نحو أنطولوجيا جديدة | ليزا سعيد أبو زيد

تستغرق 12 دقائق للقراءة
نحو أنطولوجيا جديدة | ليزا سعيد أبو زيد

«لم أكن موجودًا، وُجدت. لم أعد موجودًا، لا أبالي». –  أبيقور

مقدمة ([1])

كانت الأنطولوجيا في حُلّتِها التقليدية تناقش الهمّ الإنساني المرتبط بوجوده في العالم، ومؤرقاته الوجودية التي تُنهك عقله وكيانه؛ فكانت لذلك تناقش وتطرح أسئلة من قبيل: لماذا نحن موجودون؟ ما الغاية، وما النهاية؟ إلى آخر هذه التساؤلات وما يتفرع عنها من تفاصيل تنم على القلق والألم والتشوُّف إلى حقيقة الوجود.

ولكن يبدو أن الأنطولوجيا راحت تتلمس سبلًا جديدة لا عهد لها بها؛ فبفعل التطورات التكنولوجية الحديثة، من ذكاء اصطناعي وتقنيات الهولوجرام والميتافيرس، وكذلك العوالم الافتراضية، والوجود الرقمي؛ إلخ، ومواكبة الأحداث العالمية الأخيرة، من جائحة كاسحة (كوفيد- 19)، إلى تغيرات مناخية حادة، وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وما أدى إليه من احترار كوكبي، وانقراض للتربة؛ إلخ. فقد مسّت الحاجة الآن لأنطولوجيا تتناول الوجود في وضع جديد ليس للإنسانية سابق عهد به. وقد أدى هذا الوضع إلى تغيرات عميقة في مقومات الأنطولوجيا الأساسية، مثل: «الموجود الإنساني»، و«الوجود في العالم»، و«الزمن وآناته»؛ حتى لقد باتت مثل هذه المفاهيم في حاجة إلى إعادة البناء في ضوء التغيرات التي استجدت. فبينما كان من المسلّمات، مثلاً، أن يتم تناول الوجود في آنات الزمن الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، إذا بأحد هذه الآنات، وربما أهمها، يصير  ضبابيًا غير معلوم أو مضمون؛ ألا وهو المستقبل. فلم يعد «الوجود في العالم» هو المأزق المؤرق كما كان طوال تاريخ الأنطولوجيا، وإنما الوجود في المستقبل أصبح هو الهم الأكبر؛ فلقد كان الإنسان يحيا مُسلِّمًا بأنه متجهه نحو المستقبل، يحيا في الحاضر محملًا بالماضي يستشرف المستقبل، أما الآن، فقد بات هذا المستقبل كجليد هش دونه محيط مُغرِق؛ فوقف الإنسان في حاضره، يحمل ماضيه، ولا يعلم أين يتجهه.

  • ماذا عن الوجود في العالم في ظلّ التطورات التكنولوجية الحديثة وما يتفرع عنها من مفاهيم جديدة مثل: الموجود الإنساني الإفتراضي، والوجود الرقمي، والوجود في العالم الافتراضي، والوجود مع الآخرين الافتراضيين، والوجود مع آلة بدلا عن الآخر الإنساني؟
  • هل نتجه نحو المستقبل الذي يتوقع العلماء عدم وقوعه نظرًا للتغيرات الحديثة؟ أم نقف في حاضرنا حائرين؟
  • ماذا عن إشكالية آنات الزمن الثلاثة التي ربما لم تعد ثلاثة: ماضٍ وحاضر، وغياب للمستقبل؟ وماذا عن التدخلات التكنولوجية لدمج آنات الزمن وتوجيهها حسب الرغبة البشرية؟

سنحاول مناقشة الأسئلة الوجودية المعاصرة التي تتناول العالم الافتراضي الجديد، ومقومات الوجود الرقمي التي باتت تشكل عالمنا وعلاقتنا مع الآخرين. كما سوف نعرض لإشكالية احتمال غياب المستقبل، وكيف ترى الفلسفة الأزمة، وكيف نشكل المستقبل الذي يُتوقع له ألّا يوجد؟

1- سؤال الوجود: رؤية عامة

الفلسفة، من إحدى زوايا النظر إليها، هي نمط متعالٍ من التفكير؛ إذ تنطلق من الواقع لتعلو عليه، ثم تعود إلى هذا الواقع تارة أخرى. وتقوم الفلسفة على ثلاثة أعمدة رئيسة، هي الإبستمولوجيا والإكسيولوجيا والأنطولوجيا.

فالإبستمولوجيا في تطور مستمر؛ فهي تعتمد على رؤيتنا وتصوراتنا عن الواقع، وهذه التصورات تتغير دومًا حسب الذات العارفة ودورها، وكذلك حسب السياق العام والموضوع وموقعه. والإكسيولوجيا أيضًا تعتمد على الوضع الثقافي للشعوب ومفاهيمهم الأخلاقية والجمالية المتغيرة، وإن كانت هناك بعض المبادئ الثابتة مثل: عدم إلحاق الضرر بالغير، أو التعاون، أو المصلحة العامة وغيرها، ولكنها أيضًا في تطور دائم. أما الأنطولوجيا، فهي تتناول المشكلات الوجودية للإنسان، والتي تكاد تكون ثابتة عبر التاريخ؛ فدومًا ما يتساءل الإنسان نفس الأسئلة على مرّ العصور: لماذا نحن موجودون؟ وما الغاية؟ وأين نتجه؟ وما الزمن؟ وما الموت؟ ولقد قلب هيدجر الأنطولوجيا رأسًا على عقب، وبدأ بالسؤال المنسيّ طوال التاريخ الأنطولوجي: ما الوجود؟ والذي لم يعتبره أمرًا واضحًا بذاته أو مسلمّة من مسلّمات الفكر، وأَوْلاه الأهمية القصوى في الطرح، حتى عن الموجود الإنساني ذاته، ومقوماته الأساسية الوجودية.

نقول حتى إن هيدجر، الذي نحا هذا النحو، حين أراد أن يجد جوابًا لسؤاله عن معنى الوجود، كان عليه أن يحلّل السائل أولًا، أي الموجود الإنساني ومقوماته الوجودية ووجوده في العالم؛ فكانت نفس التساؤلات تقريبًا عن الخوف الإنساني من النهاية البشرية المحتومة، والضياع في حياة الناس، وعدم تحقق الوجود الأصيل.

ولكي يكشف لنا هيدجر معالم الدرب الذي علينا أن نسلكه، بدأ تحليلاته للموجود الإنساني ومقومات وجوده، وهي الهم والقلق والخوف من الموت وفهم الزمانية؛ فكانت أيضًا الأسئلة الأساسية للإنسان على مرّ العصور: لماذا أتينا إلى هنا؟ وإذا كانت حياتنا تنتهي بالموت، فما الجدوى من الوجود من الأساس؟ وهل الحياة فرصة ومنحة أم أزمة؟ وهل علينا أن نعاني أم نرفض المعاناه؟ هل نستسلم لها وننتظر التعويض في الجانب الآخر – إن وجد -؟ تكاد تكون هذه الأسئلة ثابتة عبر الزمان،  فالوجود هو الوجود، والإنسان دومًا هو الإنسان، والزمان دومًا هو الزمان.

على أنّ أركان الأنطولوجيا ومحاور دراستها الأساسية قد تخلخلت في عصرنا الراهن هذا؛ فلم يعد الإنسان الآن هو إنسان كل العصور، بل لقد أمسى للوجود الإنساني  صورًا عديدة: فهناك وجود واقعي، ووجود افتراضي. والواقع الإنساني يوجد له أيضًا رؤى وتصورات مختلفة عن الواقع الذي اعتدناه، ولقد أمسى الزمان مهدد في أحد أركانه، بل أهمها، وهو المستقبل. لقد كان التهديد الوجودي، والهم والقلق الإنساني، يتمثل في الخوف من المعاناة والمرض والموت. بيدَ أن التهديد الوجودي الذي نعيشه، بات كتهديد لاستمرار وجوده في العالم أصلاً، وجوده كجنس؛ والبون شاسع.

2- الأنطولوجيا: إعادة فحص

هل من جدوى لإعادة النظر في الأنطولوجيا، والوضع المهدد للوجود الإنساني؟ والوجود الرقمي وما يستتبعه؟ وآنات الزمان المبتورة المستقبل؟ إنها تساؤلات تحتاج إلى فحص. وكما يقول هيدجر: «إنّ كل أنطولوجيا، وإن توفرت على نسقٍ من المقولات مهما كان الترابط ثريًا وثابتًا، إنما تبقى في أساسها عمياء وتبقى انحرافًا عن مقصدها الأخص، إذا هي لم توضح قبلاً معنى الكينونة كفاية، ولم تتصور هذا الإيضاح بوصفه مهمتها الأساسية»([2]).

إذن، فقد يكون من الصحيح القول إنّ على الأنطولوجيا الآن أن تدرس وتحلل «الوجود الرقمي»، وعصر الآلة، والتكنولوجيا، والعوالم الافتراضية، والذكاء الاصطناعي. وربما يكون من الصحيح القول كذلك إنّ على الفلسفة أن تطرح القضية؛ محاولة منها لتقديم حلول للإنسان المعاصر، تعينه على الاستمرار، أو ترجع خطوات إلى الوراء، أو تحلل الوضع القائم: كيف يكون الوجود الرقمي؟ وكيف نوجد من خلاله أصلاً؟ وأي وجود هو المهم: الحقيقي أم الافتراضي؟ وما هذا الوجود الذي من المحتمل ألا يكون بلا مستقبل يتجه إليه؟ كل هذه إشكاليات مما ينبغي أن تبحث فيه الفلسفة الآن.

 3- الوجود الرقمي

1-3:  الموجود الإنساني

الأنطولوجيا، في صورتها التقليدية، تتناول الوجود الإنساني من عدة جوانب، فنجد مثلًا إشكالية العقل والجسد، واحدة من أبرز الثنائيات التي يزخر بها الفكر الفلسفي خلال تاريخه الطويل الحافل. وكانت النظريات الشائعة على مرّ التاريخ الفلسفي، تقوم على الثنائية القائلة بأن الإنسان روح وجسد، أو عقل وجسد. فلقد هيمنت نظرية ثنائية الجوهر Substance Dualism، وهي الخاصة بديكارت والديكارتية، تقوم على اعتبار أن طبيعة الإنسان مؤلّفة من جوهرين متمايزين هما: العقل والجسد، ولكل منهما ماهية وخواص يخالف بهما الأخرى، فماهية العقل، أنه جوهر غير مادي وخالد وخاصيته التفكير. وماهية الجسد، أنه مادي فانٍ، وخاصيته الامتداد المكاني.

بدأت الاعتراضات على هذه الثنائية مع جلبرت رايل (1900-1976)، وكتابه: «مفهوم العقل»، الذي نفى فيه أن يكون العقل كيانًا قائمًا أصلًا؛ لنضعه في نفس مقولة الجسد. ثم انزوت هذه الثنائية أكثر مع ماريو بونجي (1919-2020) ونظريته عن الواحدية العصبية النفسية، وجون سيرل John Searle (1932- -)، حيث ساد الاعتقاد أن الجسد وعي كلي، وربما وعي عام.

على أن الموجود الإنساني لم يعد الآن موجودًا من خلال الجسد والوجود في العالم فحسب، وإنما أصبح موجودًا افتراضيًا بصور تكنولوجية لم تكن موجودة من قبل؛ فأصبح أمر وجوده في العالم في حاجة إلى إعادة تحليل.

فمع بداية وجود الإنترنت، وبدء خلق العوالم الافتراضية والبيئات الافتراضية مثل: وسائل التواصل الاجتماعي، ومؤتمرات الفيديو عن بعد، والعوالم الافتراضية ثلاثية الأبعاد؛ أصبح هناك مفاهيم جديدة مثل: عالم افتراضي، وكون ماورائي، والتحول الرقمي؛ إلخ. وقد بدأ الاهتمام بالتصوير المجسّم البصري في عام (1948)، عندما اقترحه الفيزيائي الشهير دينيس غابور. ومع تكنولوجيا الهولوجرام، ومابعد الهولوجرام Meta-hologram، ثم الميتافيرس، تمكنّا من توليد صورة ثلاثية الأبعاد للأجسام. بل لقد صار من الممكن لشخص لا يوجد معنا في المكان، أو من خلال صورة لشخص متوفى، وعن طريق عالم المؤثرات البصرية، صار من الممكن خلق صورة مجسدة عنه ([3]). وأصبح ذلك شائعًا في حفلات الموسيقى للمشاهير المتوفين، وهذا ما حدث في مصر في حفلة افتراضية بتقنية الهولوجرام لأم كلثوم، كما حدث لغيرها حول العالم.

إنّ مشكلة العقل والجسد التي شغلت الفكر الفلسفي، أضحت تتخذ أبعادًا جديدة تمامًا. وإننا لفي حاجة الآن إلى وضع تصورات جديدة لمفاهيم أساسية، مثل: العقل، والوعي، والجسم، وصور كل منهم الآن. ولقد جرى التقليد بإيلاء الأولوية والأفضلية المطلقة للعقل أو الوعي على حساب الجسد، هذا الذي لم تكن له إلّا أهمية ضئيلة في تاريخ الفلسفة؛ لأنه فانٍ، ولا دور له تقريبًا إلا في المهام الحيوية التي يشترك فيها الإنسان وسائر الأحياء، حتى بدأت الفلسفة المعاصرة تتخذ منحىً مختلفًا، وتدرك دور هذا الجسد وأهميته التي لا تقلّ عن العقل أو الوعي، ويظهر هذا بوضوح مع هسرل وميرلوبونتي وغيرهما، وخاصة ميرلوبونتي الذي جعل للجسد إدراكًا، وذلك في «فينومينولوجيا الإدراك الحسي».

على أن إشكاليتنا الآن تتمثل في هذا السؤال: عن أي جسد نتحدث؟ الجسد الواقعي في العالم الواقعي؟ أم الجسد الافتراضي في العالم الافتراضي؟ وأي صورة وأي تصورات؟ لقد أصبح ثمّة أشخاص رقميون، عبارة عن نسخة محفوظة، يمكننا إعادة تشكيلها وقتما نشاء، وفي السِّن المحبب إلينا؛ فيمكنني – مثلًا – حفظ نسخة شابة عني، تستمر إلى الأبد. وقد حدث ذلك في مجال الفن والموسيقى بشكل كبير.

ولقد نجم عن التصوير المجسم البصري، ثورة في عالم الفن والتمثيل، ناهيك عن المحسنات البصرية والخدع المعتادة في الفن والتصوير، إلا أن الأمر بات مختلفًا تمام الاختلاف، «بدأ بعض الممثلين والاستوديوهات يستعدون لمستقبل سيكون من المعتاد استخدام تقنية “المسح”؛ لحفظ نسخة ثلاثية الأبعاد من الفنانين، ولم تعد مسألة مزعجة، كالوفاة، قادرة على إعاقة متابعة جني الأموال في سلسلة من الأفلام الناجحة التي تمتد على طول جيل كامل، وباستخدام التقنيات بشكل صحيح؛ سيصبح نجوم الصف الأول وشخصياتهم التي لا تُنسى، مصدرًا دائمًا للأرباح»([4]).

فقد أصبحت الوجوه الرقمية أكثر مصداقية من ذي قبل، وتطورت هذه التقنية كثيرًا حتى تبتعد بها عن المنظر الاصطناعي الذي كان سائدًا من قبل، وغير المقنع للجمهور. يتم حفظ نسخة رقمية عن الممثل وهو في سن الشباب لاستثمارها في المستقبل عند الشيخوخة والعمل بدلاً عنه! شباب دائم، ولكنه رقمي. كما يمكن إعادة شخص ميت إلى الحياة رقميًا، وتستمر أسرته في جني الأرباح من خلال حقوق ملكيتها لنسخته الرقمية، فلم يعد الموت عائقًا أمام التطورات الرقمية الحديثة في مجال المؤثرات المرئية الحاسوبية.

والآن، وفي ظلّ الوجود الرقمي الجديد الذي يضمن وجود نسخة مجسمة عنّا، هل من الأهمية تناول مشكلة العقل والجسد بالطريقة التي اعتادتها الأنطولوجيا؟ من منهما خالد، ومن منهما فانٍ؟ ولمن تكون الأهمية والأولوية في المكانة والاستمرار في الوجود؟ أم أن الأمر أصبح في حاجة إلى تصورات جديدة وتحديد مفاهيم جديدة لهذا الموجود الإنساني، الذي لم يوجد من قبل، والذي لا يكفّ أيضًا عن الوجود بصور مختلفة، ويسعى للخلود، واستمرار الجسد في العالم، بل والوعي أيضًا؟ ناهيك عن المعضلات الأخلاقية التي تطرحها، ولكن ليس لنا سبيل لعرضها هنا.

2-3: الوجود مع الآخرين

ماذا عن علاقة الموجود الإنساني بالآخرين؟ هل يجوز مناقشة أفكار سارتر عن الآخر باعتباره جحيمًا؟ أم هيدجر، الذي رأى الآخر شريكًا وجوديًا، ومجاورًا لي في الوجود؟ من هو الآخر الآن؟ المشكلة التي بدأت تتصاعد الآن، هي خطورة وتداعيات إسناد الخصائص البشرية إلى جهاز ذكي؟

تؤكد الدراسات أن البشر حينما يشعرون بالوحدة فإنهم يتفاعلون عاطفيًا مع «الدردشات»، ومع الروبوت ومكبرات الصوت الخاصة بهم ([5])، ويشعرون تجاه هذه الأجهزة الإلكترونية بمشاعر حقيقية وكأنهم أصدقاء لهم. «وفي استطلاع للرأي أجرته “جوجل إكسبيرينس آند ديزاين” (Google Experience & Design)، قال 41 % من المستخدمين إنّ التحدث إلى مكبر صوت ذكي يشبه التحدث إلى صديق أو شخص آخر» ([6])مما يؤكد على حيوية التجربة والشعور بالتعاطف والود تجاه أجهزة مبرمجة.

ومن المؤكد «أنّ مستوى الخصائص البشرية التي تحملها المساعدات الرقمية ستؤدي دورًا في طرقٍ غير متوقعة في التأثير على التفاعل بين البشر، وسيكون من الصعب تحقيق التوازن فيما يتعلق بمنح المساعد الرقمي صوتًا بشريًا وعمودًا فقريًا حتى، دون المبالغة في إضفاء طابع شخصي عليه، لا سيما الآن، بعد أن تمت برمجتها على أساس أنها “أنثى” بشكلٍ افتراضي»([7]).

هذا هو الآخر الذي صار بعض الناس يتعامل معه الآن، وهذا هو الآخر الذي أصبح يشارك بعضهم وجوده في العالم: كائن افتراضي في واقع إنساني (حقيقي). كيف للأنطولوجيا إذن، أن تتعامل وتصف وتحلل هذا الآخر؟ إن هذا «الآخر» الإلكتروني يتميز بما يمكن أن نسميه: «آخر» على المقاس، بمعنى أنه ليس شريكًا وجوديًا بالمعنى التقليدي، والذي لا يكون فيه الشريك دومًا في حالة مواتية لي، موافقًا لرغباتي وآرائي، وإنما في كثير من الحالات يكون سيء المزاج، تنتابه موجات الضجر والسأم والحزن، وهو بحاجة إلى تعاطف ومواساة مثلما أحتاج أنا، وكثيرًا ما نختلف ونتصارع ثم نتصالح؛ إلخ.

هذا الآخر الإلكتروني ليس آخر بهذا المعنى التقليدي، وإنما هو آخر موافق ومتوافق دومًا معي، وقد يكون لهذا جاذبيته لأنه يُظهر الجانب الإيجابي فقط للفكرة (التوافق والانسجام)، لا سيما إذا تطور هذا الشريك الاصطناعي بشكل مذهل بحيث يبدو تمامًا كما الطبيعي. ولكن هذا الآخر يُنذر – إذا استشرى لدرجة أن يحلّ بديلًا عن الآخر التقليدي – بأزمات كُبرى، مثل العيش في جزرٍ صغيرة منعزلة، ونبذ الاختلاف، واندثار التواصل البشري الذي يثمر ويُسفِر عن الجديد وعن التنوع الخلّاق. وإن وضعًا كهذا، إذا استمر لفترة من الزمن، لخليق بأن يُقلّص القدرات البشرية إلى حدّها الأدنى؛ لأن التطور والارتقاء يأتي من الاختلاف ومغالبة قصور النفس لتتلاءم مع هذا الاختلاف. وقد يأتي يوم لا يستطيع البشر فيه تشغيل هذه الروبوتات (تفعيل دور هذا الآخر)، حتى إذا ما قُدّر لهؤلاء البشر أن يواجهوا بعضهم بعضًا، كانت هذه المواجهة في صورة حرب يدمر فيها الكلُّ الكلَّ! لأنه ما من أحد تعوّد الاختلاف وفهم وتفهم الآخر، والتواصل الحميم معه، والعرفان لمصالحه ورغباته؛ مما يُعيد البشرية إلى سيرتها الأولى في الكهوف، إلى الارتداد عن المدنية إلى الهمجية!

3-3: الوجود في العالم

كان العالم الواقعي هو عالم الموجود الإنساني في تاريخ الأنطولوجيا. فقد كان الإنسان دومًا، كوعي وكجسد، موجودًا هناك في العالم، في مكانٍ معين، وزمانٍ معين. ولكن أي عالم نحيا فيه الآن؟ نحن نعيش الآن في عالمين: أحدهما حقيقي أو واقعي، وآخر متخيل أو افتراضي، ومقومات الوجود الإنساني بكل عالم تختلف تمامًا عن الآخر. فأي عالم الآن يمكننا وصفه بأنه عالم الموجود الإنساني؟

أم تُرانا علينا القول بأن الوجود الإنساني الآن قد صار مزيجًا من هذين الصورتين من الوجود؛ فصار بذلك وجودًا شاحبًا أبعد عن الوجود الأصيل، وأدى لتشتيت الإنسان في ضياع عوالم شبحية شاحبة، بدلًا من تركيزه في فهم نفسه وفهم عالمه المحيط، حتى يسير على هدى من هذا الفهم، ويكون ذاته في تفردها، مستوعبًا العالم المحيط به في هذه الذات، ولا يكون مثل الآخرين في تقليدهم الأعمى لبعضهم بعضًا، ولا يكون كذلك نشازًا بينهم لا يرعى لهم حُرمة ولا يولي اعتبارًا لمقتضيات القيم والأخلاق النبيلة.

وماذا عن علاقتنا بالآخرين، وتفاعلنا معهم؟ ماذا عن علاقتنا بالمحيط وعالميته، والتي اتخذت بُعدًا افتراضيًا وآليًا أيضًا؟ لقد أصبح مفهوم العالم نفسه في حاجة إلى إعادة تحديد، وفكرة عالمية العالم أيضًا تحتاج إلى إعادة تحليل؛ فالعالم الواقعي بكل مقوماته هو الذي يتناسب مع الاطروحات الأنطولوجية المعهودة، أما العالم الافتراضي المرتبط بالوجود الرقمي هو الذي يحتاج إلى أنطولوجيا جديدة تحدده.

 4- آنات الزمان

تقوم الأنطولوجيا على التسليم بآنات ثلاثة للزمن، الماضي والحاضر والمستقبل، وهي من المسلمات التي لم يرقَ إليها شك، وإن كان تفاوت الآراء والمذاهب كان حول أهمية كل آن عن الآخر. وكذلك فقد كان الحاضر هو ما يعنينا، والمستقبل هو الأمل الذي نحيا به. ولكن الآن الماضي معنا في حاضر مربك، ومستقبل محتمل عدم وجوده، فأي أزمة يحيا بها الموجود الإنساني الآن؟ كانت من أزماته الوجودية التي أقضّت مضجعه، هي هروبه من فكرة الموت والفناء فابتكر الأبدية وعالم المثل، فما بالك بحاضر لا يتجه لشيء. وجود لا يعلم وجهته؟

يوصينا هيدجر بأن علينا ألّا نهرب من الموت، وإنما علينا بدلاً عن ذلك أن نضعه نصب أعيننا، حتى لا نضيع في حياة الناس وننغمس في الوجود غير الأصيل؛ هربًا من النهاية المحتومة التي تخيفنا. وماذا لو افتراضنا أن وجودنا في العالم بالشكل الذي هو عليه، هو صورة من صور الوجود، بحيث يعي الإنسان أن وجوده في العالم سوف يفضي إلى وجود آخر لا نعلم عنه شيئًا، ولكنه لا ينتهي، وإنما هو في حلقات متصلة يفضي بعضها لبعض؛ فالموجودات في العالم تتغير وتتطور من طورٍ لآخر، أو تذهب وتندمج مع موجود آخر، فلا شيء ينتهي تمامًا.

فربما لاحظنا في عالم الحيوان، سلوك بعض الحيوانات في مواجهة الموت وكأنه حدث اعتيادي، تذهب بكامل إرادتها إلى مكانٍ ما، وتنتظر الموت بصمتٍ وترحاب. لا أحد يهلع من الموت سوى الإنسان. الحيوانات تفنى وتحلل، وتدخل في موجودات أخرى مثل الأعشاب والنباتات التي تدخل في جسد موجودات أخرى. وهناك دورة من التوازن تشمل العالم؛ لذلك في اعتقادنا أن موت الإنسان هو مرحلة للانتقال من صورة وجود، إلى صورة وجود أخرى، تختلف تمامًا عمّا نحن عليه الآن، وربما كان هذا هو سبب صعوبة تصورها في وضعنا الحالي، وربما نحن نعيش في بُعد من أبعاد الكون يلائم هيأتنا البشرية، ومقومات وجودها؛ ولكي ننتقل إلى بعد آخر يتحتم التحول عن الهيئة البشرية ومقوماتها إلى هيئة أخرى تتناسب مع البعد الجديد، فما المخيف من الموت إذن؟ إنه انتقال وتحول، وليس نهاية.

4- أي فلسفة للمستقبل؟

في عصر أصبح ينذر بخراب الكوكب وضياع الوجود الإنساني في عالمه، ماذا عسى لفلسفة المستقبل أن تكون؟ بماذا تبدأ فلسفة المستقبل إن لم تكن الأنطولوجيا، الأساس الأول الذي أصبح غريبًا على الوضع الحالي؟ كيف تتطور المعرفة والوجود الإنساني لا يرى العالم، ولا يعرف إلى أين يتجه؟ هل سيعود إلى التكهنات الأولى؟ هل هي عود على بدء؟ هل هي عصور ظلام جديدة؟ في اعتقادنا أن مبحث الوجود، أي الأنطولوجيا، هو الأولى بالدراسة والبحث الآن، وخاصة وأنه (أي الوجود الإنساني)، في حالة مربكة في هذه اللحظة، ثم بعد ذلك يأتي كل شيء.

إننا إذا عدنا إلى هيدجر، وصياغته لمفهوم «الدازاين» الملقى به هناك في العالم، فسوف نجد أنفسنا في حاجة إلى تحديد مفهوم الدازاين الآن، وكذلك العالم الآن، بل وطريقة الإلقاء أيضًا. ولو نظرنا إلى كوجيتو ديكارت: «أنا أفكر؛ إذن أنا موجود»، فسوف نجد أنفسنا – مع التقدم التكنولوجي الحالي ومحاولات نقل مخ إنسان إلى آلة، أي وعي داخل جسد صناعي – في مواجهة أزمة كبرى، فمن هو الذي يفكر لكي يوجد، الوعي أم الجسد الآلي؟ وماذا ينتج عن ائتلافهما: هل هو إنسان؟ بل هل هو حياة من الأساس؟ أم إنسان رقمي ووجود رقمي وحياة رقمية؟

إذن، على الفلسفة أن تشتبك مع مثل هذه القضايا المتنامية الخطورة؛ فالعلوم الطبية والتكنولوجية تهدف إلى مساعدة الإنسان وتطويره، وإطالة عمره. ولكننا إذا ما استخدمنا المنهج الفينومينولوجي، وحددنا ماهيات المساعدة والتطوير وإطالة العمر، وعلاقة كل ذلك بالمهمة الوجودية؛ فلسوف تتكشف لنا صورة مغايرة تمامًا لتلك التي تذهب إليها العلوم الطبية والتطبيقات التكنولوجية، تلك التي يغلب عليها النظرة الكمية للحياة، أي مجرد امتداد زمني يحسن أن يزاد فيه، كما أي شيء آخر يحسن أن يزداد في كميته! لكن من زاوية أخرى، فما الغرض الوجودي للإنسان، وما الهدف من إطالة عمره، إذا كانت الحياة أصلاً صورة من صور الوجود، ينتقل منها الإنسان بالموت إلى صورة وجودية أخرى؟ فما تهدف إليه التكنولوجيا من حفظ الوجود البشري كما هو ليس سوى تشتيت وتعطيل للمهمة الوجودية للإنسان في العالم.

الأنطولوجيا المعاصرة في حالة من الفوضى. لقد درست الأنطولوجيا وحلّلت الوجود والكينونة والعالم، ولكن عليها الآن أن تدرس وتحلل الوجود الرقمي والكينونة الافتراضية والعالم الافتراضي والكون الماورائي. إنها بحاجة إلى إعادة بناء أسس وقواعد تتفق مع متغيرات العصر الحالي، وبل وتتغير باستمرار الآن، وفي العصور القادمة .. إن وجدت!

[1] باحثة دكتوراة بقسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة القاهرة.

تمت مناقشة موضوع المقال في المؤتمر الدولي السنوي للجمعية الفلسفية المصرية، والذي عُقد في ديسمبر (2021)، بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة. موضوع المؤتمر: «فلسفة المستقبل». وقد عُرِض الموضوع تحت عنوان: الأنطولوجيا الجديدة: من الوجود ومشكلاته إلى غياب المستقبل.

[2] مارتن هيدجر، الكينونة والزمان، (2012)، ترجمة فتحي المسكيني، مراجعة إسماعيل المصدق، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولي،صـ62.

[3] See, Tao Dong , Baihong Chia , Sen Wangb , Xinke Wangc , Yan Zhang,(2020), Meta-hologram for three-dimensional display in terahertz waveband, Elsevier journal, Microelectronic Engineering 220, 111151.

[4] “إم آي تي تكنولوجي ريفيو” (2018) تقنيات رقمية تتيح للممثلين إكمال مسيرتهم المهنية حتى بعد الموت.

[5] يوجد الآن، جهاز إلكتروني هو مكبر الصوت، لكنه لا يعمل على تشغيل الموسيقى والتحكم في درجة الصوت فحسب، بل أصبح مساعد شخصي لنا في المنزل والعمل، يمكنه الولوج إلى شبكة الإنترنت والتحكم في غلق أو تشغيل كل الأجهزة الإلكترونية في المنزل، كما أنه مبرمج لكي يمكنك الحديث والفضفضة معه، وهو مبرمج لكي يقول لك كلامًا لطيفًا، ويسمعك وينصت إلى حديثك وشكواك بعناية واهتمام. ويتوفر منه أشكال متعددة ومألوفة، مثل دُمَى روبوتية لطيفة، تلعب مع الأطفال وكبار السن، ويعتبرونها صديقتهم المقربة، التي يحكون لها كل أسرارهم ويحبونها كصديق مقرب أو أحد أفراد العائلة.

[6] راتشيل ويذرز، (2019)، لأي درجة علينا قبول إسناد مساعد رقمي على الذكاء الاصطناعي؟، “إم آي تي تكنولوجي ريفيو”.

[7] السابق.

المراجع:

أولًا المراجع العربية والمترجمة:

1- راتشيل ويذرز، (2019)، لأي درجة علينا قبول إسناد مساعد رقمي على الذكاء الاصطناعي؟، “إم آي تي تكنولوجي ريفيو”.

2- “إم آي تي تكنولوجي ريفيو” (2018) تقنيات رقمية تتيح للممثلين إكمال مسيرتهم المهنية حتى بعد الموت.

  1. زكريا إبراهيم،(1968) دراسات في الفلسفة المعاصرة، القاهرة: مكتبة مصر، دار مصر للطباعة.
  2. سعيد توفيق، (1998)، اللغة والتفكير الشعري عند هيدجر، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع.
  3. عبد الرحمن بدوي، (1973)، الزمان الوجودي، بيروت: دار الثقافة، الطبعة الثالثة.
  4. عبد الغفار مكاوي، (2010)، نداء الحقيقة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الفكر.
  5. مارتن هيدجر، الكينونة والزمان، (2012)، ترجمة فتحي المسكيني، مراجعة إسماعيل المصدق، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولي.
  6. مارتن هيدجر، (2016)، نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، ترجمة وعد على الرحية، تقديم ومراجعة على محمد اسبر، سوريا: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط1.

ثانيًا المراجع الأجنبية:

1-  Tao Dong , Baihong Chia , Sen Wangb , Xinke Wangc , Yan Zhang,(2020), Meta-hologram for three-dimensional display in terahertz waveband, Elsevier journal, Microelectronic Engineering 220, 111151.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.