تتمثّل المعضلة الأساسيّة للأخلاق في معيار الخير والشّر، ونشأة الأخلاق، وأصل الفروق والتقييمات الأخلاقيّة. إنّ معضلة الأخلاق مغايرة تمامًا لتلك الّتي طرحها التطوريّون بغرض استكشاف أصل الأفكار الأخلاقيّة وتطوّرها، فسؤال الأخلاق أعمق بكثير. كيف ينشأ التّمييز في حدّ ذاته؟ وكيف يمكن للخير أن يكون معيارًا له، في حين أنّ الخير يتكوّن لاحقًا للتّمييز؟ تكمن القيمة الأسمى فيما وراء الخير والشّر. إنّ قوّة السؤال لا تُرى عادةً، والقاعدة العامة مفادها أنّ علم الأخلاق – كلّيّا – في هذا الجانب من الخير والشّر، والخير ليس مشكلة بالنسبة له.
لقد أدرك نيتشه (1844-1900)، القوّة الكاملة للسّؤال، حين قال: «إنّ إرادة الحقيقة، هي موت الأخلاق». تتمثّل وظيفة علم الأخلاق في توفير أساس للأخلاق وكشف زيفها. تكمن مُفارقة المعضلة في الحقيقة القائلة بأنّ الخير موضع للشكّ، وسيُطرح سؤال ما إذا كان الخير حقًّا غير ضار. عبّر [نيقولاي] غوغول (1809-1852)، خير تعبير عن هذه المُفارقة في الكلمات المنقوشة في الكتاب الحالي: «من المُؤسف أن لا نرى أيّ نفع في الخير».
بيدَ أنّي حين أطرح السؤال بصيغة: «هل الخير نافع؟»، فأنا أظلّ حبيس عالم «نعم ولا»، عالم التمييز والتقييم. فلنفترض أنّني أقول إنّ الخير غير نافع، أي أنّ الخير ضار، أيّ أنّنا يجب أن نقول: «لا» للخير. هذا سيعني أنّني أُقيّم الخير، وأُميّزه عن الشيء الذي أعارضه، والذي يقع ما وراء هذا «الخير»، وهذا «الشّرّ»، وإذا اعتبرت هذا «الما وراء الخير والشر»، أَسمى من هذا «المساوي للخير والشّرّ»، فأنا أُميّز بين الأَسمى والأَدنى، وأُدين، وأُقيّم، وأُجري مقارنات، ونيتشه كان شخصًا أخلاقيًّا بالطّبع، على الرّغم من إنكاره لذلك، وإما أنه اكتشف أخلاقًا أسمى في «ما وراء الخير والشّرّ»، والّتي ما تزال مقيدة بمحدّدات أخلاقيّة؛ أو نفس الشّر الموجود في «هذا الجانب» المتجسّد على سبيل المثال في شخصية سيزار بورجيا (1475-1507)، وفي كلتا الحالتين فشل في الخلاص من فخ التمييز بين الخير والشّر، وهذا ما حصل أيضًا مع أحد أفراد عرق الهوتنتوت Hottentot الذي عرّف الخير والشّر قائلًا: «إذا سَرقتُ زوجة شخص ما ففِعلِي خَيِّر، وإذا سُرقت زوجتي ففِعلُه شرّير»، كان هذا الهوتنتوت شخصًا أخلاقيًا؛ وثمة كثير من أمثالِه بيننا. حلّ الخير الجديد محلّ القديم، وأُعيد تقييم القيّم، ولكنّ أيًّا من هذه التغييرات وصل بنا إلى ما وراء الخير والشّر، وحتّى لو قلنا إنّ التمييز والتقييم هما في حدّ ذاتهما شرّ، فإنّنا ما نزال في حدود سلطتهما. لا ينبغي أن يكون في «ما وراء» خير ولا شرّ، لكنّنا دائمًا في مواجهة أحدهما أو الآخر.
سنصل إلى نتيجة مرضية أكثر عندما ندرك أنّ تقييماتنا المتعلّقة بالخير والشّر رمزية وليست حقيقية، فالخير والشّر، والأخلاقي واللّا أخلاقي، والأسمى والأدنى، لا يعبّرون عن أيّ موجودات حقيقية، ولكنّهم مُجرّد رموز، ليست اعتباطية أو مُبتذلة، بل معقولة وحتميّة.
الواقع في جوهره ليس خيّرًا ولا شرًّا، ولا أخلاقيًّا ولا لا-أخلاقيًّا، ولكن يُرمز إليه بهذه الطريقة ليتماشى مع تصنيفات هذا العالم، فالعالم ليس الواقع المُطْلَق، إنما مُجرد مرحلة منه؛ مرحلة ينسلخ فيها الوجود عن نفسه، ويُعبّر عن كل شيء بالرموز. قد تعبّر الرّموز المكانيّة مثل «عالٍ» و«هابط» عن حقائق مُطلقة على المستوى الأخلاقيّ والروحيّ. إنّ ذلك الملتحم بالواقع يتّخذ شكل الانفصال في عالمنا الأرضي، ففي الواقع لا يوجد «عالٍ» و«هابط»، ولكن رمز «العلوّ» يمنحنا فكرة عن طبيعة الواقع، وينطبق الأمر نفسه على الرموز العامة للأب والابن الّتي تُعبّر عن حقائق الوحي الدينيّ. كلمات مثل «الأب» و«الابن» و«الميلاد» هي كلمات مُستعارة من حياتنا الدنيويّة، لكنها تُستخدم -بشكل صحيح وحتميّ- للتّعبير عن الحقيقة الخاصة بالحياة الإلهيّة. الإله بوصفها كيانًا مُستقلًا بذاته، ليس أبًّا ولا ابنًا ولا مولودًا، ومع ذلك، التّعبير عنه بهذه الرموز له أهمية مُطلقة.
إنّ تجاوز الرمزيّة لا يحدث إلا في التصوّف والروحيّة الخالصين، فننغمس في «الحياة الأوليّة». أخلاقنا رمزيّة، وكذلك كل تمييزاتها وتقييماتها. تكمن المعضلة في كيفية تجاوز الرموز للوصول إلى الواقع. كل ما يدور في فلك «على مستوى الخير والشّر» رمزيّ، ولا حقيقي إلا «ما وراء الخير والشّر». إنّ رمزيّة «الخير» و«الشّر»، ليست مصطنعة أو عرضية أو «خاطئة»، فهي تُخبرنا عن المُطْلَق، وعن الواقع المُطْلَق، ولكنّها تخبرنا عنهما بشكلٍ مبهم جدًّا، وتعكس هذا الفهم المبهم في مرآة العالم.
يقتضي وجود الحياة الأخلاقية بتمييزاتها وتقييماتها وجود الحريّة ضمنًا، لذا فإنّ الأخلاق هي فلسفة الحريّة. لا يتطرق المذهب السكولائي التّقليدي للإرادة الحرّة إلى مشكلة الحريّة الحقيقية، اختُرع هذا المذهب من أجل العثور على مُذنِب؛ أي شخص يمكنه تحمّل المسؤولية، مما يُبرر فكرة العقاب في هذه الحياة وفي الحياة الأبديّة. صُمم مذهب الإرادة الحرّة ليناسب الأخلاق المعياريّة والقانونيّة. تنطوي الإرادة الحرّة على أنّ الإنسان لا بد له من الاختيار بين الخير والشّر، وهو بذلك قد يطيع القانون أو القاعدة المفروضة عليه أو لا يطيعهما، فإذا اختار الخير وأطاع القانون سيُبرَّأ من الإثم، وسيُدان إذا اختار الشّر وخالف القانون.
ثمّة حقيقة عميقة بحقّ في تمرد لوثر (1483-1546) على التّسويغ justification بوساطة أعمال مُتصلة بالإرادة الحرّة، على الرّغم من بعض التشوش في فكره. من المفارقات أنّ ما تدعى «الإرادة الحرّة» لا بُدّ لها من أن تكون مصدر عبودية الإنسان، فالإنسان مستعبد بالحاجة إلى الاختيار بين ما يُفرض عليه، والالتزام بالقانون خوفًا من العقاب، مما يُثبت أنّه في أدنى مراتب الحريّة عندما يتعلق الأمر بإرادته الحرّة، ومع ذلك، من الممكن فهم الحريّة على أنّها طاقة الإنسان الخلّاقة الّتي تؤدي إلى إنتاج القيم، وليست فقط الإمكانية الممنوحة للإنسان لتنفيذ القانون وتبرير نفسه بالأعمال الخيّرة بالاستعانة بإرادته الحرّة. قد تقود الحريّة الإنسان إلى الشّر؛ فهي مأساوية في طبيعتها، ولا تندرج ضمن أي تصنيفات بيداغوجية أو قانونيّة أخلاقيّة. الحريّة هي الشرط الجوهري للحياة الأخلاقيّة؛ الحريّة في الشّر والخير على حدٍّ سواء، فالحياة الأخلاقيّة لا تستقيم دون حريّة الشّر، وهذا ما يحوّل الحياة الأخلاقية إلى مأساة، ويجعل علم الأخلاق مرادفًا لفلسفة المأساة. تتجاهل الأخلاق القانونيّة والمعياريّة – الّتي تعتبر الحريّة مُجرد ظرف يُهيئ لإطاعة القانون الأخلاقيّ – الجانب المأساوي للحياة الأخلاقيّة. المأساة عنصر جوهري في الأخلاق وفئة أخلاقيّة أساسيّة، فما هو مأساوي يصل بنا إلى الأعماق والأعالي، وإلى ما وراء الخير والشّر بالمعنى المعياري. ينبثق العنصر المأساوي من الحريّة، وهو ليس خيرًا أو شرًّا بالمعنى الذي تُعرّف فيه هذه المصطلحات عادةً في علم الأخلاق، ومع ذلك يجب على علم الأخلاق أن يبحث فيه. على علم الأخلاق أن يتعامل مع كل من العنصر المأساوي والمُفارِق paradoxical، فالحياة الأخلاقيّة تتكوّن من مفارقات يتداخل فيها الخير والشّر، ولا يمكن تلاشيها عقلانيًّا، ولكن يجب الخوض فيها حتّى النّهاية. يعود الطابع المأساوي والمُتناقض للأخلاق إلى حقيقة أنّ مشكلتها الأساسية هي العلاقة بين الإلهي والحريّة الإنسانيّة، وليست المشكلة المتعلقة بالمعيار الأخلاقيّ أو الخير.
إنّ العلاقة بين علم الأخلاق وعلم الاجتماع لا تقتصر على الارتباط الوثيق بينهما، بل تصل إلى هيمنة الأخير على الأول، وهذه الهيمنة ليست نتاج الفلسفة الوضعيّة في القرنين التّاسع عشر والعشرين، أو أعمال أوغست كونت Auguste Comte (1798-1857) و[إميل] دوركايم Durkheim (1858-1917)، وإنّما نتاج الاستبداد الذي تمارسه الحياة الاجتماعية والقواعد الاجتماعية على الحياة الأخلاقيّة للإنسان حول العالم، فإرهاب الوحدة الاجتماعية، وسلطة المجتمع على الفرد، موجودان في كل مكان تقريبًا عبر التاريخ منذ المجتمع البدائي، وحتّى المسيحية عَجَزت عن تحرير الإنسان منها كلّيًّا.
عندما كَتب [إدوارد] ويسترمارك Westermarck (1862-1939) عمله «أصل الأفكار الأخلاقية ونموها» من منظور علميّ ووضعيّ، كان قد كتب كتابًا في علم الاجتماع وليس في علم الأخلاق. إنّ للأفكار الأخلاقيّة أصلًا اجتماعيًّا ومتطورًا وفقًا للقوانين الاجتماعية التي يضعها المجتمع، فالأخلاق هي أعراف تبحثها العلوم الاجتماعيّة، ليس الوضعيون – الذين يرفضون الميتافيزيقيا ككل – وحدهم الذين يؤيّدون الأصل الاجتماعيّ للوعي الأخلاقيّ؛ بل ويتم دعمه من قبل الميتافيزيقيين؛ لأنّ «الاجتماعيّة» فئة ميتافيزيقية، هذا ما عناه هيدجر في حديثه عن «الهُم» Das Man. إنّ «الهُم»، الكلّ الاجتماعي، الحياة اليوميّة المشتركة، هي التي تحكم العالم الآثم السّاقط. يؤدي المجتمع دورًا هائلاً في الوعي الأخلاقيّ، وتتمثّل المهمّة الصّعبة لعلم الأخلاق الفلسفيّ في التّمييز بين العناصر الرّوحيّة والعناصر الاجتماعية في الحياة الأخلاقيّة والكشف عن الضّمير الصافي. يجب تحرير المعضلة الأخلاقيّة من الإرهاب الاجتماعيّ.
يُعتبر العنصر الاجتماعي مهمًّا جدًّا للحياة الأخلاقيّة لدرجة أنّ الناس غالبًا ما ينسبون طابعًا أخلاقيًّا للحقائق ذات الأصل الاجتماعي البحت، وإلى الأخلاق والعادات الاجتماعيّة. بيد أنّ الأخلاق في جوهرها مُستقلة عن كل ما هو اجتماعيّ. الحقيقة الأخلاقيّة البحتة لا تعتمد على المجتمع، أو لا تعتمد عليه إلا بقدر ما يكون المجتمع نفسه أخلاقيًّا. الحياة الأخلاقيّة متجذرة في العالم الروحيّ، والعلاقات الاجتماعيّة ما هي إلا مُجرد إسقاط لها. الأخلاقيّ هو ما يُفسر الاجتماعيّ وليس العكس. الحياة الأخلاقيّة ليست شخصيّة فحسب؛ بل إنّها اجتماعية أيضًا. لكنّ صَفاء الوعي الأخلاقيّ يُفسَد على الدّوام بما أسميه عنصر القطيع herd في الحياة الاجتماعيّة.
من الواضح أنّ أنظمة الأخلاق في القرنين التاسع عشر والعشرين، والّتي تأخذ المجتمع باعتباره مصدرًا للتّقديرات والتّمييزات الأخلاقيّة، وتؤكد على الطّابع الاجتماعيّ للخير والشّرّ، متورّطة في حلقة مفرغة. لا يمكن أن يكون المجتمع هو القيمة العليا والغاية النهائيّة للحياة البشرية، وحتّى لو كان من الممكن إثبات أنّ التّمييز بين الخير والشّرّ له أصل اجتماعيّ، فهذا لن يُلقي بأي ضوء على طبيعة التّقييم الأخلاقي. إنّ غاية الأخلاق الفلسفيّة هي معرفة الخير والشّر كما هما، وليس أصل وتطوّر الأفكار حول الخير والشّر، فما يهمها هو الطبيعة الأُنْطولوجية للخير والشّر، وليس أفكار الإنسان عنها.
إنّ العقل المُعاصر نزعت الأخلاق منه بسبب الأساليب التاريخيّة والنفسيّة لمقاربة الموضوع، لدرجة أنّه يجد صعوبة في التمييز بين مشكلة الخير في حدّ ذاتها، وبين مشكلة الأفكار الإنسانيّة حول الخير، بدءًا بأخلاق الهوتنتوت Hottentot، وانتهاءً بـ[إيمانويل] كانط Kant (1724-1804) وكونت. إنّ الأفكار حول الخير والشّر مُتضمَّنة في آداب السلوك والأخلاق الّتي تعتمد على المُجتمع، بينما الخير والشّرّ في حدّ ذاتهما لا يعتمدان عليه، على العكس، فالمؤسسات الاجتماعيّة تعتمد على الطبيعة النهائيّة للخير والشّر. قد يكون ثَمَّ اعتراض على أنّ معرفتي بالخير هي فكرتي الخاصّة عنه، والّتي تُشكل جزءًا من جملة الآراء العامة حوله؛ هذه هي الحجّة المعتادة للنسبيّة الأخلاقية. قد تكون أفكاري عن الخير خاطئة، وبهذا المعنى فهي نسبيّة، لكن سيكون من العبث تكوين أفكار عن خير غير موجود، كما أنّه سيكون من العبث كذلك امتلاك معرفة لا تُشير إلى أي واقع.
تفترض التّقييمات الأخلاقيّة الواقعيّة الأخلاقيّة حتميًّا، وتشير ضمنًا إلى أنّ الخير موجود، وليس مُجرد فكرة في الرأس، ومن المستحيل تمامًا أن يحل المجتمع مكان الخير. حاول دوركايم أن يضع المجتمع في مكان الإله، وكان هذا هو أبشع أشكال الوثنية. المجتمع نفسه بحاجة إلى تقييم أخلاقي ويفترض مسبقًا التمييز بين الخير والشّر. لقد دُمرت النفعيّة الاجتماعيّة ولا حاجة لمناقشتها هنا. يجب على النظريّة الاجتماعيّة للأخلاق – حتّى تكون متسقة مع نهج دوركايم – أن تعترف بالمجتمع باعتباره الإله، وليس باعتباره جزءًا طبيعيًّا وتاريخيًّا من عالَم غارق في الخطيئة.
لا جدال في أنّ الإنسان كائن اجتماعي، وهو أيضًا كائن روحيّ، فهو ينتمي إلى عالَمين. يُمكن للإنسان أن يعرف الخير كما هو ككائن روحيّ فقط، أمّا ككائن اجتماعيّ، فهو يعرف المفاهيم المتغيرة عن الخير فحسب. إنّ علم الاجتماع الذي يُنكر أنّ الإنسان كائن روحيّ ويستمد قيمه من العالم الروحيّ، ليس عِلمًا؛ إنّما فلسفة زائفة؛ بل وحتّى دين باطل. لا يُمكن للإنسان أن يُجري تقييمات ويرى الخير والحقّ والجَمال إلا حين يسمو على تيّار الحياة النفسيّة والتاريخية الطبيعية. لا يعني هذا أنّ علم الأخلاق يجب أن يتجاهل الجانب الاجتماعيّ للحياة، بل يعني أنّه يجب على الحياة الاجتماعيّة أن ترتكز على الأخلاق، وليس العكس.
ولا يمكن أن يعتمد علم الأخلاق على البيولوجيا، التي تدّعي، مثل علم الاجتماع، أنّها فلسفة حياة. تحاول الفلسفة البيولوجية أن تُرسي معيارًا للخير والشّر، وأن تبني تقييمات أخلاقيّة على مبدأ الاستفادة القصوى من الحياة. [ففي نظرها] الحياة هي الخير الأسمى والقيمة العُليا؛ كلّ ما يُطلق العنان للحياة نافع، وكل ما يَحُدّ منها ويؤدي إلى الموت والعدم ضار. يجب أن نعمل على تحقيق أقصى استفادة مُمكنة من الحياة. تختلف هذه الفلسفة عن أيّ شكل من أشكال مذهب اللذة hedonism. الحياة الغنية والممتلئة مرادفة للخير والقيمة، وحتّى لو كانت تجلب معها المعاناة وليس السعادة. كان نيتشه أعظم ممثل لهذا الرأي، وهو عدو لدود لمذهب اللذة والنّفعيّة. لودفيغ كلاجيز Klages (1872-1956)، هو مُفكر آخر باين المبدأ الحيوي عن الروحيّ.
لا جدال في أنّ الخير هو الحياة بالتأكيد، وأنّ الغاية النهائيّة هي امتلاء الحياة، ولكنّ الخلل يكمن في أنّ هذه الحقيقة عامّة جدًّا. لا يمكن أن تكون الحياة معيارًا للقيمة لأنّها شاملة: كل شيء هو الحياة والحياة هي كل شيء. يجب إجراء التّمييزات والتّقييمات النّوعية في الحياة. لا يمكن أن تكون «الاستفادة القصوى من الحياة» هي المعيار؛ لأنّها مفهوم كمي وليس نوعي. لذلك نحن متورطون في حلقة مُفرغة. الحياة قد تكون عظيمة وتافهة، ونافعة وضارة، وجميلة وقبيحة، كيف لنا أن نحكم عليها؟ لا يمكن بالتّأكيد أن يكون المعيار البيولوجي للاستفادة القصوى من الحياة بمثابة معيار أخلاقي. يجب أن يكون للحياة معنى لكي تكون مُباركة ولها قيمة، بيدَ أنّ المعنى لا يُمكن اشتقاقه من سيرورة الحياة المُجرّدة، ومن حدّها الكمي الأقصى؛ ولكنّه يَكمُن في ما هو وراء وأسمى من الحياة.
دائمًا ما يفترض التّقييم من وجهة نظر المعنى العلو عن المُقيَّم؛ فنحن مضطرون للاعتراف بوجود شيء اسمه الحياة الحقيقية المناقضة للحياة الزّائفة والسّاقطة. يُمكن أن تصل الحياة إلى مستوى أعلى من خلال الارتقاء نحو شيء أسمى منها، وليس من خلال الزيادة الكميّة، وهذا يعني أنّه يمكن تفسير الحياة روحيًّا وبيولوجيًّا على حدٍّ سواء. بيد أنّ التفسير الروحيّ يفترض وجود الحياة الإلهيّة إلى جانب الحياة البشريّة. تشير الحياة الروحيّة دائمًا إلى شيء أسمى منها ترتقي إليه. إنّ الحياة بحدّ ذاتها ليست القيمة العليا ولا الخير الأسمى، ولكنّها الحياة الروحيّة التي ترتقي إلى الإله؛ ليس بالكم؛ ولكن بنوعية الحياة. إنّ الحياة الروحيّة ليست مُنَاوِئة للحياة العقليّة والجسديّة أو مدمرة لهما إطلاقًا؛ فهي تنقل الذّهني والجسدي إلى مستوى أرقى، وتُضفي عليهما جودة أعلى وترتقي بهم نحو الأعالي، نحو ما هو وراء الحياة والطّبيعة والوجود. قد تُصبح «الحياة» بالنّسبة لنا رمزًا للقيمة العُليا والخير الأسمى، لكن هذه [التّوصيفات] بدورها ما هي إلا رموز تُدلل على الوجود الحقيقي، والوجود في حد ذاته ما هو إلا رمز السّرّ الأخير، وبذلك فإنّ الأخلاق تواجه اللانهاية، ومن ثمّ فإنّ قدرًا كبيرًا منها إشكاليّ. لا تلتفت الأخلاق المعياريّة إلى هذا الأمر. إنّ مشكلة الأخلاق ترتبط بمُعضلة الإنسان، ويجب على علم الأخلاق أن يكون النّظرية المعنية بمصير الإنسان ووظيفته، ويجب أن يبحث في الدّرجة الأولى عن طبيعة الإنسان وأصله وهدفه.
مصدر الترجمة: «مصير الإنسان» للفيلسوف الرّوسي نيقولاي برديائيف، الفصل الأول، القسم الرابع.