بعد المآسي والانكسارات، وبعد أن تخسر الحرب، وبعد فقدان عزيزٍ من جرّاء الجائحة، وبعد دمار منزلك نتيجة التغيّر المناخي وبعد أن أصبحت حياتك غير معقولة بسبب مرض أو أي فشل على المستوى الشخصيّ، كلّها إشكاليات عميقة تطرق بابك بلا استئذان: ما معنى كل ذلك؟ هل للحياة أي معنى أو هدف؟ ما معنى الحياة؟
إجابات سهلة قد تعثر عليها في الإنترنت، أو في الكتب أو الإعلام. كما اكتسبنا أو كما يقال لنا: إنّ معنى الحياة هو محاولة البحث عن السعادة أو اللذّة، أو تبادل الحبّ، أو البحث عن الشغف، أو القيام بأعمال رائعة، أو عيش حياة ذات هدف، أو الانغماس بأشياء أسمى من نفسك. هذه الإجابات المألوفة هي جزئيًا صائبة، ولكن هذه الأسئلة هي على الأغلب خاطئة. هذا ما تتطرّق إليه عدد من الفلاسفة الذين حاولوا دراسة المغزى من الحياة. بعكس ما كان سائدًا لدى الجيل السابق، حاول الفلاسفة إثارة جدال حول معنى حياة الإنسان، ولكن هذا المعنى يبدو مغايرًا عمّا يعتقده العديد من الناس.
كثير من فلاسفة القرن العشرين تجاهلوا هذه الإشكالية، في حين يظنّ معظم الناس أنّ الفلسفة تدور حولها. هؤلاء الفلاسفة أصرّوا على أنّ هذه الإشكالية غير منطقية، لأنّ مصطلح “معنى” يشمل الكلمات والرموز، لا الأشياء، أو النشاطات أو الحيوات. بالنسبة إليهم إنّ طرح إشكالية “ما معنى الحياة؟”، هو كسؤال “ما قوّة تركيز اللّون الأزرق؟”. في المقابل رأى آخرون أنّ الإجابة عن هذه الإشكاليات لأمر مستحيل، حتى وإن كانت أسئلةً قابلة للإجابة عنها، فلا أحد يعلم أو يستطيع التوصّل إلى إجابة شافية. خلال هذه العقود الأربعة، كانت هذه الإشكالية كالجليد الذي بدأ بالذوبان. عدد كبير من المفكّرين حاولوا تفكيكها على مرحلتين: (١) إشكالية ما معنى الحياة تعني بالضبط ما نبحث عنه من وراء طرح هكذا تساؤل. و(٢) ما الأشياء التي تعطي معنى للحياة؟ بعبارة أخرى، ما الأحداث التي تغير أو تعطي معنى لحياة الفرد؟ خلال هذه العقود، حاول الفلاسفة فضح الأساطير التي دفعت العديد من الأشخاص إلى حسب حياتهم بلا معنى.
هل معنى الحياة كلّي أم كوني؟
يميّز الفلاسفة بين معنى الحياة بشكل عام -أي معنى الكون أو الجنس البشري- والمعنى في حياة الفرد. بالنسبة إلى كثير من الناس، يشير «معنى الحياة» إلى شيء موجود بمعزل عنهم. قد يطرحون أسئلة من مثيل “ما كل ذلك؟” أو “ماذا يعني كل هذا؟”، يعزّز هذا المنظور وجهة النظر القائلة بأنّ معنى الحياة، مهما كان كبيرًا أو شاملًا، رائعًا أو مراوغًا أو غامضًا، غير متاح سوى للمعلّمين والحكماء. مع ذلك، يجادل آخرون بأنّه سواء كان هناك معنى أو لا، لا بدّ من وجود معنى ما، معنى نجده أو نخلقه بأنفسنا. هذا هو «المعنى في الحياة». غالبية التحقيقات الفلسفية في هذا المجال ركّزت على الصفات أو الظروف التي تجعل حياة الفرد تستحقّ العيش. هنا، يتعلّق المعنى بالقيمة -حول ما يعطي قيمة أو أهميّة- والأشياء التي تعطي قيمة ليست غامضة ولا نادرة.
الخلط بين هذين الاتجاهين في معنى الحياة يسبب ارتباكًا. عندما يصرّ الناس على أن الحياة لا معنى لها، فإنّهم يقصدون أن الحياة بكلّيتها ليس لها معنى؛ ومع ذلك قد يقولون أيضًا: إن للحياة معنى، في إشارة إلى المعنى المستقى من حياتهم. إنّهم يعتقدون أنّ لحياتهم معنى، ولكنّهم ما زالوا يؤكّدون باتساقٍ منطقيّ أنّ «الحياة لا معنى لها».
هل معنى الحياة يدور حول شيء واحد فقط؟
عندما يتساءل الناس عن معنى الحياة، فهذه فرصة جيّدة لأن يفترضوا أنّها تدور حول شيء واحد. تعدّ هذه الفكرة إلهامًا للعديد من النكات: معنى الحياة هو نافورة، نهر، رحلة، الرقم ٤٢، لعبة غولف، لعبة هوكي (لأن هذا ما تدور حوله الحياة). معظم الفلاسفة الذين يدرسون المعنى يرفضون هذه الفكرة الأحادية، أي فكرة تمحور الحياة حول شيء واحد فقط. وجهة نظر ربّما تكون مدفوعة بالكلمة المفردة «المعنى» في عبارة «المعنى في الحياة». يصرّ هؤلاء على أنّ التمتع بحياة ذات مغزى لا يتعلّق بتحقيق أهداف جديرة بالاهتمام وحسب، أو مجرّد الانخراط في أشياء أكبر من أنفسنا، أو مجرّد تحقيق أهداف جديرة بالاهتمام، بل إنّ المعنى في الحياة متعدّد، يرتبط بعوامل كثيرة مختلفة.
إذا كانت هذه النقطة صحيحة، فإن «إشكالية ما معنى الحياة؟» تعدّ سؤالًا خاطئًا.
الفيلسوف تادوس ميتز الذي كتب كتاب «المعنى في الحياة: دراسة تحليلية» (٢٠١٤) يطرح نظرة تعدّدية: «سأقدّم تحديدًا نهجًا يقوم على التماثل الأسريّ الذي من خلاله يجري البحث في معنى الحياة، حيث سأعرض مجموعة من الأفكار التي تتداخل مع بعضها بعضًا. أوافق على أن السؤال حول المعنى يشمل طرح العديد من الأسئلة مثل: ما الغايات، إلى جانب المتعة الشخصية، التي تستحق السعي وراءها؟ كيف يتجاوز المرء الطبيعة الحيوانية؟ وما الذي يستحق التقدير والإعجاب في الحياة؟».
الفلاسفة مثلنا تمامًا، لديهم شعور حدسي بما هو مفترض أن تكون عليه هذه الأشياء. يحدّدون العديد من الأنشطة والتجارب على أنها ذات مغزى، على الرغم من اختلافهم حول قيمتها وكيفيّة ارتباطها. ليس من الغريب، تتضمن القائمة علاقات المحبة، والرعاية، والإبداع، والجمال، والتميّز الشخصي، والإيثار، والمعرفة، والتعالي والإنجاز، وغيرها من الأمور الأخرى.
هل معنى الحياة هو السعادة؟
يميل أغلبية الناس إلى المساواة بين المعنى في الحياة والسعادة، لكنّ معظم من يدرسون المعنى يعتقدون أنّ هذا خطأ. بالتأكيد إذا كانت حياتك ذات مغزى، فمن المرجّح أن تكون سعيدًا. لا يمكننا أن نتخيّل شخصًا سعيدًا دائمًا، وسعادته سببها تعاطيه المستمر للمخدرات؛ لأنّ هذه حياة لا معنى لها. يمكن لبعض الناس أن يعيشوا حياة ذات معنى حتّى وهم بائسون لمجرّد أنّ أنشطتهم الهادفة شاقّة أو خطيرة. كما يقول جون فيشر في «الموت، والمغزى، ومعنى الحياة» (٢٠١٩): «المغزى ليس هو نفسه السعادة، على الرغم من وجود علاقة بين المكونين. إذا كانت حياة المرء ذات مغزى، فمن المحتمل أن يكون الفرد سعيدًا. لكن يمكننا بالتأكيد أن نتخيّل أشخاصًا يتمتّعون بحياة ذات معنى -كالعلماء والفنانين والشعراء والفلاسفة، وما إلى ذلك- يثابرون ضمن مجالاتهم ولكنّهم ليسوا سعداء حقًّا (هذا إذا كانوا سعداء أصلًا). ويمكننا أن نجد أشخاصًا لديهم حياة مهنية ناجحة وذات مغزى، ولكن حياتهم الشخصية مضطربة؛ وعليه، هم ليسوا سعداء للغاية … يمكن للمرء أن يعيش حياة سعيدة جدًّا وذات مغزى إلى حد ما، أو حياة لها مغزى لكن دون أن يكون سعيدًا».
هل يمكن أن يكون معنى الحياة ذاتيًا بشكل تامّ؟
بعض العلماء ذاتيّون في رؤاهم حول معنى الحياة. يعتقدون أنّ هذا المعنى يستمدّ ممّا يريده الفرد أو يختاره فقط. يقال: إنّ الشخص لا ينعم بحياة ذات معنى إلّا إذا حصل على ما يرغب فيه بشدّة أو سعى جاهدًا لتحقيق هدف ما أو إذا كان يقوم بشيء يعدّه مهمًا. هنا لا توجد معايير موضوعية للمعنى. عوضًا عن ذلك، المعنى من الحياة، كما تقول النكات الساخرة: «هو كما تريده». بالرغم من ذلك، معظم الفلاسفة الذين عالجوا إشكالية المعنى اختلفوا فيما بينهم؛ اختلفوا على أن المعنى في الحياة مستقلّ جزئيًا عن معتقدات الناس ومواقفهم ورغباتهم. العديد من الأنشطة والظروف -كنحت تمثال جميل، أو إنقاذ حياة طفل، أو اكتشاف كوكب جديد، أو القيام بأشياء أخرى لا تعدّ ولا تحصى- هي أفعال ذات معنى موضوعيّ. إذا كان الأمر عائدًا للفرد بذاته، فمجرد اعتقاده أنّ لحياته معنى، فذلك لا يجعلها هكذا. الاعتراض الأكثر فعالية على الآراء الذاتيّة للمعنى، هو أنّ الأشياء القيّمة بطبيعتها هي التي تعطي معنى للحياة، بغضّ النظر إذا كانت مرغوبة ذاتيًا أو منتجة، أو يعتقد أنّ لها مغزى.
هل الحياة الهادفة وحدها تحمل المعنى؟
يطرح العديد من البشر أسئلة مثل: ما الهدف من حياتنا؟ أو لماذا نحن موجودون؟ وعندما لا يجدون أجوبة شافية، يعتقدون، وبخيبة أمل، أن حياتهم بلا معنى. ولكن هل هذا الاستنتاج مبرّر؟ من المؤكّد أنّ وجود إحساس غير مألوف بالهدف يمكن أن يكون مصدرًا مهمًّا للمعنى في حياة الشخص. يعتقد بعض الفلاسفة، أنّ الحياة حتّى وإن كان لا هدف أساسيّ لها يمكن أن يكون لها معنى. وثانيًا، مهما كان الهدف الموجود يجب ألّا ينبع من خارج الشخص.
بعض الاختبارات والنشاطات قد يكون لها معنى حتى وإن لم تكن موجّهة أو تخدم أيّ هدف أبعد من ذاتها. العديد من الأشياء، كاكتساب المعرفة، وعمل الخير، وتقدير الجمال، هي ذات قيمة جوهرية؛ وعليه، ذات معنى، هي ليست وسيلة لأيّ شيء آخر. لا تهدف لأيّ شيء غير ذاتها. ليس كل ما نفعله يحتاج إلى هدف، أو نهاية أو غاية، حتى يكون ذا معنى.
هل المعنى يتطلّب الكمال؟
لماذا يعتقد العديد من البشر أن حياتهم لا معنى لها؟ بالنسبة إلى الفيلسوف إيدو لاندو في كتابه «البحث عن المعنى في عالم غير كامل» (٢٠١٧)، العائق الأساسيّ هو الطموح الجامح الذي يسمّيه الكمال: “وفقًا لهذا الافتراض، يجب أن تتضمن الحياة الهادفة بعض الكمال أو التميّز أو بعض الإنجازات النادرة والصعبة، والحيوات التي لا تظهر هذه الخصائص لا تعدّ حياة ذات معنى. إنّ الحياة ذات المعنى، إذن يجب أن تتجاوز ما هو مألوف ودنيوي ّ… لا يرى الكماليون القيمة الكامنة أيضًا في اللاكمال. أنّهم يحتقرونه ويرفضونه… يعتقد الكماليون أنّه إذا لم تكن مدينتهم الأجمل في العالم فهي قبيحة بشكل يثير الاشمئزاز؛ إذا لم يكن المرء آينشتاين فهو أحمق؛ وإذا لم تكن كتابات الشخص كشكسبير فمن الأفضل له التخلّي عن الكتابة تمامًا … وتاليًا، فإنّ الساعين إلى الكمال مشغولون جدًا بالبحث عنه لدرجة أنّهم يتجاهلون رؤية الصالح وتقبّله كما هو. وبما أنّه من النادر، بل من المستحيل الوصول إلى الكمال، فإنّهم لا يريدون أي علاقة لهم مع الخير الذي هو أقلّ من الكمال، ويجدون الرضا شيئًا غير طبيعيّ، ويواصلون سعيهم البائس للوصول إلى الكمال”.
يعتقد لاندو أنّه يجب علينا رفض الكمالية في بحثنا عن المعنى. أحد أسباب ذلك هو أنّنا نرفض الكمال في مجالات عديدة في الحياة. عادة لا نعتقد أنّ اللوحة الجميلة التي فيها عيب ضئيل لا قيمة لها أو يجب أن تحرق. كما أنّنا إذا لم نكن حكماء مثل أرسطو، فهذا لا يعني أنّنا جاهلون إلى درجة قصوى. وإذا لم نربح جائزة نوبل، فهذا لا يعني أيضًا أنّنا فاشلون تمامًا. لذلك، عندما نرفض الكمال في المجالات الأخرى من القيمة، يجب علينا إذن أن نرفضه في الأحكام المتعلّقة أيضًا بمعنى حياتنا.
عندما كنت شابًا، وقعت في فخّ الكمال بلا حول ولا قوّة. كنت بائسًا لأنّني لم أستطع أن أفعل المستحيل ولم أعر اهتمامًا لأنّ الخير من حولي كان في متناول يدي. لحسن الحظّ، لقد تجاوزت هذه المرحلة في النهاية، لكنني تذكّرتها بعد سنوات عندما تلقيت تشخيصًا طبيًا بدا وقتها أنّه ينذر بالأسوأ. ظننت حينها أنّني سوف أموت. علمت لاحقًا أن هذا ليس هو الحال بالتأكيد، لكن الأخبار قذفت بي إلى منظور «ما بعد الوفاة»، حيث رأيت حياتي تمرّ أمام عيني، عائلتي وأصدقائي، والأشخاص الذين أساعدهم، أبحاثي وكتاباتي، ذكريات الأوقات الجميلة، والزنابق في حديقتي، وأصوات ضحك الأطفال، وأكثر من ذلك بكثير. رأيت كل تلك اللحظات والأشياء الجميلة، حتى لو «لم يكن لها معنى»، إلّا أنّها بالنسبة لي كانت كافية.
المعنى في الحياة هو موضوع كبير وعميق، تتخلّله وجهات نظر مختلفة في نقاط عدّة. لكن معظم الذين يستكشفون هذا الموضوع يعتقدون أنّ المعنى يمكن العثور عليه في جوانب مختلفة من الحياة، ويمكن الوصول إلى معظمها، والطريق إليها أقصر مما يظن كثير من الناس.