الذات المشوَّهة | مارك ميليرس – بِن وايت – ت: رضا زيدان

تستغرق 6 دقائق للقراءة
الذات المشوَّهة | مارك ميليرس – بِن وايت – ت: رضا زيدان

تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري 

تجعلنا وسائل التواصل الاجتماعي نشعر بالفزع حيال مَن نحن حقًا. يفسِّر علم الأعصاب سبب ذلك ويمكّننا من المقاومة. 

يتأجج ليفي جيد ميرفي Levi Jed Murphy في الكاميرا. يا له من مظهرٍ قوي: عيون زرقاء ثاقبة، عظم وجْنيّ بارز، شفاه ممتلئة، فكّ حاد وأملس. كل ذلك كلّفه، كما يقول، حوالي ثلاثين ألف جنيه إسترليني. ميرفي من المؤثرين الإلكترونيين في مانشستر، في المملكة المتحدة، بعدد كبير من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي حديثه عن منهجه في زيادة عدد معجبيه، قال إنه إذا لم تحصل الصورة على عددٍ معين من “الإعجابات Likes” في غضون فترة زمنية محددة فإنها تُحذَف. وعملياته الجراحية هي ببساطة وسيلة لتحقيق الفاعلية السريعة، يقول: «حُسن المظهر أمر مهم لوسائل التواصل الاجتماعي، لأنّ من الواضح أنني أرغب في جذب الجمهور».

إن علاقة ميرفي بوسائل التواصل الاجتماعي تجلي صارخ للقلق، الذي عبَّر عنه الفيلسوف الفرنسي جي ديبور Guy Debord، في عمله الكلاسيكي “مجتمع الاستعراض The Society of the Spectacle” (1967). إذ يرى ديبور أن الحياة الاجتماعية تتحول « من التملك إلى الظهور. فكل “تملك” لا بد الآن من أن يستمد نفوذه المباشر وغرضه النهائي من الظهور. وفي الوقت نفسه، أصبح كل الواقع الفردي اجتماعيًا». أدرك ديبور أن الأفراد كانوا يعانون على نحوٍ متزايد من القوى الاجتماعية، وهي ملاحظة بعيدة النظر في ضوء الصعود اللاحق لوسائل التواصل الاجتماعي. ولكن ديبور، بصفته منظّرًا سياسيًا كتب في ستينيات القرن الماضي، كان ليكافح ليرى كيف يمكن لهذا التحول نحو المظاهر أن يؤثر على نفسية البشر ورفاهيتهم، ولماذا قد يشعر أشخاص مثل ميرفي بالحاجة إلى القيام بأفعالٍ متطرفة.


اليوم، تتورط وسائل التواصل الاجتماعي في مجموعة من مشاكل الصحة الذهنية. إذ ربط تقرير الجمعية المَلكية للصحة العامة Royal Society for Public Health، في عام 2017 استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بالاكتئاب والقلق والإدمان. انقلب بعض المؤثرين السابقين ضد منصّاتهم واختاروا إبراز مخاطر تكوين صورة ذاتية ببذل حفنة من المال في الواقع. وفي الوقت نفسه، جرّبت بعض المنصات تعديلات تصميمية طفيفة تهدف إلى حماية صحة المستخدمين، مثل الحد من ظهور “الإعجابات” على المنشورات.


أصبحت المخاوف المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي هي الاتجاه السائد، لكن الباحثين لم يوضحوا بعد الآليات الإدراكية المحددة التي تفسّر أضرارها التي تلحق برفاهيتنا النفسية. ومع ذلك، فإن التطورات الجديدة في علم الأعصاب الحوسبي مستعدة لإلقاء الضوء على هذه المسألة. إن بنية بعض منصات التواصل الاجتماعي تتخذ الشكل الذي يسمّيه بعض العلماء «المنبهات المفرطة» – أيّ أنظمة توصيل رقمية إشكالية للمنبّه المانح للمكافأة، والذي قد يسبب الإدمان. ووفقًا لنظرية جديدة رائدة في علم الأعصاب تُعرف باسم المعالجة التنبؤية predictive processing، يمكن أن تتفاعل المنبهات المفرطة مع آليات إدراكية وعاطفية محددة لتنتج بالضبط أنواع النتائج المَرَضية التي نراها تظهر اليوم.

تنظر المعالجة التنبؤية للدماغ على أنه “محرّك تنبؤ” – شيء يحاول باستمرار التنبؤ بالإشارات الحسية التي يصادفها في العالم، وتقليل التضارب إلى الحد الأدنى (يسمى “خطأ التنبؤ”) بين تلك التنبؤات والإشارة الواردة. وبمرور الوقت، تبني هذه الأنظمة “نموذجًا توليديًا”، وهو فهم مشيَّد للانتظامات الإحصائية في بيئتنا، ويُستخدم لتوليد التنبؤات. هذا النموذج التوليدي هو في الأساس نموذج ذهني لعالمنا، بما يشمل المعلومات الفورية الخاصة بمهمة ما وكذلك المعلومات طويلة المدى التي تشكّل إحساسنا السردي بالذات. ووفقًا لهذا الإطار، تعمل الأنظمة التنبؤية على تقليل أخطاء التنبؤ إلى الحد الأدنى بطريقتين: إما أنها تقوم بتحديث النموذج التوليدي ليعكس العالم على نحو أدق، أو تتصرف بطرق تجعل العالم يتماشى على نحوٍ أفضل مع تنبؤاتها. وبهذه الطريقة، يشكّل الدماغ جزءًا من نظام تنبؤي متجسد ينتقل دائمًا من عدم اليقين إلى اليقين. ومن خلال تقليل المفاجآت التي قد تكون ضارة، فإنه يبقينا على قيد الحياة بعافية.


فكّر في درجة حرارة الجسم الصحية والمتوقعة البالغة 73 درجة مئوية في حالة الإنسان. إذ يُسجَّل أيّ تحول في أيّ من الاتجاهين على أنه ارتفاع مفاجئ في خطأ التنبؤ، مما يشير إلى الكائن الحيّ بأنه ينتقل إلى حالة غير متوقعة، ومن ثمّ من المحتمل أن تكون خطرة. هذا الارتفاع في خطأ التنبؤ ينعكس علينا على أنه شعور بعدم الراحة والتوتر والميل إلى فعل شيء ما للحصول على تحكم تنبؤي أفضل في الواقع. إذ يمكننا فقط الجلوس هناك والتعامل مع درجة الحرارة المتغيرة (تحديث نموذجنا التوليدي)، أو البحث عن غطاء أو فتح نافذة. وفي هذه الحالات، ما نقوم به هو التأثير على بيئتنا، وأخذ عينات من العالم وتغيير علاقتنا به، من أجل إعادة أنفسنا إلى الحدود المقبولة من عدم اليقين. 


حسب الصورة المنبثقة من المعالجة التنبؤية، فإن الإدراك والانفعال هما جانبان متشابكان بإحكام لنفس النظام البيئي. إذ أن أخطاء التنبؤ ليست مجرد نقاط بيانات داخل نظام حوسبي، وإنما الأمر هو أن أخطاء التنبؤ المتزايدة تشعرنا بشعور سيئ، في حين يُشعرنا حل الأخطاء بما يتماشى مع التوقعات بشعور جيد. وهذا يعني أننا، ككائنات تنبؤية، نسعى بنشاط إلى موجات من أخطاء التنبؤ التي يمكن التحكم فيها – عدم اليقين الذي يمكن التحكم به – لأن حلّها يؤدي بنا إلى أن نشعر بشعور جيد. ويشهد الارتفاع الأخير في مبيعات أحجية الصور المقطوعة jigsaw أثناء إغلاق فيروس كورونا على حبنا لعدم اليقين الذي يمكن التحكم فيه. لقد تطورت هذه المشاعر لإبقائنا على ضبط متوافق مع بيئتنا، مما يساعدنا على أن نشعر بفضول تجاه الاستراتيجيات الجديدة والناجحة للبقاء على قيد الحياة، مع تجنب كل التوتر والانزعاج الذي يأتي مع عدم اليقين الجامح. هذه العلاقة الشعورية النشطة والمتكررة بالبيئة بالغة الأهمية لفهم كيف يمكن أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي ضارّة بصحتنا الذهنية، ولماذا نجد صعوبة في التوقف عن استخدامها. 


إن العيش الطيّب، في تفسير المعالجة التنبؤية، يعني القدرة على التعامل بنجاح مع عدم اليقين، وهذا يعتمد على وجود نموذج توليدي يمثل العالم بدقة. فالنموذج التوليدي الذي يعكس انتظامات العالم على نحوٍ ضعيف سيؤدي حتمًا إلى زيادة في التنبؤات السيئة، وفيضان من الأخطاء التي يصعب حلّها. بدأ منظّرو المعالجة التنبؤية في تطوير توصيفات جديدة لحالات الصحة الذهنية، مركّزين على فعالية النموذج التوليدي للشخص. فمثلًا، وُصف الاكتئاب بأنه شكل من أشكال «التحجر الإدراكي cognitive rigidity»، حيث يفشل النظام في تعديل مدى حساسيته تجاه التجاوب feedback التصحيحي العائد من العالَم. بالنسبة للأشخاص الذين يتمتعون بعافية نفسية، فإن التجاوب العاطفي يسمح لهم بضبط توافقي لتوقعاتهم بمرونة: في بعض الأحيان يكون من المعقول بالنسبة لهم “شطب” خطأ تنبؤي على أنه مجرد ضجيج، بدلًا من أن يروه كشيء يتطلب تغيير نموذجهم التوليدي؛ وفي أحيان أخرى يكون من المعقول أن يغيّروا نموذجهم بسبب الخطأ. أما في حالة الاكتئاب، فإن الباحثين يفترضون أننا نفقد هذه القدرة على التنقل ذهابًا وإيابًا بين حالات أكثر أو أقل “حساسية”، مما يؤدي إلى ارتفاع أخطاء التنبؤ التي لا يمكن السيطرة عليها. وفي النهاية، نتوقع عدم فعالية أفعالنا وفشلها – وهذا التوقع يصبح بدوره تنبؤًا معزَّزًا ذاتيًا، وبالتأكيد نحقق فيه قدرًا ضئيلًا من الرضا. ويتجلى ذلك، على مستوى الشخص المصاب بالاكتئاب، في مشاعر مثل العجز والعزلة وغياب الحافز وعدم القدرة على العثور على المتعة في العالم. 

جراحة سناب شات Snapchat تُعدّ منطقية تمامًا في إطار المعالجة التنبؤية

إن وسائل التواصل الاجتماعي هي طريقة فعالة على نحو مذهل في تشويه نماذجنا التوليدية. فهي تثقلها بالأدلة السيئة فيما يتعلق بالعالَم من حولنا ومن نحن. من المحتمل أن تكون المسافة بين الوجود والظهور شاسعة – إذ ببعض التعديلات الخاطفة يمكننا تغيير مظهرنا تغييرًا كبيرًا، أو إعادة التقاط نفس الصورة عشرين مرة حتى ينضح وجهنا بسيطرتنا الهادئة على حياتنا التي نرغب في إظهارها. ونظرًا لأن منصات التواصل الاجتماعي تطوّر ميزات features تتيح لنا تقديم أنفسنا على نحوٍ غير أصيل، فإن هذه المنصات تصبح المولدات الأقوى للأدلة السيئة، وتغمر الأنظمة التنبؤية لمستخدميها بمعلومات غير دقيقة، حيث تخبرنا بأن العالَم مليء بأناسٍ جميلة وسعيدة يعيشون حياة رائعة ومترفة على نحوٍ مدهش. عادة، في عالَمنا العادي غير المتصل بالإنترنت، يُرمَّز نموذجنا التوليدي وتوقعاتنا بالمعلومات الواردة من البيئة (غير المفلترة) مباشرة، مما يعني أن النموذج يعكس العالم بدقة في معظم الأوقات. لكن في حالات الانخراط المنتظم والمكثف في وسائل التواصل الاجتماعي، تُنتقَى المعلومات الواردة المتعلقة بالعالم بعناية، وتُنظَّم وتُعدَّل، فمن المحتمل أننا نخرط في عالَم خيالي. وفيما يتعلق بالتحول المخيف الذي ذكره ديبور من الأصالة إلى المظاهر، تعمل منصات التواصل الاجتماعي بمثابة رافعة رقمية، رافعة ترفع نموذجنا التوليدي بمعزل عن البيئة غير المتصلة بالإنترنت. بدلًا من ذلك، يُثقل نظامنا التوليدي كاهله بالتوقعات المتولدة عبر النموذج الإنترنتي، والنتيجة هي موجات متزايدة من أخطاء التنبؤ التي يتعذر التعامل معها ويجب على النظام الآن أن يسعى إلى الحد منها.

  
إن تصرفات ميرفي المتطرفة كما يبدو (المؤثر الإلكتروني المذكور أعلاه)، هي إحدى الاستراتيجيات لحل هذا النوع من أخطاء التنبؤ. إذ وجد استطلاع حديث أن أكثر من نصف جراحي التجميل لديهم مرضى يطلبون منهم صراحة إجراءات من شأنها تحسين صورتهم على الإنترنت، بينما أبلغ بعض الجراحين أيضًا عن استخدام المرضى لصور محسّنة لأنفسهم كمثال على الشكل الذي يرغبون فيه. يصف ميرفي كيف سمحت له الفلاتر بـ «معاينة» تأثيرات الإجراءات التجميلية، وفي حين حظرت شبكة إنستغرام Instagram الآن هذا الفلتر المحدد، تؤدي العديد من التطبيقات الأخرى وظائف مماثلة.

 
ما يُسمَّى بـ “جراحة سناب شات” منطقي تمامًا في إطار المعالجة التنبؤية. فإذا اعتدنا على مظهرنا الذي صنعه الطبيب وعلى كل التجاوبات المرتبطة به، فسوف يُسجَّل قريبًا مستوى الفاعلية المتاح في البيئة غير المتصلة بالإنترنت كخطأ تنبؤ متصاعد. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى الشعور بالتوتر وعدم الكفاية. وبمنظور المعالجة التنبؤية، نرى أن جعل الجراحة تبدو أشبه بالصورة المفلترة هو بالضبط ما يقوم به النظام دائمًا: فهذا الفعل لا يختلف عن البحث عن غطاء عندما تبدأ حرارة الجسم في الانخفاض. نحن نأخذ عينات من العالَم لإعادتنا إلى الحالة المتوقعة. لكن وسائل التواصل الاجتماعي قادرة على إزاحة صورتنا الذاتية لدرجة أن الطريقة الوحيدة لتصحيح الخطأ وتلبية تلك التوقعات هي التغيير الجراحي للطريقة التي نظهر بها.


ومع ذلك، لاحظ مدى خطورة هذا السيناريو. فإذا كنا عاجزين عن حل الخطأ، وواصلنا الانخراط في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هذا الفشل المستمر يرتد إلينا، ويعلمنا في النهاية أن نتوقع فشلنا. ومن خلال سلسلة من التنبؤات ذات الدرجة الثانية second-order – التنبؤات المتعلقة بقدرتنا على التنبؤ بدقة (أو عدم التنبؤ بدقة) – سننشغل بالفائدة المتوقعة من أفعالنا. وعندما تفشل أفعالنا باستمرار، نفقد الشعور بالثقة في هذه الأفعال. وفي النهاية، نقلل من توقعاتنا للنجاح، ونشعر بذلك كيأس تام. هذا هو بالضبط السيناريو الذي وصفه علماء الأعصاب الذين يعملون على التوصيفات الحوسبية للاكتئاب المذكورة سابقًا: إذا فشلنا باستمرار في الوصول إلى توقعاتنا، ثم فشلنا في تعديل تلك التوقعات، فإننا نتوقع فشل أفعالنا. يمكن للمحتوى غير الأصيل على وسائل التواصل الاجتماعي، وصور الجمال والترف، أن تثبّت تلك التنبؤات في مكانها الصحيح، مما يجعل من الأصعب علينا حتى تعديل توقعاتنا لحياتنا بناءً على التجاوبات الواقعية. ومن ثمّ، يمكن أن تضعنا وسائل التواصل الاجتماعي في مأزق: إما أن نجعل العالَم يتماشى مع توقعاتنا الجديدة، أو نجازف بالانزلاق إلى الاكتئاب واليأس. 


بالطبع، هناك طريقة أوضح للتخفيف من تلك المشكلات: قضاء وقت أقل على الإنترنت. وهذا، بالنسبة للبعض، قوله أسهل من فعله، حيث تدعم الأدلة المتزايدة اشتباه أن وسائل التواصل يمكن أن تكون إدمانية. فقد حددت مراجعة شاملة في عام 2015 إدمان وسائل التواصل الاجتماعي بأنه انشغال غير متناسب بوسائل التواصل الاجتماعي وتحفُّز إليها يؤدي إلى الضعف في مجالات الحياة الأخرى، ووُجد أن ما يقرب من 10% من المستخدمين تظهر عليهم أعراض الإدمان. ومن المثير للاهتمام أن هذه النسبة تقارب نفس النسبية المئوية من الذين يعانون من مشاكل مع الكحول – ولكن في حين أن الخطافات الإدمانية مفهومة جيدًا نسبيًا في حالة الكحول، إلا أنها ليست كذلك في حالة وسائل التواصل. وربما تحمل المعالجة التنبؤية مرة أخرى مفتاح فهم الكيفية الدقيقة لإحداث ميزات features منصات معينة مثل هذا التأثير. 

تقدّم المعالجة التنبؤية فهمًا جديدًا للإدمان باعتباره انحرافًا عن التوافق بين الأنظمة التنبؤية وبيئتها. في الحياة هناك العديد من المكافآت، ويختبر experience الدماغ هذه المكافآت على أنها تحقيق خطأ تنبؤ منخفض: فخلافًا للاعتقاد السائد، ليس الدوبامين في حد ذاته هو المكافأة، وإنما تقليل الخطأ المصاحب له. تقوم الناقلات العصبية مثل الدوبامين ببساطة بترميز وترسيخ السلوكيات التي نتعلم توقع أنها ستوفر تلك المكافآت. الآن، تمامًا مثل العديد من العقاقير المسببة للإدمان، يعمل المشهد المتطور للتكنولوجيا الرقمية على تعطيل العلاقة بين المكافأة والسلوك.

يجادل الكاتب العلمي غاري ويسلون Gary Wilson، في كتابه “دماغك تحت تأثير الإباحية Your Brain on Porn” (2014)، بأن المواد الإباحية على الإنترنت تقدم نفسها على أنها مكافئة على نحوٍ خطير، كمثال على “المنبّه المفرط”. ويشير ويلسون إلى أنه في سهرةٍ واحدة، تسهّل الإباحية مستويات التجديد الجنسي التي لم تكن متاحة لأسلافنا طوال عُمرهم كله: تبويبات أو نوافذ متعددة، ومئات الأجساد المختلفة، وأشكال من الفيتشية المتصاعدة، كل ذلك يتآمر لجعل دائرة المكافأة لدينا تصرخ قائلة: “يا للهول! ما نقوم به هو أفضل بكثير مما كنا نعتقد أنه ممكن!”، في حين أننا في الحقيقة نحدق فقط في الشاشة، بمفردنا. إن الجِدة novelty جذابة على نحوٍ خاص، حيث أن أدمغتنا تبحث دائمًا عن طرق جديدة لتقليل الخطأ، وطرق جديدة لأداء أفضل مما كان متوقعًا. تسجّل أدمغتنا هذا على أنه حل عظيم لعدم اليقين، وتنتقل دوائر المكافآت في أدمغتنا إلى زيادة السرعة، مما يعزز تلك السلوكيات الخاصة التي تسعى للحصول على المكافأة. 


ما تقوم به المواد الإباحية بالنسبة للرغبة الجنسية، تقوم به منصات وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة لشهيتنا للتواصل الاجتماعي. يعتمد الانخراط في الترابط البين-شخصي الهادف على جميع دوائر المكافآت المذكورة أعلاه: يشعر الشخص بشعور حسن وهو يتواصل اجتماعيًا، فيرمِّز الدوبامين تعلّم السلوكيات الاجتماعية الناجحة. إن أحد أوجه التشابه الرئيسية بين وسائل التواصل الاجتماعي والمواد الإباحية هو أن كليهما مركبة قوية تحمل التخيلات المنتقاة بدقة، وتقديمها على أنها واقع يمكن تحقيقه. وهذه العروض التقديمية لسيناريوهات “أفضل من الحياة الواقعية” (على سبيل المثال، الصور المنسقة والمفلترة بعناية؛ واللقاءات الجنسية المثيرة للغاية في المواد الإباحية) شديدة الإغراء للعوامل التنبؤية التي تبحث دائمًا عن طرق للتحسين. فعلى وسائل التواصل الاجتماعي – كما هو الحال تمامًا مع المواد الإباحية – تعني المستويات العالية من الجِدة والشطط أن نظام المكافآت قد دُفع إلى الحد الأقصى من سرعته. ولا عجب أن نجد في تقرير صدر عام 2019 أن المراهق العادي في الولايات المتحدة يقضي الآن أكثر من سبع ساعات يوميًا في النظر إلى الشاشة. إن التحفيز المفرط، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، يعمل على إعادة تنظيم نموذجنا التنبئي وإعادة هيكلة عاداتنا: نستيقظ ونمسك بهواتفنا، ولا نغادر المنزل أبدًا بدونها، ونشعر باستمرار بالانجذاب إلى هواتفنا حتى عندما نكون بصحبة الأصدقاء.

 
ومع ذلك، فإن تأثير التحفيز المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي لا ينبع فقط من كثرة المحتوى المعدَّل بعناية والتجاوبات الاجتماعية الضخمة المحتملة، فهو ينبع أيضًا من التصميم المدروس للميزات – الميزات التي تجعل وسائل التواصل الاجتماعي أقرب إلى المقامرة منها إلى المواد الإباحية. ففي المقامرة، ما يثير (ويشكّل العادة) هو توقع المكافأة، أو توقع مكافأة غير مؤكدة. نعم، غالبًا ما تكون التفاعلات الاجتماعية الواقعية بدون إنترنت غير متوقعة أيضًا، حيث لا نعرف متى قد يتصل بنا شخص ما أو يتفاعل معنا بطرق مكافئة، ولكن مواقع التواصل الاجتماعي قد صُمِّمت لمضاعفة هذا التوقع من خلال إضفاء صبغة الألعاب gamification، حيث تُقدَّم ميزات مثل التقدم وتسجيل النقاط والمخاطرة في بيئة غير لعبية. إن وسائل التواصل تجعل التفاعل الاجتماعي لعبة، بالأساس عن طريق أنظمة تفاعلية متنوعة مثل: “الإعجابات” والمشاركات shares” و”التصويتات المؤيدة upvotes”، والتعليقات وما إلى ذلك، وهي تنطبق على المحتوى الذي ينشئه المستخدم. إن هذا التجاوب هو المقياس المباشر لـ “نجاح” منشور معين، الذي يسمح بإجراء مقارنات في الشعبية بين المنشورات وناشريها.

كان ديبور محقًا؛ انفصال المظهر عن الواقع يمكن أن يسبب ضررًا عميقًا

علاوةً على ذلك، عندما يأتي التجاوب، لا يُبلَغ به المستخدم على الفور، وإنما يتلقى إشعارات على شكل زرٍ لامع أو صوت مثير يؤخر اكتشاف الطبيعة الدقيقة للمحتوى الوارد. وقد ثبت أن الإجراء البسيط المتمثل في الضغط على زر للكشف عن المعلومات يؤدي إلى إثارة السلوك القهري والاستفزازي، وتضيف الميزات المطورة حديثًا على الهواتف الذكية طبقات إضافية من الترقب. فعلى سبيل المثال، ميزة “التمرير السريع للتحديث swipe to refresh” في مستجدات news feed تطبيق الفيسبوك، حيث يقوم المستخدم بتمرير الشاشة بإصبعه لتدفق جديد للمعلومات، هي إجراء مشابه على نحو مذهل لسحب ذراع ماكينات القمار في نوادي القمار. ففي الحالتين، لا يعرف المستخدم على وجه اليقين نوع المحتوى الذي سيتواجد فجأة إلا بعد أن يمرر الشاشة. هذه الميزة، إلى جانب حقيقة أن مستجدات الفيسبوك أصبحت الآن غير محدودة، أدت إلى وصف التطبيق بأنه «كوكايين مفرقع crack cocaine سلوكي».

 
من الجدير بالذكر كيف يزيل الفضاء الرقمي القيود الزمنية والمكانية التي تحكم التفاعل العادي بدون إنترنت، مما يوفر زيادة مفرطة للجِدة والفاعلية غير المتاحة ببساطة في العالم الحقيقي. بل إن الصفحات الشخصية على الإنستغرام متوسطة النجاح يمكن أن يكون لها ما بين أربعين ألف إلى مائة ألف متابع؛ ويمكن للمستخدمين تبادل الرسائل المباشرة على الفور مع أشخاص قد يكونوا غرباء تمامًا عنهم؛ وعندما يشعر المستخدم بالملل من المحتوى الذي يتفاعل معه حاليًا، تؤدي تمريرة سريعة أو رسالة إلى إنشاء محتوى جديد ومثير وغير متوقع. إن هذه الميزات الهيكلية – التي تثير عن قصد حالات توقعية وتسهّل إمكانية شبه نهائية للجِدة – هي شيء غالبًا ما تفشل التوصيفات الانكماشية deflationary accounts لإدمان وسائل التواصل في التعرّف عليه. 


كان ديبور محقًا في قلقه بشأننا: إذ يمكن أن يتسبب انفصال المظهر عن الواقع في ضررٍ عميق لرفاهيتنا، ويدفعنا إلى ارتكاب أفعال متطرفة. ربما انشغال ديبور بتلك المخاوف يمكن تخليصه على نحو أبلغ بالشعار الإنترنتي: “اعرض صور الحدث وإلا هو لم يحدث”: فالخبرات نفسها تتشكل بالكامل بظهورها المنتشر عبر الشبكات الاجتماعية. علاوة على ذلك، أدرك ديبور أن هذه الأضرار لا تنشأ من الفراغ. فلا تكمن خطورة وسائل التواصل الاجتماعي في عدم أصالة المحتوى فحسب، بل في قدرتها على السيطرة علينا. هناك قوة شديدة تدفع التصميم المدروس لوسائل التواصل الاجتماعي، وهي إمكاناتها الهائلة لتحقيق الربح. وكما كتب زعيم التصميم نير إيال Nir Eyal في Hooked (2014): «تجد الشركات على نحوٍ متزايد أن قيمتها الاقتصادية تعتمد على قوة العادات التي تخلقها». 


إذا اتضح أن الانخراط في المحفزات المفرطة يمكن أن يؤدي إلى حالات مثل الإدمان والاكتئاب، وطالما بقي الوضع على أن المزيد من الانخراط يعني المزيد من الربح، فسيكون لمصممي وسائل التواصل الاجتماعي مصلحة فعلية في تنفيذ التصميمات التي تقود إلى البؤس البشري. تضيف هذه الصورة العلمية الناشئة إلى الاجماع المتزايد أن المحفزات المفرطة الرقمية تشكّل تهديدًا لرفاهيتنا – وترفع من وزن تلك الأصوات التي تدعو إلى التغيير في كيفية تصميم وسائل الاجتماعي وتشغيلها وتنظيمها. 

الهوامش 

* مارك ميليرس Mark Milleris: فيلسوف إدراكي cognition. وبحثه يستكشف ما يمكن أن تخبرنا به التطورات الحديثة في علم الأعصاب عن سعادة الإنسان ورفاهيته، وما يعينه العيش الطيّب في عالمنا الذي يتزايد فيه التوسط التكنولوجي. 

* ميليرس عضو في مشروع الاتحاد الأوروبي “Horizon 2020″، المسمَّى اختصارًا XPECT، وهو أستاذ مساعد في “مركز الطبيعة البشرية والذكاء الاصطناعي وعلم الأعصاب”، بجامعة هوكايدو Hokkaido في اليابان.

* بن وايت Ben White: خريج المشروع الرائد “العقل واللغة والإدراك المتجسد Mind, Language and Embodied Cognition” (MSc)، بجامعة إدنبرة، وسيلتحق قريبًا بجامعة ساسكس Sussex كمرشح للدكتوراة بتمويلٍ من مؤسسة ليفيرهيوم Leverhulme، حيث سيركز بحثه على علم الأعصاب والتكنولوجيا الرقمية. 

 1- أو “التبدّي”، كما هي ترجمة الأستاذ أحمد حسان للكلمة في الترجمة العربية للكتاب (الفقرة السابعة عشرة) (المترجم).

المصدر

(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).

تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.