العناية بالنفس في لغة الآخر – أو هل يمكن استيراد «أخلاقنا»؟ | فتحي المسكيني

تستغرق 12 دقائق للقراءة
العناية بالنفس في لغة الآخر – أو هل يمكن استيراد «أخلاقنا»؟ | فتحي المسكيني

من يؤرّخ لظهور مصطلح «علم الأخلاق» لدى العرب المعاصرين يلاحظ أنّه جاء في وقت مبكّر إلى حدّ ما ولا يعاني من أيّ «تأخّر» تاريخي. قال أحمد أمين (1886- 1954) في مقدّمة الطبعة الأولى من مؤلّفه «كتاب الأخلاق» في أبريل سنة 1920:

«هذا كتاب وضعته للطلبة ليكون مرشدًا لهم في حياتهم الأخلاقية […] كتبته بلغة العصر وبروح العصر، فإنّ لكلّ زمان لغة هي أقرب إلى الفهم، وروحًا تتطلب معاني جديدة، ونمطًا في الكتابة جديدًا […] ولعله أوّل كتاب في اللغة العربية من نوعه؛ من حيث موضوعاته ونمطه، على حاجتنا الشديدة إلى كثير من الكتب في هذا الموضوع الذي عنيت به الأمم الحية فألّفت فيه الكتب العديدة».[1] [التشديد من عندنا]

لابدّ أنّ هذا التنزيل قد كان في وقته طريفًا وربما ثوريًّا: كان يقترح إعادة وصف «الحياة الأخلاقية» بشكل «جديد»، وهو ما كان يعني عندئذ بشكل «حديث»؛ تلك الحياة الأخلاقية التي كان «الدين» سنة 1920 يشكّل هيكلها الأساسي. ولكن هل فعل أحمد أمين ذلك، هل أنجز ما وعد به؟

إنّ المتصفّح لمراجع الكتاب[2] سوف يجد أنّ تعريف «الجديد» و«الحديث» في الكتاب لا يعدو أن يكون مرادفًا للفظة «إنجليزي»، بل إنّ «كتاب الأخلاق» الذي وضعه أحمد أمين يشبه أن يكون -بعد أبسط مقارنة موضوعاتية بين المؤلّفين- تبيئة عربية لكتاب إنجليزي يذكره هو نفسه في رأس القائمة، ألا وهو كتاب جون ماكنزي «مصنّف في الأخلاق»[3] الذي صدر أوّل مرة سنة 1894، إلى جانب مؤلفات كتّاب آخرين مثل جون ستورات مل[4] أو سبنسر[5] أو هنري سيدويك[6].

لو أعدنا الآن قراءة مقولة أحمد أمين في ضوء ما كان قاله فيلسوف أوروبي سنة 1886، نعني نيتشه، في الفقرة 186 من كتابه «ما وراء الخير والشر» عن نشأة «علم الأخلاق» الحديث العهد. سنراه يقول يقول: «إنّ الشعور الأخلاقي هو الآن في أوروبا شعور ناعم، متأخّر، متباين، مرهف، متلطّف، بقدر ما أنّ “علم الأخلاق” الذي ينتمي إليه، لا يزال علمًا فتيًّا، مبتدئًا، أخرقًا وغليظ الطبع-: ربّ تضادّ هو جذّاب، وما يلبث أن يصبح في بعض الأحيان مرئيًّا ومتجسّدًا في شخص عالم الأخلاق نفسه. يكفي أنّ لفظة “علم الأخلاق” بالنظر إلى المشار إليه بها، هي لفظة متكبّرة جدًّا وضدّ الذوق السليم: الذي اعتاد دومًا أن يراعي مذاقًا خاصًا للكلمات المتواضعة. يجب على المرء، بكل صرامة، أن يقرّ هنا بالشيء الذي لا زلنا في حاجة إليه، وما له وحده الحق في الوقت الحاضر: نعني تجميع الموادّ، والإدراك المفهومي وتنظيم مجال واسع من مشاعر القيم الرقيقة ومن الاختلافات بين القيم، التي تعيش وتنمو وتتناسل وترحل، وربما، محاولة جعل التشكّلات المتكرّرة والشائعة لهذه التبلورات واضحة للعيان؛ وذلك بمثابة تمهيد إلى نظرية في الأنماط الأخلاقية. بلا ريب: لم يكن المرء إلى حدّ الآن متواضعًا على هذا النحو. إنّ جميع الفلاسفة يطلبون من أنفسهم، بجدّية متصلّبة، تدعو إلى الضحك، شيئًا عاليًا جدًّا، مدعيًا جدًا، احتفاليًّا جدًّا، ما إنْ يشرعوا في تناول الأخلاق بوصفها علمًا: هم أرادوا تأسيس الأخلاق، وكلّ فيلسوف إلى حدّ الآن قد اعتقد أنّه قد أسّس الأخلاق؛ أمّا الأخلاق نفسها فقد اعتُبرت “معطاة”.[…] إنّ الشيء الذي لا يزال مفقودًا في كلّ “علمِ أخلاقٍ” إلى حدّ الآن، مهما بدا ذلك أمرًا عجيبًا، هو مشكل الأخلاق نفسها: إنّ ما ينقص حيال ذلك هو التوجّس من أن يكون ثمّة هاهنا شيء ما مدعاة للاستشكال…»[7].

ثمّة أمر مشترك يبين نيتشه وأحمد أمين: فكلّ منهما يؤكّد صراحة على أنّ «علم الأخلاق» علم جديد وربما هو جديد باللغة التي يكتب بها. لكنّ ما قدّمه أمين على أنّه «روح العصر» رأه نيتشه على أنّه رغبة فلسفية في «تأسيس الأخلاق» تدعو إلى الضحك. وهذا يعني أنّ أمين قد كان يعتقد هو بدوره أنّه سوف «يؤسّس» الأخلاق في الثقافة التي ينتمي إليها. وعلينا أن نفهم عندئذ ما الذي يمكن أن «يدعو إلى الضحك» في ادّعاء أحمد أمين بخصوص تأليف كتاب «جديد» في الأخلاق هو الأوّل من نوعه في العربية.

يدّعي أحمد أمين أنّ «كتاب الأخلاق» الذي ألّفه هو: أ- مكتوب بلغة العصر؛ ب- أنّه يعبّر عن «روح العصر»؛ ج- أنّه أوّل كتاب من نوعه بالعربية؛ د- أنّ الحاجة إليه شديدة؛ ه- أنّ «الأمم الحية» قد سبقتنا إلى التأليف في ذلك.

لكن تصفّح موضوعات الكتاب تضعنا أمام الملاحظات التالية:

  • أنّه كتاب شبه مترجم عن مراجع إنجليزية؛
  • أنّ موضوعات الكتاب مختلطة دون فصل واع بذاته بين «المسائل الأخلاقية» التقليدية منذ اليونان (من قبيل علم الأخلاق، وموضوعه، ومذهب السعادة، والخير والشر، والفضيلة، والعدل، والاعتدال) وبين «المبادئ الأخلاقية» الحديثة التي تمّ طرحها منذ كانط (من قبيل الإرادي، وغير الإرادي، والتَّبِعة أو المسؤولية الأخلاقية، ومسألة الضمير، والحكم الأخلاقي، والرأي الشخصي، ومذهب المنفعة، وأخلاق الواجب، والمثل العليا، والاعتماد على النفس، والانتفاع بالزمن، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وحقّ الحرية، وواجب الإنسان نحو الإنسانية عامة).
  • أنّ الاستعمال الأساسي للكتاب هو بقصد التعليم حيث يحمل الكتاب ختم وزارة المعارف كي يتمّ السماح بتدريسه في «المدارس الثانوية ومدارس المعلمين الأوّلية»؛ فهو كتاب لا يدّعي «التفكير الأخلاقي» المبتكر أو الحرّ؛ أي هو لا يواجه «المشكل الأخلاقي» بما هو كذلك بل «يؤلّف» كتابًا للغرض التربوي.

إنّ ما لا يقوم به أحمد أمين هو هذا المطلب الذي شخّصه نيتشه: «نعني تجميع الموادّ، والإدراك المفهومي وتنظيم مجال واسع من مشاعر القيم الرقيقة ومن الاختلافات بين القيم، التي تعيش وتنمو وتتناسل وترحل، وربما، محاولة جعل التشكّلات المتكرّرة والشائعة لهذه التبلورات واضحة للعيان؛ وذلك بمثابة تمهيد إلى نظرية في الأنماط الأخلاقية».

هل كان أحمد أمين يقصد «تأسيس الأخلاق»؟ وبالتالي كان يشارك الفلاسفة في «عدم تواضعهم» أمام مشكلة لم تُطرح بعد؟ يبدو لنا أنّ أحمد أمين لم يكن حتى يطمح إلى تأسيس الأخلاق، فما كان يفعله هو مجرّد «استيراد الأخلاق» بوصفها «علمًا» جديدًا. كان ينحصر عمله إذن في الاستيراد الإبستيمولوجي لعلم «جديد» قدّر أنّ العرب المعاصرين لم يعرفوه من قبل. وعلينا أن نسأل: إذا كانت رغبته المنهجية صحيحة، فهل كان يمكن استيراد الأخلاق للناشئة بمجرّد استيراد «علم الأخلاق» كما كان يدرّسه «المستعمر» الإنجليزي في أواخر القرن التاسع عشر لأبنائه؟ يقول:

«الغرض من هذا الكتاب أن يكون مرشدًا للطلبة في حياتهم الأخلاقية، يلفتهم إلى نفوسهم، ويبين لهم أهم النظريات الأخلاقية، ويوسع نظرهم فيما يعرض عليهم من الأعمال اليومية، ويشحذ إرادتهم لتأدية الواجب واكتساب الفضيلة» (من مقدمة الطبعة الثالثة للكتاب، في سبتمبر سنة 1929).

إنّ رهان أحمد أمين هنا ليس «بيداغوجيا» فقط؛ بل كان غرضًا «أخلاقيًا» بنفس القدر. لم يكن يفصل بين «إرشاد الطلبة في حياتهم الأخلاقية” وبين «تبيين النظريات الأخلاقية». وهذا نفسه يفترض تصوّرًا «نظريًّا» للمشكل الأخلاقي: أنّه شيء يمكن «تدريسه» نظريًّا و«عيشه» يوميًّا، دون فصل بين الأمرين. لا يزال الرهان الأفلاطوني على إنقاذ «اليومي» بواسطة «النظر» في الحقيقة قائمًا. لكن أمين يخلط عندئذ بين مطلب حديث مثل «تأدية الواجب» ومطلب قديم مثل «اكتساب الفضيلة». هو لا يتبيّن أنّ «الحكم الأخلاقي» وراء «أداء الواجب» غير قابل للتصور إلا في نطاق «براديغم الذات»: الإنسان الذي صار «ذاتًا» مستقلة بنفسها ومشرّعة ليقينها الذاتي باعتباره هو ماهية «الحقيقة»، وإنْ كان من المؤكّد أنّه يعرف أنّ «اكتساب الفضيلة» مطلب أخلاقي قديم تمّ بناؤه في نطاق النظر اليوناني في «براديغم الوجود»؛ حيث لا تعدو الفضيلة أن تكون قوة تدبير الكمال الخاص للنفس في ضوء معرفة طبائع الموجودات. هو لم يكن يتبيّن أنّ «الطلبة» المحدثين لم تعد لهم «نفوس» (بالمعنى اليوناني) بل هم «ذوات» مريدة ومستقلة بنفسها، ولا يمكن «تعليمها» الفضيلة من الخارج. وأنّ «الحياة الأخلاقية» الحديثة ليست «الأعمال اليومية» (التي استقلت بنفسها في دوائر قيم أخرى «غير أخلاقية»: دوائر قانونية، واجتماعية، وسياسية) بل هي حياة «ذاتية» حيث تمارس الذات «أحكامًا أخلاقية» شخصية.

فماذا كان يعني إذن حين قال: «[…] كتبته بلغة العصر وبروح العصر، فإنّ لكلّ زمان لغة هي أقرب إلى الفهم، وروحًا تتطلب معاني جديدة، ونمطًا في الكتابة جديدًا […] ولعله أوّل كتاب في اللغة العربية من نوعه»؟

ما هي «لغة العصر»؟ إنّها اللغة الكولونيالية التي اعتمدت عليها الحداثة من أجل الهيمنة الرمزية على الأفق الأخلاقي للشعوب المستعمرة، ومنها كان العرب الذي يخاطبهم أحمد أمين. هي لغة «براديغيم الذات» التي ترى إلى كل ما عداها -سواء كان بشرًا أو بقرًا أو حجرًا- بوصفه مجرّد «موضوع» معرفة وتملّك. وما هي «روح العصر»؟ هي الروح «الليبرالية» التي نصّبت «الحرية الفردية» باعتبارها مبدأ المجتمعات التي تعيش في ظل نظام رأسمالي منتج للثروة والهيمنة في نفس الآن في شكل تركيب معقّد بين «المنظومات» و«عوالم الحياة».

وهو يسلّم بأنّ «لكلّ زمان لغة هي أقرب إلى الفهم». وهذا يعني أنّ العرب أمّة قد باتت «بلا لغة» أو هي صارت في مطلع القرن العشرين جماعة كلامية لم تعد تملك اللغة «الأقرب إلى الفهم»، ومن ثمّ عليها أن تستورد «لغة العصر» كي «تفهم نفسها». لأوّل مرة يصرّح الخطاب العالِم بأنّ العرب ليس فقط لا يملكون لغة عصرهم، بل يجب عليهم أن يستوردوا «الفهم» المناسب لأنفسهم. وهكذا ينكشف معنى هيمنة «روح العصر» التي أشار إليها: إن هذه الروح «تتطلب معاني جديدة، ونمطًا جديدًا في الكتابة»: من يستورد «الفهم» المناسب لنفسه هو يستورد أيضًا «معاني جديدة» للغته. ومن يستورد لغة جديدة لفهمه، هو يستورد أيضًا نمطًا جديدًا لكتابة تلك اللغة.

إنّ ما كان مجرّد «درس» في الأخلاق قد كشف إذن صراحة عن رعب هووي غير مسبوق: أنّ العرب كانوا يتكلّمون »لغة« غير لغة عصرهم؛ لغة »غير عصرية«، تعجز عن مخاطبة العصر أو هي تخاطبه من خارج مفرداته، هي تبدو لغة لا تتكلّم بل تتمتم، وما تقوله عن العصر قد صار يبدو فجأة مجرد بلبلة أو تأتأة. هل هذا مجرّد مشكل أسلوبي على طريقة دولوز؟ أم أنّ العرب قد فقدوا لغتهم بمجرد أن بدأوا التكلم بـ«لغة العصر»؟ يبدو لنا أنّ أحمد أمين قد كان على وعي بأنّ «اللغة العربية» التي أخذ «يكتب» بها هي «لغة جديدة» أو لغة لم «يُكتب» بها من قبل: في معنى أنّها تكتشف «الكتابة» لأوّل مرة، إذْ هي تتحوّل من لغة تقليدية (حيث لا يزال يمكن أن تُقال في مفرداتها الخاصة، كما استعملها ابن مسكويه أو الغزالي، وهما من مراجعه في الأخلاق) إلى لغة عصرية (حيث يقع تدشين عصر الكتابة بالعربية المعاصرة لأوّل مرة). بهذا المعنى كان من حقّ أحمد أمين أن يدّعي قائلًا: «ولعله أوّل كتاب في اللغة العربية من نوعه».

كيف يمكننا الآن أن ننزّل محتوى «كتاب الأخلاق» الذي يبدو مقتبسًا في جملته من «مراجع إنجليزية»؟ ربما من السهل أن نحكم عليه بأنّه كان في وقته مجرّد كتاب مدرسي وأنّه لم يكن يطمح إلى أكثر من ذلك، أي إلى تأسيس الأخلاق مثلًا. وبالتالي لا يمكن أن يطوله تأنيب نيتشه للفلاسفة عن قلة التواضع. لكنّ الأمر أكثر خطورة من ذلك: لقد كان أحمد أمين شديد الوعي بأنّه لا يستطيع أن «يبوح» لنا بطبيعة «المشكل الأخلاقي» الذي كان يؤرقه إلاّ في مقدّمة الكتاب، أمّا في سائر فصول الكتاب فهو يخاطب الطالب وكأنّه طالب «إنجليزي» أو «حديث»، ومن ثمّ هو لا يبذل أدنى جهد في استشكال هذا الاستيراد البيداغوجي لعلم الأخلاق: مثلًا أنّ تعريف الأخلاق الذي يقدّمه لا يعدو أن يكون التصوّر المسيحي في صيغته المعلمنة في المجتمع الليبرالي.

يقول: «فالإنسان إذا خالف قانون البلاد كان مسؤولًا أمام القضاء، وعوقب من أجل مخالفته، وإذا خالف أوامر الأخلاق كان مسؤولًا أمام الله وأمام ضميره، والمسؤولية الأخلاقية أوسع دائرة من المسئولية القانونية»(ص9).

أوّلًا هو لا يستشكل هذا الفصل «الحديث» بين القانون والأخلاق، بل يقدّمه وكأنّه بديهي أو مسلم به. وثانيًا، هو لا يستشكل «أوامر الأخلاق» (وهو تعبير كانطي يقدّمه بوصفه مسلّمة) التي يتمّ اختزالها في «المسؤولية أمام الله وأمام الضمير»، وهذا مضمون ديني مسيحي تحديدًا لأنّ المعجم الإسلامي لا يحتوي على مفهوم الضمير أصلًا. ولذلك يبدو الاستيراد الإبستيمولوجي لعلم الأخلاق بمثابة «تحديث» صامت (لا يطرح السؤال حول صلاحية الحداثة بما هي كذلك) يُتوجّه به إلى «طلبة» يقفون روحيًّا وأخلاقيًا خارج أفق الحداثة، أي إلى طلبة «غير محدثين». هو تحديث أخلاقي يأخذ شكل درس بيداغوجي عن علم الأخلاق مستورد من «أمم حيّة» سبقتنا إلى التأليف في هذا العلم وطبعت به «لغة العصر وروح العصر». ومن ثمّ حكمت علينا سلفًا باستيراد منهجي لمسائل أخلاقية تُقدّم دون أيّ استشكال «فلسفي» لمفترضاتها «الحديثة» أي القيم المسيحية المعلمنة. تعني علمنة القيم المسيحية هنا تقديم «المسؤولية» الأخلاقية وكأنّها مسؤولية «أمام الله» بصيغة غير دينية، أي أمام ذلك الإله الذي تمّت ترجمته في جهاز «الضمير» أي «الصوت الباطني» الذي عوّض النداء الإلهي الخارجي سواء أتى من الكتاب المقدّس أو من الجماعة الأخلاقية المهيمنة (أي المؤسسة الدينية)[8]. إنّ أحمد أمين يقدّم أكبر ثورة أخلاقية (أي علمنة الضمير المسيحي وترجمته في مسؤولية شكلية أمام الذات) وكأنّها «نظرية أخلاقية» بلغت رتبة «العلم»، ومن ثمّ يمكن تدريسها للطلبة، والحال أنّها مجرّد قيم مسيحية معلمنة تحت لافتة الحداثة وصلت إليه بطريقة كولونيالية. لقد وقع أحمد أمين فريسة العقل الوضعي الذي كان مهيمنًا عندئذ، والذي كان يخلط بكل وقاحة منهجية بين «القيم المسيحية المعلمنة» وبين بناء إبستيمولوجي اسمه «علم الأخلاق»، من خلال جهاز «البيداغوجيا» بوصفها استراتيجية الدولة/الأمة في بناء «الهوية الحديثة» للمحكومين بوصفهم «أفرادا/مواطنين» تحت سلطتها. وفي ضوء ذلك يقدّم أحمد أمين جهاز «الضمير» المسيحي في ثوب فضفاض قائلًا إنّ «الضمير يختلف باختلاف الأمم واختلاف العصور» (ص14) وأنّه لإحدى «ملكات الإنسان وقواه» (ص16) وأنّ «خير شيء في الإنسان ضميره» (ص17)، وكلّ ذلك وهو لا يخالجه أدنى شكّ في أنّ «الضمير» هو مفهوم أوروبي تماما هو نتاج تاريخي لثورة طريفة اسمها «الإصلاح» وقعت في التقليد الكاثوليكي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر (بالتقويم الميلادي)، ولا وجود له خارج المدوّنة المسيحية، ومن ثمّ أنّ «الطلبة» الذين يتوجّه إليهم بهذا «الدرس» الأخلاقي (المختزل أكثر من ذلك في مجرد «الحكم الأخلاقي» كما تصوّره كانط)[9] هم يمتلكون سلفًا مدوّنة أخلاقية مختلفة، ولا يؤدّي فيها مفهوم «الضمير الخلقي» أيّ دور نظري أو تأسيسي.

أجل، لقد نجح أحمد أمين في شرح تربوي لعدّة مبادئ أخلاقية حديثة صرنا اليوم ندافع عن صلاحيتها «الكونية» وعن الحاجة «المدنية» إليها، من قبيل «لرأي الشخصي»[10]و«العقلانية»[11]و«السعادة الشخصية»[12] و«السعادة العامة»[13](وهو ما نسمّيه اليوم الفصل بين «الحياة الخاصة» و«الفضاء العمومي»). لكنّه في المقابل هو يقدّم هذه المفردات الليبرالية وكأنّها مفاهيم علمية علينا التسليم بعلاقتها بالحقيقة، والحال أنّها مجرّد هوية سردية للفرد الحديث تمّ بناؤها ضمن تاريخ الوعي الأوروبي وليس اكتشافها وكأنّها طبيعة بشرية يمكن تصديرها بشكل كولونيالي. ولكنّ هذا الإخفاق المنهجي قد يخفي عنّا إخفاقًا أكثر خطورة: ألا وهو ممارسة إرادة تحديث تقتصر على الاستعمال البيداغوجي للأفكار الحديثة، ولكن دون التورّط في تملّك محايث لأصالتها الخاصة، نعني على مستوى تجارب الجسد والجنس والجندر والعيش الحر والإيمان الحرّ. وهذا أمر سريعًا ما يظهر لنا في كل مرة اضطرّ فيها أحمد أمين أن يقدّم «تقويمًا» خاصًا أو مجتهدًا لتلك المفاهيم التي يسردها، ونذكر خاصة حالة مفهوم «السعادة الشخصية». قال:

«وإذا ألقينا عليها الآن نظرة عامة رأينا أنّ من الخطأ الواضح الجري على مذهب السعادة الشخصية، لأن الإنسان لا يعيش وحده في هذا العالم […]، فليس من الحق إذن أن يبحث قط وراء سعادته هو- فضلًا عن أنّا إذا رجعنا إلى الطبيعة الإنسانية رأيناها تدعو إلى عمل الخير للناس كما تدعو لعمل الخير لنفسه[…]، وأن ليس شخصنا هو المحور الوحيد الذي تدور عليه الأخلاق» (التشديد من عندنا)[14].

كيف نفهم هذا التعامل الحذر مع مفهوم «السعادة الشخصية»؟ هل يمكن فعلًا أن تكون سعيدًا دون أن تكون «شخصًا»؟ إنّ نكتة الإشكال هنا هي مفارقة كامنة في موقف الحداثة نفسها من حيث هي مشكل أخلاقي: فهي من جهة قد أعادت بناء هوية المسيحي الجديد (بعد الإصلاح) بوصفه شخصًا، وذلك ما يُترجم في جهاز الضمير؛ أي الباطنيّة الحرّة التي يملكها مؤمن تحرّر من سلطة الكنيسة وصار من حقّه أن يختار إيمانه بوصفه إنجازًا شخصيًّا أو خاصًا. ولولا هذا الحدث الروحي لما كان كوجيطو ديكارت ممكنًا: فهذا المفهوم الميتافيزيقي لا يعدو أن يكون صيغة نظرية معلمنة من حرية الضمير. إلاّ أنّها من جهة أخرى، مقابلة، قد حرصت على إعادة بناء فكرة الانتماء إلى الجماعة المسيحية الجديدة بوصفها «مجتمعًا» من المواطنين القادرين على الإيمان الشخصي والاحتكام إلى مبدأ الضمير دونما حاجة إلى وازع أو إكراه ديني نظامي. وفي هذا السياق تمّ تطوير مفهوم عن «الآخر» يبدو جديدًا (بفضل جهود هيغل) لكنّه في نواته الخفيّة مجرّد ترجمة متلطّفة لمعنى «الجماعة» التي قامت عليها المسيحيّة المبكّرة. كان تحويل تلك الجماعة الروحية إلى «مجتمع مدني» هو الأساس الذي جعل بناء «أخلاق الغيرية» ممكنًا.

وهنا نتبيّن بوضوح أنّ أحمد أمين لم يفعل هنا سوى تبنّي مذهب «الإيثار» (altruism) المسيحي في صيغته المعلمنة لدى أوغست كونت، فإنّ مصطلح altruisme قد ظهر للمرة الأولى تحت قلم أوغست كونت في كتابه Catéchisme positivisteأي «التعليم المسيحي الوضعي» الصادر سنة 1852. إنّ أحمد أمين يدافع عن أفق أخلاقي لا يملك مفتاحًا تأويليًا للتفاوض النقدي معه: فقط لأنّه كان يقف خارج أفقه. لكنّه مثل أوغست كونت يظنّ أنّ «الإيثار» هو «غريزة» في الأخلاق اكتشفها «العلم الحديث»، أي «العلم الأوروبي» حين تحوّل إلى «استعمار داخلي لعالم الحياة» في كل مكان، وحيث صار التمييز بين «الحداثة» و«الكولونيالية» مشكلًا نقديًا قائمًا بذاته، ولاسيّما في أفق السؤال عن الأخلاق، أي السؤال عن طرق ابتكار الناس لأشكال أنفسهم.

وعلينا أن نسأل:  إذا كان غرض أحمد أمين من كتابه «علم الأخلاق» هو «أن يكون مرشدًا للطلبة في حياتهم الأخلاقية، يلفتهم إلى نفوسهم»، فكيف يمكنه في المقابل أن يدّعي «أنّه من الخطأ الواضح الجري على مذهب السعادة الشخصية» أو أنّه «ليس شخصنا هو المحور الوحيد الذي تدور عليه الأخلاق»؟ كيف نريد أن نلفت أحدًا إلى نفسه دون أن نعترف له بأنّه شخص، أو بأنّه «محور» أخلاقه؟ كيف نربّي «نفوسًا» دون أن نكون «أشخاصًا»؟ أو دون أن نفترض أنّ «شخصنا» هو محور الأخلاق؟ ماذا يمكن أن تكون «نفس» غير شخصية؟

لم يكن أحمد أمين جاهزًا كي يرى هذه المفارقة التي تثقل كاهل التفكير الأخلاقي الحديث، الموروث عن التقليد المسيحي: أنّ الضمير الحرّ قد عوّض المؤسسة الدينية؛ أنّ الضمير لا يمكن أن يكون إلاّ شخصيًّا. وأنّ المؤمن الجديد لا يستطيع أن يمتلك حرية الضمير إلاّ بوصفه فردًا. مقولة الفرد إذن هي النتيجة العميقة لمؤمن من نوع جديد لا تقوى أيّ مؤسسة دينية على تدجينه. لكنّ الأخلاق الحديثة هي في المقابل لم تتخلّ أبدا عن مطلب «الجماعة» حتى وإن كان ذلك في صيغة معلمنة: إنّها تريد من المؤمن-الفرد أن يلتزم في المقابل بأن يعامل «نفسه بوصفه آخر» أيضًا. إنّ العلاقة مع الآخر- الفرد الآخر- هي الشكل الجديد المعلمن من الجماعة، وذلك في شكل «مجتمع مدني». لكنّ هذا التأسيس للحداثة الأخلاقية على علمنة حرية الإيمان بوصفه ضميرًا شخصيًا، كما يمكن أن نرتسمه من لوثر إلى كانط، قد كان له ثمن أخلاقي ثقيل لم يبدأ الغربيون في الانتباه إليه إلاّ في النصف الثاني من القرن العشرين: إنّه إخراج مسألة السعادة من معجم علم الأخلاق بشكل مثير. إنّ «علم الأخلاق» الحديث يبدو إلى فترة قريبة علمًا كئيبًا؛ وإذا ما استثنينا سبينوزا أو شوبنهاور (الذين واصلا بوجه ما تقليد القدماء في تأسيس الأخلاق على مطلب السعادة) فإنّ المحدثين لم يهتمّوا بالسعادة بوصفها مشكلًا تأسيسيًّا في الفلسفة، وذلك لفترة طويلة، تبدو مفزعة، تمتدّ من ديكارت إلى فوكو.

إنّ المثال الساطع هنا هو كانط فهو خلاصة التصوّر المسيحي والتوحيدي لمعنى السعادة: أنّه ليس مهمًّا أن تكون سعيدًا بل فقط أن تكون «جديرًا بالسعادة»[15]. لكنّ المثير هنا هو تعريفه للأخلاق بأنّها تعني بالتحديد: «قيمة الشخص وجدارته بأن يكون سعيدًا»[16]. وهذا الأمر نفسه لم يخرج عنه نيتشه، أعتى أعداء كانط، حين ختم كتاب زرادشت قائلًا: «ما همّني أن أكون متألّمًا أو مشفقًا؛ هل كنت أصبو إلى السعادة؟ إنّما أصبو إلى العمل الذي يخصّني». ولا ينجو هيدغر من لعنة السعادة لدى «المحدثين» حيث لا يتردد سيروان في وصف مقالة «السكينة» (Gelassenheit)[17] بأنّها كُتبت بـ«أسلوب حزين». لكنّ سيوران ليس أقلّ تعاسة من هيدغر الذي عرّف الكيان بأنّه «كينونة نحو الموت»، هو الذي كتب كتابًا عنوانه «العيب في أنّك وُلدت»[18].

لم يكن إذن أحمد أمين يستأنف القول الفلسفي «العربي» أو «الإسلامي» في علم الأخلاق بل كان فقط يريد أن يتكلّم «لغة العصر»، وذلك دون أي اهتمام بمساءلة الأساس الأخلاقي الذي تدّعيه. ربما كان ذلك خضوعًا غير واع للسردية الكولونالية وقد أخذت شكلًا «إبستيمولوجيا» وقحًا: يعلّم «الآخر» غير الأوروبي كيف يكون «متخلّقًا» أو كيف يتكلّم «لغة» أخلاقية. لكنّ ما أثار انتباهنا أكثر هنا هو أنّ أحمد أمين قد كرّس موقف الحداثة (أي الأخلاق المسيحية المعلمنة) من مسألة السعادة. وعلينا أن نسأل: هل كان كانط محقّا بالفعل عندما زعم بأنّه ليس مهمّا أن يكون المرء سعيدًا بل المهم أن يكون جديرًا بالسعادة؟ ومن ثمّ أنّ أحمد أمين كان على حق عندما رفض أن تكون «السعادة الشخصية» محور الأخلاق؟ أم علينا أن نقول، في المقابل، إنّ أحمد أمين في واقع الأخر لم يكن «تابعًا» إبستيمولوجيا لعلم الأخلاق الأوروبي، بل كان يعتقد فعلًا وبشكل مقصود فيما يقول: إنّ رفضه للسعادة لم يكن مستوردًا بل كان أصيلًا. صحيح أنّه تبنّى القول الكولونيالي في علم الأخلاق لكنّ رفضه لمبدأ السعادة الشخصية أو لأن يكون «الشخص» هو محور الأخلاق ليس مشكلًا كولونياليًا، بل هو موقف يجد جذوره العميقة في تراثه العميق، أي في التراث المشترك مع المسيحية نفسها ومن ثمّة مع الصيغة المعلمنة منها، أي السردية الحداثية. إنّه لا يمكن العناية بالنفس في لغة الآخر إلاّ في حالة واحدة: أن يكون هذا «الآخر» على صورتنا، أو طبقة قديمة من أنفسنا. وفجأة يغيّر أفق اللقاء مكانه: نحن لا نلتقي بالحداثة في المستقبل الذي وقع علينا، بل في الماضي الذي لم يحدث بعد. ومن ثمّ لم يكن أحمد أمين جاهزًا لحريته. نعني: إنّ «الطالب» الذي يريد مخاطبته  ليس «شخصًا» بعدُ؛ ومن ثمّ لا تزال مساحة الوصاية «الجماعية» على سعادته قابلة للسكن دون خجل يُذكر.

————————————-

[1]– أحمد أمين، كتاب الأخلاق ( القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1953)، الطبعة السادسة، ص ج-د.

[2]– نفسه، ص 294-295.

[3]– John S. Mackenzie, M. A., Manual of Ethics (Hinds, Hayden & Eldredge, Inc: New York City, 1901). Fourth Edition.

[4]– John Stuart Mill, Utilitarianism (1861).

[5] – Herbert Spencer, Data of Ethics (1879)

[6]– Henry Sidgwick, Outlines of the History of Ethics for English Readers (1886).

[7]– Fr. Nietzsche, Jenseits von Gut und Böse, § 186.

[8]– نفسه، ص 11.

[9]– نفسه، ص 18 وما بعدها.

[10]– نفسه، ص 26 وما بعدها

[11]– نفسه، ص 29

[12]– نفسه، ص 36 وما بعدها

[13]نفسه، ص 41 وما بعدا

[14]– نفسه، ص 56

[15]– كانط، نقد العقل العملي. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص 200.

[16]– نفسه.

[17]– M. Heidegger, Gelassenheit. Neske, Pfullingen, 1957.

[18]– Emil Cioran, De l’inconvénient d’être né. Paris : Gallimard, 1973.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.