سيّد الضوء: كيف تفيض رؤيةُ جورج دي لاتور الرمزيةُ بأعمق سرائرنا | ستيفن غامبارديلا – ترجمة: فادي حنا

تستغرق 18 دقائق للقراءة
سيّد الضوء: كيف تفيض رؤيةُ جورج دي لاتور الرمزيةُ بأعمق سرائرنا | ستيفن غامبارديلا – ترجمة: فادي حنا

في خمسينيات القرن السابع عشر، أهدى فنانٌ قرويٌ من قاطني لورين بأقصى الشرق الفرنسيّ لوحةً للملك لويس الثالث عشر. افتتن الملكُ باللوحة، إذ كانت تنم عن «ذوق رفيع» على حدّ وصف أحد المؤرخين، فراح يأمر بإزالة جميع اللوحات الأخرى من غرفته ليتسنى له التأمُّل فيها وحدها.

لعلّ ذلك كان أعظم حدث في حياة الفنان الناجحة. لكن بالرغم من شهرته ونجاحه فإنه ما لبث أن اختفى بعد ذلك من صفحات التاريخ.

إن مُلابسات ذلك الاختفاء المُفاجئ لا تزال سرًّا مُلْغِزًا؛ فكل ما نعرفه هو أن أعمال الفنان سرعان ما انفصلت عنه بطريقة ما عقب وفاته؛ بالرغم من حقيقة أن كثيرًا منها يحمل توقيعه. إذ نسبت أعماله خطأ إلى مُصوِّرين هولنديين، وأبناء جلدته من الفرنسيين؛ إن إرث ذلك الفنان قد تقسّم، وتبعثر بين إرث فنانين آخرين.

ولقد غاب الفنان، لمئات السنين، عن مصنفات تاريخ الفنّ، في حين أذاعت روائعُه صيت فنانين آخرين؛ لكن اسمه وبعض شذرات حياته قد بقيا، متواريين إلى حدّ كبير، في السجلات البيروقراطية.

ولم يُسدل الستار عن جورج دي لاتور (Georges de La Tour) حتى القرن العشرين؛ إذ كشف مؤرخُ الفن الألمانيُّ هِرمان فوس (Hermann Voss) (1884–1969) عن وثيقة بيوغرافية في 1915، وبدأ يجمّع خيوط حياة الفنان وأعماله.

على الرغم من إعادة اكتشاف فوس لذلك الفنان الأستاذ، والجهود التي بذلها المؤرخون بعد ذلك، فإننا لا نعرف عن لاتور سوى القليل؛ فلا توجد صور ذاتية (self-portraits) معروفة، ولا نعرف على وجه الدقة أين أو كيف تلقى تدريبه، أو ما الذي وجّه تطوُّر أسلوبه الفنيّ.

كانت الصورة التي أسرت لب الملك تمثّل مشهدًا عاديًا للقديس سيباستيان المعذَّب؛ إذ تُبُين أن ذلك الجندي، المنتمي إلى صفوة الجنود الرّوم، مسيحيٌّ، فحُكم عليه بالإعدام رميًا بالسهام.

جورج دي لاتور، إيرين تعتني بالقديس سيباستيان، حوالي 1649.
جورج دي لاتور، إيرين تعتني بالقديس سيباستيان، حوالي 1649.

يظهر القديس مرتميًا عند جذع الشجرة التي كان مُقيّدًا بها، والنساء الواقفات حول جثمانه يتحققان من موته. نلمح من بينهن القديسة إيرين من روما تمسك مشعلًا بإحدى يديها، وباليد الأخرى تحمل ذراع سيباستيان الميّت.

كان القديس سيباستيان موضوعًا شائعًا في تصاوير القرن السابع عشر. غالبًا ما يُصوَّر حادث استشهاده بدم مُسفك، وعُنف مُلائمين. لكن في تصوير لاتور، على خلاف ذلك، يُحركنا السكونُ غير التقليديّ في المشهد؛ فلا يخترق جسد القديس سوى سهم واحد أسفل قفصه الصدري، ولا توجد سوى قطرة دم واحدة تُشبه قطرة دمع. إن المشعل الذي تمسكه القديسة إيرين هو المصدر الوحيد للضوء الذي يشع في التصوير.

وتُلقى الظلال الدامسة، مثقلة جو الأسى الذي يسود المشهد. إن خطوط التكوين المائلة القوية التي تنحدر من أعلى اليمين إلى أسفل اليسار تشدُّ أنظارنا نحو القديس الذي فارق الحياة. وتُطيل بؤرةُ المشهد الضيقةُ الشخصيات، وتضفي على المشهد إحساسًا بالألفة، والضّخامة على حدّ سواء. إن هندسة التكوين، وبساطة الشكل اللتين أقرب ما تكون إلى التماثيل، والمزج القاتم لكن الحيوي للدرجة واللون، كلّها عناصر لا مثيل لها في تصاوير ذلك العصر، إذ يوازن ذلك المزيج بين السُّكون والفخامة في تركيب الأجسام.

هذه إحدى أعظم الأعمال التي جادت بها قريحة لاتور، ولعلّها أفضلها من جهة أنها تمزج بين أستاذيّته في التدرُّج اللونيّ والضوء وبين النطاق الرمزي الطّامح في تصويره؛ بوسعنا أن نرى في صور مثل هذه، بمساعدة استعمال الفنان للضوء وعبر الأصداء الخُلقية والرّوحية لموضوع اللوحة، رمزًا لخبرتنا بالواقع ذاته.

ومن الضروريّ أن نغوص في تطوُّر مسار لاتور الفني لفهم هذه الفكرة.

النشأة

ولد لاتور في عام 1593 في مقاطعة فيك سور ساي (Vic-sur-seille) الواقعة في إقليم لورين بالقرب من حدود ألمانيا ولوكسمبورج الحالية. كانت المقاطعة مركزًا تجاريًا متميّزًا، إذ كانت تقبع عند مفترق الطرق المؤدية إلى فرنسا، وهولندا، وحدود الولايات الألمانية التابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة؛ ولهذا كانت مركزًا ثقافيًا عامرًا، ومعقلًا للنشاط الفني.

ولمّا كنا نجهل تفاصيل تدرُّب لاتور، فقد جرى الاعتقاد أنه إمّا قد تتلمذ على يد أحد الأساتذة المشتغلين بمقاطعة فيك أو مدينة نانسي، عاصمة لورين آنذاك.

عاش لاتور فترة تتسم بالتحول السريع وشدّة التوتر؛ فقد تأججت في هذه الفترة نيران الصراع الأهلي والإقليمي في أوروبا، ما يعني أن الفنّ والفنانين كانوا في مقدمة «القوى الناعمة» المناضلة بين أولئك الذين وقفوا إلى جانب الكنيسة الرّومانية الكاثوليكية، وأولئك الذين أيدوا المذهب البروتستانتي.

في بعض أنحاء أوروبا، كان للصراع الديني عواقب وخيمة بالنسبة للفنانين؛ فقد أُنتج فنُّ القرن السابع عشر لمّا كان شبح تحطيم الأيقونات البروتستانتي (protestant iconoclasm) يلوح في الآفاق – أيْ تدمير أعمال الفنّ الديني.

كان الإصلاح (Reformation) ثورة دينية مزَّقتْ أوروبا في القرن السادس عشر. فقد انفصل البروتستانتيُّون، المتمركزون في الأغلب في الأجزاء الشمالية من أوروبا، عن المذهب الكاثوليكي الروماني، مقدمين رؤيةً مغايرةً للمسيحية.

وقد تمثَّل أحد الجوانب المتشددة لذلك التمرُّد الديني –لا سيّما بين صفوف البروتستانتيين المتشددين المنتمين للحركة الكالڤينية– في تدمير الصور الدينية بوصفها أصنامًا تتعارض مع وصية الله التي تحظر «التصاوير المنحوتة»؛ إذ كانت التماثيل والصور تُقتلع من داخل الكنائس ثم تدمَّر على مرأى ومسمع من الجميع.

إن الهجوم على الوثنية المزعومة للكنيسة الرّومانية الكاثوليكية قد اضطر الكنيسة الرّومانية إلى الإصلاح، وعادت تتزعّم التصوير الديني في مجمع ترِنت (Council of Trent) عند منتصف القرن السادس عشر. أدى ذلك إلى فرض نظام جديد، وتنشيط حركة الفنون في ربوع أوروبا الكاثوليكية.

وكان الزمن قد عفا على حركة «المانرزم» (Mannerism)، ذلك الأسلوب الرفيع والفكريّ الذي تطوّر في أوج عصر النهضة. وقد حلّ محله ما نسميه اليوم بأسلوب الباروك؛ ذلك الأسلوب الفني الذي رفع من شأن الواقعية، والحركة، والإفراط؛ ونتيجة لذلك اتصفت أعمال هذه المرحلة غالبًا بالقوّة، والعظمة، والضّخامة، إذ صُممت لكي تثير مشاعر الرّهبة في نفوس الجمهور.

كاراڤاجيو والميتاتصوير

لعلّ مايكل أنجلو ميريسي دا كاراڤاجيو (Michelangelo Merisi da Caravaggio) كان أهم أساتذة الباروك. فقد علا نجمه في روما، معقل السلطة الروحية والدبلوماسية، حيث نشأ فن الباروك وازدهر في كنف رعاة الفنون أمثال البابا غريغوري الخامس عشر (Pope Gregory XV) والكاردينال سكيبيوني بورغيزي (Scipione Borghese).

كان فنه عاطفيًّا، وعنيفًا في كثير من الأحيان، أو إيروتيكيًّا. وقد حبّذت السلطات الكنسية تصاويره الدينية نظرًا لواقعيتها، وهو ما تستسيغه الجماهير، على الرغم من رفض كاراڤاجيو المثير للجدل أن يؤمثل الموضوعات المقدسة؛ اجترح كاراڤاجيو تصاويره من رحم الحياة مباشرة، ولم يكن نهجه هذا مألوفًا في زمانه، مما ثبّت تصاويره في واقع حياة المدينة؛ حيث كان يصوِّر القديسين بأقدام مُتسخة، وأذرع أحرقتها حرارة الشمس.

مايكل أنجلو ميريسي دا كاراڤاجيو، القبض على المسيح، حوالي 1602. يظهر كاراڤاجيو نفسه في أقصى اليمين يحمل مصباحًا.
مايكل أنجلو ميريسي دا كاراڤاجيو، القبض على المسيح، حوالي 1602. يظهر كاراڤاجيو نفسه في أقصى اليمين يحمل مصباحًا.

ترك كاراڤاجيو أثرًا عميقًا في الفن الأوروبي في العقود الأولى من القرن السابع عشر، إذ كانت أعماله تحوي شخصيةً فنيةً بقدر ما كانت تحوي أسلوبًا؛ تنفصل تصاويره عن التقليد الفني بسبب واقعيتها الشديدة، واستعماله المذهل لتقنية الكياروسكورو (chiaroscuro) [الجَلاء والقَتَمَة] – التباين الحادّ بين الظلام والضوء، والطرائق المبتكرة والطريفة التي استعملها الفنان لجعل تصاويره تتفكّر في وضعيتها بوصفها أعمالًا فنية.

وقد ذاعت أصداء مبتكرات كاراڤاجيو الأسلوبية عبر أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية في العقود التي خلت موته في عام 1610، من المناطق الجنوبية في إسبانيا وإيطاليا، وحتى أقاصي الشمال في ألمانيا، وإنجلترا، وهولندا.

حتى لاتور نفسه وقع في أسر كاراڤاجيو مثلما وقع الكثيرون؛ من غير المعروف متى حدث ذلك بالضبط، ذلك لأن ثمّة فجوة في سيرة حياة لاتور بين أسلوبه المبكر والمتأخر. وقد أُوحي إليه أن يُغيّر أسلوبه الفني إمّا من خلال مُطالعة أعمال كاراڤاجيو شخصيًّا في روما، أو بصفة غير مباشرة عن طريق الكاراڤاجيين –وهم أتباع كاراڤاجيو– الذين انتشروا في بقاع أوروبا الشمالية.

ومبلغ الظنّ أن لاتور قد تأثر بالتطويرات التي طرأت على أسلوب كاراڤاجيو في هولندا؛ بما أن تصاويره تفيد من الأنواع الفنية، والوسائط البصرية التي طوّرتها مجموعةٌ فنيةٌ هولنديةٌ تُعرف بـ«كاراڤاجيُّو أوترخت» (Utrecht Caravaggisti).

جيرارد فون هونثورست، الاستهزاء بالمسيح، حوالي 1617. لاحظ مصدر الضوء الوحيد في وسط الصورة، والتباين الشديد بين الظلام والضوء المستعمل لإحداث أثر دراماتيكي
جيرارد فون هونثورست، الاستهزاء بالمسيح، حوالي 1617. لاحظ مصدر الضوء الوحيد في وسط الصورة، والتباين الشديد بين الظلام والضوء المستعمل لإحداث أثر دراماتيكي

تتضمّن هذه الوسائط مصدر الضوء الصناعي داخل مشهد اللوحة ذاته، كمصباح أو شمعة. وقد جرّب كاراڤاجيو هذه الفكرة في أعماله، أبرزها في لوحة القبض على المسيح (حوالي عام 1602) حيث يمسك الفنان ذاته مصباحًا يُضيء المشهد جزئيًّا، بيد أن جماعة أوترخت طوَّرت الأثر الدراماتيكي أكثر في العقد الذي تلا موت كاراڤاجيو في 1610.

غالبًا ما أنتجت جماعة أوترخت لوحات حيث كان مصدر الضوء الوحيد في المشهد المُصوَّر شمعة أو مصباحًا أو مشعلًا. لقد رفع ذلك من حدّة تباين درجات اللون مع تكامل الأثر الضوئي بصورة أكمل مع التكوين؛ تلقف لاتور هذه الفكرة بعد ذلك وأخذها في اتجاه أكثر إتقانًا.

وفي حين استعمل فنانو أوترخت، أمثال جيريت ڤان هونثورست (Gerrit Van Honthorst) وهندريك تير بروجن (Hendrick ter Bruggen)، ضوء المصباح والشمعة لزيادة حدّة الدراما في المشهد بفضل التباين الشديد بين الظلام والضوء الذي يتأتى على نحو طبيعي بواسطة الضوء الصناعي، يبدو أن لاتور قد تناول الضوء كما لو كان موضوعًا قائمًا بذاته في تصاويره.

التطوُّر الأسلوبي

كانت للفنان رؤية إبداعية منذ البداية؛ إذ تُجسّد أعماله الأولى منذ أواخر عشرينيات القرن السابع عشر حتى الثلاثينيات مشاهدَ مضيئة ومشرقة في معظمها، لكن موضوعة، بالرغم من ذلك، في فضاءات سطحية وذات زخارف بسيطة.

وأشهر هذه اللوحات هي لوحات لاعبي الأوراق الغشاشين (cheating card-players)، والعرافين (fortune tellers). كانت هذه الموضوعات رائجة، إذ صوّرها كاراڤاجيو نفسه في بداية حياته الفنية، ويُرجح أن لاتور تأثر بها من خلال الأعمال المطبوعة المتداولة في كل أنحاء أوروبا.

تمثّل هذه الصور الجانب المرح من ميل فنّ الباروك إلى التأمُّل الذاتي بواسطة تخصيص النّاظر؛ إذ يربط الفنانُ اللوحةَ بالمتلقي بالسماح له بأن يعرف ما يجهله أحد الأشخاص، أو أكثر، المُصوَّرين في اللوحة.

ففي حالة الشاب الذي تخبره العرّافةُ بطالعه، فبينما ينتابه الذهول والسهو، نراه نحن –النظارة– يتعرض للسرقة من قبل أحد معاوني العرّافة.

جورج دي لاتور، الغش في أوراق اللعب. حوالي 1630-34.
جورج دي لاتور، الغش في أوراق اللعب. حوالي 1630-34.

في لوحة الغش في أوراق اللعب (حوالي 1630-34) نرى المُخادع يسحب بطاقة الآس من ظهره، في حين يُمعن الشاب الذي يقع ضحيةً لغشّه –الذي يرتدي ملابس فخمة– النظر في أوراقه.

إن الأعين ذات أهمية في هذه الصورة؛ حيث تنظر البغيُّ في المركز إلى الخادمة التي تنظر متوترة إلى الشاب الثري الذي يحدّق في أوراقه. ليس هناك تبادل للنظرات داخل اللوحة، حيث تنفصل الشخصيات الأربعة في اللحظة التي نراهم فيها، ولكن بالرغم من ذلك تخبرنا نظراتهم بكل ما يجري.

ثمّة بالرغم من ذلك نظرة واحدة مُتبادلة، نظرة الغشاش إلينا، نحن النظارة للوحة، وهو ما يهدم الجدار الذي يَحول بين واقعنا وواقع اللوحة. إن نظرته، وبسمته الكاشفة، تُقِرّان بأننا نعرف ما يحدث.

تحوي هذه اللوحات بالطبع درسًا أخلاقيًّا. فهي تخبرنا بعدم الدخول في النشاطات المفسدة للروح كالمقامرة، والكهانة. لكنها ليست صورًا جادة، بل تنم عن حذق مَرِح. إنها تخبرنا عن المظهر، وعن أولئك الذين يحظون بالرؤية بقدر ما تخبرنا عن الموضوعات الفاسدة التي تُصوّرها.

يتمثل أحد جوانب فنّ الباروك الرئيسة في الكيفية التي يحفز بها المتلقي؛ إذ يستدخل المتلقي في المشهد. غالبًا ما يكون ذلك الاستدخال دراماتيكيًّا، حيث يوضع المتلقي موضع شاهد العيان الذي يُعاين حدثًا مذهلًا معيّنًا على سبيل المثال. لكن أثر ذلك قد يكون ذا طابع تأمُّلي مرح، ينصب أكثر على اللّذة بدلًا من الباثوس [العاطفة].

ومن المؤكد أن ذلك هو الحال فيما يخص هذه الصور؛ ذلك أن موضوعاتها، في كلتا المجموعتين المصورتين، ترتدي ملابس فاخرة، واستعراضية؛ إذ تُمثَّل عناصر كالحرير، واللؤلؤ، والأقمشة، والنقوش بدقة بالغة كي تُثير البهجة في نفوس المتلقين. إنما الرؤية هي موضوع هذه اللوحات، وكذلك معنى أن تُرى، والمسرّات التي بوسعنا أن نخبرها في كلتا الحالتين.

إن تصاوير لاتور، بحِيَلِها، وخيلائها، ومسرّاتها، تقع ضمن فئة ما يُسميه مؤرخ الفنّ الروماني فيكتور ستويشيتا (Victor Stoichita) بـ«الميتاتصوير» (metapainting).

إن الميتاتصوير، تبعًا لستويشيتا، هو ذلك العمل الفني الذي يعي ذاته، وقد ازدهر في القرن السابع عشر ضمن سياق حركة فنّ الباروك. إنه عمل فني يتأمل في وضعيته بوصفه تمثيلًا فنيًّا؛ إذ تُرمِّز الصورة نفسها واقعيًّا، جاذبة الانتباه إلى وسيطها الفني، وشكلها، ووضعيتها بوصفها عملًا فنيًّا.

انبجس الميتاتصوير في وقت كان يتبدّل فيه تملُّك اللوحات وطرق عرضها. ففي أواخر القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر حدث أنْ تهافت الكثيرون من رعاة الفنون على السوق الذي كانت تهيمن عليه الكنيسة في الماضي.

كان لأولئك الرعاة مساحات مخصصة لعرض الأعمال الفنية في أملاكهم الخاصة؛ وقد صُوِّرت اللوحات نفسها على الكانڤاس [اللوحات القماشية] لكي يسهل نقلها، وبالتالي تسهيل شرائها ومبادلتها. وكثر عدد اللوحات التي تصوّر موضوعات علمانية أو أسطورية، وكانت تصنع لإمتاع أصحابها. وبهذا، استكشف الفنانون حدود الوسط التعبيري وسعته على الحركة، والفتنة، والإمتاع.

رمزية الواقعي

يظهر كاراڤاجيو في بعض الأحيان في لوحاته باعتباره شاهد عيان، وفي البعض الآخر باعتباره ضحية فعل عدائي؛ في كلا الحالتين، فإنه يضع نفسه بوصفه مصدر الصّورة –أيْ الوسيط بين الرائي والمرئي– ضمن الإطار التصوُّري للميتاتصوير.
يذهب لاتور إلى أبعد من ذلك؛ إذ هو يضع مصدر الضوء نفسه –ذلك الذي يُتيح الرؤية– في قلب الصورة. لم تكن هذه فكرة جديدة، كما رأينا، لكن لاتور بلغ بها مستوى من التهذيب أضفى عليها نقاوة تعبيرية، منبعها فَهم قوّتها الرمزية.

يبلغ ذلك التهذيب مداه في الفصل الأخير من مسيرة لاتور الفنية؛ حيث تُبسَّط الأشكال البشرية وتختزل في تحديداتها الخارجية إلى أشكال هندسية تقريبًا، ما يضفي عليها مظهرًا مُصقلًا يشبه النحت الكلاسيكي. وصف مؤرخ الفنّ الإنجليزيّ أنثوني بلانت (Anthony Blunt)، الذي أذاع فنّ الباروك الفرنسي واحتفى بفنّ لاتور، عملَ لاتور بأنه يمتاز بـ«الوضوح الرياضيّ».

تمتاز لوحاته بصفة السُّكون التي تجعله يتفرّد عن سائر الكاراڤاجيين في بقاع أوروبا الشمالية والجنوبية.

يبرز الضوء، في لوحات لاتور، ضخامة الأشياء المُصوَّرة، مادتها المُجردة؛ فلا يبدو أن ثمّة جهدًا مبذولًا لإضافة الدراما بواسطة التأثيرات الضوئية، بل بالأحرى، فإننا نعي الضوء ذاته بواسطة السُّكون.

يبدو لاتور كما لو أنه يبحث عن ماهيّة التصوير، إذ ينكب تركيزه على تشييد لحظة عابرة وبلورتها بإتقان.

في ظل ذلك النمط من الميتاتصوير، تُرمِّز لوحات لاتور المتأخرة لا التصوير وحده، بل فعل الرؤية ذاته، ومُعاينة الواقع نفسه ومعرفته. ويكمن مصدر الضوء الوحيد في صميم تلك الدَّفعة الرمزية داخل الصورة، والتوكيد الواعي على لحظة معينة.

جورج دي لاتور، فتاة تزفر في الموقد، 1646-48.
جورج دي لاتور، فتاة تزفر في الموقد، 1646-48.

انظر لوحة فتاة تزفر في الموقد (حوالي 1646-48). إن اللحظة الملتقطة هنا هي علاقة الضوء بالزفرة. بوسعك أن تتخيل، بوصفك الناظر للوحة، اللحظة المُحددة التي توقدُ بها زفرةُ الفتاة الموقدَ، الذي بدوره ينير وجه الفتاة. يتضح هنا المنطق الدائري في اللوحة؛ إذ إننا نرى الموضوعَ الذي يوقدُ مصدرَ الضوء باللوحة، والذي من خلاله نرى ذلك الموضوع.

تستغرق هذه اللحظة من التركيز الفتاة بالكامل؛ وتحدق مقلتاها في مصدر الضوء: موقد صغير من الفحم، وهو ما يستحضر في هذا التصوير صورةً بدائية للنار، والضوء، والحرارة.

تضيء جمرة الفحم وجهها وصدرها بوهج دافئ خافت؛ وليس ثمّة تفصيلة أو أي مُشتت يصرف انتباهنا عن شكلَي المرأة الشابة والموقد البسيطين المُصورين، فيما خلا الظلام من وراء. إنها لوحة تُحقق تألقًا هادئًا بواسطة الالتزام بالاقتصاد الفني؛ يُبيّن التفاعلُ بين الضوء والظلام الأشكالَ من الظلمة التي كانت لولا ذلك ستخفي الفتاة.

منطقُ الإحالة الذاتية لهذه اللوحة البسيطة
منطقُ الإحالة الذاتية لهذه اللوحة البسيطة

تُحيل الصورة إلى ذاتها بمعنى أنها تلفت الانتباه إلى وضعيتها باعتبارها صورة، لكن منطق الإحالة الذاتية ذلك ينطوي على الناظر إلى الصورة.

كيف ترمِّز إذن صورة مثل هذه خبرتنا بالواقع؟

ميّز فيلسوف القرن السابع عشر جون لوك بين كيفيات الواقع الثانوية والأولية؛ فالكيفيات الثانوية (secondary qualities) هي تلك الكيفيات الذاتية؛ إنها علاقة بين شخص وشيء.

والكيفيات من قبيل اللون، والحرارة تدخل في عداد الكيفيات الثانوية؛ إنها كيفيات محسوسة تتوسط بين حواس المرء والموضوع. إن خضرة أوراق الشجر ليست جزءًا جوهريًّا من الورقة، ولا توجد في ذهني، أي ليست هلوسة؛ ثمّة ربط في الخبرة يجعل الخضرة مزيجًا بين حواسي وأوراق الشجرة.

أمّا الكيفيات الأولية (primary qualities) فهي تلك الكيفيات الجوهرية في الشيء؛ فهي توجد بمعزل عن خبرتي بالموضوع. تتضمّن هذه الكيفيات الحجم، والشكل؛ إذ يفترض أنه يمكن قياس كليهما موضوعيًّا عن طريق قواعد الهندسة؛ تلكم هي الجوانب التي توجد «في ذاتها» من العالَم، على العكس من جوانبه كما «تبدو لنا».

وفي حين أن ثمّة إجماعًا على قبول الكيفيات الثانوية للأشياء، فإن الشك يكتنف فكرة الكيفيات الأولية بصفتها مقولة لأنها «أولية»، وبالتالي موضوعية؛ فلئن كانت تلك الكيفيات موجودة بدون الحاجة إلى الإحساس بها، فإنها توجد بالضّرورة قبل الخبرة الذاتية.

وذلك محل جدل في الفلسفة الحديثة، إذ يذهب كثير من الفلاسفة إلى أن التفكير في العالَم قبل وجود الفكر قول فارغ، ويُناقض ذاته.

فلا يسعنا أن نتمثّل ما يوجد «في ذاته» بدون أن يغدو، عند هذه الحالة، موجودًا «بالنسبة لنا». رأى كثير من المفكرين منذ عصر التنوير، حينما أثار إيمانويل كانط السؤال عن أي مفهوم للموضوعية الحقيقية، أن الكيفيات الأولية تبعًا لذلك هي مجرد ثانوية؛ وأولئك يقنعون بالقول إن العالَم في ذاته حقيقة لا يمكن معرفته.

لكن بوسعنا أن نفهم أن العالَم يوجد بمعزل عن فكرنا دون أن نعرفه.

يعود الفضل في ذلك جزئيًا إلى فكرة البَيْن ذاتية (intersubjectivity)؛ إذ إننا نعرف أننا لسنا نهلوس بشأن العالَم لأن آخرين يصفون العالَم كما نعرفه؛ ربّما نَصف العالَم من خلال كيفياته الثانوية، لكن توافُق هذه الأوصاف بطريقة أو بأخرى يعني أن هناك عالَمًا من الأشياء يوجد بمعزل عن فكرنا.

بيد أن ثمّة كذلك فهمًا حدسيًّا لذلك العالَم الموجود قبل الفكر، ويتمثل ذلك في الطريقة التي يؤثر بها العالَم على الفكر، أيْ الكيفية التي يُحدث بها الفكرَ.

في كلا الحالتين، لا يعرف الفكرُ الواقعَ في ذاته لأن الفكر نتاج الكيفيات الثانوية؛ وليس بوسع أفكارنا معرفة بين الذاتية نفسها، ولا حدسنا بالواقع. فكلاهما يسبقان المعرفة، ويوجدان في صورة فهم يتميّز عن المعرفة.

يمكِّننا الفنُّ من معرفة الواقعي فعليًا؛ إذ ينسج الفنان تمثُّلًا لجزء من الواقع ثم ينقله إلى المتلقي. يصبح ذلك جزءًا من الواقع نفسه، مزجٌ بين العقل والعالَم يسير وفق غاية.

إنه إعادة تمثيل، أو استعراض ذلك الجزء من الواقع في مخيلتنا، ما يتيح لنا اكتشاف حواسنا من خلال الفكر. أليس هذا هو التخيُّل في النهاية؟ فإننا بواسطة الفنّ نرى الرؤية، ونسمع السمع، ونلمس اللمس.

الحقيقة والضوء

اهتداء بهذه الفكرة، نظر فيلسوف القرن العشرين الألمانيّ مارتن هايدجر إلى تواصلنا مع الفن بوصفه «انكشافًا الحقيقة»

لا يعني هايدجر بـ«الحقيقة» حقيقة قضوية منطقية (propositional)، أيْ التطابق بين القضية والواقع؛ بل إنه كان يعني بالأحرى حقيقة وجودية أعمق من ذلك. إن الفنان، بحسب هايدجر، «راعي الوجود» الذي يكشف لنا الوجود من خلال فنّه.

وقد ضرب الفيلسوف مثالًا بلوحة حذاء ڤينسنت ڤان جوخ كمثال على الطريقة التي يكشف من خلالها الفنُّ شيئًا أصيلًا عن وجود ما يصوّره؛ تمثّل لوحة الحذاء «حذائية» [شيئية] الحذاء بطريقة يمتنع معها التعبير من خلال وصفها في الألفاظ.

ڤينسنت ڤان جوخ، زوج من الأحذية، 1886
ڤينسنت ڤان جوخ، زوج من الأحذية، 1886

تُشكِّل استعمالاتُ الأشياء العالَمَ من حولنا؛ كالأثاث، والنوافذ، والأدوات، والأغطية، والأسقف، والأسطح، والوسائل. إن جميع ما أبدع الإنسان هو «أداة» بطريقة ما.

بوسع الفن أن يحلّ الطبيعة «الأداتية» للأشياء التي يصوّرها –تلك الطبيعة التي ندرك في كنفها استعمال الأشياء وبالتالي قيمتها– وهذا ما يفعله في حالة حذاء ڤان جوخ.

فبدلًا من كونهما مجرد حذائين، فإنهما يستدعيان في ذهن هايدجر وجود الفلاح، والكدح في الأرض. يقول هايدجر: «يتردد في الحذاء صدى نداء الأرض المكتوم، وهي تهدي منحتها الهادئة من الغلة، واستبسالها أمام نزوات الشتاء، وفزع الجفاف».

وتكمن مشكلة ذلك التحليل الذي بسطه هايدجر للوحة حذاء ڤان جوخ في أن الفيلسوف يتناول العمل بالكيفية التي يدعونا إلى تجنُّبها.

فيقول هايدجر: «ولسوف يكون أسوأ خداع للنفس إذا قصدنا أن وصفنا، بوصفه فعلًا ذاتيًّا، قد رسم كل شيء على ذلك النحو ثم وضعه في داخل اللوحة».

يُلصق مؤرخ الفن ماير شابيرو (Meyer Schapiro) بهايدجر تهمة الوقوع في ذلك الخداع ذاته؛ فهو يُشير إلى أن ذلك ليس حذاء فلاح يحرث الأرض، لكن حذاء ڤان جوخ نفسه، الذي كان يقطن باريس آنذاك.

أشار شابيرو كذلك إلى أن وصف هايدجر «الخيالي» سينطبق بالمثل على زوج حذاء حقيقي بقدر ما ينطبق على لوحة تصور زوجًا من الأحذية؛ فقد ظل خيال هايدجر بعيدًا للغاية عن مقصد الفنان.

وإذا نحينا نقد شابيرو جانبًا، فإن هناك ما يمكن قوله بشأن تواصل قبل لغوي مع موضوع اللوحة، وهو تواصل ينزع «الأداتية» عن هذه الأشياء.

إن إساءة فهم مخيّلة المرء للوحة يؤكّد على فكرة أن العمل الفني يكشف الأفكار التي تلفُّ الواقع؛ إن بابًا حقيقيًّا يعدُّ بابًا، ولكن لوحة تُصوّر بابًا يمكن «قراءتها» بطرائق عدّة؛ فالباب قد يكون نصف مفتوحًا، أو نصف مغلقًا، أو يبعث على الشؤم، أو الأمل، إلى آخره، وذلك لأننا نكون عندئذ إزاء باب لا منفعة من ورائه، أي نكون بإزاء باب لم يعد «أداة».

تُشير الألفاظ التي يستعملها هايدجر بشأن إماطة اللثام (unconcealment) والحقيقة إلى جوهر الفنّ؛ فهو يكمن فيما وراء تأويل ما نُعاينه في اللوحة.

ليس ثمّة جوهر في الفن ذاته، وإنما ثمّة جوهر في العلاقة التي يستلزمها الفنّ. هذه العلاقة هي ضرورة اتصال مخيّلة المتلقي بمقصد الفنان كما يعرضه العمل الفني.

إن الجوهر هو ما لا يمكن رفعه عن الشيء دون أن يزول الشيء؛ حتى أكثر الأعمال الفنية «الجاهزة» راديكالية –كأن توضع الأشياء المعثور عليها (found objects) على قاعدة وتُسمَّى بعد ذلك فنًا– لا تكون فنًّا عندما تزول هذه العلاقة.

ونلمح في عمل لاتور –كما تبدَّى في لوحة الغش في أوراق اللعب وتحقَّق بالكامل في لوحة فتاة تزفر في الموقد– توضيحًا لهذه العلاقة.

بتبيين الأشياء لنا –عبر تمثيل فعل الرؤية ذاته– في لوحاته، فإن لاتور يتناول التصوير ذاته كما تناول ڤان جوخ زوج الأحذية؛ إذ هو يُحلّل [أيْ يُفكك] المظهر «الأداتي» للوحة –بوصفها شيئًا يُمثِّل شيئًا بالنسبة لنا– ويعرض بدلًا من ذلك التمثيل ذاته بوصفه واقعة مُجردة.

وإذا بنا نعي الطريقة الحدسية التي نتواصل بها مع العالَم قبل تفكُّرنا؛ أيْ العالَم في كيفياته الأولية، ذاك العالَم الغيبي.

يُداعب الضوء تحديدات الناس والموضوعات في اللوحة، ويجعلها مرئية، ولكن بالإضافة إلى ذلك يجعلها أيضًا معروفة؛ إن النور في الأفلاطونية –النور الخالص– سواء أكان من الشمس أو احتراق في المصباح، هو استعارة للمعرفة ذاتها.

والمهم بصفة خاصّة أن هناك مصدرًا وحيدًا للضوء؛ فالمصدر الذي بمقتضاه وحده إنما نعرف هذه الموضوعات هو نفسه حاضر في الصورة.

إن المصدر الوحيد للضوء، كما تناوله لاتور، هو «نقطة مستسرة» مضيئة؛ ويجدر فهم نقطة المنظور المستسرة هذه، بقطع النظر عن المسمى، بوصفها نقطة تفرُّد (singularity) اللوحة، النقطة التي تنبسط عندها جميع الأشياء في اللوحة وتُعرض من خلالها. فجميع الأشياء التي نراها تكون منبعثة من هذه النقطة في حين تبقى متصلة بها بصورة مستسرة. إنها مصدر جوهر هذه الأشياء.

انظر الآن في مصدر الضوء –كما عالجه لاتور– بالطريقة عينها؛ يشع الضوء مُداعبًا التحديدات الخارجية للأشكال المؤتلفة، واهِبًا إيّاها لونها، وشكلها، وحجمها، ونسيجها، ونصوعها. وبوسعنا تبيُّن جوهرها عبر الانعكاسات المتبدلة لهذا الضوء الخالص. إن مصدر الضوء، بوصفه «نقطة مستسرة» إلى درجة ما، يؤسس الكلَّ حتى نراه لا بعين الرؤية وحدها، وإنما بعين الفهم أيضًا.

جورج دي لاتور، المجدلية مع شعلتين
جورج دي لاتور، المجدلية مع شعلتين

في لوحة المجدلية مع شعلتين (حوالي 1640-44)، يضاعف لاتور مصدر الضوء الوحيد –الشمعة– في مرآة مزدانة صغيرة، فتكون صورة داخل صورة. فلا يرى المتلقي الشمعة سوى في المرآة، ويحيطها السواد من كل جانب.

ولكي تحدّق المجدلية في انعكاسها في المرآة، على المرآة أن ترجع إلى الخلف وتميل نحو اليسار؛ يبدو أن غاية تلك المرآة، إذن، من جهة أعين الناظر إلى اللوحة، ألا تعكس سوى الشمعة وحدها، الموضوع الذي تتأمله المجدلية.

في سياق التصاوير الدينية، لا سيّما تلك التي تتضمّنها كتب «الرموز الدينية» في ذلك الوقت، فإن ذلك التجاور بين المرآة والضوء يضمرُ قراءات ومقاصد روحية واضحة. ثمّة أيضًا جمجمة بشرية –تذكرة للموت «memento mori»– على حجرها، وحِلي ملقاة عند قدميها.

بيد أن هناك لعبة تتعلق بالرؤية في هذا المشهد تُدخل اللوحةَ في وضع الميتاتصوير؛ فبينما تتأمل المجدلية الضوء الحقيقي، نتأمل نحن كلًا من الضوء «الحقيقي» بوصفه صورة، بما أنه في اللوحة، والصورة التي تقبع داخل الصورة؛ أيْ انعكاس الشمعة. تهيئ هذه اللعبة الدقيقة البسيطة الناظر للقاء روحي أصيل مع الحقيقة.

يُبيّن لنا الانعكاس ظهر الشمعة، ولكنه مضيء على نحو طبيعي أكثر من الجانب الذي يقابلنا، بما أنه مضاء بصورة مزدوجة، إذ تضيئه نيرانه الحقيقية، ونيرانه المنعكسة في المرآة. يضيء ضوءُ الشمعة المنعكسة إذن – الذي هو صورة خالصة– الشمعةَ الحقيقيةَ، الذي نراه علاوة على ذلك نحن النظارة وحده المضيء في انعكاسه. بواسطة تلك الشبكة المُعقدة من العلاقات تجتلي الصورة بذاتها.

يُرمِّز ذلك الترابط بين مستويات مختلفة من الواقع داخل الصورة وخارجها اللوحة نفسها بوصفها موضوعًا للتكريس؛ أو لنستعمل مصطلح هايدجر، فإن اللوحة تفقد مظهرها «الأداتي» باعتبارها تمثيلًا محضًا، ومن ثم تدمج واقعنا بواقعها. تصبح لحظة لقائنا مع الصورة لحظة تأمُّل ترانستدنتالي [متعال].

وكما رأينا في الأمثلة الأخرى، فإن سُكون هذه اللوحة الذي يوحي بالرّهبة، وبساطتها المنطقية، وتشكيلها المتقن، والبساطة الهندسية في تصميمها، كل ذلك يُصيب شيئًا لم يصبه إلا قلّة من الفنانين، ولا يمكن لفيلسوف التعبير عنه في ألف صفحة أو أكثر؛ أعني الخبرة المشتركة المتمثلة في مُجرد الوجود.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.