الأسطوريَّات التي لم يكتبها رولان بارت | سارة عمري

تستغرق 14 دقائق للقراءة
الأسطوريَّات التي لم يكتبها رولان بارت | سارة عمري

في كتابه: «أسطوريَّات»، يحلِّل رولان بارت عدَّة مظاهر فكرية ومادية تتصِّل بحضارة الإنسان الحديث، ولأنَّه الناقد الذي اهتم بالجانب الهامشي في عالم الرواية الذي تجاهله زملاؤه ومعارضوه في مجال النقد الأدبي، فقد أفرد العناية بالتفاصيل الصغيرة التي تحاصر الفرد في الحياة اليومية والثقافية، وكيف يَعيها كَحقيقة ويتعايش معها تحت وطأة إكراهات تقوم بصياغة فهمه تبعًا لقواعدها. فلم يتغاض في عمله عن تناول مسائل تبدو متواضعة لغيره مثل: مساحيق الغسيل والمطهِّرات، ودورة فرنسا للدرَّاجات، والخمرَة والحليب، والبطاطا المقلية، وأهل المريخ، وغيرها من المواضيع، فجميعها باتت علامات تخلِق مبتغاها وتتحكَّم بسلوكياتنا.

إنَّ الأسطورة بتعريف رولان بارت رسالة تحمل دلالات محدَّدة -قد تغرق في الاعتيادية- وخطاب تصنعه قِيم متماسكة تتصِّف بالوضوح، كما أنَّها منظومة رمزية تتضمَّن سلسلة من العلامات بغضِّ النظر إذا ما جاءتنا مكتوبة وشفهية أو سَمعية وبصرية، وهي ليست بريئة على الإطلاق لأنَّها تختزل موضوعاتها في نسقٍ بسيط يفتقد إلى التعقيد ويتسِّم بالثبات الذي تعوزه المرونة، وهي ضد الاختلاف لأنَّها تستند إلى التشابه وتضطهد الواقع بتنوِّعاته لتجعله واحدًا وتتجاهل الأنساق التاريخيَّة التي صنعت الثقافة والذات الحديثة، فمسحوق الغسيل هو عنصر روحيّ ينظِّم حياتنا، ودورة فرنسا للدراجات هي صراع ملحميّ، والخمر يمثّل أخلاقًا جماعية تُضَخِّم بشكلٍ إيجابيّ من “أنا” شاربها وتبْني جسرَ تواصل مع الآخر، والبطاطا المقلية هي التعبير الثقافي للوطنية، أما أهل المريخ فكائنات نتشارك معها القدرات والتصوُّرات والتاريخ نفسه. وهكذا عالمنا هو حقلٌ من هذه الرسائل التي تنتقل من النظرية إلى الممارسة الفعلية.

نستطيع من خلال الأمثلة السابقة استيعاب فكرة امتلاك كل شعب لأساطيره الخاصة به، ويتجِّه الموضوع نحو النتيجة ذاتها عندما يتعلَّق بالعصور؛ لأنَّ أساطير عصرٍ ما هي ليست أساطير عصرٍ آخر بالضرورة، فالنُظم الاجتماعية والسياسيَّة والاقتصاديَّة إلى جانب تلك التي تقترن بالمعتقد الديني قد تختلف وفقًا للمكان والزمان.

إنَّ الأساطير ليست مقيَّدة بالعنصر الفولكلوري إذ لا يقصد بها ما سَاد من سردياتٍ قديمة أبطالها كائنات إلهيَّة وما فوق بشرية تشكِّل عالمنا بطرقٍ سحرية. فقد تتجه على العكس من ذلك إلى الدنيوية بعيدًا عن كل ما هو متعالٍ ومقدَّس فتستهدف أي شيء. وهذا ما ألهمنا للكتابةِ عن عددٍ من الموضوعات التي تستحضر عددًا من القضايا التي تمسّ الواقع المُعاش مركَّزين بذلك على سوق الفن والاستهلاك، والتمييز العِرقي، والجنسي وانعكاسها على الفنون والآداب، وهي نماذج قد تحتوي على بعضِ من الأسطوريات، وتخفي داخلها أيديولوجيات تتحكَّم بإدراكنا وتجعله قاصرًا ليتحوَّل إلى أداةٍ فاسدة تعيقنا عن فهم الإنسان بدقَّة.

لويس فيتيون وخوان ميرو

حين يَقتني أحدهم حقيبة لويس فيتون مقابل عشرة آلاف دولار فهو في الواقع لا يشتري الحقيبة لِذاتها بل علامتها التجارية، أيّ هوية المؤسَّسة التي يريد العميل الانتساب لعضويتها بالإضافة إلى قدرته الشرائية التي ترفعه اجتماعيًا، فالعلامة التجارية في هذه الحالة تجسيدٌ للمكانة الرفيعة. أما عندما يقتني لوحة لخوان ميرو بأربعين مليون دولار أو حتى أربعة، فهو يشتري “خوان ميرو”.. والتاريخ.

لقد كانت قيمة الأعمال الفنية في الماضي تكمن في علاقاتها الشكلية ومحتواها، فهي لم تستطع الانفصال عن وظيفتها، وفائدتها للمجتمع. وغالبًا ما قُدَّرت بسبب خضوعها للمعايير الجمالية السائدة في عصرها وخدمتها لِرُعاتها، أما اليوم فسوق الفن لديه لوحات من كلّ العصور، ما يعني أنَّها متعدِّدة التقنيات، والجنسيات، والأزمان، والجمال.

يتميَّز الفنُّ الحديث بإجلال الفنان وتمجيد ذاتيته، ومن هنا تأتي قيمة خوان ميرو، التي ألزمت دُور المزادات على بيع لوحاته بثمنٍ مرتفع، وهي في الواقع ليست قيمة جمالية، بل تاريخية. تخيَّل أنّ تشتري مخطوطةً نسخها أفلاطون نفسه أو أحد تلامذته! ما يجعلها تحظى بالتقدير هو قدمها وشهرة صاحبها. والعلامة التجارية تقارب خوان ميرو، فكلّ ما يعتقده المرء وهو يتحصَّل على أشيائها هو شراء القيمة غير أنَّه أيضًا يشتري نفسه من أصحابها بعد تحويله بفضل منتجاتهم إلى برجوازيّ متشبِّعٍ بقيم السوق. إنَّ ربحه الحقيقيّ رمزيّ، أما ربحهم فماديّ، لكن لا أحد يخسر في النهاية.

اليوم صار الفنان نفسه مجرَّد مُنتَج له ثمن، لا عمَله الفني فحسب، فلم يعد هناك تلقِّي جمالي وإنَّما استهلاك جمالي للإنتاج الفني. ولنعطي مثالًا على ذلك، من خلال قصة الفنان الإنجليزي مجهول الهوية: “بانكسي”، الذي تخصَّص في الفن الجرافيتي.

تُجسِّد الرسومات الجدارية لبانكسي مقاومةً لسوق الفن وتسليع إنتاجه، فهي حرَّة وهي على الجدران في الشوارع، الشوارع المتداخلة نفسها التي لا يمكن أن تنفصل عن العوام وحياتهم اليومية. إنَّها ملك للطبقة المتوسِّطة على عكس اللوحات الأخرى المُغلَقة في إطارها والجاهزة للاقتناء أو العرض في المتاحف والمنازل الفخمة. غير أنَّ بانكسي لم يكتفِ بالجدران فقد استهزئ بتجار الفن عبر اللوحات في مرات كثيرة، واحدة منها تلك التي أتلفها عبر جهاز تحكُّم وعلى مرأى الناس في سبيل التهكُّم على المآل الذي وصل إليه الفن، فقد صار يُترجَم اليوم ضمن النسق المادي لا الجمالي، وما يثير السخرية أنَّ أعمال هذا الفنان أضحت تُباع بسعرٍ خيالي، وهو السلوك السائد في عالم الفن الذي يحاربه، فمنطق السوق يستغِّل أيّ منتج لصالحه حتى المفاهيم التي تنتقده والممارسات التي تتحدّى سلطته كنتاج بانكسي.

 لقد تمّ شراء بانكسي بالفعل أكثر من شراء أعماله، ونجحت الصفقة عبر طريقة وحشية انقلبت عليه، هي أفظع من عمليات شراء لوحات خوان ميرو وغيره. ما حصل لبانكسي يتقاطع جزئيًا مع المسيرة الفنية لميشال باسكيا، الذي بدأها بِوصفه فنانًا جرافيتيًا يعبِّر من خلال جداريات الشارع عن استيائه من السلطة، ليصبح بعدها أحد أشهر فنانيّ التعبيرية الجديدة (Neo-Expressionnism).

لقد خصَّص الاقتصادي “ثورشتاين فيبلن”، في كتابه: “نظرية الطبقة المترفة: دراسة اقتصادية للمؤسَّسات” (The Theory of the Leisure Class: An Economic Study of Institutions)، فصلًا عَنْوَنَه بـ: “الاستهلاك التفاخري (conspicuous consumption)، يفسِّر فيه أنَّ شراء المقتنيات الباهظة يعود إلى اعتبار الثروة رمزًا يدلّ على الرفعة والمرتبة الاجتماعية، حيث لا يعود السبب الوحيد فقط إلى محاولة تحقيق الرفاهية والبحث عن حياةٍ عالية الجودة عبر الإفراط في الاستهلاك، بل لكسب تلك المكانة أيضًا. وبما أنَّ استهلاك هذه السِلع الفاخرة يعد دليلًا على الثروة، فسيصبح لدى هذه الطبقة حسب اعتقاده سلوكًا يرمز إلى الفخر والعزَّة، أما العجز عن هذا النوع من الاستهلاك من حيث الكمية والجودة فيعتبر علامةً على النقص والدونيَّة.

إذن، لا شكَّ أنَّ هذه الازدواجية التي تقوم على الاستهلاك وعدمه، ستُقصي شريحة كبيرة من الناس وتخلُّ بمبادئ المساواة في الحياة الحديثة، وهي آلية غدت تتحكَّم بعلاقاتنا الاجتماعية وكيف ننظر إلى الآخر ليس بوصفه فردًا في المجتمع أو مواطنًا في الدولة، وإنَّما مستهلِكًا في السوق له درجته بحسب مساهمته في تضخيم الثقافة التي دعاها ثورشتاين فيبلن بـ: “الثقافة المالية” (Pecuniary Culture). 

يُمثِّل الإنفاق سِمةً من سِمات ثقافتنا المعاصرة، وهذا ما جعل الفنانة النسويَّة باربارا كروغر تصرخ يومًا في أحد أعمالها قائلة: “أنا أتسوَّق؛ إذن أنا موجود”. (I shop Therefore I am)، إذا كان التسوَّق الذي لا يستلزم صرف مبالغ خيالية، وينتشر في كلَّ طبقات المجتمع قد أمسى جزءًا مهمًا من الثقافة البشرية فالإنفاق الشرِه والاستهلاك المُبالَغ فيه سيصبح هدف الإنسان المعاصر والغاية من وجوده وربَّما المعنى الكلِّي لتأسيس مجتمعاته.

أنا أتسوَّق؛ إذن أنا موجود، لـ باربارا كروغر،1987.
أنا أتسوَّق؛ إذن أنا موجود، لـ باربارا كروغر،1987.

غالبًا، الإنسان الذي عاش في زمنٍ قروسطيّ وجاء ليعاصر الحقبة الحالية لَفَعل المثل فيما يخص الاستهلاك -فمنذ نشوء الحضارة وتقدُّمها لاسيّما في الشق الاقتصادي الذي له ارتباط بالفنون التطبيقية (Applied Arts) (1)– سعى إلى امتلاك “الجميل” وكلّ ما من شأنه أن يتصِّف بالفخامة والقيم الجمالية، لذا ما يجري اليوم هو تطوُّر بدهي يبدو مبالغًا فيه بسبب تحسُّن الحياة البشرية وتوسُّع دائرة الرفاهية ومضاعفة الإنتاج الاقتصادي.

وعودةً إلى فيبلن الذي كتب: “هناك سببٌ يجعلنا نعتقد بأنَّ نظام الملكية؛ قد بدأ بامتلاك البشر، ولاسيَّما النساء”. ويضيف أنَّ هؤلاء -العبيد والنساء- دائمًا ما اُعتُبِروا كـ”وسائل لتكديس الثروة” (2). وهكذا، كان الرجل في الثقافات القديمة يمتلك العبيد ويهيمن عليهم باعتباره سيّدًا، أما اليوم فنحن نراه في الثقافة الحديثة يستحوذ على اللوحات القيِّمة ويعرضها لمعارفه أو يتبرَّع بها لمؤسَّسات الفنّ ولا يتوقَّف الأمر عند هذا الحدّ، فهو قادرٌ على التحكُّم بعالم الفن نفسه بطريقةٍ ما من خلال إمكاناته المالية وعلاقاته النافذة.

ورغم كلِّ هذا الجنون الاستهلاكي الذي جعل العالم بأكمله مجرَّد أسواق خصبة فليس بوسع أيّ جهةٍ الإعلان عن موت المتلَّقي للفن، أو تقمُّص حالةٍ من التشاؤم الـ إشبينجلري (3)؛ فهؤلاء الذين يحوزون الأعمال المعروفة ليسوا جميعًا متلَّقين بالمعنى الحرفي أو أشخاص مهمومين بتغيير صورة الفن في المجتمع والتشجيع على ثقافة الاختلاف، وذلك لأنَّ جزءًا منهم مجرَّد أثرياء يريدون كسب الشهرة والرتبة النبيلة عبر اقتناء بعض القطع الفنية، أما البعض الآخر فسماسرة يتعاملون مع اللوحة بوصفها مالًا لا فنًّا.

إنَّ العملية التي تحوِّل الفنِّ إلى مجرَّد قيمة مالية قد وصلت نوعًا ما إلى مبتغاها لكن في جزءٍ صغير يمسّ مجال تجارة الأعمال الفنية الكبرى داخل نطاقٍ ضيِّق تسوده فئة صغيرة من البرجوازيين وعصابات غسيل الأموال. أما علامة تجارية مثل لويس فيتون ومثيلاتها فهي تَؤسِّس مدينتها اليوتوبية القائمة على تسلُّط الأسعار والتي ترادف الطبقية لجمهور ضئيل أيضًا يتباهى أفراده بين بعضهم البعض في عزلةٍ شبه تامة عن المدن الحقيقيَّة بصرف النظر عن تواجدهم فيها والتأثير على جوانب معيَّنة تحكمها.

الشرطيّ الأسود وروبنسون كروزو

بعد عقود كاملة من نشاطات حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدَّة في الخمسينيات والستينيات تزايدَ على نحوٍ غير مسبوق عدد السُّود الذين تولَّوا مناصبًا في سلك الشرطة، وهم الذين اعتُبِروا أعداءً للأمة البيضاء يجب تجريدهم من أيِّ أسلحةٍ تعزِّز قوتهم أو سلطةٍ تخولهم المشاركة في صناعة القرار. ورغم قبول عدد من مطالبهم ظهرت إشكاليات أخرى لم تكن في الحسبان، وبقيت عدة إلزامات ترمي بثقلها على الرجل الأسود لا سيما ضمن العلاقات الاقتصادية والثقافية أو في مجال العمل.

في حوار مع جايمس فورمان الابن (4)، وهو ابن الناشط الشهير جايمس فورمان، وصاحب كتاب: “حبس أهلنا: الجريمة والعقاب في أميركا السوداء” (Locking Up Our Own: Crime and Punishment in Black America)، نتابعه وهو يتحدَّث عن موضوع الشرطة السوداء، فبحسب اعتقاده كان يُنتظَر من الشرطي الأسود أن يفيد المجتمع الأمريكي في مجال تطبيق القانون بأشكالٍ متنوِّعة، بالنسبة للبعض سيكون مهتمًا بمشاكل وقضايا السُّود أكثر من الشرطي الأبيض، وعند غيرهم سوف يكون متسامحًا أو معتدلّا في تعامله مع أبناء جلدته، أما الآخرون فاعتقدوا أنَّه سيؤدِّي مهمته على أكملِ وجه فيما يخص إدراك طبيعة واختلاف السُّود بين بعضهم البعض والتفريق بين الصالح والطالح على عكس الشرطي الأبيض الذي يراهم شخصًا واحدًا، وهناك البقية التي لا تتطلَّع إلى أيِّ غاية عدا انخراطه في المهنة التي يريدها وهذا من جملة حقوقه كمواطن. لكن الوضع بعدها بقي على نفسه لأنَّ رجال الشرطة السُّود لم يقدِّموا شيئًا يُذكر، بل تبنَّوا المنهج ذاته الذي تبنَّته القوَّة البيضاء في التعامل مع أهاليهم واتسَّمت تصرُّفاتهم ناحيتهم بالعنف، فالذين اعتقلوا والد جايمس فورمان الابن بأوامر من الحكومة البيضاء كانوا من الشرطة السوداء.

صورة تلتقط لحظة اعتقال جايمس فورمان الأب، تصوير: داني ليون، 1963.
صورة تلتقط لحظة اعتقال جايمس فورمان الأب، تصوير: داني ليون، 1963.

هنا تكمن السخرية التي جسَّدها الفنان ميشال باسكيا في لوحته “مفارقة الشرطي الأسود” (Irony of The Negro Policeman)، التي يشير فيها إلى الموضوع ذاته. فالشرطي الأسود هو رجلٌ مُضطهَد يحمي من يقهره ويقهر عائلته بوعيّ منه أو من دون وعي. لكن ما يجدر مراعاته هو مواجهته للعديد من المعيقات وهو يعمل في هذه المهنة، فعدد كبير من أفراد الشرطة لم يتعاملوا معه إلَّا بعنصرية رغم انتمائه لهم، ناهيك عن تحمّله للكثير من الضغوطات، إذ لا يُعامل مثل الشرطي الأبيض، ما منح تراتبية داخل سلك الشرطة نفسه الذي يدعِّي تطبيق القانون والعدالة.

لقد توصَّلت إحدى الدراسات التي قام بها قسم الشؤون العامة والبيئية في جامعة إنديانا الأمريكية إلى أنَّ الاستراتيجية التي تقوم على توظيف رجال الشرطة السُّود لأجل تقليل حالات إطلاق النار على المواطنين السُّود أو استخدام العنف معهم ليست فعالة بالشكل المطلوب ويمكن أن تعكس النتيجة المطلوبة فتزيد من هذه الحالات، فمراكز الشرطة التي تحتوي على عدد لا بأس به من رجال الشرطة السُّود تعرف حالات مماثلة من حوادث إطلاق نار أكثر، ولقد أشارت دراسات أخرى أنَّ الشرطة السوداء قد تتعامل مع المواطنين بطريقة أعنف من البيض وذلك لجعل مجتمع السُّود أكثر أمانًا. (5)، لكن عند تحليل المسألة من وجهٍ آخر، يمكن التفطُّن إلى مبدأ حتمي يرغم الشرطي الأسود على التصرُّف مثل غيره من رجال الشرطة بطريقةٍ عنيفة حتى ينال القبول أو يشعر بالانتماء لسلك الشرطة لا الانفصال عنه، أو يمكن تأويل تصرِّفه ببساطة على أنَّه محاولة لتجنَّب الحُكم عليه كشرطي مُتقاعس عن أداء واجبه ومتساهل مع أبناء عِرقه.

في الفيلم الوثائقي الحائز على جائزة البافتا للوثائقيات (6) بعنوان: “الشرطي الأسود: مجرم وضحية وبطل: The Black Cop: a Villain, a Victim and a Hero”، نتابع حياة الشرطي السابق “جمال توراوا”، وهو يروي لنا قصة حدثت في طفولته، ففي أحد الأيام وهو يلعب مع أصدقائه مرَّ بهم أحد أفراد الشرطة البيض، وذهب إليه صديقه الإيرلندي الأبيض ملقيًا عليه التحيَّة، ومنحه الشرطي بعد ذلك وبكلِّ سرور قطعة نقدية. لقد تخيَّل جمال وهو الطفل الصغير بأنَّ الأمر يتم بسهولة فإذا نفذَّ الحركة ذاتها فسوف يحصل على ما تحصَّل عليه صديقه، وهكذا قام بتقليده ليفاجئ بردٍّ عنيف من الشرطي الذي شتمه بعنصرية. اليوم يقول جمال عن تلك الحادثة بألم: “تلك كانت اللحظة التي أدركتُ فيها أنَّني أسود!”.

لم تتصِف وضعية جمال بضعفه فحسب، بل بضعف وانعدام حيلة كلَّ شخص يشاركه لون بشرته، ما يرمي عليه مزيدًا من الشعور بالاضطهاد، وهي تجربة كئيبة جعلته يبتهج يومًا ما لمصادفته شرطيًا أسود. فلقد بدا الشرطي محمَّلًا بالمعنى الذي افتقده إخوته في اللون والذي طالما بحث عنه، وها هو أخيرًا يكتشف الرجل الأسود وهو في مركز سلطةٍ وقوَّة -أي ذات حرَّة تخلق نفسها وتمدّ الآخر بالمعنى وليست مجرد جزء متشظ من رجلٍ أبيض يخضع له ويسمح بتشكيل أنَاه بالطريقة التي يريدها، أي مجرَّد دمية تستقبل المعنى فقط بدل أن تنتجه أيضًا. وهذا ما ألهم جمال ربَّما ليصبح شرطيًا رغم تحذير والده من وقوعه في المتاعب، ما يدل في تلك الفترة على خطورة انضمام الرجل الأسود إلى سلك الشرطة رغم الوضع القانوني الذي يسمح بذلك، فالقوانين الجديدة تظل مجرد وثيقة إذا ما بقيت الذهنيات القديمة تتحكَّم بأفكار وسلوك القطيع، وما يجب عمله هو التجديد الاجتماعي للأساطير وتحسينها أثناء سَنِّ التشريعات ليُحَقَّق التوازن بالفعل.

لقد تعرَّض جمال إلى مواقف عنصرية صدرت من طرف المواطنين، ومن أفراد الشرطة الذين يُعتَبرون زملاءه في العمل، فقد اضطُّر لسماع نكتهم العنصرية باستمرار، وعلاوة على ذلك اعتادوا على جعله كبش فداء على الدوام.

ظلَّ الشرطي الأسود في حالةِ خنوعٍ دائم، كما يصوَّر أحيانًا في هيئة وديعة عندما يتعلَّق الأمر باحتكاكه مع الرجال البيض. في الفيلم الكلاسيكي المشهور: “إنَّها حياة رائعة” (It’s a wonderful life)، نشاهد الشرطي الأسود اللطيف، بوصفه المسؤول عن تنظيم عشاءٍ رومانسي لجورج بايلي وزوجته، الشخصية الرئيسة التي يؤدِّي دورها جون ستيوارت، وكأنَّ الشرطي ينفِّذ ما نفّذه أسلافه السُّود عندما كانوا عبيدًا ثمّ خدمًا لهم أجورهم، عائدًا بهذا إلى ارتداء جِلده الأصلي. قد يكون الحدث الفيلمي المذكور بريئًا غير أنه مثال مناسب لما كان يقع باستمرار من ترويضٍ للسُّود ومقاومة أي محاولة تهدف إلى التخلِّي عن الأفكار الدونيّة عنهم وتغيير واقعهم، فهم إما مجرمين ومتمرِّدين أو أشخاص لطفاء خاضعين، وما يجري هو ثنائية تعسفيَّة ما بين الخير والشر تجعل من السُّود أشخاصًا غير عاديين وتحرمهم من إنسانيتهم.

لم يحصل السُّود بطبيعة الحال على أدوارٍ في السينما فحسب وإنَّما صُنِعوا كشخصيات داخل عالم الأدب أيضًا، ولنأخذ ما كتبه دانيال ديفو في روايته روبنسون كروزو على سبيل المثال، الشاب المغامر الذي يصادق اتشوري “Xury” واتشوري هو اسم لأحد الشخصيات التي تمثِّل فتى عربيًا أو أسودَ حسبما يرجَّح. فعلى الرغم أنَّ الفتى يعدَّ كصديق لروبنسون غير أنَّ اللافت للانتباه هو أنَّه حافظ على منزلة العبد بصورةٍ مستمِّرة في تعامله مع روبنسون، فهذا النوع من العلاقة أقرب لما يحتمل تسميته بصداقة العبد لسيده، أو الصديق العبد فهو يسير ضمن نسق يقوم على التراتب.

ولقد طلب روبنسون من اتشوري، بل أمرَه أن يكون مخلصًا له وتوعَّده بإلقائه في البحر إذا ما خان ثقته (7)، ليبيعه في النهاية لبحّار برتغاليّ أنقذه متحجِّجًا بإجباره على القيام ببيعه (8)، وحتى لو لم يشأ روبنسون التفريط فيه وحاول هدم هذا الموروث العنصري، في النهاية لم يكن كروزو شخصية كريهة. ولا شكّ أنَّ منطق رواية دانييل ديفو يحتِّم أن يبقى الأسود أو البربريّ في مرتبة أقَّل من الرجل الأوروبي وهي حتمية تاريخية ذات أبعاد إمبرياليَّة، من دون التغاضي عن بُعدها الذاتي فروبنسون لم يرغب في أن يحرم نفسه من هذه الميزة وهو الذي صار وحيدًا يجاهد للنجاة، فقد تولَّد لديه بناءً على هذا دافع للاستمرار في مثل سلوكياته. والرحلة بأكملها ما هي إلَّا رحلة سيكولوجية أكثر من بحريَّة جعلته يكتشف نفسه أكثر عبر اكتشاف الآخر الذي حمل عنه عدَّة تصوُّرات ربما تخلَّى عن جزء منها وظلَّ بعضها.

ونقرأ كذلك في الرواية عن شخصية فرايداي Friday، الذي أصبح صديقًا له، وهو الرجل الأسود الهمجي، ولأنَّ روبنسون كروزو رجل أبيض ممسوس بجنون العظمة والتفوَّق العِرقي فقد تعوَّد أن يطلب من الجميع بشكل مباشر أو غير مباشر ليس فقط مشاركته لمغامراته، بل خدمته كسيد فيما يعدّهم خدمًا أو عبيدًا لديه وهكذا يظهر فرايداي.

في “محاورة ليسيس” نجد أفلاطون يناقش حقيقة الصداقة على لسان سقراط، الذي يتساءل عما إذا يمكن للصداقة أن تحدث بين المتشابهين، مستشهدًا بالمقطع الشعري الآتي: “الله يجذب شبيه إلى شبيهه على الدوام” (9). أمْ إذا ما كانت ممكنة فقط بين غير المتشابهين، فالشبه سيجلب البغض والتنافس كما يمثّٓله كلام هسيود القائل: “الخزَّافون يتشاجرون مع الخزَّافين، الشاعر مع الشاعر، المتسوِّلون مع المتسوِّلين”، والذي يقتبسه أفلاطون (10). ليخلص بأنَّ الصداقة ممكنة عندما تكون لدينا طبائع متشابهة مع الغير تخصّ الأخلاق، أو الشكل أو كيفيات تعاطينا مع الحياة وأنفسنا.

إنَّ الشبه الكامل ليس ضروريًا غير أنَّ روبنسون كروزو لم يكن يشبه إتشوري وفرايداي في شيء، أما القاسم المشترك الوحيد الذي جمعهم فهو رحلتهم الصعبة أي أنَّها حدثٌ مهم أجبرهم على العيش والبقاء معًا أكثر من طبائع أو تشابهات في الشخصية أو في حياتهم الخاصة. في الحقيقة إنَّ إطلاق صفة “رفقاء سفر” على اتشوري وفرايداي يبدو أكثر دقَّة من كلمة أصدقاء.

وعلى أيّ حال، فسرعان ما نقرأ في رواية دانييل ديفو عن مديح روبنسون للحيوانات مثل الكلب والببغاء والقطط بطريقة تتجاوز ربَّما ثنائه على أصدقائه السُّود والملوَّنيين. هو نفسه الذي دعى حيواناته بـ “عائلتي” (11)، نراه في المقابل يعامل تلك الحيوانات كعبيد أيضًا ويصفهم بالخدم الأمناء والموثوق بهم (12). قد تكون كلمات دانييل ديفو على لسان شخصيته الأساسية مجرَّد تعابير شائعة غير أنَّ روبنسون يستغِّل أيّ كائن أو أرضية لصالحه وحتى وهو لوحده يدعو نفسه بـ صاحب الجلالة، والأمير، وسيد الجزيرة الذي يتوسَّطه خدمه (13). هذا ليس تمركزًا أوروبيًا فحسب وإنَّما تمركز بشري محمَّلٌ بنزعةِ تملُّك. لقد استطاع روبنسون استغلال وسائل الإنتاج البسيطة المتوفّٓرة له وبناء اقتصاد بدائيّ صغير يناسب موقعه، فهو تجسيد لتطوُّر الإنسان في صراعه مع الطبيعة لتحقيق رفاهيته.

لكن، في وسعنا ملاحظة نوعٍ من التقدير لجميع البشر والحيوانات، فوضعه الصعب جعله يبني صداقة معهم أو نوعًا من الصحبة كي لا يفقد عقله وهو في عزلة عن العالم المتحضِّر، فحتى الببغاء المتكلِّم أفرحه وآنس وحدته الصامتة، فقد كان روبنسون يبحث عن “اللغة” بِبُعدها الأنطولوجي، التي تجعله يشعر بإنسانيته ووجوده حتى لو اعتُبرت مجرَّد كلمات وأصوات تفتقد إلى الإدراك والتجربة الشعورية، أضف إلى ذلك بُعدها الاجتماعي، الذي يفرض علينا تواجد “الآخرين” معنا. وهي مشاهَد روائية شبيهة بالعمل السينمائي المُعَنْون بـ”المنبوذ” (Cast Away)، الذي يحاول فيه “تشاك نولاند” (Chuck Noland) -وهو الشخصية الرئيسة للفيلم- بناء صداقة بل لغة حيَّة مع ويلسون (Wilson)، وما ويلسون في الحقيقة غير اسمٍ لكرةٍ خاصة برياضة كرة الطائرة خلع عليها تشاك صفات الإنسان، ما يجعل منها شخصية من شخصيات العمل لا تقلّ شأنًا عنهم.

حين نعود إلى روبنسون كروزو سنكتشف أنَّ رفاقه البشر استمروا في الظهور بالنسبة إلى منظوره على هيئة عبيدٍ وهمجٍ متخلَّفين عنه، فهم مضطرين إلى البقاء خلف الرجل الأبيض لخدمته ومساعدته على تحقيق مصالحه على حساب مصالحهم، أي أنَّهم محرومون من ذواتهم وجاهلين لحريَّتهم يشتغلون على تحقيق حرية البِيض فقط. وإنَّ ما وقع ليس تناقضًا في شخصيته على الإطلاق فـ البنية النفسية لروبنسون هي نفسها لدى أيّ رجل أوروبي سيضطر إلى مكابدة الصعاب التي تحمَّلها، كما اتسَّم أحيانًا بحسٍّ طفولي ينشد العفوية والسذاجة ويجنبِّه الظهور كـ شخصٍ شرير -بالمعنى الفني- يتعمَّد أذية غيره، ومع ذلك فشخصية روبنسون لا تتقيَّد مطلقًا بالنمط الشائع الذي يجعل من الشخصية الرئيسة Protagonist خيِّرة على الدوام أو تقودها المبادئ السامية، ولا يعني ذلك أنَّه يماثل البطل التراجيدي الذي تعاقبه الآلهة على زلَّاته وهفواته مثلما نقرأ في الأدب الإغريقي الكلاسيكي، أو الشخصية ذات البُعد النفسي المهووسة بالبحث عن المعنى، إنَّما هو مزيج من كلِّ ما سبق، فبناء شخصيته يبدو أكثر حداثة ناهيك على أنَّه يشبهنا أكثر نحن البشر الحقيقيون.

مع مرور الزمن، تلاشت بعض التصوُّرات العنصرية تدريجيًا، فنشاهد في الأفلام أو الرسوم المتحرِّكة شخصياتٍ من السُّود بعيدة عن كونها هامشية، إلَّا أنَّها تظهر في كلِّ مرة كـ دعامة للشخصية الرئيسة التي يجسِّدها فتى أو فتاة بيضاء، حيث تؤدِّي تلك الشخصيات دور الصديق أو شخص يشاركه مغامراته، وكأنَّ السُّود مجرد مكمِّلي للعمل ليس لديهم قصتَّهم الخاصة، أما اليوم فيحاول صُنَّاع الفن تغيير هذه النظرة بجعل عدَّة أفراد ملوَّنين وذو ثقافات واثنيات مختلفة يحظون بدور البطولة، ولو أنجِز ذلك أحيانًا لغاية تحقيق أهداف وأفكار مؤدلجة أو مصالح تهتم بالكسب التجاري وليس تغيير العقليات السائدة.

لقد بدأت مشكلة اللون في النهاية تتقزَّم بشكلٍ ما في عالم أصبح فيه الإنفاق المالي هو من يلمِّع صورة الإنسان، فالمال اليوم هو “المقياس” الأكثر تأثيرًا، ومن خلاله يُقيِّم الشخص وفقًا لثروته وحجم استهلاكه، وقد أصبح السبب الرئيسي الذي يبيح العنصرية ويخلق هوّة بين شخص وآخر، الآخر الممثَّل اليوم بالطبقة المتوسطة أو الأدنى.

مغنِّي البوب مع نِسَائِه

تُمثِّل “الكثرة” صفة العطاء وشكلًا من أشكال الإزدهار يمتدُّ إلى الوفرة، لكنها من الناحية الأخلاقيَّة وتبعًا لوضعياتٍ علائقية تعني حالةً من التفسُّخ أو إفراطًا سلبيًا، بالإضافة إلى ارتباطها بـ “التبذير”، الذي قد يعبِّر بدوره عن فساد القيم ولا يجسِّد بالضرورة معنًى اقتصاديًا فحسب.

في اللغة الإنجليزية تعني كلمة: Profligacy: “التبذير”، كما تشير أيضًا إلى حالة من الانحطاط الأخلاقي والفحش، ومثلها كلمة: Dissipation التي تشير إلى أسلوب حياةٍ دنيويّ وانغماس في الّلهو واللذَّة. وفيما يوازي هذا القصد نعثر على كلمة: “الإسراف”، التي توحي حسب القاموس القرآني إلى عدَّة معانٍ منها الانقياد للمعاصي. والتبذير مع الإسراف لا يُقصَد بهما الغِنَى فيمكن أن يكون المرء غنيًّا من دون اتصافه بهاتين الخصلتين. ببساطة إنَّ المبذِّر يسيء استخدام الوفرة ويفشل في جعلها نافعة، ما يقع فيه هو عجزٌ عمليٌ قد يكون سببه أخلاقي.

في كتاب الدامابادا البوذيّ (Dhammapada)، نجد قسمًا من الآيات مُعنْونًا بـ: “ما هو خَير من ألف” (Better Than a Thousand)، وفيها يذكر على سبيل المثال: “قصيدة واحدة تجلب السكينة خير من مئةِ قصيدة عاجزة عن ذلك” (14). وتوجد آيات أخرى تماثلها في المغزى مثل أن يومًا واحدًا من تعظيم الرجل العارف أو العمل بأقواله أفضل من ألفِ سنةٍ من تقديم النذور أو العبادة، فبالنسبة للفكر البوذي فإنَّ إساءة استخدام ما لدينا بغض النظر عن كثرته أو طول مدَّته هو ما يجعلنا مبذِّرين وغير أخلاقيين.

إنَّ أغاني البوب أو ما يسمّى بالفن الجماهيري، الذي بات في كلِّ مكان تفضِّل هذا النوع من الكثرة وتقابله ليس مع القلَّة وإنَّما مع الشخص الواحد، فنرى فيها الفنان/الرجل مع فتيات كثيرات مختارات بعناية، ويتم الكشف عن تفاصيل أجسادهن والتركيز عليها بطريقةٍ متعمدِّة تخلو من العفوية، وغالبًا ما يكون المشهد رخيصًا وله ملمحٌ إشهاريّ.

يتِّخذ الفنان موقف الذكر الفحل وهو محاطٌ بجمعٍ من الراقصات، فهو الواحد أما هن فكثر، وهو المركز أما هنَّ فهوامش، وهو الأهم بينما هنَّ لا شيء. إنَّ العارضات مجرَّد صوَّرٍ مركَّبة تثير الحواس لكنَّها فارغة تفتقد إلى التفرُّد، مجموعة من النسخ المتشابهة التي لا تُقدِّم “المعنى” فمعناها يكمن في مراكمتها وينفع صاحبها (الفنان) أضف إلى ذلك عين المتفرِّج. يقارب الأمر ما يفعله أحد الأطفال حين يشتري ألعابًا ويجمعها طيلة أسابيع، أو يركِّب قطعًا لحلّ الأحجية (Puzzle) حتى تظهر في النهاية صورةً كاملة تمتِّعه وترضيه.

النساء هنا مجرَّد لعبة، وما يمنحه المغنّي لنفسه لبعض الوقت على عكسهن هو درجة إلهية يرسمها الفن، ومع أنَّ هذه المَشَاهِد الفنية مجرَّد استعراض و”ضرورةٌ غير ضرورية”، تستهدف غايات محدَّدة (15) فهي ممارسة مفيدة تُشيِّد للمغنِّي وجوده الفائق الذي يتوق إليه الملايين من الرجال لأنَّه يملكُ كلّ ما يشتهيه فيبدو مثل إلهٍ غارق في وحدانيته، والحقيقة أن كلّ ما ذُكِر هو وعي ذاتي مزيَّف وفردانية مشبوهة، فهو في الجوهر ليس المؤلِّف لأنَّه مجرَّد شخصية وأداة مثلهن تُكمِل المشهد العام بِغضِّ النظر إذا ما كان موقعه يبدو أفضل، فمن دون تواجده في المشهد تبدو النساء الكثيرات مجرَّد نساء كثيرات ترقصن لوحدهن وتبنين هوية جماعيَّة مكتفية بنفسها لا تحتاج لرجلٍ لامتلاكها أو التحكُّم بها. وقد تخفُّ شدَّة تبعيتهن الجنسية للرجل عندما يظهرن على خشبةِ مسرحٍ أو في مكانٍ يخلو من الديكور أو الأشياء المادية، على عكس تواجدهن في فضاءٍ محمَّلٍ بالرسائل البصرية يضم مجموعةً من الممتلكات مثل: اليخت، المنزل الفخم، الطائرة، السرير.. إذ تفسَّر مكانة الراقصات في هذه الحالة بطريقةٍ مغالية بحيث لا تختلف قيمتهن عن الأشياء آنفة الذِكر؛ فالراقصة في هذا الموقع مجرَّد شيء مادي يحوزه الرجل.

في الواقع نحن دائمًا نتقمَّص وضعية الإله التوحيدي في حياتنا اليومية مقابل تعدديَّةٍ ما لكن مع الأشياء مثل المال، والسيارات، والحليً. أما هنا المرأة تُصبح مع كثرتها “شيء” و”لا شيء” في الوقت نفسه. إنَّه وضعٌ تنطبق عليه فعليًا عبارة: “تشييء المرأة”، كما بالاستطاعة تسميته في الوقت نفسه: “إخفاء المرأة”، حيث تُنهَب مكانتها الإنسانية وما يبقى لنا مجرَّد جسد شهواني، أيّ مادة حيَّة تتحرَّك بصمتٍ لا امرأة ولا حتى إنسان؛ إذ يبتعد كيانها الإنساني ويختفي عن الأنظار.

ونحن نصير أحيانًا عبيدًا للمنتجات التي نرغب بامتلاكها ونركض ورائها لاقتنائها فهي التي تمدُّنا بالمعنى وتعزِّز من قيمتنا، فيتحوَّل هذا الميل إلى إدمان ونصبح مجرَّد تابعين لها، ولقد وصف إريك فروم هذا السلوك الذي يركض فيه الإنسان وراء الأشياء ويجعله القيمة الأسمى في حياته على أنَّه “نوعُ من أنواع الاغتراب عن الذات”. وهذا ما يحدث تمامًا للفنان الرجل أيضًا فهو ليس حرًّا أو متميَّزًا مثلما يريد إيهامنا لأنَّ قيمته الحقيقيَّة تماثل قيمة الأشياء التي يبني من خلالها وجوده الهشّ.

هناك نسخة أخرى أنثويَّة عن هذا التفسُّخ والإفراط في عملٍ غنائي تؤدِّيه فنانة شعبية ذات شهرة واسعة كانت قد باغتت الفن الجماهيري بصيغته الذكورية؛ بانقلابٍ نسائي فتظهر مع مجموعةٍ من الرجال شبه العُراة في قالب جنسيّ صارخ (16).

وقد سبقتها فنانة أخرى أكثر شهرة سندعوها بـ “غين”، غير أنَّ تصوير الرجال على عكس الأولى تمَّ بطريقة غرائبية وفنيَّة لها وظائفها الجمالية والفكرية لا المبتذلة (17). ولدى “غين” أغنية ثانية نراها تقاوم نسخة المرأة مع نسخة الرجل المتطرِّفتين (18)

تفتتح مقاطع أغنيتها المصوَّرة بجمعٍ من الرجال والنساء وهم واقفين وجالسين معًا في مكانٍ محدَّد لينفصلوا بعدها، هناك الراقصات ومن بينهن “غين” التي هي واحدة منهن ترتدي الثياب ذاتها وتؤدِّي نفس الحركات، مع أداء منفرد يخصُّها في لقطاتٍ أخرى فالفنان متفرِّد مهما حاول التماهي مع القطيع الموجود في مقاطعه الفنية. وبالمقابل هناك الرجال الذين يشاهدون العرض على مقاعدهم بارتياحٍ ببذلاتهم الرسمية والصدور العارية لبعض الذين وشموا ظهورهم، وكل هذا يدل على السلطة التي يتمتَّعون بها.

إنَّ “غين” واعية بنفسها وبما يدور حولها من عنصرية جنسية واستغلال، وهي ليست مسلوبة الإرادة كليًا، مع أنَّها تتقمَّص دور الضحيةً مثل الأخريات لكن ليس بطريقة مستهلكة، فهي تتضامن مع رفيقاتها المهمَّشات مع أنَّ ملامحهن وتصرفاتهن تظهر العكس ولا تضع مسافة بينهن. ولا تكتفي “غين” بما تفعله لأنَّها بشكلٍ ما تتحدَّى النظرة الذكورية (male gaze)، أضف إلى ذلك أنَّها تحرق الرجل في خاتمة الأغنية بنيرانٍ تخرج من جسدها؛ الجسد نفسه الذي يثير شهوة الرجل ويحمل بالنسبة إليه دلالة الضعف. فما تقدِّمه في أغنيتها ليس قلبًا أو شكوى وإنَّما تدميرًا لتلك الوضعيات التشييئية.

في الأخير، مِن الصعب المقارنة بين كثرة النساء وبين كثرة الرجال في الفن، فقد مثَّلت النساء حالةً خاصة منذ قرون على أنهن أجساد مغوية فحسب، فصار تأويل جسدها وقراءته يمارس على هذا النحو التخيُّلي، وزُرِع  التصوُّر في عقول الناس وترسَّخ لديهم بمرور الزمن فالوقت الكثير يعني صورًا أخرى مثيرة تصدر من مؤسَّسات تستغلَّ هذا التحريف لطبيعة المرأة وتجعله يُباع عبر الفن التجاري أو حتى الأكاديمي، عكس الرجل الذي تملَّص من هذه الصفة، ما يجعل المقارنة غير عادلة في تفكيك وفهم أغنية الرجل وأغنية المرأة. إنَّ الكثرة اللاأخلاقية التي تدعِّم مكانة صاحبها يستغلُّها الرجل لصالحه بشكلٍ أفضل من المرأة نتيجة اختلاف صورتهما في المجتمع.


هوامش ومراجع

1 – الفنون التطبيقية (Applied Arts)، هي الفنون التي ترتبط بالحِرف والصناعات التي تستهدف الحياة اليومية. من ضمن انتاجاتها ما يتعلَّق بـ التصميم العُمراني، والملابس والزينة، والأثاث والديكور.. الخ.

2 – Thorstein Veblen, The Theory Of Leisure Class: An Economic Study Of Institutions, The Macmillan Company, London, December, 1915, P. 53

3 – “اشبينجلري”:  نسبةً إلى المؤرخ والمفكِّر الألماني أوسفالد اشبينجلر، مؤلِّف كتاب: “تدهور الغرب”.

4 – تجدون هذه المقابلة المُعنْونَة بـ باسكيا: عن رجال الشرطة السُّود Basquita on black cops، على هذا الرابط: https://youtu.be/-uqhZbtWJIw.

5 – لتفاصيل أكثر حول هذه الدراسة انظر إلى هذا المقال التابع لصحيفة واشنطن بوست

 By Tracy Jane, Study: Hiring more black cops won’t stop fatal police shootings of black citizens

https://www.washingtonpost.com/news/wonk/wp/2017/01/05/study-more-black-cops-wont-stop-police-killing-of-black-citizens/

6 – تجدون الفيلم الوثائقي المعنون بـ الشرطي الأسود: مجرم، وضحية، وبطل The Black Cop: a villain, a victim and a hero​، على هذا الرابط: https://youtu.be/6quoiHR1VxA

7 – Daniel Defoe, Robinson Crusoe, Published By George W. Jacobs and Company Philadelphia, 1920, P.40

8 – Ibid, p.54

9 – أفلاطون، المحاورات الكاملة، المجلد الثاني (محاورة ليسيس) ترجمة: شوقي داود تمراز، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994، ص: 491.

10 – المصدر نفسه، ص 494

11 – Daniel Defoe, op.cit, P. 143, 202

12 – Ibid, P. 95

13 – Ibid, P. 202

14 – The Dhamappada, Translated By Juan Mascaró, Penguin Books, 2015, P.14

 15 – “ضرورة غير ضرورية”، استهملتُ العبارة من الكاتب الأمريكي مارك توين في قوله عن الحضارة: “الحضارة هي التوالد اللامحدود للضرورات التي ليست ضرورية”.

(Civilisation is the limitless Multiplication of unnecessary necessities)

16 – هي أغنية مشتركة بين فنانة الراب الأمريكية: “أونيكا ميناج” المدعوة بـ نيكي ميناج (Nicki Minaj)، مع فنانة البوب الأمريكية أيضًا: “أريانا غراندي” (Ariana grande)، بعنوان: «من جانب إلى آخر – Side to Side»، وبها طابع جنسي واضح يظهر بمجرد قراءة عنوانها وتحليل مَشاهِد ركوب الدراجة، ورغم وجود مَشَاهَد بها مجموعة من الرجال شبه العُراة تتوسَّطهم الفنانة إلَّا أنَّ الأغنية لم تخلو كذلك من مشاهد أخرى تتضمَّن مجموعة من النساء اللواتي تستعرضن أجسادهن وتؤدين حركات جنسية.

17 – أغنية بوب لـ الفنانة الأمريكية: ستيفاني جيرمانوتا المعروفة باللقب الفني لايدي غاغا (Lady gaga)، بعنوان: «أليخاندرو -Alejandro».

18 – عنوان هذا العمل هو: «علاقة حبّ سيء –  Bad Romance»، للفنانة السابقة.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.