«إنّ تأويل اللغة يعني فَهْمَها، وتأويل الموسيقى يعني خَلْقَها». – أدورنو
بين السينما والموسيقى
كصانع أفلام تمتد مسيرته الفنية منذ عام ٢٠٠٦، أُدرك جيدًا ما تشكّله الموسيقى من أهمية قصوى في العمل السينمائي، ليس فقط من ناحية توظيفها وتضمينها داخل العمل لتخدم سياقاته المختلفة، بل من حيث قناعاتي الداخلية بأن بناء الفيلم يشبه إلى حد كبير عملية التأليف الموسيقي. صانع الأفلام هو بشكل أو بآخر مايسترو يوجه العديد من العناصر ويوحدها لتشكل عملًا فنيًا متكاملًا. وكما يتعامل الأخير مع النغمات والألحان، يعتني الأول بتوجيه الأداء والتصوير لإيصال رسالته بشكل فعّال.
غير أنه على المستوى الشخصي تطورت علاقتي بالموسيقى بشكل متناغم مع نمو إدراكي ووعيي الذاتيين، بحيث أستطيع التأريخ لهذا الوعي من خلال رصد مراحل تطور تلك العلاقة. لكنني لا استهدف من مقالتي هذه سرد تجربتي الشخصية مع الموسيقى وتعريف القارئ بها، بل أريد أن أركز بشكل خاص على نوع خاص من الموسيقى دفعني الاهتمام به مؤخرًا إلى أن اتخذ قرارًا بالكتابة عنه ومشاركة أفكاري حوله مع القرّاء.
علاقة نسب..
تعتبر اللغة الطبيعية في الأصل ظاهرة صوتية، بمعنى أنها تفترض وتقوم أساسًا على الصوت، أمّا الكتابة فهي محاولة للتعبير عن اللغة المنطوقة؛ محاولة تقريبية لتسجيل الواقع الصوتي للغة. وعادة ما ينظر إلى العلاقة المفترضة التي تجمع الموسيقى باللغة الطبيعية إلى أنهما في الأصل ظاهرتان صوتيتان، وأنهما قد تطورتا عن سلف مشترك، أسماه الباحثون باللغة-الموسيقية. فاللغة في الأساس هي تكرار لصوت واحد للدلالة على المرجع نفسه. اللغة ظاهرة صوتية تفترض وتقوم أساسًا على الصوت، أمّا الكتابة فهي محاولة للتعبير عن اللغة المنطوقة؛ تسجيل الواقع الصوتي للغة. وبالمثل، فقد بدأت الموسيقى، وبحسب الإثنوموسيقولوجيا (Ethnomusicology)، معتمدةً بشكل كلي على الإيقاع. وكانت أسرة الآلات الإيقاعية هي أول الآلات الموسيقية التي اصطنعها الإنسان البدائيّ. كانت الموسيقى عند البدائي تعتمد التكرار بصفة أساسية، أيّ تكرار صوت أو نغمة واحدة أو نغمتان. يؤيد كل ذلك أطروحة اللغة الموسيقية أو الموسيلغة (Musilanguage) وهي الفكرة التي تفترض أن الموسيقى واللغة كانتا في الماضي السحيق الأمر نفسه. وقد أخذت الموسيقى واللغة في الانفصال والتطور عن هذا السلف اللغويّ-الموسيقيّ كل منهما بطريقة مختلفة عن الأخرى. والواقع، إن قضية ارتباط الموسيقى باللغة لا تقتصر على مجرد الأصل المشترك والتشابه البنيوي، بل أن تعريف الموسيقى نفسه من الممكن أن ينطبق أيضًا على اللغة، والعكس.
بالإضافة لذلك ثمة علاقة ثلاثية تربط بين الموسيقى واللغة والغناء، ويظهر ذلك في محاكاة أصوات الطيور والحيوانات عند الإنسان القديم؛ إذ يُرجع داروين نشأة اللغة إلى تلك المحاكاة لأصوات الطبيعة والحيوانات. وهكذا، كما يقول روسو، فإن «الكلمات الأولى كانت هي الأغاني الأولى»، ومن ذلك أن الميثولوجيات القديمة غالبًا ما كُتبت بطريقة شِعرية؛ بحيث تُغنَّى عند الإلقاء والترتيل، مثل المهابهاراتا الهندية، وإلياذة هوميروس.
لكن، لغة الموسيقى تتفوّق..
غير أن تشابه اللغة الطبيعية مع الموسيقى، لا يعني أن الإمكانات التعبيرية واحدة في الاثنين. ولتوضيح ذلك يمكننا العودة إلى مقولة فتغنشتاين الشهيرة التي يقول فيها: «حدود اللغة هي حدود عالمي». تشير هذه المقولة إلى أن عالمنا ووعينا يتشكل ويتقيد بحدود لغتنا أو ما يمكن التعبير عنه لغويًا؛ نفكر باللغة ونعبّر بها ونتواصل من خلالها، وما يقع خارج حدودها يظل طوال الوقت منطقة مبهمة عصية على التحدد (ربما نشعر بها لكننا لا نمتلك القدرة على صياغتها في قالب لغوي؛ وهو ما عبّر عنه قديمًا بـ«ما يعجز عنه نطاق القول»). غير أن الموسيقى كلغة وتعبير تتجاوز وتكسر هذه القيود التي للغة الطبيعية، فهي تعكس بأنواعها المختلفة مجموع المشاعر التي تشكل أساس الوجود البشري، وهي في قيامها بذلك تحرر الدال من مدلوله وتفك ارتباطها بالكلمات، ومن ثمّ فالموسيقى تقدم خطابًا محملًا بإمكانات تأويلية تفوق بكثير ما تتيحه اللغة الطبيعية (لا أقول أنها لا نهائية الدلالة، لكنها بالتأكيد تتفوق على اللغة الطبيعية في هذا الجانب). لذا، إذا أخذنا بوجهة نظر فتغنشتاين السابقة، يمكننا القول بأن لغة الموسيقى تعمل على مد نطاق حدود عالمنا بشكل كبير.
هذه الإمكانات الدلالية للموسيقى تختلف في الدرجة والنوع باختلاف نوع الموسيقى، فالموسيقى الإلكترونية (وتحديدًا الرقمية EDM منها)، على سبيل المثال، تمتلك إمكانات دلالية أكثر اتساعًا من تلك التي يتوفر عليها التقليد الكلاسيكي (لا أزعم أفضليته، بل أشير فقط إلى أن الرقمي يحمل بطبيعته قدرات دلالية أعلى)، لأنها تتيح استخدام نغمات وأصوات وآلات لم تكن مستخدمة من قبل. ذلك أن التقليد الكلاسيكي تأسّس على قواعد معينة، تشبه إلى حد كبير قواعد النحو في اللغة الطبيعية؛ بمعنى أن تركيب الأنغام كان لابد أن يحدث وفق قواعد نظرية معينة ومتفق عليها، لكن الموسيقى الرقمية تكسر هذه القواعد، وبالتالي تفتح إمكانات تعبيرية متحررة إلى حد كبير.
رحلات مَلَك ومنطق الطير
رغم أن التجارب عليها تعود إلى الستينيات من القرن الفائت، إلا أن الموسيقى الرقمية كانت عالمًا مجهولًا بالنسبة لي. وقد جاءت نقطة التحول واستكشاف هذا العالم خلال رحلاتي المشتركة بالسيارة مع ابنتي “مَلَك” ذات الاثنتا عشرة عامًا، حيث كنت أطلب منها في كل مرة اختيار مقطوعة أو أغنية على ذوقها الخاص. وقد لاحظت أن اختياراتها في كل مرة تأتي دائمًا من هذا العالم غير المألوف لدي. في الواقع لم أستطع التواصل عقليًا أو وجدانيًا مع هذا النوع من الموسيقى، بل لا أجد حرجًا من القول بأنني لم أفهمه. وأزيد على ذلك بأن شعور داخلي خالجني وقتها بصدق الاتهامات المجتمعية الدارجة بأن هذا الجيل (جيل زد) ليس لديه القدرة على تمييز وانتخاب الموسيقى الجيدة عن الرديئة! لكن احترامي لذائقة “مَلَك” الجمالية، منعني من التلميح حتى بمثل هذه الأفكار؛ وأنا من حاول بناء تلك الذائقة وتوجيهها منذ أن كانت تخطو خطواتها الأولى (ثمّة ما يقال عن هذه التجربة أيضًا سأشاركه معك عزيزي القارئ في حينه). مع تكرار هذه الجرعات الموسيقية بصحبة ابنتي رحلة بعد رحلة، بدأت بدافع من رغبتي في مشاركتها اهتمامها بالبحث والتنقيب عن هذا النوع الموسيقي، ولسان حالي: من يدري ربما كانت انطباعاتي الأولى مبنية على مقاومة داخلية تنتابنا جميعًا إزاء كل ما هو جديد وتقف حائلًا في بعض الأحيان أمام العديد من الكشوفات الملهمة في رحلة الوعي الذاتي. ولكم كنت محقًا في ذلك! ولكم كانت الاتهامات المجتمعية لهذا الجيل مجحفة!! إذ بمرور الوقت، بدأت ارتبط وجدانيًا بهذا النوع الموسيقي، ليس فقط من باب الألفة معه، بل لاحظت مقدار ما يحققه لي من هدوء نفسي وانفتاح في أفق وعيي. أصبحت رحلات السيارة مع “مَلَك” يومًا بعد يوم وسيلة لصقل تلك الخبرة الموسيقية الجديدة لدرجة دفعتني إلى الإبحار أكثر في عوالمها ودروبها محملًا بشغف ابتكار موسيقاي الخاصة يومًا ما. وبعد فترات طويلة من التدرب والمحاولة والخطأ، تجسد الشغف واقعًا! وتعاونت مع المنتج الموسيقي طارق زاروق الذي استوعب رؤيتي لإخراج الألبوم الذي يحمل عنوان: «منطق الطير»، مستوحىً بالكامل من رائعة فريد الدين العطار التي تحمل العنوان نفسه.
التطور الدلالي للموسيقى: من الكلاسيكي إلى الرقمي
روبرت موج، مخترع السينثيسايزر
يحتجّ المؤلفون الموسيقيون، من أنصار الموسيقى الرقمية، بالقول إن النوتات السبع (دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي) ومشتقاتها، وكذلك أنصاف النغمات في السلم الكروماتيكي المعدَّل، لا تشكل سوى جزءً صغيرًا جدًا من عالم الأصوات الموسيقية. كما أن البحث عن آلات جديدة جاء مكمّلًا للسعي نحو إيجاد أساليب وتقنيات جديدة في التأليف الموسيقي، ويرتبط الأمران بسعي الإنسان إلى تسخير التقنية عمومًا لتوسيع مدى قدراته، ومجال تعبيره، وفعله في العالم.
ومنذ التقدم العلميّ والتقنيّ الذي أسفر عن تطور الأدوات والتقنيات الإلكترونية، راح الموسيقيون يكتشفون إمكانات هذا النوع من التقنية ومحاولة اصطناع أصوات جديدة (فالأصوات الموسيقية أيضًا يُمكن إنتاجها معمليًا، داخل المختبر)، ثمّ ابتكار آلات موسيقية جديدة تستعوض آلات الأوركسترا التقليدية (مثل الوتريات، وآلات النفخ الخشبية، والنحاسيات، والآلات الإيقاعية)، لعلَّ أبرزها وأهمّها على الإطلاق السينثيسايزر (Synthesiser).
ترجع جذور الموسيقى الإلكترونية إلى محاولات التمرد على المقامية، وتفضيل التنافر على حساب التوافق التقليدي (الهارمونية الكلاسيكية)، وهو ما أسفر عن موقف جديد من الموسيقى لا يستند إلى العلاقة بين النغمات وبعضها وإنما إلى طبيعة الأصوات وتركيبها الفيزيائي؛ يستند هذا الموقف الجديد إلى العملية التحليلية للصوت، وازدهر بفضل التقدم الهائل في مجال صناعة الصوتيات والإلكترونيات (وهو ما يجعل التساؤل مشروعًا في هذا السياق: هل التطور التقني سيكون دافعًا أمام البشر لاكتشاف لغة أكثر تطورًا من الموسيقى وأكثر منها قدرة على التعبير؟).
تجارب عِلمية
قدمت العديد من الأبحاث العلمية بعض الرؤى الجديرة بالملاحظة حول تأثير الموسيقى الرقمية على الوعي والمزاج والإدراك المعرفي لدى الإنسان. فقد أظهرت بعض الدراسات قدرتها على تحفيز المشاعر الإيجابية وتعزيز الحالة المزاجية. كما قدم أحد الأبحاث في مجلة علم النفس التجريبي، عام 2018، نتائج بعض التجارب التي أثبتت أن الموسيقى الرقمية ذات الإيقاع المعتدل قد تساهم في تنشيط مناطق مختلفة من الدماغ، بما في ذلك الجهاز الحوفي، الذي يتحكم في العواطف والذكريات. بينما أشار بحث تجريبي آخر، نُشر عام 2016، في مجلة العلاج بالموسيقى إلى حدوث انخفاض كبير في مستويات التوتر بعد التعرض للموسيقى الرقمية. وبالمثل، بحثت بعض التحقيقات العلمية العصبية في الاستجابات العصبية للموسيقى الرقمية وكشفت عن التغيرات في نشاط الدماغ والاتصال المرتبط بالمزاج الإيجابي.
وقد درس عالِم الأعصاب أوليفر ساكس (Oliver Sacks) ظاهرة الموسيقى الإلكترونية، حيث ذكر في مذكراته أنه كان بإمكانه أن يستحضر بفضل الموسيقى ذكريات دفينة فقدها مرضاه منذ أمد بعيد. في كتابه نزعة إلى الموسيقى، كتب ساكس أن العلاج بالموسيقى مع المصابين بمرض الخرف والزهايمر هو «ممكن لأن الإدراك، والحساسية، والعاطفة، والذاكرة الموسيقيّين يمكن أن تبقى كلّها أمدًا طويلًا بعد تهافت صور الذّاكرة الأخرى. لذا يمكن أن يوجه نوع الموسيقى الصحيح المريض ويثبته بينما يتلاشى كل شيء آخر». تتصل هذه الملاحظات حول مسألة الذاكرة بالهُوية الشخصية، والوعي بالذات. ومن هنا كانت الموسيقى، كاللغة، حافظة وناقلة للذاكرة، والهُوية، وتكامل الذات الإنسانية.
تؤكد هذه النتائج مجتمعة على التأثير المتعدد الأوجه للموسيقى الرقمية على الصحة النفسية للإنسان، بما في ذلك التجارب العاطفية الإيجابية والتحفيزات المعرفية والحد من التوتر، مع التأكيد على دور التفضيلات الشخصية في تشكيل هذه التأثيرات.
الطبيعة الثقافية للموسيقى
مثل الحدود الثقافية، فإن الأنواع الموسيقية ليست كيانات ثابتة؛ فهي تتطور وتندمج وتعيد تعريف نفسها باستمرار. تجسد الموسيقى الرقمية، عن طريق دمجها الانتقائي للأصوات، هذا التحول النموذجي، وتتجاوز الفروق بين الأنواع التقليدية، وتخلق مساحة لا يعرف فيها الابتكار حدودًا. ومع تحول الأشكال الثقافية، يجب أن تتغير أيضًا قدرتنا على تقبّل هذا التغيير والتعاطي معه بنوع من الانفتاح. إن العيش بعقلية منفتحة مع الأشكال المتطورة لثقافتنا، أمرًا ضروريًا للتنقل في تيارات التفاعل البشري المتحولة باستمرار. الموسيقى، الرفيق الخالد، تعلّمنا فن القدرة على الانفتاح وتقبّل المختلف والتكيف معه أيضًا، الأمر الذي يعزّز أيضًا من فهمنا بشكل أعمق للاختلافات التي تشكّل عالَمنا.
الهوامش
Peretz, Isabelle (ed). The Cognitive Neuroscience of Music: “Comparison between language and music”.1- p271.
2- Darwin, Charles. The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex, with an introduction by James Moore and Adrian Desmond. Penguin Books. 2004. p109.
3- Rousseau, J. J. [1760] 1966. Essai sur l’origine des langues. In On the Origin of Language. Translated by J. H. Moran and A. Gode. Chicago: University of Chicago Press, 1966:
4- Thoma, M. V., La Marca, R., Brönnimann, R., Finkel, L., Ehlert, U., & Nater, U. M. (2013). The effect of music on the human stress response. PLoS One, 8(8), e70156.
5- Ibid.
6- Sacks, Oliver. Musicophilia. Knopf. Toronto. 2007. P.337