نيتشه والضحك:فتوى فلسفية من أجل الضحك | محمد صلاح بوشتلة

تستغرق 46 دقائق للقراءة
نيتشه والضحك:فتوى فلسفية من أجل الضحك | محمد صلاح بوشتلة

المقالة الفائزة الأولى في مسابقة معنى (فلسفة الكوميديا)


لم يكتف بمحاولة إقامة فلسفة للضحك فقط، وإنما قاده الأمر لصياغة تاريخ فلسفة جديد، يقارب عبره كل شيء بالبُعد أو القرب من الضّحك، مُكوّنًا مواقفه من الفلاسفة بحسب علاقتهم بالضّحك، الشّيء الذي ألجأه إلى إقامة تراتبية للفلاسفة ولقيمة فلسفاتهم انطلاقًا من نوعية ضحكهم. هكذا سيصير الضّحك مع نيتشه أساسيا في الفلسفة وتاريخها، بحيث صار من غير الممكن التّغاضي عنه في قراءة أي فيلسوف والحكم على منجزه الفلسفي، فالقادرون على الضّحك الذّهبي يجب وضعهم في أعلى هم الفلسفة، إلى أن تصل الأمور إلى الفلاسفة الذين جعلوا من الكدر وتقطيب الجبين وجهًا لفلسفتهم، وهؤلاء لا ينبغي أن يكونا حتى ضمن قاعدة هرم الفلاسفة، كما حالة هوبز، هذا الإنجليزي ذي الدّم البارد، الذي ذهبت به جِدّيته إلى حدود محاولته الدّنيئة خدش سمعة الضّحك، والتّخسيس منه، باعتباره للضحك عاهةً صفيقةً قد تطرأ على الطّبيعة البشرية. ناصحًا الفلاسفة، بكل ما أوتي من وقاحة، بأن يجتثوا الضّحك من برنامج عملهم، مستنكرًا، في نفس الوقت، أن يدخل الضّحك ضمن دائرة عمل فيلسوف يحترم نفسه.

بعد توبيخ قاس لهوبز، على شكل فركة أذن، سيؤكد نيتشه نكاية في هوبز مرة أخرى على أنه ليس الفلاسفة الجيدون من يتقنون الضّحك، وإنما حتى الآلهة اليونانية هي نفسها لا تكف عن الضّحك من الأشياء التي نظنها في منتهى الجدية وضبط النّفس، ولهذا كان نيتشه يسخر ويضحك حتى وهو يعالج موضوعات كانت ذات أهمية بالغة عند كل الفلاسفة، غير مهتم بأن يصلح له النّاس أخطاءه التي يقع فيها، ما دام يعترف بأنه على صواب قليل، وهذا يكفيه، لكن ما هو متيقن منه وعلى ثقة أنه صواب هو أن يضحك، إذ من “يضحك اليوم جيّدًا سيكون آخر من يضحك”[1]، من هنا كان دولوز يُنبه من يَدَّعون أنهم قرأوا نيتشه من الفرنسيين، بأنهم إن كانوا لم يضحكوا وهم يقرؤونه، فإنهم لم يقرؤوه أصلًا، إذ كان عليهم ألّا يتوقفوا عن الضّحك، ولهذا فقد استقبله كثير من الفرنسيين، قبل دولوز وبعده، كفيلسوف للضحك وعدم الجدية.

إذا كان من مميزات الرّجل الحكيم التّوقف عن الضّحك، أو على الأقل الاقتصاد في هذا الفعل، وألا ينفجر ضاحكًا أمام كل موقف، حتى وإن استدعى ذلك الانفجار قهقهة، فنيتشه يُعلنها صريحة على لسان نبيه زاردشت: “لقد أتيتكم بشرْعة الضّحك فيا أيها الإنسان تعلم كيف تضحك!”، إذ لم يكتفِ بالحديث عن الضّحك، بل حاول أن يكتب بأسلوب ضاحك، يُضحك من الجميع، ويستصدر فتاوى فلسفية عن جدوى الضّحك من داخل الفلسفة وتاريخها، من هنا كان يطيب له أن يُعلن بأنه وحده، بين كل الفلاسفة، من توج نفسه على مماليك الضّحك، وأعلن الضّحك مقدسًا في حقل الفلسفة، لذا ففي غير ما مرة يسوّق لنا نيتشه صورة شخصيته المفهومية الأبرز زاردشت، وهو يضحك ويقهقه بقوة على طول هكذا تكلّم زاردشت.

 سنجد زاردشت يضحك ويقهقه بقوة من أعدائه وخصومه، بل وحتى من أتباعه القدامى والجدد، ومن السّاسة ورجال الدّين، وكل من يتقاضون ثمن فضيلتهم، ويطالبون بالجزاء، طامحين إلى امتلاك موطئ قدم في السّماء، بدلًا من أماكنهم التي على الأرض[2]، ويشتد ضحك زاردشت من الرّعاع وممن يعد نفسه من سادة القوم، فيضحك في وجه رجل من العظماء الأجلاء الذين يكفِّرون من أجل الرّوح، هازئًا بقبحه[3]. ويضحك دون خشية من أحد، ويزداد ضحكه ممن يستغرب سبب ضحكه[4]، ويضحك أمام جميع المواقف المريعة والصّادمة، لا يهمه شيء، فهو وبقلب مصدوع، ودون أن يعلم ما يهيب به إلى الضّحك، وبالرّغم من ارتياع قلبه واصطكاك أقدامه فهو يقهقه[5]. ويضحك حتى من نفسه، ناصحًا أتباعه بألا يبالوا إن هم أقدموا وضحكوا من أنفسهم، ما دام أنهم نماذج فاشلة أو نصف فاشلة[6]. مُعلنًا أن أحد شروط أن تكون من أتباع حكمته هو كونهم لا يضحكون فقط، بل ويتقنون الضّحك. لتكون هذه ليست حياة شخصيته المفهومية زاردشت فقط، بل سيرة حياة نيتشه نفسه الذي كان ينام جيّدًا ويضحك كثيرًا[7]، خاصةّ وهو يشهد على نفسه بكونه مفعم بالشّك والسّخرية تجاه ما يسمى بالمثل العليا[8]. وبالتّالي في حاجة دائمة لأن يضحك. فما نحن في الأخير ضمن مجريات هذه “الحياة إلا جلاس مائدة كبرى للسخرية والمقامرة”[9].

طفلة غجرية ضاحكة | روبرت هنري
طفلة غجرية ضاحكة | روبرت هنري

يبقى الضّحك عند نيتشه في منزلة الكنز النّادر أو الذّهب أحد أثمن معادن الأرض، لهذا ففي حديث زاردشت لأتباعه عن الكلب الذي يتكلّم من قلب الأرض، والذي لهاثه من ذهب، و”قهقهته تنتشر كأنها سحاب يزهو بعديد ألوانه”[10]، يصفه بأنه كلب لا يصيد من قلب الأرض الذّهب فقط، وإنما الضّحك أيضًا[11]. ليكون الذّهب أحد كنوز تحت الأرض، كما الضّحك هو كنز ما فوق الأرض، وأحد كنوز فلسفته الأعظم، وعُملته التي يتصارف بها مع كذا فيلسوف، وليكون أيضًا الكرباج الذي يجلد به نيتشه وزاردشت أعداءه ويصرعانهما به، وهو أيضًا التّعويذة التي تُلهم مناصريه وأتباعه، هؤلاء الأتباع الذين كانوا يعرفون مُعلمهم زارادشت من خلال قهقهاته المفعمة بالحياة، إذ نجد أقرب أتباع زاردشت وهو يصف الأخير فيقول: “أفليس زارا يجتاح اللّحود مقهقهًا كالأطفال ساخرًا بالسّاهرين على القبور الخافرين لها، مستهزئًا بكل من تقرقع المفاتيح في أيديهم. لسوف يذعر هؤلاء الناس منك فيطرحهم ضحكُك أرضًا فيُغمى عليهم، ثم ينتبهون وبذلك يثبت عليهم سلطانك” [12].

في خضم هذه الدّعوات لمناصرة الضّحك والفرح، يمكن الجزم أن نيتشه وشخصيته المفهومية زاردشت لم يكونا ليغفرا لمن كان سببًا في كآبة البشر، ممن أصدروا القرارات والفتاوى تلو الأخرى ضد الضّحك والفرح من المحسوبين على الفلسفة وعلى الدّين، حيث يجزم نيتشه بالقول: “إن أعظم ما ارتُكب في العالم من أخطاء هو قول القائل: «ويل للضاحكين في هذه الدّنيا.» فإن من جاء بهذا الإنذار قد قصَّر في التّفتيش فما وجد على الأرض شيئًا يستحق الضّحك[13]. والدّليل أن الأطفال بعقولهم البريئة وحسّهم العفوي غالبًا ما يجدون ما يُضحكهم في مجريات حياتهم العادية[14]، فما يُضحك في هذا العالم هو أكبر مما يُبكي. ولأن في الفلاسفة شَبه كبير من الأطفال، فإن ضِحكاتهم، بحسب نيتشه، غالبًا ما تنتهي بكُتب مهمّة، ولنتذكر هنا ضحكة فوكو الطّويلة والقوية من نَصّ قصير لخورخي لويس بورخيس[15]، يتحدث فيه عن موسوعة صينية تصنّف الحيوانات تصنيفًا غريبًا، تصنيفات تُظهر العلماء الصّينيين باعتبارهم جماعة من السّذج وغريبي الأطوار، ليخصص لنا فوكو قرابة 400 صفحة من عمله: الكلمات والأشياء الذي سيكون من أهم ما كتب في القرن الذي مضى.

اعترافًا بالخدمة الجليلة التي تلقاها أتباع زاردشت من الأخير، والتي ستتلقاها البشرية من بعدهم وهي شرعنة الضّحك وبيان جدوى إعادة تعليم النّاس كيف تضحك بقوة ودون خجل وخوف من أحد، يقول أحد أتباع زاردشت: “لقد اطلعت لنا كواكب جديدة في الآفاق، ونشرت من اللّيل ما كنا نجهله من البهاء، والحق أنك مددت الضحك فوق رؤوسنا، فأظلَّنا بعديد ألوانه، فمنذ الآن ستتعالى قهقهة الأطفال من النّعوش وستعصف من الجهود القاتلة الرّيح التي نتوقعها”[16]، هذه المهمة الصّعبة بالقياس لحجم المعاناة والحزن اللذين كان الضّحك أمامهما مبعدًا وملعُونا بفتاوى الكنيسة، ليكون اجتهاد زاردشت في بيان أن الضّحك هو أحد مناسك التّفكير وشرائع الفرح البشريين في الماضي كما في المستقبل، يقول: “لقد عرضتُ لأنظار النّاس كواكب جديدة ولياليَ لا عهد لهم بها، ونثرتُ الضّحك على غيوم اللّيل والنّهار فضربت قبَّة زاهية بعديد ألوانها. علَّمت الناس جميع أفكاري وأبنت لهم جميع رغباتي؛ إذ أردت أن أجمع وأوحد ما في الإنسانية من بدد الأسرار وتصاريف الحدثان، فقمت بينهم شاعرًا أحل الرّموز وأفتديهم من الصّدف العمياء؛ لأعلمهم أن يبدعوا المستقبل وينقذوا بإبداعهم ما انصرم من الأحقاب”[17]. فالقادم يحبل بالأبطال، وبكل ما يضحك[18].

  بما أننا، بحسب نيتشه، صرنا إلى عصر مثقف فيما يخص الأزياء والكليشيهات الخاوية، فإنه يبقى عصرًا لا يليق به إلا الاحتفال التّنكري الذي يكون فيه الضّحك والتّهريج سيد الموقف، على منوال سخرية وتهكم الإغريقي أرستوفان من عصره، فمع السّخرية والضّحك يمكن أن نكتشف ملكوت ابتكاراتنا، لهذا وإن لم يكن لأي شيء حاضر اليوم مستقبل، فلربما للضحك بالذّات مستقبل باهر عند نيتشه![19]. إن المستقبل للضحك والدّعابة والأرواح المرحة، أما الكدر والوجوه الحزينة فلا مستقبل لهم ويكفيهم ما هم فيه من تعاسة. إلا أنه وبالرّغم من أن نيتشه يرى المستقبل للضحك، فإنه يسجل تخوفه من أن “يأتي زمن يُفتي الجنس البشري أنه: «يوجد شيء ما لا يستحق أن نضحك منه!» وصديق الجنس البشري، الأكثر تبصرًا سيضيف: «ليس الضّحك والحكمة المرحة فحسب، هما ما يرد ضمن عدد وسائل وضرورات حفظ النّوع، بل المزاج التّراجيدي أيضًا بغباوته التي لا توصف!”[20]، ليظلّ الضّحك دومًا ناجعًا للإصلاح من لدن كل العباقرة الذين كان مرغوبهم هو إسعاد العالم، ورسم ضحكة كبيرة على محيا كل حضارة وأهلها، كما حالة العبقري الفنان الذي يستقر مرغوبه دومًا في “أن يخلق الفرحة، لكنه حين يبلغ مستوى راقيًا لا يجد النّاس قادرين على الاستمتاع بتلك الفرحة؛ إنه يُقدم غذاء، لكن لا أحد يقبل عليه. هذا ما يُضفي عليه في بعض الأحيان شجوا مؤثرًا ومثيرًا للسخرية في آن واحد، لأنه لا يملك الحق في إرغام النّاس على السّرور. سبابته تعزف، ولكن لا أحد يرغب في الرّقص”[21]، فيُعقّب نيتشه مستنكرًا “أيكون هذا مأساويًا؟”[22]، بالطّبع إنه عند نيتشه مأساوي، وبشكل غير محتمل.

  فضْلُ الضّحك على الكائن البشري كبير، ما دام بقدرته وحده أن يجعل منّا أُناسًا حقيقيين بأنامل وأحاسيس، لا بحوافر وأحشاء، يرتقي بنا من مرتبة الوحوش الـغضبية والمكشرة إلى مرتبة الكائنات الآدمية الودودة، لا بل وقد يرتقي بنا إلى مراتب ما فوق البشر، فيقول زاردشت عن الرّاعي الذي تبدّلت هيئته: “لم يعد راعيًا حتى ولا إنسانًا؛ إذ جلّله إشعاع ضحكته التي لم يسمع زاردشت بمثلها من قبل، قائلا: “لقد سمعت يا إخواني ضحكة ليست من عالم الإنسان، ولم أزل منذ ذلك الحين أحترق بشهوة لا أجد ما يُطفئها. إن شهوة هذه الضّحكة تنهش أحشائي فكيف أرضى الموت بعد الآن[23]، فقد أُعطي للإنسان، حينما قُذف به إلى هذا العالم، أن يجتاز نفسه وعالمه بطرق ووسائل عديدة، فما عليه بحسب نيتشه إلا أن يتجه للوصول، “وليس غير الممثل المضحك من يقول بإمكان التّفوق على الإنسان طفرًا وقفزًا”[24]، لهذا فكما يمكننا أن نعدَّ كل يوم مرّ بحياة الكائن الآدمي دون أن يرقص، ولو مرة واحدة، يومًا مفقودًا وغير محسوب، يجب أن نعتبرْ كذلك، كل حقيقة لا تستدعي، ولو قهقهة ضحك، بيانًا باطلًا[25] وحقيقة متهتكة وممسوخة.

الإنسانية تحتاج بحسب نيتشه لمن يُعلِّمها كيف تضحك، فكل رفيق قد يُسَبّب الكدر لبقية رفاقه، بشكل قد يُوقف غُدتهم الصّنوبرية عن العمل، ويزيد من حموضة أمعائهم، لأنهم لا يُتقنون أساليب الضّحك، ولأنهم لم يتلقوا أي تربية في هذا الصّدد، لهذا فهم بحاجة إلى من يُعيد ضحكهم إليهم. إنهم يحتاجون مصلحًا عظيمًا، أو بالأحرى رجل مرح، ناهيك أنه يعرف الرّقص، فقد استولى عليه الجنون كذلك[26]. رجل نصّب نفسه ملكًا للضحك، تمامًا كما زاردشت الذي يقول ممتدحًا نفسه: “أنا المتوِّج نفسي ملكًا على الضّاحكين بإكليلٍ ضَفَرتْه من الورود يداي، وليس سواي من يقوى على تطويب ضَحِكه كما فعلت”[27]. وهو وحده من يقلد أتباعه أوسمة وتيجان الضّحك[28]، فمن سيتسيدون العالم هم الأكثر جرأة على الضّحك “والذي يضحك اليوم بصفة أفضل، سيكون هو الذي سيضحك في النّهاية”[29]، وهو من سيضع على صدره نياشين الانتصار على القوى المضادة للفرح والحياة.

الإنسان لم يخلق ليكون جِديا على مدار يومه، إذ يجب أن يكون ثُلثا يومه للفرح، وإلا ستكون سيرته كومة معاناة وجفاف تتشقق منها شفتاه قبل دواخله الحزينة. “إنه لمن الضّروري أن نروح عن أنفسنا، من حين لآخر لصالح الفن الذي يُمكّننا من تأمل أنفسنا، من أعلى، وأن نضحك علاوة على ذلك، من أنفسنا أو نبكي علينا: أن نكشف البطل، وكذلك البهلول اللذين يختبئان في شغفنا للمعرفة”[30]، فعلى النّاس أن تتلقى تربية تعترف بالضّحك مسلكًا لتربية الإنسان المتمدن والمتفوق، وتعترف به كأحد مداخل فهم كهوف أنفسنا، واستيعاب هذه الحياة المليئة بالأحابيل والفِخاخ، وإلا سننتج شعبًا ثقيلًا على القلب والرّوح، لا يمكن تقبله، شعبًا سيجلب الكآبة لكل أوربا. شعب حزين وأخرق، لذا سيبقى الألماني عند نيتشه وحشًا أشقرًا يأكل دواخله الحزن، ويشرب الفَقْد من جمجمته دموعًا متأججّة، وحشًا تنقصه كي يترقى إلى مرتبة الرّجل المتفوق إحدى أعظم وسائل التّربية وهي “ضحك الرّجال المتفوقين”[31].

ينتهي نيتشه إلى ملاحظة أساسية تُؤكد غياب هذه الطّينة من الرّجال المتفوقين؛ وهي أن النّاس في ألمانيا لا يضحكون[32]، فمن يحيا بمرح يجب أن يضحك بمرح! ومن يمهر في أن يضحك جيدًا سيحيا بالتّأكيد جيدًا[33]، أمّا من يسعى إلى الجدية المزعومة للعقل، فهو فقط يُربك العقل الذي يظل أخطر آلة مُربكة وكئيبة في هذه الحياة. والحديث عن التّقليل من الضّحك، و«حمل الأشياء محمل الجد» تُفقد الإنسان بهجته، وأسهمت في إفقاده حُبوره، كلما شرع في التّفكير جيدًا! واتهام الضّحك والمرح بأنهما يجعلان الإنسان يُفكر عشوائيا، وبشكل عديم الفائدة، يبقى اتهامًا مريضًا، يأخذ شكل حُكم مسبق ليس إلا [34]، لذا يُلقي نيتشه باللائمة على الفلسفة المثالية الألمانية التي علمت على إذكاء روح احترام القيم والحقائق المطلقة غير المشروطة، الشّيء الذي أوجد مسافة كبيرة بينهم وبين أن تكون لهم روح ساخرة أمام قناعاتهم أولا، وأمام القناعات المقدّسة لأسلافهم، وهذا ما أصاب في مقتل حيوية العقل الألماني وجرأته، وشلّل إمكانات الجامعة في ألمانيا، هذه الأخيرة التي كان يراها امرأة عجوزًا محافظة، غير أنها مثيرة للسخرية، بشكل مقزّز.

حاول نيتشه أن يجعل من الضّحك بُعدًا إنسانيا أصيلًا في الذّات البشرية، فهو أبعد ما يكون على أنه مجرّد سلوك إنساني عادي، لا يمكن حتى التّنبيه على قيمته، وإنما هو كذلك نقطة أساسية لتقييم مؤسسات وطنية بغية إصلاحها، وسببًا للتنقيص من مواطني دولة والتّهجم عليهم. لهذا فليس الألمان وحدهم من ذهبوا ضحية عدائهم للضحك، لصالح جديتهم، وإنما حتى الفرنسيون الذين منعتهم جديتهم المفرطة من تذوق الفكاهة، وخاصة تلك الطّريقة الفكاهية في تناول الفكاهة ذاتها[35]، حتى ولو وجدنا نيتشه يأسف في سياق آخر، لاضطراره إلى الكتابة باللغة الألمانية، بدلاً من لغة موسيقية مرنة ومرحة مثل الفرنسية. إن الشّعوب الأوربية ككل، إنّما تنقصها كثير من الدّعابة، لتكون على أكمل حال، كما يريدها نيتشه، أي أن تكون في بهجة ومرح دائم، تمامًا كما أهل المدينة التي تحدث زاردشت إلى سكانها غير المبالين بأن يصيروا رجالًا خارقين ومتفوقين.

إذا ما اعتبرنا أن الملك هو الأكثر جدية في الدّولة أو ما يطيب لنيتشه تسميته بأعظم حيوان عرفه العالم، وإذا ما رغب جلالته في أن يسمع الحقيقة كاملة، على الرّغم من كل شيء، فيجب أن يستأجر مضحكًا أو مهرجًا، إذ هو الشّخص الذي يمتاز بجنون عدم القدرة على التّكيف[36]، في حين أن بقية من يحيطون به، ممن يمتازون هم الآخرون بالجدية؛ من وزراء وسَاسَة هم من يُزورون لون الوقائع ودرجتها، ويحذفون أو يضيفون بعض التّفاصيل، ويحتفظون لأنفسهم بما لا يريدون تكييفه، لأجل أفق توقع السّيد الحاكم. ففي الأشياء السّاخرة يكفي أن ننظر إليها مليا لنكتشف ضروب الجدية المتجذرة فيها، فالجدل الذي كان ضربًا من التّهريج السّخيف، بحسب نيتشه؛ يضحك النّاس منه، ولا أحد يأخذه بجدية، سيضطر سقراط المهرج والسّاخر النّاس ليأخذوه بجدية[37] تامة، بمحاكمته، على الرّغم من أنّ سقراط كان يهوى محاورة النّاس بأساليب غير جدية. إن الضّحك، وإن كان دون الجدية غير المرجوة منه أصلًا، فهو يكشف حقيقة الواقع، ويفضح حقيقة النّاس، فمثلا “الطّريقة التي تضحك بها المرأة، واللّحظة التي تضحك فيها، هما علامة ثقافتها، وصوت ذلك الضّحك يكشف طبعها، بل ربما يكشف، لدى النّساء العاليات الثّقافة، تلك البقية الباقية من طبعهن التي يتعذر إنقاصها. لذلك قد يقول أخلاقي مثل هوراس، ولكن لسبب آخر: اضحكي أيتها الفتاة”[38]، فالضّحك عند نيتشه قيمة بشرية نابعة من الذّات، وصادرة عنها، ففيما مضى كان “النّاس يسألون: ما الذي يضحك؟ كما لو كانت خارجنا أشياء من خاصيتها الإضحاك وننهك أنفسنا في تخيلها”[39]، كما أن الضّحك ليس كما يزعم “أحد علماء اللاهوت، أن ما يجعلنا نضحك هي «سذاجة الإثم»[40]“، إنه فعل مشرف لأي إنسان يود أن يكون تراجيديًا حقيقيا وكبيرًا، تراجيدي وقد بلغ أوج اكتماله، ككل فنان، بأن يغدو من خلال الضّحك قادرًا على النّظر من فوق إلى فنه، وأن يغدو قادرًا على الضّحك حتى من نفسه[41]، ناهيك عن الضّحك من العالم كما يثبث ذلك في جينيالوجيا الأخلاق، وهذا كان ديدن سقراط الذي استمات في السّخرية من أهل أثينا والضّحك منهم، إلى أن وصل به الأمر إلى أن يسخر من نفسه هو ذاته.

مع نيتشه علينا أن نضحك على كل من لا يستطيع أن يضحك على نفسه، ليعلن الضّحك برنامج عمل الفيلسوف الجيّد، وسِمةً مميزة للتفلسف عامّةً، فكما تُعلمنا الفلسفة كيف نستقبل الموت؟ وكيف نتجهز له، فإنها تربي فينا المقدرة على الضّحك على أنفسنا أيضًا. فمن أراد أن يتفلسف يلزمه تحمّل ضحكة الخادمة في محاورة ثياتيتوس ضد طاليس الفلكي الكبير والخبير العسكري، لكن من يقرأ نيتشه ينتبه إلى أنه لا يتمتع بروح الدّعابة اتجاه نفسه وأمام الآخرين. نعم يتمتع نيتشه بفيض من السّخرية اتجاه الآخرين من فلاسفة ومراحل تاريخية بأسرها، لكنه يُعاني جفافًا حادًّا في السّخرية من نفسه، لهذا لا غرو أن يُعنون فصول كتابه السّيري بهذه العناوين المفعمة بالجدية في الحديث عن الذّات: “لِم أنا على هذا القدر من الحكمة؟” “لماذا أكتب كتبًا جيدة؟” و”لِم أنا على هذا القدر من الذّكاء؟”.

لأنه رتّب الفلاسفة، بحسب قدراتهم في صناعة الضّحك، وإجادة استخدامه، سنجد نيتشه يمتدح كثيرين بسبب تلك المقدرة، ويَعدّهم أقاربه الرّوحيين الأشد صدقًا وأناقة، والذين وحدهم من بين جَمهرة المنتسبين لعالم العباقرة من يستحقون أن يَعرض عليهم أفكاره، ويُبرر لهم اختياراته الفكرية، إذ ليس كل الكُتاب والفلاسفة على حدّ سواء عنده، ما دام المؤلفون شديدو النّباهة يتميزون عن قليلي الحيلة، ومنعدمي الذّوق، بأنهم “يُثيرون أشدّ الابتسامات خيفة”[42]. إنهم قادرون على استجلاء الأفكار كما القهقهات الكبيرة من الأفكار الصّغيرة التي تثير ضحك وسخرية قليلي الذّكاء، فتصير بين أيديهم “ذات قيمة كبيرة في نظر إنسان نابغة، فذلك لأنها، بالنّسبة له مفتاح كنوز مخفية، وبالنّسبة لهم هي جزء خردة قديم لا غير”[43]. إن الفيلسوف، في هذا الصّدد، يُشبه المهرج الذي يخرج من قبعته شيئًا جديدًا بالمرة، فعوض أن يخرج أرنبًا كعادة باقي المهرجين والسّحرة، يخرج هو فيلًا.

 قليلون هم الفلاسفة الذين انتزعوا اعتراف نيتشه بإمكاناتهم الحكمية القوية، فمن الإغريق أو جمهورية العباقرة؛ كما اعتاد نيتشه على وصفهم، نجد حالة يوربديس الذي “كان على الدّوام جريئًا ومبدعًا”[44]، خاصّة وهو الذي “تجرّأ على التّعبير بصوتٍ عالٍ، على لسان الأقنعة الترّاجيدية، على كثير من الأفكار التي كانت تخترق مثل السّهام عقل الجماهير التي لا تتخلص منها إلا بواسطة السّخرية المضحكة”[45]، فأخطر الانتقادات الفلسفية السّامة قد تتم بطريقة ساخرة ومستفزة، إن لم تكن شديدة الوقاحة بحيث تبلغ قمة قبح الفلاسفة! لهذا نجد نيتشه يعترف بأنه لم يعرف في تاريخ الفلسفة شيئًا أسَمَّ من السّخرية التي وجهها أبيقور إلى أفلاطون وجمْهرَة الأفلاطونيين، عندما سمّاهم خدام ديونيزوس أو «مدَّاحي ديونيزوس»[46]. ليظل من أسباب حقد نيتشه على أفلاطون؛ كبير خُدّام ديونيزوس، أنه أول من نبّه، وبشكل مبكر، إلى خطورة الضّحك، وحاول بكل ما أُوتي من مكر أن يحاصره، ويقزّم من استعمالاته اليومية، لأن الضّحك قد لا يكون سببًا في فقدِ الرّجل هيبته فقط، بل قد يُفقده حياته كما حالة الفيلسوف اليوناني الكثير الإنتاج خريسيبّوس الذي قضى نحبه، بعد أن انتابته نوبة ضحك قوية، بعد أن التهم حمارٌ، ما كان في حوزته من ثمرات التّين. هذا دون أن ينسى نيتشه أن الضّحك كان سببًا من أسباب طرد الشّعراء من جمهورية أفلاطون، فبسبب الضّحك صار الشّعراء شوكة في حلق عريض المنكبين أفلاطون، لا فقط بسبب تصوِيرهم ضحك الرّجال الصّالحين والآلهة، بشكل يمكن أن يكون له تأثير قبيح في تعليم الشّباب، ولكن لأن أفلاطون الذي لم يُشَاهد يومًا يضحك بإفراط، كما يحكي عنه ديوجنيس اللائريتي، سيجعل منه شعراء الكوميديا أضحوكة لكل أثينا في كثير من أشعارهم، ليحقد أفلاطون، من ثمة، على الشّعر والضّحك ويمنعهما من دخول مدينته[47]، وليحقد حتى على الفلاسفة أصحاب الدّم الخفيف من قبيل ديموقريطس الذي يفاجئنا أفلاطون برغبته الصّادمة في أن يضرم النّار في مؤلفات هذا الفيلسوف الضاحك والمبتهج ديموقريطوس، لولا تدخل فيلسوفين فيثاغورثيين حالا بينه وبين هذه الفعلة، فاكتفى أفلاطون – الذي ذكر تقريبًا جميع الفلاسفة القدامى – بألا يذكر إطلاقًا ديموقريطس، حتى عندما كان الأمر يستلزم ذلك[48]، كما يُنبهنا ديوجنيس، في حين نجده يُعنون محاورة كاملة باسم بروتاجوراس ناسخ كتب ديموقريطس، هذا الأخير الذي تمكن بكتابه العالم الكبير (Megas Diakosmos) من انتزاع مديح الفيلسوف الهجّاء تيمون، وثنائه، وتمكن من أن تكون له جنازة مهيبة بين أهل مسقط رأسه الذين يقضي قانونهم بعدم دفن من قام بتبديد ميراث والده. فكان احترام أفلاطون لتلميذ ديموقريطس، واستخفافه بمعلمه الذي كاد أفلاطون يضرم النّار في كتبه[49].

لا ينبغي أن ننسى تنبيه نيتشه إلى موهبة الأفّاق سقراط، وهي موهبة الجدلي الفائقة، والتي لم تكن غير إتقان الضّحك من الآخرين، فما فعل سقراط خلال “حياته كلها غير السّخرية من بلاهة ومن عجز سكان أثينا النّبلاء، أصحاب الغريزة كسائر الأرستقراطيين، الذين ما عرفوا يومًا كيف يحللون مبررات أفعالهم بما فيه الكفاية؟ لكنه انتهى سرًّا وخفية إلى السّخرية أيضًا من نفسه”[50]، فهو وإن كان يشعر “أنه مكلف برسالة إلهية”[51]، إلا أن نيتشه رأى فيه “ظلا من سخرية أثينية ومن ميلٍ إلى الدّعابة ينكشف”[52]. وعبر السّخرية كان سقراط يحمل في يده سلاحًا حادًّا، لا يرحم، أشبه ما يكون بطعنات سكين يُعري، غير أنه يهين، ويُسف بالآخرين كذلك، بشكل يدع لخصمه مهمة البرهنة على أنه حقير وغبي، في صيغة فلسفية تشكل أحد أخطر أنواع السّخرية والضّحك من جهل وبلاهة المحاور.

نيتشه يضحك - صورة بالذكاء الاصطناعي
نيتشه يضحك – صورة بالذكاء الاصطناعي

لقد تعوّد سقراط بشكل فظيع على السّخرية والضّحك، لا من ساكنة أثينا المميزين فقط، بل ومن ذاته[53]، وبشكل متحرر، ودون نقص أو وَجل، فقد كان كل شيء لدى سقراط مُبالغًا فيه، و”غريب الأطوار، وساخر، إنه مُهرج بغرائز فولتير. لقد اكتشف شكلًا جديدًا من القتال”[54]، الشّيء الذي قاد نيتشه إلى الخروج بنتيجة كون سقراط بقي “أفضل من يتقن استعمال السّلاح في مجتمع أثينا المتميز”[55]. إنه سلاح الضّحك والسّخرية، فحتى، وهو مقبل على الموت، يعترف بأن كلامه يبعث الضّحك في النّفوس[56]. فسخريته وتهكّمه هما اللذان كانا يخلقان له الجو الطّيب للعيش بين أرستقراطيي أثينا الذين لم يكن واحدًا منهم، ما دامت عادة السّخرية، مثل عادة التّهكم “تُضفي عليه بالتّدريج خاصية من الفرح الماكر”[57]، وإن كانت تنتهي بصاحبها “بأن يُشبه الكلب الشّرس الذي تعلم أن يضحك، لأنه لم يقنع بالعض”[58]. ولا ينسى نيتشه من هؤلاء اليونانيين ممن أتقن فن السّخرية اكسانوفان الذي لم يتقوقع داخل عُزلته، كما حالة أفلاطون وهراقليطس، وإنما جابه الجمهور بسخرية وضحك متوقدين.

من الأزمنة الحديثة أُعجب نيتشه بكبار الأدب والفلسفة في فرنسا، لأنهم أتقنوا أحسن من بقية الأوربيين فن الضّحك، فكانت كُتبهم مرحة وخفيفة الظّل، لذا سيبدو شومفور في مخيلة نيتشه ذاك الرّجل الغني بأعماق وخلفيات الرّوح، لأنه كان يعتبر الضّحك ضروريًا كعلاج للحياة، ليذهب به تقديره لهذا الفعل الإنساني إلى أن يؤكد أن اليوم الذي لم يضحك فيه الرّجل هو يوم لا ينبغي عدّه من تاريخ حياة ما[59]. ومن جهة أخرى نجد نيتشه يُعلن إعجابه بشتيرن أحد سادة الضّحك الجيّدين، إذ أنه يحمل كل شيء، لا على محمل الجدية، بل محمل الهزل والضّحك، لهذا فالقارئ الذي يريد في كل لحظة أن يعرف بالتّدقيق رأيه في شيء، يصير “قارئًا تائهًا، إذا بدا وجهه أمام ذلك الشّيء جديا أو باسمًا: لأن شتيرن يعرف كيف يُعبر عن الجد، وعن الهزل، بنفس لعبة سيماء الوجه”[60]، لمزاوجته بين العمق وبين التّهريج، ولأحكامه التي تتضمن سخريةً عميقة من كل عقل حكمي، مع نفور شتيرن المتكرر من روح الجد، ليخلق لدى القارئ الجدير بهذا الاسم، وعن سبق إصرار وترصد، إحساسًا مستمرًا بعدم اليقين فيما يخص معرفة ما إن كان يمشي أم هو واقف أم مستلق؟ لذا فديدرو الذي كان عزيزًا عند نيتشه، لأنه ما امتلك حيويته في جاك القدري (Jacques le fataliste)، إلا لأنه قلّد ساخرًا كبيرًا متقنًا لفن الضّحك وهو شتيرن، أعجب بسخريته، فقلّده، وحاول أن يسخر منه، ويتهكم عليه.

 حينما يتحدث نيتشه عن الكتب التي كانت لها مكانة في حياته من العصور القديمة والتي ليس منها سوى عدد ضئيل؛ والتي لم تكن بتاتًا من مشاهير الكُتب، كان هناك كتاب واحد، جعل حسّه يستفيق أمام السّخرية باعتبارها أسلوبًا، إنما مع لحظة احتكاكه بكتابات صالوست[61] الذّكية والمضحكة. ودون أن يمنعه العداء المستحكم لرينان سنجده يُمجّد في عدوه المقيت هذا قوة عارضته في السّخرية، ويعدّه صاحب العقل الخبيث أو «المعلم الكـبير في مجال السّخـرية»، هذه السّخرية التي جعلت أسلوبه في كل ما يكتب يصادق الحبور والفرح برقة[62]، لذا “لا يخلو من تلك الابتسامة العريضة المحنّطة على وجوه الكهنة “الطّيبين”[63].كما يستثني نيتشه من الفلاسفة الذين لا يُتقنون فنّ الضّحك شوبنهاور الذي كان يمتلك سخرية غريزية تجري في عروقه، جعلها نارًا تلفح الفلسفات الأكاديمية الجادّة بشكل لاذع وفتّاك. فالكاتب الجيّد يجب أن يكتب بطريقة تجعلنا نضحك، وهؤلاء هم عظماء الكتابة الذين كان منهم فرانس كافكا رائد الكتابة الكابوسية الذي يكتب عنه صديقه ماكس برود وكاتب سيرته كيف كان المستمعون لنصّه السّيرورة يغرقون في الضّحك وهم ينصتون إليه بجدية. إن الضّحك فرح ثوري يخرج من الكتب الكبيرة كما يؤكد دولوز، وذلك عوض الحديث المتكرر عن أهوال ذنوبنا ومخاوفنا المريضة، ووساوسنا المجنونة، حتى ولو كان موضوع الكتب هو القبح واليأس والألم.

لقد أصبح الضّحك مع نيتشه وسيلة لقيام أي نقد فلسفي بنّاء ومرح. وأي محاولة من أي فيلسوف للمساواة بين الفلسفة والجدية الصّارمة تبقى مجرد فكرة قديمة، ومتهالكة، وغير صحيحة عن الفلسفة التي يتوجب أن تكون مرحة بالضّرورة، تشيع الفرح وتنشر القهقهات بين من يطالعها، لذا يرفض نيتشه الفلسفات التي تُقدّم نفسها على أنها دقيقة، وصريحة، ومنضبطة، لأنها تفتقر إلى أهم ما يجب أن تملكه أي فلسفة، وهو روح الدّعابة والضّحك، لتبقى أول خدمة نسديها كفلاسفة للفلسفة ومستقبلها أن نضحك من كل فيلسوف لم يستطع أن يضحك أو أن يضحك من نفسه. من هنا لا يعرف نيتشه كيف ينتقم من الفلاسفة الذين ادعو الجدية إلا بأن يجعل كل واحد منهم يأخذ حمامًا باردًا بالضّحك منه ومن فلسفته[64]، وبالضبط من أهم ما جاءت به فلسفاتهم، فكما يؤكد أرسطو ناقلًا عن أحد اليونانيين أن ما يجب فعله مع خصومنا هو دك رصانتهم بالضّحك، وجعل الضّحك متنفسًا للجدية التي أذكوا نارها. فالأمر المطلق! هذا المفهوم الأساسي في فلسفة كانط يبقى مجرد كلمة تُدغدغ أذني نيتشه، ينبغي له أن يضحك منها، ليبقى الضّحك هو العقاب المخصص للشيخ كانط الذي رصد «الشّيء في ذاته»، وتلقفه خلسة، ومن خلاله رصد «الأمر» المطلق، فيتصور نيتشه كانط مثل ثعلب ماكر وعجوز وتائه في قفصه[65]، ممسكًا بطنه بعلة إسهال مفاهيمي لا يكاد يتوقف إلا كي يبدأ من جديد.

نظرًا لأهميته في الفلسفة سيتمنى نيتشه أن تستمر السّخرية ومعها الضّحك في هذا السّمو المصطنع ولو بصنف ضئيل من الرّجال[66]، “هذا الصّنف الذي يجعل من نفسه مقياسًا مطلقًا لكل الأشياء؟”[67]، لا يهمه من انتكص عن مسار الضّحك والسّخرية، فأن نضحك هو أحسن جواب عن الفلاسفة النّسقيين سادة الصّرامة وأعداء الضّحك، الفلاسفة مقطبي الجبين الذين يخشون من الضّحك على أبنية فلسفاتهم المتهافتة، من هنا لم يكن نيتشه يحتمل الفلاسفة الإنجليز لأنهم صارمون بشكل لا يُصدّق، ولفضاضتهم وعبوسهم القروي صاروا لا يضحكون فقط، بل ويعلنون كرههم للضّحك، تمامًا كما حالة هوبز في محاولته الدّنيئة للإسفاف بمكانة الضّحك من داخل الفلسفة وتاريخها[68]، هذا ما سيجرُّ نيتشه ليحكم على هوبز ومن خلاله النّفس الإنجليزية بكونهما نفسان غير فلسفية، ولذا ففرانسيس بيكُون أتى معتديًا على الرّوح الفلسفي بعامة، وتوماس هوبز ومن بعده صنوه السّعيد جون لوك إنما جاءا لإذلال مفهوم الفيلسوف، وتحقيره لمدة قرن ونيف، وبالتّالي انتهاك ما بقي من كرامة الفلسفة. دون أن تنجح تلاوة الصّلوات المسيحية وإنشادات صباح الأحد في الكنيسة من أن تخفف من قسوة هؤلاء الإنجليز المخيفة. ليتوقف نيتشه عند صوغ تهمة أخرى في حق الإنجليز، بأنهم سبب الضّنك والكدر الذي أصاب أرهف الشّعوب الأوربية وهم الفرنسيين وثقافتهم، ولم يسلم منهم إلا أسماء قليلة، على رأسها: مونتين، ولاروشيفوكلود، وفونتينيل، وشومفور وفولتير والذين أبقوا على قدراتهم على انتزاع الضّحك الذّهبي من كل من يقرأ لهم، بجعله يضحك بقوة دون أن يخشى أحدًا.

على من يريد أن يقرأ، بحسب نيتشه، أن يختار الكُتّاب والكُتب التي تشيع الفرح والضّحك لا الحزن والقرح، ولا ينبغي الاقتراب من الأخيرة أو تركها في متناول القارئ القاصر لأنه ستجني على ما تبقى من يسير الذكاء الذي عنده، إن تأثيرها بغيض وكئيب على الطبع والمخيلة، خاصّة إن كانت تلك الكتب لأنصاف المفكرين، ولفنانين خُدَّج من الذين ينفثون بخار عجزهم على أعمالهم، لينتقل رذاذ هذا العجز والكآبة نحو خياشيم القارئ العريضة، خاصّة إن كان هذا القارئ من عريضي القفا وبأنف أفطس. وحتى الكُتب التي تدعي أنها تنقل لقُرائها بهجة ما، فينبغي الحذر منها، لأنها ليست لها نفس البهجة الموعودة، لاختلاف وتنوّع البهجة التي ينشرها الكاتب والمفكر الحقيقي، سواء في حالة جديّته أو سخريته، معبرًا عن بصيرته الإنسانية أو حلمه الإلهي، فهناك البهجة التي يواجهها المرء أحيانًا عند الكُتّاب المتوسطين، وعند المفكرين محدودي التّفكير، والتي تُشعرنا بالبؤس والخوف. هكذا إذن، أثرت مثلًا «بهجة» ديفيد فرديريك شتراوس في نيتشه حيث شعر بعارٍ سافر، لأن هذا النّوع من البهجة، يفضح جيله وعصره أمام الأجيال القادمة، تماما مثل البهجة التي تنشرها أعمال شتراوس التي تبعث على الغيظ، لأنها تخدع وتغوي القارئ للاعتقاد بأن نصرًا قد تحقق. وبهجة أخرى حقيقية تولّدها فينا الكُتب الحقيقية لكُتاب حقيقيين حيث توجد الفرحة حيثما يوجد الانتصار؛ ويكون محتواه مُرعبًا وجديًّا، كما كان يفعل هارمان الذي نادرًا ما قرأ نيتشه اختراعًا أكثر بهجة، وفلسفة أكثر خبثًا مما كان يقدمه هذا الألماني السّاخر والفرح، والذي وصل إلى درجة الوعي الساخر من ذاته، لذا حينما يمتدح نيتشه حقبته، وقلما يفعل ذلك، يمتدحها بالهزة التي أحدثتها نحو السخرية من ذاتها. لأنه في الأخير، لن يبقى ما يدل علينا سوى هذه الفرحة الشجاعة التي تهز وتزلزل، والتي لا يمكن وصفها إلا في الكُتب.

إن كانت القائمة التي وضعها نيتشه لفلاسفة الضّحك الذّهبي قليلة، فإن قائمة فلاسفة الحزن والضّجر لا يمكن إغلاق قوسها، إذ يمكن فتح القوس بأفلاطون وهيغل وكانط أهم ثقلاء الرّوح الذين عرفهم تاريخ الفلسفة، ولن يُغلق على السّلالة التي أتت من نسلهم؛ من كانطيين قدامى وجدد، وأفلاطونيين من كل الأزمنة والأديان، وهيغليين من كل حدب ينسلون. إنهم أشبه ما يكون بالرّتيلاء السّامة التي تنسج خيوطها المخيفة للإيقاع بفرائسها، كي تُسمّم أرواح كل من يقترب من مسكنها الوهن، وبعضهم الآخر يشبه الحيوانات الضّخمة ثقيلة الحركة التي من بينها مَن وُلد كسيحًا، وبحقد بقيت تحارب الرّشاقة، تمامًا كما أي فيل يحاول أن يجرب الانتصاب على قمة رأسه[69]. وفكر خصوم الضّحك لن يصدر عنه بحسب نيتشه سوى الفكر الحزين والممل الذي سينتج عنه عسر هضم يُكدر نشاط الجسد ويُمرضه، بالإضافة إلى كونه فكرًا غير أمين في تاريخ الفلسفة، فإنه فكر متغطرس أكثر مما هو فكر صارم، وأول ضربة نُوجهها لفكر يشعر بخويصة نفسه، ويُحس بأنفة مزهوة بجديته، هي أن نُخصص له من وقتنا لحظات ساخرة، لذا لن نجد نيتشه يواجه أعداءه من هذه الطّينة من الفلاسفة بأطروحات مطولة وصلبة منطقيًا وحجاجيًا، وإنما سنجده يحوّل الأمر إلى لحظات كوميدية، ناهيك أنها مستفزة، فإنها مثيرة للضحك أيضًا.

ستبدأ مشكلة الضّحك عند البشر مع الممارسات التي صار مطلوبًا معها من المرء الالتزام بها في المجتمع المتمدن، والتي صارت تدعو إلى تفادي كل ما يثير السّخرية[70] والضّحك، وكبح الشّفاه عن سيل الدّعابة، كما هو الحال مع كبح جماح سائر الفضائل والشّهوات سواء بسواء، وعدم مخالفة الآخرين، بالالتزام بالقواعد والتّقاليد الرّصينة، فتصير الضّحكة دليلًا على الضِّعة والابتذال، لا على الثّورة ورفض المتعاقد حوله، فأن تحظى بتربية ملكية متمدنة تستوجب أن تكتم ضحكتك، فمما يروى عن الملك فيليب الثّالث أنه لم يضحك طوال حياته مطلقًا، اللّهم إلا مرة واحدة، ولو أنها كانت ضِحكة ملكية لطيفة، تليق بجلالته، فقد ضحك عند قراءته لرواية دون كيشوت[71]، وهو الأمر الذي لم يكن ليعجب نيتشه، ما دام أن هذا الكتاب لم يُكتب لأجل ضحكة واحدة، بل من أجل أن يموت قارئه ضحكًا[72]. وستتطور مشكلة الضّحك مع الالتزامات الدّينية التي ستعلنها الكنيسة، والتي ستسرج في لاوعي الفرد أنه خُلق ليبكي، ويملأ العالم بدموعه.

في خضم الجو الخانق والموبوء الذي أوقدته الكنيسة في حديثها حول «الخلاص»، و«المحبة» و«الغبطة» و«الحقيقة» و«الحياة الأبدية»! سيتم فرض حصار على الضّحك، كما تم حصار كل الشّهوات البشرية المفعمة بالحياة، لذا يدعونا نيتشه لنأخذ كتابًا وثنيا، “ككتاب بطرون (pétrone) مثلًا، حيث لا يفعل ولا يقال ولا يراد ولا يُحترم إلا ما هو خطيئة، بل خطيئة مميتة، حسب التّقدير المسيحي والمتزمت”[73]. ومع ذلك، فيشعر مع نيتشه بالسّعادة، حتى أنه يصف جوّ الكتاب بـ”الصّافي، وروحانيته العالية؛ ومشيته السّريعة، وفائض قوته المحرّر والواثق من المستقبل!” [74]، أما في الكتاب المقدس الكنسي فلا “شيء واحد فيه مضحك: وهذا يكفي لدحض كتاب” [75]. وهكذا هي كل الكتب التي صدرت عن عقول كنسية جبارة، والتي يظل باسكال أبرزها.

إن الكنيسة بمعاداتها للضحك بقيت مجرد آلة لإنتاج الحزن والمعاناة والبُكائيات، فـ “ما كان المسيح العبراني قد عرف غير دموع قومه، وأحزانهم، وكيد أهل الصّلاح والعدل؛ لذلك راودته فجأة شهوة الفناء. ولو أنه بقي في الصّحراء بعيدًا عن أهل الصّلاح والعدل لكان تعلَّم حب الحياة وحب الأرض، ولكان تعلم الضّحك أيضًا” [76]، ولهذا يستغرق زاردشت ضاحكًا من أحد رجالات الكنيسة لأنه ما تعلَّم “الضّحك ولا عرف الجمال”[77]، فحاله حال من رجع “من غاب المعرفة أغبر الوجه بعد أن صارع فيها الوحوش، فانطبعت صورهم على سيمائه، فهو كالنّمر يتحفز للوثوب، وما أحب مثل هذه الأرواح المنقبضة على ما تضمر.”[78].

أمام الماضي العدائي الذي حملته الكنيسة ضد الضّحك، سيعلن نيتشه عن رغبته في مزج الضّحك بالدّين ليصير دين الكنيسة قادرًا على حلّ لهموم النّاس فعلًا، لا أن تُؤزّم دائرة الحياة، من خلال، لا فقط تضييق دائرة الضّحك، بل وحظره كذلك، ليتأكد مَتْحُ الكنيسة من بحيرة الألم والمعاناة ذات المياه المالحة، لا استشرافها للفرح والبهجة، وهذا ما تؤكده رواية اسم الوردة التي تدور حول تيمة كون أرسطو[79] والضّحك كانا في الكنيسة القرسطوية هما أشد الممنوعات خطورة، بعلّة أنهما قد يُطيحان بالحقيقة الزّائفة للصرح الميتافيزيقي الذي يؤمن به الرّاهب الكنسي الذي استمات في تحريم الضّحك، وسعى لإصدار المراسيم ضده، بعلّة أن السّيد المسيح لم يثبت عنه أنه ضحك مطلقًا، بحجة واهية أخرى وهي أن الضّحك يحرر الإنسان من الخوف، ومتى تحرَّر منه، لم تعُد به حاجة لإله، أو على الأقل أنه يدفع بالمؤمن إلى الشّك[80]، لذا لم يكن الضّحك يتمتع بسمعة طيبة بين جدران الكنيسة[81]، خاصّة وأنه يُزعزع الجسم، ويُشوه ملامح الوجه، والأخطر أنه يجعل الانسان شبيها بالقردة[82] كلما ضحك، ناهيك أنه يُزعزع عقيدة المؤمن. ليظل عند نيتشه حدَثُ منع النّاس من الضّحك أخطر خطيئة ارتكبتها الكنيسة، أخطر حتى من أكل آدم من الشّجرة، فيكون منع الضّحك من صميم كتم صوت الحياة، وهذا ما يعنيه إيكو على لسان أحد الرّهبان في إسم الوردة: “إن الضّحك أقرب ما يكون إلى الموت، وإلى فساد الجسم”[83].

لم يُبقِ نيتشه رغبته في مزج الضّحك بالدّين في حدود الاقتراح فقط، بل جعلها مدار كتابه المقدس: هكذا تكلّم زاردشت، إذ يكتب في 20 أبريل من سنة 1883 إلى مالفيدا فون مایزنبورغ: “إنها قصّة رائعة: لقد تحدَّيت كل الأديان ووضعت كتابًا مقدّسًا جديدًا! وبكل جدية أقول: “إنه على غاية من الجد، كما لم يسبق لكتاب آخر أن يكون، وإن كان قد استوعب الضّحك وأدمجه داخل الدّين»[84]، مادام أن الاتحاد السّامي عند نيتشه، إنما هو بالمضحك وبالأشياء المشابهة له، امتزاج الشّجي بالمثير للسخرية: الشّيء الذي قد لا تفهمه الأجيال القادمة[85]. ومن هنا يُقدم زاردشت نصيحته لجماهير الرّومانسيين بألا يتعلموا فنّ المواساة الذي سيقودهم إلى عوالم الحزن، ويوقفهم أمام حائط المبكى عند كل كنيسة، وإنما يجب أن يتعلموا كيف يضحكون، فالضّحك سيظل هو المواساة الحقيقية لأحزانهم، ما دامت النّكتة، وهي أحد أسباب الضّحك الأهم عبر التّاريخ، ما هي إلا “سخرية من موت إحساس ما”[86]. وليس يمكن أن نستميت في بناء حياتنا على أحزان فوق أخرى، وإنما يجب أن ننقضها بما يحولها إلى فرح جميل، يقول نيتشه: “إنني لأعرف تمامًا لماذا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك: فإنه لما كان الإنسان هو أعمق الموجودات ألا فقد كان لابد له من أن يخترع الضّحك! وإذن فإن أكثر الحيوانات تعسًا وشقاءً هو – بطبيعة الحال أكثرها بشاشة وانشراحًا”[87].

لن نغامر إذا ما ذهبنا إلى أن نيتشه هو أكثر فيلسوف ربط الفلسفة بالضّحك والسّخرية، فقد كانا سلاحه الوحيد ضد كل الخصوم، مهما كانت قوتهم وعددهم. بهما صفّى حساباته مع أكثر من فيلسوف ومذهب ومرحلة تاريخية، وبهما توعد وهدّد مَدارِسًا وشُعوبًا، بل وحتى العواصف[88]، وهذه السّخرية ليست مدعاة إلى التّقليل من الآخرين، أو التّخسيس منهم، وإنما هي دليل على إيمانه بالآخر المختلف معه، ذلك أن “أقوى علامة على اختلاف وجهات النّظر لدى شخصين تبدو في كونهما يدخلان بعض السّخرية في الحديث الذي يتبادلانه دون أن يشعر أي منهما بأدنى سخرية في الحديث”[89]. وهذا هو ديدن الأصدقاء الذين لا تُفسد السّخرية والضّحك لهم قضية، وإنما تزيدها مودّة وترابطًا، وهذا عينه هو عهد الأصدقاء، وإليه كان يسعى نيتشه، وبه ختم كتابه إنسان مفرط في إنسانيته: كتاب للمفكرين الأحرار الذي أهداه لأحد معلمي الضّحك الكبار فولتير، حين يقول:

“جميل أن نصمت معًا

وأجمل أن نضحك معًا (…)

ضحكًا مرحًا صاخبًا نضحك مع الأصدقاء،

ونكشف لبعضنا عن بيض الأسنان

استحسانًا، إن أنا أحسنت،

سنصمت.

وإن أسأت صنعًا، فمن القلب سنضحك،

(..)

إلى أن يضُمنا القبر”[90].


[1]– ف. نيتشه، أفول الأصنام، ترجمة: حسان بورقية، محمّد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 1996، حكم وإشراقات، الشّذرة: 43، ص. 16.

[2]– “أسمعتني عصمتي اليوم ضحكة تعالت فيها قهقهة الجمال السّامية، فجمالي يسخر بكم أيها الفضلاء؛ إذ سمعته يقول: “إنهم يطلبون لفضائلهم ثمنًا.”” (ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، ترجمة فيلكس فارس، مطبعة جريدة البصير، الإسكندرية، 1938، فصل الفضلاء، ص. 79.).

[3]– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل العظماء، ص. 96.

[4]– المصدر نفسه، فصل العظماء، ص. 100.

[5]– المصدر نفسه، فصل في بلاد المدينة، ص. 101.

[6]– المصدر نفسه، فصل الإنسان الرّاقي، ص. 246.

[7]– “يشعر بدني لندع الرّوح جانبًا بالتّحمس… فكثيرًا ما شوهدت أرقص حين أكون سعيدًا؛ وحينها أستطيع، دون أن أخشى التّعب، أن أتسلق الجبال لسبع أو ثمان ساعات متتالية. أنام جيّدًا، وأضحك كثيرًا، وأكون شديد القوة والصّبر.” (نيتشه، فريدريك، هذا الإنسان، ترجمة محمّد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2013، ص. 95. 95.).

[8]– ف. نيتشه، العلم المرح، ترجمة وتقديم: حسان بورقية، محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 1993، الشّذرة: 83، ص. 67.

[9]– المصدر نفسه، ص. 15.

[10]– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل الحادثات الجسام، ص. 111.

[11]– المصدر نفسه، فصل الحادثات الجسام، ص. 111.

[12]– المصدر نفسه، فصل العراف، ص. 114.

[13]– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل الإنسان الرّاقي، ص. 246. ويقول في العلم المرح: «إن أعظم ما ارتكب في العالم من أخطاء هو من قول القائل: «ويل للضاحكين في هذه الدّنيا» فإن من جاء بهذا الإنذار قد قصر في التّفتيش فما وجد على الأرض شيئًا يستحق الضّحك في حين أن الأطفال يجدون ما يضحكهم (…)” (ف. نيتشه، العلم المرح، ص. 15.)

[14]– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل الإنسان الرّاقي، ص. 246.

[15]– ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع صفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي، سلسلة الينابيع، بيروت، 1989، ص. 20 ـ 23.

[16]– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل العراف، ص. 169.

[17]– المصدر نفسه، فصل الوصايا القديمة والوصايا الجديدة، ص. 168.

[18]– المصدر نفسه، فصل الإنسان الرّاقي، ص. 246.

[19]– ف. نيتشه، ما وراء الخير والشّر: تباشير فلسفة للمستقبل، ترجمة: جيزيلا فالور حجار؛ مراجعة: موسى وهبه، بيروت: دار الفارابي، 2003، ص. 186. ويقول في العلم المرح: “ترى هل سيكون للضحك مستقبل أيضًا ! (…) سيكون الضّحك حليفًا للنبوغ، ولن يكون هناك علم آخر باستثناء «العلم المرح» غير أن الأمر في الآونة الراهنة بخلاف ذلك تماما، فكوميديا الوجود لم «تع ذاتها» بعد – ونحن لم نزل في عصر التّراجيديا.” (ف. نيتشه، العلم المرح، ص. 51.).

[20]– العلم المرح، ص. 52.

[21]-نيتشه، فريدريك، إنسان مفرط في إنسانيته: كتاب العقول الحرة، ترجمة محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشرق، 1998-2001، الشّذرة: 157، معاناة العبقري وقيمتها، ج 1، ص. 100.

[22]-المصدر نفسه، الشّذرة: 157، معاناة العبقري وقيمتها، ج 1، ص. 100.

[23]– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل الرّؤى والألغاز، ص. 136.

[24]– المصدر نفسه، فصل الوصايا القديمة والوصايا الجديدة، ص. 169.

[25]– المصدر نفسه، فصل الوصايا القديمة والوصايا الجديدة، ص. 180.

[26]– المصدر نفسه، فصل السّلام، ص. 316.

[27]– المصدر نفسه، فصل الإنسان الرّاقي، ص. 247.

[28]– يقول زاردشت: “لا تنسوا أن تضحكوا ضحكًا جميلًا. إنني ألقي إليكم بإكليل الورود فهو تاج الضّاحكين، لقد طوبتُ الضّحك أيها الرّجال الرّاقون فتعلموه …” (ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل الإنسان الرّاقي، ص. 249.).

[29]– ف. نيتشه، غسق الأوثان، أو، كيف نتعاطى الفلسفة قرعا بالمطرقة؟، ترجمة: علي مصباح، بيروت: منشورات الجمل، ،2010، ص. 22.

[30]– ف. نيتشه، العلم المرح، الشّذرة: 107، شكراننا النهائي للعلم، ص. 119.

[31]– المصدر نفسه، الشّذرة: 177 لفائدة «نظام التربية»، ص. 148.

[32]– المصدر نفسه، الشّذرة: 177 لفائدة «نظام التربية»، ص. 148.

[33]– المصدر نفسه، الشّذرة: 324، In media vita، ص. 105.

[34]– المصدر نفسه، الشّذرة: 327، الحمل محمل الجد، ص. 189.

[35]– ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، ج 2، ص. 40.

[36]– ف. نيتشه، الفجر، ترجمة محمّد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2013، الشّذرة: 452، الحاجة لمضحك الملك، ص. 234.

[37]– ف. نيتشه، غسق الأوثان، ص. 28.

[38]– ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الشّذرة: 276، الضّحك الذي يفضح، ج 2، ص. 87.

[39]– ف. نيتشه، الفجر، الشّذرة: 210، الشّيء «في ذاته»، ص. 159.

[40]– ف. نيتشه، ضد فاغنر، ص. 148 . 149. (هامش).

[41]– في خضم وصاياه يؤكد نيتشه أنه يتوجب على المرء أن يفكر في نفسه بشيء من السّخرية والبرودة (ف. نيتشه، إرادة القوة، ص. 30.).

[42]– ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الشّذرة: 186، نباهة، ج 1، ص. 110.

[43]– المصدر نفسه، الشّذرة: 183. المفتاح، ج 1، ص. 109.

[44]– ف. نيتشه، الفلسفة في العصر التراجيدي عند الإغريق؛ ويليه، مستقبل مؤسساتنا التعليمية، ترجمة وتقديم محمد الناجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2009، ص. 112.

[45]– المصدر نفسه، ص. 112.

[46]– ف. نيتشه، ما وراء الخير والشّر، ص. 20.

[47]– في الجمهورية وحدها يمكن أن نستحضر أكثر من تعبير عن موقف أفلاطون من الضّحك، مرة على لسان سقراط ومرة على لسان آخرين، فنجد سقراط يقول: “لا يجوز لحُكَّامنا أن يغربوا في الضّحك؛ لأن استسلام الإنسان للضحك المفرط يعقبه رد فعل عنيف.” (أفلاطون، الجمهورية، ترجمة حنا خباز، طبعة المقتطف والمقطم، القاهرة، 1929، ص. 64.)، ويقول: “فإذا مثَّل شاعر كبار الرجال مغربين في الضحك، أبدينا الأنفة من ذلك، وبالأحرى جدًّا إذا وُصف الآلهة به.” (المصدر نفسه، ص. 64.)، ويرفض تعابير هوميرس من قبيل قوله: “فلا نأذن لهوميروس أن يقول في الآلهة: “علت ضجَّاتهم بالضحك لمَّا.” (المصدر نفسه، ص. 64.).

[48]– في هذا الصّدد يقول ثراسيلوس: “لو أن كتاب المتنافسين على العشق كان من تأليف أفلاطون، لكان ديموقريطوس هو الشّخصية التي لا اسم لها، ولکان شخصًا آخر بخلاف كل من أوينوبيديس وأناكساجوراس. كذلك فإن ديموقريطوس هو الذي كان يتحاور في المناقشة homilia مع سقراط عن الفلسفة، كما أنه هو الذي قال له سقراط إن الفيلسوف أشبه ما يكون باللاعب الرّياضي (…) والحق إن ديموقريطس كان ضليعًا ومتمكّنًا في كل فرع من فروع الفلسفة.”.

[49]– نفس ما أراده أفلاطون بديمقرطس، حل ببروتاجوراس من قبل الأثينيين، فقد تم طرده، وأضرموا النّار في مؤلفاته في ساحة السّوق، بعد أن بعثوا رسولًا يضطلع بجمعها من كل شخص كان قد اقتناها في حوزته. دون أن تنفعه قدراته الجدالية في إقناع خصومه ونهيهم عن فعلتهم تجاهه، فهو أول من أدخل المجادلة في المناقشات؛ وأول من أقنع الخصوم المنافسين باستخدام المماحكات اللفظية في مناقشاتهم. لكنها فضل الهروب سالمًا ربما لأنه أول أوضح أهمية اغتنام الفرصة المتاحة أمام الإنسان (ديوجينيس اللائرتي، حياة مشاهير الفلاسفة؛ ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام؛ القاهرة: المركز القومي للترجمة، ج 3، ص. 157).

[50]– ف. نيتشه، ما وراء الخير والشّر، ص. 97.

[51]– ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الشّذرة: 72، مرسلون الهيون، ج 2، ص. 143. هذا الحوار الداخلي مع النفس وبصددها المخترق بالضّحك مهم لدى نيتشه، نجده يقول: “لقد تعود بعض الناس أن يختلوا بأنفسهم بحيث أنهم دون أن يقارنوا أنفسهم مع الأخرين، يقتفون أثر الحوار الداخلي لحياتهم بروح هادئة وسعيدة، محاورين لأنفسهم، دون أن ينسوا الضّحك” (إنسان مفرط في إنسانيته، الشّذرة: 625، المتوحدون، ص. 239.).

[52]– المصدر نفسه، الشّذرة: 72، مرسلون الهيون، ج 2، ص. 143.

[53]– لقد واصل سقراط سخريته الفظة من أهل أثينا، بتكذيب مزاعمهم، وبالبرهنة على أنهم حمقى غريرون، كما يؤكد ديوجنيس اللائريتي، على نحو ما فعل مع أنيتوس في محاورة مينون ومع آخرين في أغلب محاورات أفلاطون.

[54]– ف. نيتشه، إرادة القوة، ص. 182.

[55]– المصدر نفسه، ص. 182.

[56]– يقول سقراط: إنكم إن حكمتم بإعدامي، فلن تجدوا بسهولة آخر مثلي، آخر بدون كلمات معقدة، حتى لو كان قولي هذا باعثًا على الضّحك.” (فوكو، ميشيل، تأويل الذّات: دروس ألقيت في “الكوليج دو فرانس” لسنة 1981-1982، ترجمة وتقديم وتعليق الزواوي بغورة، بيروت: دار الطليعة، 2011، ص. 30.).

[57]– ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الشّذرة: 372، السّخرية، ج 1، ص. 174.

[58]– المصدر نفسه، الشّذرة: 372، السّخرية، ج 1، ص. 174.

[59]– ف. نيتشه، العلم المرح، الشّذرة: 95، شومفور، ص. 108، 109.

[60]– ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الشّذرة: 113، أشد الكتاب تحررًا، ج 2، ص. 40.

[61]– ف. نيتشه، غسق الأوثان، ص. 170.

[62]– ف. نيتشه، ما وراء الخير والشّر، ص. 61.

[63]– ف. نيتشه، غسق الأوثان، ص. 101.

[64]– يقول نيتشه: لا تكون السّخرية، في محلها، سوى شبه طريقة تربوية يطبقها أستاذ في علاقته مع تلاميذه كيفما كانوا: غايته هو إخجالهم وإذلالهم، لكن ذلك النّوع من الخجل ومن الذّل المخلص الذي يوجد الحلول الجيدة ويفرض إظهار الاحترام والامتنان لذلك الذي عالجنا بهذا الشّكل كطبيب.” (ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الشّذرة: 372، السّخرية، ج 1، ص. 174.).

[65]– ف. نيتشه، العلم المرح، الشّذرة: 335، لتحيى الفيزياء، ص. 195.

[66]– ف. نيتشه، إرادة القوة، ص. 164.

[67]– المصدر نفسه، ص. 164.

[68]– إذا كان هناك من اختار مواجهة صريحة مع الضّحك بدعوى الصّراحة والصّرامة التي يجب أن تتحلى بهما لا الفلسفة، فهناك فلاسفة كانوا مثال هذه الصّرامة لكن كان موقفهم من الضّحك أقل حدة وأكثر انفتاحًا كما حالة اسبينوزا: “الضّحك، كما المزاح أيضًا، إنما هو فرح خالص لا إفراط فيه، وبالتالي فهو في حد ذاته خير. ولا شك أن تحريم الملذات إنما يقوم على معتقد باطل، فظّ وحقير، إذ ما الفرق بين إسكات الجوع والعطش، والتّجرد من الكآبة؟ تلك هي قاعدتي وذاك هو اعتقادي الرّاسخ”. (سبينوزا، باروخ، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدّين سعيد؛ مراجعة جورج كتورة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص. 275.).

[69]– ف. نيتشه، العلم المرح، ص. 14.

[70]– ف. نيتشه، الفجر، الشّذرة: 26، الحيوانات والأخلاق، ص. 29.

[71]– زكريا إبراهيم، سيكولوجيا الفكاهة والضّحك، مكتبة مصر، القاهرة، 1988، ص. 20.

[72]– “ليذكر المرء شيئًا من دون كيشوط في بلاط الدّوقة: هل نقرأ اليوم دون كيشوط كله إلا بمذاق مر على اللسان، أقرب إلى التعذيب منه إلى شيء آخر، ونحن بذلك في نظر مؤلفه ومعاصريه نأتي أمرًا عجبًا، أمرًا مبهم، – إذ هم قرؤوه بأكثر الضّمائر راحة بوصفه أكثر الكتب أنسًا وصفاءً، وبه كانوا يموتون ضحكًا” (ف. نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ص. 302، 303.).

[73]– ف. نيتشه، إرادة القوة، الشّذرة: 123، ص. 97.

[74]– المصدر نفسه، الشّذرة: 123، ص. 97.

[75]– المصدر نفسه، الشّذرة: 123، ص. 97.

[76]– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل خطب زاردشت، ص. 102.

[77]– المصدر نفسه، فصل العظماء، ص. 96.

[78]– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل العظماء، ص. 96.

[79]– تأتي خطورة أرسطو في رواية إسم الوردة أرسطو أنه بحسب فينانسيو الجيّد في اليونانية كان قد خصّص للضحك الكتاب الثّاني من كتاب «الشّعر»، وهنا تكمن الخطورة أن فيلسوفًا في عظمة أرسطو خصّص كتابًا كاملًا للضحك، وهذا ما قد يجعل الضّحك شيئًا هامًّا في أعين الرّهبان الصّغار، والحكمة الإلهية لا تسمح بوجود كتب تعظيم الأشياء التّافهة.

[80]– أمبرتو إيكو، إسم الوردة، ترجة أحمد الصّمعي، طرابلس، ليبيا: دار أويا، 1998، ص. 155.

[81]– المرجع نفسه، ص. 119.

[82]– المرجع نفسه، ص. 153.

[83]– المرجع نفسه، ص. 119.

[84]– نقلًا عن: سلوتردايك، بيتر، “الإنجيل” الخامس لنيتشه، ترجمة علي مصباح، كولونيا: منشورات الجمل، 2003، ص. 43.

[85]– ف. نيتشه، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 112، لدى رؤية بعض أشياء القدم المقدسة، ج 1، ص. 80.

[86]– المرجع نفسه، الشّذرة: 202. النّكتة، ج 2، ص. 67.

[87]– ف. نيتشه، إرادة القوة، نقلًا عن سيكولوجية الضّحك والفكاهة، ص. 8.

[88]– يقول زاردشت: “سأقفز إلى صهوتك أيتها العاصفة فألهبك أنت أيضًا بسوط سخريتي” (ف. نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت، فصل الطّفل حامل المرآة، ص. 102.).

[89]– ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الشّذرة: 331، علامة الاختلاف، ج 1، ص. 166.

[90]– المصدر نفسه، ج 1، ص. 399.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.