نعم ذلك هو ما بشَّرت به نتائج فيزياء الكمّ بشكلٍ ما.
وبهذا يكون ما فقدته فيزياء الكمّ تحديدًا هو النتائج الحتمية للظواهر الفيزيائية، وليس أسبابها، فربما أصبحنا غير متأكدين بالفعل من مصير الكوب، ولكن لكي يطرأ أيّ تغيير على الكوب، لا بدّ وأن يحرّكه شيء ما في البداية. يقودنا هذا إلى التساؤل حول ماهية الأشياء المُحرِّكة، بالطبع -وبالضرورة-، التساؤل حول معنى اللاّ شيء.
اللاّ شيء بين الفيزياء والفلسفة
عودةً إلى سؤالنا الأساس حول ما إذا كان العِلم يستطيع خلق مادة من لا شيء؟ فإنّ علينا أولًا الوقوف على معنى «اللّا شيء»، أو «العدم».
هنا تحديدًا تظهر لنا المفارقة على اتساعها، حيث إنّ مفهوم العدم يختلف بشكلٍ جوهريّ بين الفيزياء والفلسفة؛ فالعدم الذي تحدثت عنه الفلسفة على مدار تاريخها الطويل هو عدم نظريّ فحسب، أيّ بإمكاننا تصوّره عقليًا كحالة مقابلة للوجود لكي يساعدنا على فهم ماهية الوجود، ولكنه غير متحقّق بشكلٍ مادي؛ أيّ لا يمكن رصده أو اختباره تجريبيًا من خلال الأدوات أو القوانين العِلمية بأيّ شكلٍ كان.
بينما العدم في الفيزياء هو أمر آخر تمامًا؛ فالعدم الفيزيائي متحقّق ماديًا، أيّ أنه يمكن رصده وقياسه على الأقلّ رياضيًا، ولا يعدّ في الواقع نقيضًا للوجود كما الحال بالنسبة للعدم الفلسفي، بل أنه شكل آخر من أشكال الوجود المادي، لكنه شكل شديد الاستثناء، وربما شديد الغموض أيضًا، والذي أطلق عليه الفيزيائي لورانس كراوس، في كتابه «كون من لا شيء»: «الفراغ الكمّي»؛ لكي يميّزه عن العدم الفلسفي واللاهوتي.
لذا لا يعدّ وصف اللاّ شيء في الفيزياء بالعدم وصفًا دقيقًا؛ إذ إنه يحتوي على جسيماتٍ افتراضية تتحرّك وفق التموجات الكمومية، التي توصلنا إلى معرفةٍ حقيقة وجودها من خلال نتائج فيزياء الكمّ الاحتمالية التي ذكرناها آنفًا؛ بل إنّ العدم المحض الذي تحدثت عنه الفلسفة هو أمر غير ممكن فيزيائيًا من الأساس.
ولكي تتحوّل هذه الجسيمات الافتراضية إلى الوجود الحقيقي؛ فهي تحتاج إلى شكلٍ من أشكال الطاقة، نووية كانت أو كهرومغناطيسية أو جاذبية، وقد علّق الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ على هذه المسألة، بقوله: «حينما تتوفّر الجاذبية؛ يُخلق الكون»؛ وهو ما يشير إلى ضرورة وجود «شيء»؛ يُمكن من خلاله أن ينتج «شيء» آخر.
وهو ما حدث بالفعل في التجربة الاستثنائية التي افتتحنا بها حديثنا؛ فقد استخدم العلماء طاقة كهرومغناطيسية قويّة جدًا مكّنتهم من صنع جسيمات المادة من لا شيء؛ أيّ استطاعوا أن يحوّلوا الجسيمات الافتراضية إلى جسيماتٍ حقيقيةٍ باستخدام الطاقة.
وهكذا بعد أن اتضحت الرؤية، يمكننا استنتاج إجابة السؤال وفق ما نعرفه حتى الآن عن المعارف الفلسفية والعِلمية؛ فالعِلم نظريًا يستطيع خلق مادة من لا شيء، وهو ما نجح فيه العلماء بالفعل مؤخرًا، فأصبحت الإمكانية النظرية عملية أيضًا، ولكن مجددًا هذا «اللا شيء» ليس ما نعتقد بأنه الفراغ المحض؛ فبجانب الاستحالة النظرية لقدرة العِلم على خلق مادةٍ من العدم، تأتي حقيقة أخرى، وهي أنّ العدم المحض لا مكان له بين جدران العِلم من الأساس.
وربما نستطيع الآن الإشارة إلى أهمية المباحث الفلسفية؛ إذ بالرغم من التطور العِلمي الهائل خلال العقود الأخيرة، وتجاوز العِلم لكثيرٍ من الأسئلة الفلسفية، تبقى الأسئلة الأهمّ حاضرة؛ تلك الأسئلة التي لم نتوقف يومًا عن التفكير حولها، ويقف العِلم عاجزًا عن الخوض فيها؛ لتكون الفلسفة على اتساعها وتنوّعها هي المضمار الذي يفتح لنا أبوابه لمحاولة الاقتراب من أعمق أسرار الكون، وأعقدها، والتي ربما تظلّ لغزًا إلى الأبد.
المراجع والهوامش