الأدب ظلال الحياة الوارفة | بشاير عبد الرحمن

تستغرق 5 دقائق للقراءة
الأدب ظلال الحياة الوارفة | بشاير عبد الرحمن

«محظوظون هم الذيّن ينموّن شغفًا بينهم وبين نوع معيّن من الفن».

ديفيد فوستر والاس

«غمرتني رغبة قوية للعيش إذ شعرتُ بالرضا بالقدر الذي ينبعث من كل تفصيل في كتابات نيتشه حتى تلك التشاؤمية منها. شعرتُ بطاقة نابضة من الحياة تقبع فيها، إن الأدب ليس إلا تقديرًا للحياة، الحياة بكل ما فيها».

الشاعر البولندي أليكساندر وات حول تأثير الكتب على حياته في أحد سجون السوفييت

البيبليوثيرابي «Bibliotherapy» أو التعافي بالقراءة، مصطلح مألوف حديثًا ويعني استخدام القراءة والكتب في العلاج النفسي أو مساعدة الفرد على تجاوز بعض مشكلاته والتعامل معها، على أن يتم اختيار الكتب التي تناسب المرحلة أو الحالة التي يمر بها الفرد، إذ إنها قد تُعينه في فهم مشاعره ودواخله والعالم من حوله بصورة أفضل. صاغ المصطلح صامويل ماكرود كروثرز عام 1916 ثم أُدرج في المعاجم الطبية، لكن يُرجّح أن جذوره تعود إلى العصور والحضارات القديمة، حيثُ كانت المكتبات في مصر مزار ومقصد للناس أشبه بالعيادات الروحية، وقد كتب المؤرخ اليوناني ديودور في عمله الضخم عن المكتبات التاريخية أنه في عهد الملك رمسيس الثاني في مصر قد نُقش على مدخل المكتبة عبارة «بيت شفاء الروح»، وفي اليونان القديمة إلى جانب الفلسفة كان للأدب حضورًا وأهمية كبرى، حيثُ افتتح أرسطو خطابه في كتابه «ما وراء الطبيعة» أو «الميتافيزيقيا» الذي يدرس ويبحث في جوهر الأشياء؛ بأنّ السعي وراء المعرفة فِطرة الإنسان وطبيعته والاطلاع على الفنون ضروري لأنّ الفنان على قدرٍ من الوعي والإدراك بالأشياء ومسبباتها.

جادل كبار المفكرين وصولًا إلى القرن الثامن عشر حول أهمية الأدب والفنون لبناء أسس المجتمع، من ضمنهم آدم سميث الذي ناقش بأن على الحكومة تشجيع الناس على الرسم والكتابة إذ إن ذلك يساعد في تبديد الخرافات والانقسامات والتحيّز، بينما اعتبر فولتير الفن تهذيبًا للنفس وتحصينًا لها ضد العنف والتعصّب.

إن الانغماس في قراءة الأدب يسحبنا إلى عالم أكثر اتساقًا ودراماتيكية من العالم الذي نعرفه، تشبه القراءة طقسًا من الطقوس الفردية التأملية التي تتخلل أيامنا المتسارعة والمزدحمة، فتُعيد إلينا توازننا بردم الهوّة بين العالم الراكض الذي صرنا نحيا فيه، والبطء الضروري للاتزان والنضج وإعطاء شكلٍ للزمن. بدلًا من أن نُحاصَر في عزلتنا بحدودنا الشخصية فإن القراءة تنقلنا لأماكن لم نعرفها من قبل، وتخرجنا من وعينا الذاتي إلى وعي الآخر، ودواخله وعالمه، بل وقد تعبر بنا إلى أزمنة لم نملك أي تصوّر عنها من قبل فتلغي الحدود الزمانية وتوسّع آفاق رؤيتنا ودائرة اهتماماتنا، هذا الاتساع الذي بدوره يحررنا من محدودية نظرتنا الفردية للعالم وتمحورنا حول ذواتنا. كتب مانغويل في كتابه «ذاكرة القراءة» بأن القراءة تُساهم في تشكيل الهوية بمرور السنوات وأن مكتباته شكّلت نوعًا من السيرة الذاتية والسياق الذي مكّنه السير فيه من الوصول إلى معنى، وذكر جورج أورويل بأن كتابته للأدب أسهمت في خلقه لعالم يحتمي به ويمنحه القدرة على مواجهة الحقائق القاسية، وتخطّي الإخفاقات اليوميّة.

تُشكّل المكتبة جزءًا مهمًا وكبيرًا من هوية القارئ، ترتبط بحياته، ماضيه وحاضره ومستقبله. تتقاطع الكتب مع مراحل حياته التي قرأها فيها، فتُصبح كمخزنٍ للذكريات، والتجارب والمعرفة التي اكتسبها بمرور الزمن.  يؤسس ذلك للفرد أرضًا صلبة يقف عليها ومساحة يزداد فيها إدراكه لذاته، وتعبيره عنها، ويختبر أفكاره الصامتة داخل عقله وتأملاته.

قراءة الأدب -وتحديدًا الأدب الجيد- تُمهّد دروبًا كثيرة للمعرفة، للشعور بالائتلاف والرفقة، للعزاء، وللحياة الطيبة، لطالما كانت الحكايات والسرد الطريقة المُثلى والأولى لتناقل التجارب عبر الأجيال البشرية، إذ كان هذا هو الدور الأساسي للأدب في القِدم، لكن أصبح الأدب اليوم أكثر شمولية في تقديم المجتمع والذات الإنسانية على وجه الخصوص إذ يُساهم في طريق الفرد لإدراك ذاته وفهم الروابط البشرية. إن الأدب مرآة تعكس المجتمع وأيدولوجياته وسلوكياته، فمن خلال روايات تشارلز ديكنز يُمكننا اكتساب معرفة عن العصر الفيكتوري وطبقاته الاجتماعية، ولو أخذنا على سبيل المثال روايته «أوقات عصيبة» التي تدور أحداثها في مدينة صناعية خيالية شمال إنجلترا إبّان الثورة الصناعية، سنجد أنفسنا مغمورين بتجربة ما دار في ذلك الزمن من المُدن الضبابية وأدخنة المصانع، وبؤس العمال، والفقر المدقع، والروابط الإنسانية التي مزّقتها الأنظمة الظالمة في ذلك الوقت دون الحاجة لدراسة الكتب التاريخية مُكتظة التفاصيل.

ولنأخذ كمثالٍ آخر الرواية القصيرة لأنطوان دو سانت إكزوبيري «الأمير الصغير» والتي ما تزال من أعظم الروايات وأكثرها انتشارًا حول العالم بالرغم من أنها تندرج تحت تصنيف أدب الصغار، إلا أن بعض النقاد اعتبروها نصًّا فلسفيًّا جديرا بالقراءة في كل جيل. مرر الكاتب من خلالها أسئلة وجودية وجوهرية، وقضايا أخلاقية ما تزال سائدة، وقد مالَ فيها إلى تقدير الجوهر، والعالم الروحي الهادئ والصفاء الذي عبّر عنه بالصحراء اللامتناهية وشخصية الأمير الصغير ذاته. الأمير الصغير موجود في داخل كل منّا، يخرج من عزلته الطويلة في كوكبه الصغير ليكتشف العالم الأوسع خارجه، رغبةً في الاكتشاف والتعلّم، ما الذي تعنيه هذه الحياة ولأي هدفٍ نحيا ونسعى؟ فيلاقي في رحلته مختلف أصناف البشر، ونجد أن كلّ شخصية تحيا في كوكب مختلف وبوجهة نظر مختلفة عن الحياة، وكأنما يمثّل ذلك اختلاف سعي البشر فكلٌّ في فلكٍ يسبحون، «يملك الجميع نجومًا لكنها لا تمثّل الشيء ذاته بالنسبة لهم، ينظر الرحّالون للنجوم كمرشدٍ لرحلاتهم، وينظر آخرون لها على أنها مجرّد أضواء لامعة في السماء، ويرى العالِم النجوم كمسائل علميّة، ولرجلِ الأعمال فالنجوم هي الثروة والذهب».

ثمّة بعض التشابهات بين «الأمير الصغير» ورواية «حي بن يقظان» للفيلسوف ابن الطفيل والتي تُبرز أهمية العقل والملاحظة المُجرّدة والتفكّر في فهم الكون وموجوداته، فمن خلال خياله وتأملاته الفلسفية ونزعته إلى تفسير ما يراه حوله، دون كتاب أو معلّم بدأ حي بن يقظان يكتشف نفسه ومن خلال اكتشاف الذات وما حولها توصلّ إلى مفاهيم أكبر؛ ما يكمُن في الوجود وما خلفه. أستحضر هنا ما كتبه هِرمان هيسه في سيرته الذاتية «تعلّمت ما هو أنفع وأكثر ضرورة للحياة قبل أعوام المدرسة، فقد تعلّمت من أشجار التفاح، من المطر والشمس، من النهر والغابات، والنحل والخنافس.. تعلّمت من النجوم وكنت أشعر بألفة في بساتين الفاكهة واستحوذت عليّ حكمة الطفولة العظيمة كلّها».

ولنلقِ نظرة على المسرح، ونُسلّط الضوء على القدير صامويل بيكيت ونشأة مسرح العبث بألمع مسرحياته «في انتظار غودو» والتي تُركّز على شخصيتين رئيستين هما «أستراجون» ورفيقه «فلاديمير» اللذين ينتظران على أرض مقفرة عند شجرةٍ جرداء شخصٌ لا يأتي أبدًا يُدعى «غودو». على الرغم من كونها تندرج تحت الأدب العبثي إلا أنها من الأعمال ذات المسابر المتشعبّة، والتي تمنح للقارئ أو المشاهد دورًا في حلّ متاهات الحوارات والتساؤلات الوجودية فيها فالمغزى في الأشياء المحتجبة، يجعل ذلك من تلقّي الأدب فعلًا حيويًّا ينطوي على المشاركة والتفكّر والتأويل. وهذه إحدى أهم أدوار الأدب: تشجيعنا على تأمل حياة لم تُسبر أغوارها بعد. فيُمكننا تفسير ما رام إليه «بيكيت» في مسرحيته بأوجه عِدّة منها أن هوس الإنسان بالبحث عن المعنى يفقده حيويّة أيامه، ويُخلّف انتظارًا أبديًّا لا طائل منه يُخرج الإنسان من ذاته ليجعله أسيرًا للمجهول حتى وإن كان هذا المجهول انتظار شيء ليس متأكدًا من وجوده وما إن كان سيحدث أم لا. فهذه دعوة لصناعة المعنى بدلًا من انتظاره أو التفتيش عنه، أو اختزاله في مساراتٍ تقليدية، إذ إن التجدد والخلق المتواصل هو ما تقوم عليه الحياة، وليس في حصرها ضِمن أُطرٍ تُعيد نفسها كل يوم.

جانبٌ آخر يمرره الأدب إلينا ألا وهو الحكمة، والحكمة ثمينة إلى درجة أنّ الإنسان قد يقضي عمره في السعي إليها فالحكمة غايةٌ ووسيلة، وبدونها فإن المعرفة المكتسبة تبقى مستترة في داخلنا، فالحكمة في معناها هي القدرة على تطويع كل المعارف والخبرات التي اكتسبها المرء في مسار محكم لخدمة حياته ومستقبله. وما الحِكمة إلا نِتاج عقلٍ مُفكّر وبصيرةٌ نافذة، يقول سقراط «إنني لا أعلّم الناس شيئًا ولكنّي أساعدهم على التفكّر» وهذا أحد أدوار الأدب الرئيسة، إذ إنّه ينقل إليك خلاصةً فكرية حكيمة، ولعلّ أهم نوع أدبيّ تبرُز فيه الحكمة هو الشِعر.

وللشِعر العربي فرادته وبلاغته، وقد كان الأبناء يُنشَؤون على دراسته لأن فيه تأديب للنفس وشَحذٌ للفِكر وتهذيبٌ للخُلق وبلاغةٌ في القول. وأساس الحِكمة هو تلاؤمها مع كل الأزمنة فالقارئ الذي يفتش عن مناهل المعرفة سيجد النفيس في الإرث الشعري الباقي من العصر الجاهلي وحتى العصور الحديثة. يقول كَعب بن زُهير عن النزعة الإنسانية للسعي والأمل:

لَو كُنتُ أَعجَبُ مِن شَيءٍ لَأَعجَبَني

سَعيُ الفَتى وَهُوَ مَخبوءٌ لَهُ القَدَرُ

يَسعى الفَتى لأِمورٍ لَيسَ مُدرِكَها

وَالنَفسُ واحِدَةٌ وَالهَمُّ مُنتَشِرُ

وَالمَرءُ ما عاشَ مَمدودٌ لَهُ أمَلٌ

لا تَنتَهي العَينُ حَتّى يَنتَهي الأَثَرُ

كما تمنح الحكمة مسحَة من السكينة والطمأنينة فإذا نظرنا للحُكماء وجدنا مُعظمهم متصالحين مع حقيقة مرور الزمن وذبول الأشياء ونهايتها، وأنّ الحياة لا تستمر على حالٍ واحدة، فتقلّباتها حتمية، وللزمان حلاوته ومرارته، وقد برزَ هذا الجانب حتى في قصائد الرثاء، فالحكيم مَن يستكين لهذه الحقيقة وإن كانت ثقيلة، فالأيام دول. وقد برزت الكثير من القصائد لعددٍ من الشعراء من بينهم أبي البقاء الرّندي في مطلع قصيدته لرثاء الأندلس بعد سقوطها:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ

فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ

مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ

وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

ولعلّ أبرز جوانب الشِعر هي جماليته، تلك الجمالية التي تجعلنا نُقدّر ونستشعر الموجودات من حولنا، مالَ كثيرٌ من الشعراء إلى الاحتفاء بالحياة بالتشبيهات المفعمة بالجمال، وأحد الأنواع الشعرية البارزة هو «شِعر الطبيعة» وقد كان هذا النوع بارزًا في الشِعر العباسي، وصار في أوجِ وهجه وتألقه في العصر الأندلسي، فمُعظم القصائد الأندلسيّة باختلافِ موضوعاتها نجد فيها أبياتًا في تقدير جمال الطبيعة والأرض، والطير والشجر، وحتى شروق الشمس وغروبها.

وللشِعر تلك القدرة على لفت انتباهنا لموجودات الحياة الصغيرة التي قد نغفل عنها أو نعتاد عليها، فيمنحنا طرقًا جديدة لفهم الكلمات وربطها والنظر إلى الأفكار من زوايا لم نُفكر بها من قبل. في الشرق أيضًا يُلاقي الشِعر تقديرًا وكأحد الأمثلة البارزة لدينا «الهايكو الياباني»، وهو نوع من الشِعر يعبّر عن الأفكار والمشاعر العميقة بقواعد أساسية أهمها الإيجاز، وتكثيف اللغة، وبساطة المفردات. فالهايكو هو بيت شعري واحد مكوّن من سبعة عشر مقطعًا صوتيًّا باليابانية. وهو ليس إلا فلسفة تحتجب خلف لغة شعرية مُشبعة بالخيالات والآمال، مالَ كثير من فلاسفة الشرق إلى الاستعانة بالهايكو في أوقاتهم التأمليّة للوصول إلى الصفاء الذهني المأمول، وقد تجاوز الهايكو الحدود اليابانية ليصل إلى شتى الأنحاء، فقلّما نجد اليوم أرفف تخص كُتب الشعر دون أن نجد بينها مجلدات ضخمة للهايكو.

أما بنظرة أكثر شمولية فيُمكننا القول إن أهمية الأدب تكمُن أحيانا في السرد، لطالما كان السرد عُنصرًا ضروريًّا لاستمرار حياة الإنسان، ففي أقدم العصور كان التجمهر حول الحكّائين أمرًا مألوفًا، فتُقضى الليالي حول نار متقدّة وقاصّ يسرد حكايات لا تنتهي. هذا السرد مهم للكاتب وللقارئ على حد سواء، فإنّ رؤيتك لحياتك الشخصية كحكايتك الخاصة يُساعد في تضمينها ضمن سِياق مُحكم، إذ إن حياة الإنسان اليومية مُزدحمة التفاصيل ونحن بحاجة إلى هذا النوع من السرد الذي يُمكننا فيه التركيز على الأهم في حكايتنا الشخصية. إنّ مسارات حياتنا شتى، والطُرق التي نُشكّلها بها متباينة، وقراءة الأدب والحكايات تصبغ حياتنا بصِبغة تأمليّة، فنصغي أكثر لأعماقنا، وننظر إلى شروق الشمس بعينٍ مُقدِّرة، ونتأملها وهي تغرب بجمالٍ وهدوء، تغدو المشاهد اليومية في عين قارئ الأدب شاعريّة، تستحق التأمل والتقدير، تساقُط أوراق الأشجار واستمرارية دورة الحياة، التماع النجوم في السماء والمجهول القابع في الأفق، استثمار البشر لقدرتهم على الكدح والتعاطف والسعي، كل المشاهد الروتينية التي تبدو مُكررة في ظاهرها يحتجب خلفها الكثير من التفاصيل والمعنى، بمرور الزمن تتقادم الأشياء لكنها لا تفتقد جوهرها، الجوهر الذي تُعيننا القراءة على استشعار وجوده.


المراجع

كتاب تاريخ القراءة، كتاب ذاكرة القراءة – ألبرتو مانغويل

https://www.brainpickings.org/2019/05/14/aleksander-wat-my-century-reading/

https://www.brainpickings.org/page/5/?s=imagination+helps

https://www.brainpickings.org/2017/06/01/jeanette-winterson-edinburgh-book-festival-art/

https://www.brainpickings.org/2019/07/15/iris-murdoch-against-dryness/

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.