«إنَّا ندرك أهمية الثقافات بصفتها مرتكزًا أساسيًا في تشكيل هُويَّة الأمم وقِيمها، ونرى في تنوع الثقافات وتعددها واحترام خصوصية كلّ ثقافة مطلبًا للتعايش بين الشعوب وتحقيق السَّلام بين الدوَل». – جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه.
تحقيقًا لرؤية المملكة 2030 التي حَمِل مِشعلها سموّ وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله. من خلال الحِفاظ على الإرث الثقافي العريق والمتنوع؛ سَعت المنظومة الثقافية المميزة إلى الارتقاء بمختلف قطاعات الثقافة السعودية بقيادة سموّ وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، حفظه الله. حيث أصدرت تقريرًا قياسيًا رابعًا يقرأ تحديات وتطورات ومُنجزات الحالة الثقافية المُزدهرة التي تشهدها المملكة -لعام 2022-، بعنوان: «الاستثمار في القطاع الثقافي»، استهلَّته بكلمةٍ من سموّه جاء فيها:
«المملكة العربية السعودية تؤكِّد التزامها بتعزيز دور الثقافة كعامل تمكين، كما تدعو إلى استكشافٍ أوسع لفوائد الاقتصاد الإبداعي، وتؤيد حشد الموارد الدوليَّة لتعميم الانتعاش المُستدام».
تحت شعار الوزارة «ثقافتنا هوّيتنا»، تناول التقرير بدايةً أهمَّ المنجزات لعام 2022، ترأسها موافقة المقام الكريم -تفضّلاً- على اقتراح وزارة الثقافة بـ اعتماد «الثاني والعشرين من فبراير»، يومًا وطنيًا دائمًا يذكِّرنا بتأسيس الدولة السعودية الأولى، «يوم بدينا» في الـ 1127/2/22هـ. واختيار تسمية 2022 بـ «عام القهوة السعودية».
ثمّ رصد أبرز التحديات في القطاعات الثقافية لعام 2022، بدأها بتحدي تجاوز جائحة «كوفيد-19»، التي ألقت بظلالها على المناخ العالمي العام في مختلف جوانب الحياة البشرية، بجانب تأثيرها البالغ على المؤسسات الثقافية، التي بدورها استطاعت أن تنمو على مختلف الأصعدة بالرغم من ذلك، متلمسة طريقها للتعافي بمزيدٍ من الإنجازات كان من أبرزها: تصاعد المشاركة المُجتمعية المُتسارعة، وارتفاع نسبة مشاركة المرأة في القطاع الثقافي، وازدياد معدلات السياحة الثقافية، والنمو الإنتاجي الثقافي.
وفي الجانب الاقتصادي للثقافة كان هناك ارتفاعًا بارزًا في نموّ عدد السعوديين العاملين في القطاعات الثقافية، حيث حصل الذكور على نسبة 10% فيما حصلن الإناث على نسبة 27%. وفي قطاع الإنفاق حقَّق كلّ من قطاعيّ «الترفيه»، و«الثقافة» نسبة 22%. فيما قفزت إيرادات الأفلام في شبّاك التذاكر إلى نسبة 10% في سبيل المقارنة بين عاميّ 2021 و 2022.
ولأهمية الحاجة المُلِحَّة إلى المزيد من النموّ في الجوانب التنظيمية للقطاعات الثقافية -حيث برزت ملامح النموّ في عددٍ من أبعاد التطور التراكمي الذي شهدته المملكة، في مختلف المجالات الثقافية-، وبمبادرةٍ من سموّ وزير الثقافة: «لنوثِّق حصادنا في الماضي» (1). دوِّنت التقارير -الأولى من نوعها- للحالة الثقافية السعودية، وتدرَّجت من الاعتماد على القطاعات الثقافية في التقرير الأول 2019: «ملامح وإحصائيات»، والثاني 2020: «رقمنة الثقافة»، إلى الاعتماد في التقرير الثالث 2021: «الثقافة في الفضاء العام»، والرابع 2022: «الاستثمار في القطاع الثقافي» على معالجة وتجاوز الأبعاد الثقافية، التي نظمتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، في مؤشِراتها للثقافة 2030، والتي جاءت كما يلي:
1- الإدارة والصون
حرصت وزارة الثقافة على حفظ الثقافة وصونها، بالحصر والتوثيق التراثي، بجانب استدامة التنمية، وتوفير البُنى التحتية والمرافق اللازمة، ابتداءً بخدمة اللغة العربية، حيث كان 2021 ثريًّا بمشاريع الترجمة التي تبلورت في 2022 إلى «قطاع الترجمة»، الذي تحقَّقت من خلاله الحركة الزَّخمة للترجمة من اللغة العربية وإليها، وذلك بنقل خدمات الترجمة من وزارة التجارة إلى هيئة الأدب والنشر والترجمة، بجانب إطلاق «المرصد العربي للترجمة» بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألسكو»، لرصد السياسات والمشاريع اللغوية، واستدامة/تقييم التراث الثقافي، من ثمّ تحقيق الريادة السعودية باعتبار «الترجمة الإبداعيَّة» الأبرز في التبادل الثقافي الذي يساهم في التقارب الثقافي والحضاري بين الشعوب.
أيضًا إنشاء «مركز الأرشيف الثقافي»؛ لأرشفة ورقمنة التراث الثقافي السعودي، لحفظه وتوثيقه. ومن ذلك المزيد من المُكتشفات الأثريَّة كـ «المصائد الحجرية» في العُلا، وبعض المُكتشفات في الفاو، و جزيرة فرسان؛ ليرتفع بذلك عدد المواقع المُسجَّلة في السجل الوطني للآثار، حيث بلغت 8597 موقعًا، بحلول نهاية 2022.
بجانب إثراء التراث غير المادي العالمي، وذلك بتفعيل المشاركة الثقافية في المنظمات العالمية، من خلال تعزيز الثقافة السعودية للتراث غير المادي في منظمة «اليونسكو»، حيث سُجِّلت محميَّة «حرّة عويرض»، في برنامج الإنسان والمحيط الحيويّ «ماب» التابع لـ «اليونسكو»، بجانب «البُنّ الخولاني»، و«حداء الإبل» ضمن 11 عنصرًا.
فيما تواصلت جهود حماية التراث الطبيعي، بجانب النموّ في المحميات التي بلغت 38 محميَّة. لتحقّق المملكة بذلك «حماية 17% من الأراضي والمياه الداخلية»، الهدف الذي وقَّعت عليه في اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي عام 2021.
أمَّا في مجال «المرافق الثقافية»، فقد كان الدور الأبرز للقطاع الخاص الاستثماري، من خلال إنشاء بعض المرافق الثقافية كـ تنامي دور عرض الأفلام، حيث بلغ عددها 63 دار عرض.. ليختتم العام بتصدّر مشاريع السينما وصناعة الأفلام بنسبة 35.7% من مُجمل المشاريع الثقافية المدعومة من قبل «الصندوق الثقافي» لعام 2022.
2- الإبداع والإنتاج الثقافي
كانت مؤشرات الإنتاج لعام 2022 امتدادًا لمؤشرات الإنتاج التي ذُكرت في تقرير 2021، من حيث القياس الكمّي لمستويات الإنتاج وتنوعها الإبداعي، حيث أُقيم 150 عرضًا مسرحيًا، و241 عرضًا أدائيًا، و36 عرضًا مسرحيًا للطفل.
وفي «قطاع الأفلام»، برز كلّ من «مهرجان أفلام السعودية»، و«مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي»، حيث بلغت المشاركات فيهما 364 فيلمًا، فيما بلغ عدد الأفلام المنتجة 72 فيلمًا.
أمّا «قطاع الترجمة» فقد حظيَ بدوره بدعمٍ مؤسسيّ أنتج من خلال «مبادرة ترجم» ترجمة 524 عملاً خلال عام 2022 فيما تُرجم 336 عملاً في 2021. بجانب تنوع الأعمال التي شملت كلّ من: كتب الأطفال التعليمية، أدب الطفل، كتب الفلسفة، والرويات المترجمة.
وتشير إحصائيات «قطاع النشر الأدبي»، إلى تصدّر الرواية على الأجناس الأخرى. وأيضًا كان للمؤلف السعودي دورًا ملحوظًا في حركة الإنتاج الأدبي، حيث صدر 701 كتاب أدبي، مزامنة مع ارتفاع نسبة التأليف النسائي، والحضور البارز الأعلى لدور النشر السعودية، وكذلك ارتفاع مستوى الإنتاج البحثي في المجالات الثقافية، حيث بلغ عدد الأبحاث المنشورة في المجلات المُحكَّمة 358 بحثًا.
بجانب ارتفاع معدّلات «السياحة الثقافية»، والنموّ الإنتاجي الثقافي الإبداعي، وخلق التنافس العالمي لدور النشر السعودية مقارنةً بعام 2021.
وفي «قطاع الفنون البصرية»، أُقيمت عدة معارض فنية لـ 2022 بنسبة نموٍّ متجاوزة بلغت 77% مقارنةً بـ 2021.
وبخصوص «مؤشر الإبداع الثقافي»، فقد قدَّمت «مبادرة الجوائز الثقافية الوطنية» 16 جائزة لـ 11 قطاعًا ثقافيًا، بجانب جائز الثقافة للشباب، وشخصية العام الثقافية، والمؤسسات الثقافية. وكان لمجال الأفلام الصدارة في الجوائز المحلية، فيما تصدّرت الجوائز العالمية مجالات كـ: العمارة، التصميم، المسرح، والفنون الأدائية.
3- المعارف والمهارات
الجوانب التطويرية المُهمة التي رصدها تقرير 2022، بدأت بـ «القطاع التعليمي»، من خلال الدور البارز لأهمية الثقافة في التعليم، حيث أشار التقرير إلى البوادر المُثمرة للشراكة بين وزارة الثقافة ووزارة التعليم، التي تمثَّلت في برنامج الدبلوم العالي في مسار الفنون: «برنامج الاستثمار الأمثل»، الذي جمع في مرحلتيه ما بين 132 معلمًا ومعلمة، بجانب عدد من الأنشطة الثقافية التأهيلية والتدريبية اللاصفيَّة للطلاب والطالبات. وبذلك تمّ «اكتمال بناء الإطار الوطني لتعليم الثقافة والفنون» (2).
فيما بلغ عدد الخريجين من «قطاع التعليم العالي»، في التخصصات الثقافية 38,156 خريجًا وخريجة، وبلغت نسبة التخرّج من تخصصات اللغات والأدب 68% من مُجمل الخريجين.
أمَّا في «قطاع التدريب الثقافي»، فقد شهد مزيدًا من الأنشطة في التنظيم المؤسسي، تمثَّلت في منصة «أبدع» بالتعاون مع «المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني»؛ ما أسفرَ عن ارتفاع عددٍ من المنشآت التدريبية المرخَّصة من 25 منشأة في 2021 إلى 50 منشأة في 2022. من ثمّ المساهمة بشكلٍ بارز في أغلب القطاعات الثقافية كـ: الأزياء، الأفلام، المسرح، فنون الطهي، والفنون البصرية.
بجانب تمكين القدرات الثقافية بدعم المواهب وتنمية المهارات، من خلال الابتعاث الثقافي في مختلف التخصصات الثقافية، والاستقطاب الإبداعي، من خلال المِهن الثقافية المتعددة.
4- المشاركة الثقافية
تشير معدّلات الحضور والزيارة في القطاع الثقافي إلى ارتفاع نسبة الحضور في 2022، حيث بلغت 66% مقارنةً بنسبة الحضور في 2021 والتي بلغت 25%.
أيضًا ذكر التقرير أهمّ المعارض والمهرجانات المُقامة في 2022، منها: «معرض الهجرة» المُقام في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء). معرض «بينالي الفنّ المعاصر» المُقام في حيّ جاكس بالرياض. بالإضافة لإقامة «معرض الكتاب» في المدينة المنورة -للمرّة الأولى من نوعه-. بجانب إقامة النسخة الثامنة من «مهرجان أفلام السعودية» في إثراء، بمشاركة 214 فيلمًا. وفي جدة النسخة الثانية من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي»، الذي عرَض 131 فيلمًا، من 61 دولة، منها 25 فيلمًا سعوديًا. ثمّ إقامة «مهرجان القهوة السعودية» في عدة مُدن.
وبخصوص «القطاع الغير ربحي»، تركَّزت جهود الوزارة على أهمية رفع الإنتاج الإبداعي، وتمكين القطاع السينمائي والتراثي من خلال دعم المنظمات الثقافية غير الربحية كـ: «مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي»، و«الجمعية السعودية للمحافظة على التراث»، من ثمّ تشير مؤشرات الاندماج الاجتماعي -التي تجاوزت دور الإنتاج والاستهلاك- في القطاعات الثقافية إلى تطور المنظمات الثقافية غير الربحية، حيث بلغ عددها 69 منظمة ثقافية غير ربحية مقارنةً بالأعوام الخمس الماضية، من ذلك الإشارة إلى تأسيس 93 نادٍ ثقافي للهواة في 2022.
5- الاقتصاد الإبداعي
يشير قياس البُعد الاقتصادي للثقافة لعام 2022، إلى النموّ في المجالات المختلفة للقطاع الثقافي مقارنةً بعام 2021، حيث تشير أبرز مؤشرات الاقتصاد الثقافي -من حيث اتجاهات النموّ- إلى بلوغ عدد العاملين في المِهن الثقافية 181,709 موظفين وموظفات. فيما كانت المِهن الأكثر اشتغالاً هي مهنتيّ: «الطاهي»، و«معدّ القهوة». وشكَّل عدد المشتغلين في القطاعات الثقافية 1.25% من إجماليّ المشتغلين في المملكة، فيما شكَّلت المِهن الثقافية غير المباشرة نسبة 1.7% من سوق العمل السعودي، أيّ 242,003 مشتغلاً ومشتغلة. وأيضًا شهد 2022 تجاوز عدد السعوديات المشتغلات في القطاعات الثقافية أعداد نظرائهن من المشتغلين السعوديين في المِهن الثقافية.
مرورًا بالفعاليات الثقافية المحلية البارزة التي بلغ عددها 2897 فعالية ثقافية، تنوَّعت ما بين الضخمة والكبرى والمتوسطة والصغرى، بجانب تحقيق الرقم القياسي في موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية العالمية، من خلال اعتماد سلَّة «الورد الطائفي»، ضمن فعاليات مهرجان «طائف الورد» لعام 2022، كأكبر سلَّة ورد في العالم. فيما تضاعفت السياحة الثقافية المحلية من 2019 إلى 2022 بنسبة نموّ بلغت 109% إثر التعافي من جائحة «كوفيد-19».
6- الاستثمار الثقافي
على نهج تقرير 2021، تمّ تخصيص فصل -أخير- يشمل الموضوع الأبرز لتقرير 2022: «الاستثمار في القطاع الثقافي»، وذلك لأهمية النوع الاستثماري القائم على القطاع الثقافي من أجل النمو الاقتصادي؛ باعتباره عاملاً أساسيًا فاعلاً في التنمية الوطنية المُستدامة، وفي جذب العالم من بوابة السياحة الثقافية، وذلك بالاعتماد على النصوص التشريعية المتعلقة بالاستثمار في القطاعات، بجانب تقديم الدعم والتمكين الأبرز عن الفرص الاستثمارية في القطاعات الثقافية في المملكة، والتكامل مع البُعد الاقتصادي الشامل، والمساهمة في تقديم المُمكنات التنظيمية للاستثمار، وبرامج الدعم والتمويل، والصناديق في القطاعات الثقافية المختلفة. من ذلك، تركّز عام 2022 على الدعم والنموّ في القطاع الثقافي، حيث قدّم التقرير «مؤشرات إيجابية عن قطاعٍ حيويّ مُستدام»، من خلال الإقبال على المرافق والأنشطة الثقافية كـ: الحفلات الغنائية، المهرجانات، زيارة المتاحف، والمعارض الفنية.. ونحوها.
ثمّ أشار التقرير إلى الدور الريادي لـ «صندوق الاستثمارات العامة»، الذي يقود شركات تعزّز القطاع الثقافي، من خلال بيئاتٍ محفزة للقطاع الخاص في مختلف مناطق المملكة؛ من أجل الحفاظ على الثقافة الأثريَّة، واستثمارها في دعم السياحة الثقافية كـ «نيوم»، و«الشركة السعودية للقهوة».
وآخرًا، خلَص التقرير إلى تأكيد وزارة الثقافة على أهمية السِّير برؤيةٍ تقدُّمية مُتجددة واعية تسعى إلى خلقِ «ثروة أدبية متجددة، صناعة نشر متطورة، نشاط ترجمة احترافي»؛ من أجل الارتقاء بالثقافة السعودية وتعزيز مكانة المملكة الدولية، من بوابة الاستثمار في التراث المادي/غير المادي الثقافي، والوصول إلى المُستهدفات المُتقاطعة مع رؤية 2030، من خلال النموّ الاقتصادي الإبداعي الصاعد، الذي ينتج عن العمل الدؤوب والمُثمِر الذي تقوم به وزارة الثقافة السعودية؛ بهدف إرساء الثقافة كنمط لجودة الحياة.
الهوامش
1- مقتبس من كلمة سموّ الوزير الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، التي استهلَّت تقرير الحالة الثقافية لوزارة الثقافة في المملكة 2019: ملامح وإحصائيات، ص 3.
2- تقرير الحالة الثقافية لوزارة الثقافة في المملكة 2022: الاستثمار في القطاع الثقافي، ص 17.