«عقلي كنمر جامح، متحمس لكنه مهيب. ينبغي لي التعلم؛ كي أروضه». تخبرني حفيدتي مستشا عن فضولها العارم ومخيلتها الحية؛ إذ تحب جميع المغامرات والبطولات التي يحيكها عقلها، ولكنها تخاف من الخيالات المظلمة التي فاقمتها جائحة كوفيد مؤخرًّا. وبحكمتها التي تمثلت في سنينها التسع وبتشجيع أبَويها العطوفَين، شعرت بأنَّ أهدافها محققة؛ حتى إنها تنام، وبجانبها دمية نمر، فهي مهتمة بترويض النمور، ولعل هذا هو مرامُها الآن.
لكنني حاورتُ أُناسًا في عقدهم التاسع في ظل بحثٍ في مجال «إعادة النظر إلى الحياة»، إذ كنتُ أستمع إليهم يتحدثون عن حياتهم وأحبائهم، ويلقون بعضًا من دروسهم. وعلى الرغم من التباين في ثقافاتهم ومكاناتهم الاجتماعية وأحوالهم الصحية، لاحظتُ أن لبعضهم بريقًا من نوع خاص، وهو انفتاح إزاء الناس وفضول مستمر تجاه الحياة. لقد أطلقتُ على هذا السلوك «العيش للحياة»، وهذا موصول لإحساسهم بالغاية في مرحلة متأخرة من العمر.
كلمة «غاية» كلمة فخمة، فالمقصود بها في اللغة الباعثُ والقصد، وهي تبحث في علل الأشياء، وتحث على التصرف، وكثيرًا ما تكتسي الغاية ثوبًا روحيًّا أو تتزين بالإيثار مع دلالات واسعة ومثمرة. في مناخ عصرنا، المتسم بالشك والتشتت والغوغاء والفوضى وغياب المبادئ الدينية والأخلاقية، يتفشى القلق الوجودي، ومحظوظ من مُلئت حياته بالغاية.
إنَّ شعار «اكتشف غايتك» شعار سائد في الخطابات التحفيزية، وكثيرًا ما تكون هذه الخطابات مبنية على محاولات صادقة لمساعدة الآخرين (ولغرض الربح أيضًا)، وتهدف عبارات «الرسالة» الدارجة في المؤسسات بأنواعها، إلى توحيد «الرؤية» لدى الموظفين. وعلى الرغم من مقاصدها المحمودة، يبقى هذا الخطاب مشوبًا لأن «الرسالة، والرؤية، والأهداف» غالبًا ما تصطبغ بصبغة نيوليبرالية، وتنمو في مُناخ تسوده قيم السوق.
والغاية ليست منتجًا نستطيع أن نبتاعه -أو نبيعه- في السوق. تُجري كيرا نيومن -إحدى محررات المجلة الصادرة عن مركز Greater Good Science الواقع في جامعة كاليفورنيا في بيركلي- بحثًا قائمًا تتقصى فيه مفهوم الغاية عند الناس في مختلف الأعمار. إنها تتناول الغاية بوصفها «رحلة» لا «وجهة»؛ إذ تتغير بتغيُّر الزمن والعمر. أكدت النتائج ما قد أكدته الأبحاث، في أنَّ من كانت لديه غاية أو وجهة في حياته؛ فستكون حياته طيبة قانعة، مهما بلغ عمره.
الشباب مشغولون باكتشاف ذاتهم، ومكانتهم في المجتمع، فلا يميلون لتشكيل غاية إلا في أواخر المراهقة؛ وحينها لا يتعدون عشرين بالمئة. أمَّا أثناء حياة بالغة تزخر بالعمل، فمن المُحتمل أن ترتبط الغاية بالترقِّي في السلم المهني مع أو بدون بناء أسرة. ولربما بعدما تحلل المسؤولية الأسرية والمهنية بالتقاعد، يتبدد الشعور بالغاية والهوية. لكنَّ كبار السنِّ ممن يحافظون على هذا الشعور خاصة من كان داعمًا للأجيال الناشئة؛ فإنهم يرون هوياتهم قصصًا ما زالت تُحكى.
هل الغاية، إذن، درب نسير عليه؟ أو ربما مكان نأوي إليه؛ حيث نبني فيه حياتنا كيفما شئنا؟ تُجمِع الفلسفة والأبحاث أنَّ الغاية ممارسة، وهو أفضل وصف ممكن لها.
تتعلق الغاية بالطريقة التي نُسخِّر بها الوقت والجهد لهدف ما بدلًا عن تبديدهما في أمور فارغة، والمقصود أننا نختار أن نعيش الحياة «عن قصد» لا أن نتوه في جنباتها. ممارسة الغاية ليست ثابتة، بل تُصقل على مرِّ الزمن؛ إذ تنشأ مطردةً، وتتغير كلما وقعنا في أودية الحياة وتلالها وصحاريها ومستنقعاتها.
يُولد بعض الناس -ومنهم الدالاي لاما- وفي أفواههم ملعقة من الغاية. أما الآخرون، ممن أصابهم مرض، أو إدمان، أو إقصاء، لا تتعدى غايتهم النهوض من السرير ومواجهة الحياة؛ وهذا صعب كصعوبة تغيير العالم. هل الغاية السامية محصورة على الفئة التي تملك الوقت والجهد فقط، والتي يتوفر لها المال والطعام؟ لا يبدو كذلك؛ إذ يسري المثل على الناس العصاميين الذين حُرموا من أدنى الحقوق ثم طالبوا بالتغيير.
في الأصل، تهدف الغاية إلى إحداث تغيير في العالم؛ فغالبًا ما نسمع المطالب الرنانة لمناشدي الإنسانية والرؤى الشاملة التي أسهمت كل الإسهام في المجتمع. لكن ما حال الغاية الصغيرة التي تتعلق بالأعمال اليومية، مثل تواصلنا مع الناس وحفاظنا على البيئة؟ إذن، القرارات الواعية بما يزينها من رفق وكرم وغوث تسهم أيضًا في تغيير حياة الناس.
يلاحظ رتغر بريغمن في كتابه: «الجنس البشري» كيف تكثر هذه السلوكيات في الأزمات حينما تتعاون المجتمعات؟ ويؤكد أنًّ التعاون سبب تطور الإنسان، وليس المصلحة الشخصية كما يدعي الكثير من السياسيين. ولهذه الادعاءات البسيطة تبعات كبرى لا سيما حين تصدر من أصحاب السلطة. شدَّدت رئيسة الوزراء النيوزلندية جاسيندا أردرن على أهمية الرِّفق في خطابها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا ننسى أنَّ الكرم خُلُق مهمّ يتصف به من لديهم مهارات إدارية؛ فقد أسست الريادية روني كانْ جمعية إحسان أوزي-هارفست(OZ Harvest) ، وعملها منوط بتوزيع الطعام الفائض بدلًا من رميه. ولكن أضعف الإيمان يُعتد به أيضًا؛ إذ جاوز احتجاج غريتا تونبرج الآفاق؛ فبعثت الحماسة في نفوس التلاميذ ممن يطالبون باتخاذ إجراءات عاجلة لأزمة المناخ العالمية.
تُصقل الغاية يومًا بعد يوم إن عُدَّت ممارسة عندما نكون مخيرين فيما نفعله؛ فمن منظور وجودي، نحن ما نختاره.
إن ارتبطت الغاية بالاختيار، فما علاقتها بالمعنى إذن؟ يبحث الناس عن غاية بغرض أن يلونوا حياتهم بالمعنى؛ فالغاية والمعنى مرتبطان، على اختلافهما. المعنى -حتى المشترك منه- بوصلة داخلية، أمَّا الغاية؛ فتميل للتعبير العملي –وللتفاعلات- مع الآخرين. تحمل الغاية إرادة لتحديد ما له مغزى، وما نصبو إليه في حياتنا. وترخي هذه الإرادة لجام العادات، وتُعزِّز وعينا بالوضع الراهن.
كان للمعنى قيمة في أوروبا بعد الحرب. بعدما انطوت هذه السنين المليئة بالبشاعة ضد الإنسانية، آثر الفلاسفة –والمواطنون- البحث عن طرق لفهم هذا الدمار. في فرنسا ازدهرت الوجودية كامتداد لفكر هايدغر حول الأصالة. سارتر وميرلوبونتي تشاركا التأسيس الوجودي نفسه، وساهما في تأليف دورية أزمنة حديثة في عام 1945م، ولكنهما اختلفا في كثيرٍ من الأمور؛ إذ شدد سارتر أننا «محكومون» بالحرية، فلا معنى لحياتنا إلا عندما نواجه حرية الاختيار.
ولكن ميرلوبونتي يخالفه، ويقول «إننا محكومون بالمعنى»؛ إذ تتراكم علينا طبقات المعنى لمجرد أننا بشر نتشارك عالمًا معقدًا، ونكتسب أثناء نشأتنا العادات التي طبعها المجتمع والثقافة، ومن الممكن أن نتعلم أنَّ السيارات الفارهة مرغوبة، أو أنَّ رجال الشرطة مخيفون، أو أنَّ كتابًا ما مؤثر؛ إذ نحن ما طُبعنا عليه.
لم ينكر ميرلوبونتي أننا مخيرون، وأدرك أنَّ حرية الاختيار تختلف باختلاف الواقع والإمكانات؛ فدائمًا ما تكون خيارتنا مقصورة على «مُعطى معين». ويزعم أننا أحرار «ليس لظروفنا»، بل «بما تعنيه هذه الظروف». إنَّ التأمل في ظروفنا الشخصية يولِّد احتمالات، فالقدرة على الاختيار والفعل «تحررنا مما يُثقلنا»؛ إذ يهبنا الاستدراكُ اليسير عزمًا للدفاع عما هو مهم.
عندما يكون إحساسنا بالغاية في أوجه، ينبثق من بين قدراتنا وحاجاتنا انبثاقًا. بدلًا من سؤال «ما الذي يحتاجه العالم؟» في مسألة البحث عن الغاية، اقترح هاورد ثورمان أستاذ مارتن لوثر كنغ إبداله بسؤال أجدر هو: «ما الذي يبقيك حيًّا؟» لأنًّ «العالم يحتاج من هو حي حقًّا». وهو الذي شجع كنغ في الأزمات أن يغذي روحه؛ ليحافظ على همته لاتباع سبيل المعنى في العالم الخارجي.
دائمًا ما كان كبار السن ممن التقيتهم يُشعون بنورِ «الحياة لذاتها»، ويسهمون كلهم في الأنشطة الخيرية، حتى وإن كانت من أضعف الإيمان مثل: حُسن الاستماع للغير. لا يشترط التفكير بالآخرين نسيان النصيب الشخصي من الحياة؛ فالنفس لها حق كذلك. وما حفَّز هؤلاء إلا الإحساس بوجود غاية ما، والتقدُّم في العمر له دوره؛ لأنه لا يُرد ولا يُستبدل، فالكثير ينذر سنواته الأخيرة للخير والإحسان.
ومع أني أُشيد بالغايات الصغيرة التي تركز على الأهداف اليومية إلا أنني دائمًا مذعورة من السؤال الذي طرحته ماري أوليڤر في قصيدتها يوم الصيف: «ما الذي تنوي فعله بحياتك الثمينة الجامحة؟».
ولنتذكر عقل مستشا الثمين الجامح الذي شبهته بالنمر، أتساءل إن كنا نحن –الفضوليين- نمتلك «عقلًا كما النمر»؟ إن الفضول لبُّ الفلسفة، وهو سعي لفهم ثنايا الحياة وجنباتها.
لدي أمل أن تفهم مستشا نمرها، وأن تُذهل به، بدلًا من أن تكبح جماحه «لتتماشى مع العادات».
ولربما يخبئ المستقبل لمستشا حياةً مزينة بالغايات من فن وعلم وفلسفة، وستبدي لنا الأيام.