تألَّقت العاصمة السعودية، الرياض، خلال الفترة المُمتدة من 7 ديسمبر إلى 9 ديسمبر 2023، بحدثٍ فلسفي استثنائيّ، هو “مؤتمر الرياض الدوليّ للفلسفة”، في دورته الثالثة، الذي أقامته وزارة الثقافة السعودية بتوجيهاتٍ من قيادتها الواعية، حيث استضاف المؤتمر عدة فلاسفة ومفكرين عالميين؛ ليناقشوا ويحلِّلوا موضوعه الرئيس لهذه الدورة، والذي جاء تحت عنوان: “القِيم العابرة للثقافات والتحديَّات الأخلاقية في العصر التواصلي”.
أُفتتح المؤتمر بكلمةٍ من الدكتور محمد حسن علوان، الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة، الذي أبرز أهمية الفلسفة في تعزيز التواصل بين الثقافات. فيما شهد المؤتمر توقيع اتفاقية انضمام جمعية الفلسفة السعودية للاتحاد العالمي للجمعيات الفلسفية، الأمر الذي يعزّز بشكلٍ فعّال من مكانة المملكة في المشهد الفلسفي العالمي.
يتّسق هذا المؤتمر مع رؤية المملكة 2030، بتعزيزه لفكرة المجتمع الحيويّ المفتوح ثقافيًا على الآخر. وكان من أبرز المقولات التي قيلت على لسان ضيوف المؤتمر ما قاله الفيلسوف روبرت بيرناسكوني: “مستقبل الفلسفة سيكون في السعودية؛ لأنها تمتلك لغة وتراثًا يسمحان لها بتأسيس خطاب فلسفيّ راسخ”.
وتمثّل الهدف الرئيس للمؤتمر في فحص ومناقشة العلاقات المتبادلة بين القيم العابرة للثقافات، والقضايا الأخلاقية المرتبطة بها في ظلّ العالم التواصلي بشروطه الجديدة. كما سعى، عبر محاوره المختلفة، إلى استكشاف الطرق التي يمكن للثقافات المختلفة أن تتفاعل وتتواصل من خلالها، مع الحفاظ أيضًا على قيمها وهويّاتها الفريدة. وقد ناقش المؤتمر هذه القضايا المتنوعة من منظورٍ فلسفي أصيل، حيث بحث في انعكاس هذه القيم على طبيعة التصوّرات الفلسفية الراهنة، كما رصد كيف عالجت الفلسفات المختلفة مسألة القيم العابرة للثقافات، عبر مساراتها الفلسفية المتعددة.
كان المؤتمر بمثابة حدث فريد من نوعه، حيث جمع بين عقول فلسفية عظيمة ومفكرين من مختلف أنحاء العالم، فضلًا عن العديد من الفعاليات المصاحبة التي تنوعت ما بين وِرش للعمل وعروض سينمائية وفنية، إضافة إلى وِرشٍ لتعليم الفلسفة للأطفال، واستضافة لبعض أهمّ الهيئات الفلسفية العالمية.
فيما عُقدت على هامش المؤتمر، المحاضرات والحلقات النقاشية بجانب ورش العمل والمناظرات، التي جاءت في شكلٍ متنوع ومبتكر يتناسب مع جمهور الفلسفة والمهتمين بها على مختلف مستوياتهم المعرفية. لهذا استطاع المؤتمر بجدارة أن يجذب في دورته لهذا العام أعدادًا كبيرة من الجمهور، الذين جاءوا للتعرّف بشغفٍ على عوالم الفلسفة وطرق مقاربتها المختلفة. لهذا إلى جانب الإطار الأكاديمي الذي طرحه المؤتمر وشكَّل نواته الرئيسة، توجّه المؤتمر أيضًا بجدية إلى تعزيز الفلسفة بين الأجيال الناشئة من خلال فعاليات خاصة توفّر لهم المهارات والمعارف وتقدّم لهم الفلسفة بطرقٍ مبتكرة.
أمَّا محاوِر المؤتمر فقد تنوعت ما بين النظرية والعملية، مشددة على التحديات الأخلاقية الناتجة عن هذا التفاعل الحيوي. وقد استقبل المؤتمر أكثر من 140 ملخص بحثي، قبلت اللجنة العِلمية منهم 39 ملخصًا بعد تحكيمهم.
شهد أيضًا مشاركة أكثر من 70 متحدثًا، ما بين أكاديميين متخصصين ومقدميّ فعاليات أخرى، من 24 دولة حول العالم، في حين بلغت نسبة المشاركة السعودية ما يقدر بـ 60% من إجماليّ المشاركين. وبختام الفعاليات، ألقى الأستاذ خالد الصامطي، مدير قطاع الأدب بـ هيئة الأدب والنشر والترجمة، كلمة شكر وتقدير للمشاركين والحضور، مُسلطًا الضوء على أهداف ونتائج المؤتمر ودوره في تعزيز التفكير الفلسفي والتبادل الحضاري.
كانت مؤسسة معنى الثقافية حريصة على مشاركتها في دورة هذا العام، من خلال دورها الفعّال كجهة رائدة في مجال الفلسفة والثقافة، حيث أشرفت من خلال، “المجلة السعودية للدراسات الفلسفية” التابعة لها، على تحكيم الأبحاث التي قُدِّمَت في المؤتمر تحكيمًا علميًا من خلال شبكة محكّميها الدوليين، كما تولّت إعداد كُتيب ملخصات المؤتمر. بالإضافة لذلك حرصت “معنى” -من خلال ركنها الخاص في المؤتمر- على توفير الهدايا للحضور، والتي تمثَّلت في مجموعةٍ من الكتب القيّمة والمجلات التي تشرف على إصدارها.
ومن أجل توثيق هذه التجربة والاستفادة من غنى المحتوى الذي تضمّنته فعاليات المؤتمر؛ تولّت مؤسسة “معنى” الإشراف على إعداد كتاب ملخصات المؤتمر لهذا العام، وهو ما يعكس التزامها الجاد بنشر وتوثيق المعرفة الفلسفية.
تميّز هذا الحدث الثقافي بفرادته، إذ لا يشبهه أيّ مؤتمر آخر، من حيث حجم المشاركة وتنوّع الفعاليات المصاحبة. ووراء هذا النجاح الباهر يقف قادة وزارة الثقافة السعودية وشركاء المؤتمر على المستويين المحلي والعالمي، فضلًا عن اللجنة العِلمية للمؤتمر التي وضعت برنامجًا متقنًا يلبي توقعات الحاضرين، باعتبار أنّ “مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2023” بمثابة نموذج للتفاعل الحضاري البنَّاء والحوار الفكري، الذي يرسم مستقبلًا واعدًا يقوده الفكر والتواصل الثقافي.