تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
وصفَ «العهد القديم» العرب بأنهم أُمَّة مُطمئنة ساكنة آمنة. وعن هذه الأُمَّة -التي خرج دينها من بلادها وبلغتها ونزل على فردٍ من أفرادها؛ إذ هُم الأصل والمنبع لثقافتهم عبر القرون-، سَعت صاحبة السموّ الملكيّ الأميرة مها بنت محمد الفيصل، من خلال كتابها: «أُمَّةٌ على رِسْلِها: تأمُّلاتٌ من بلادِ العرب»، إلى معالجة تلك العلاقة المُلتبسة للإنسان العربيّ بحداثةٍ ظنّها كونيّة، ولم يفرّط في سعيه خلفها بإرث أُمّته العظيم، الذي قام عليه تقدّم الآخر الغربيّ فحسب، بل فرّط في لغته (وسكنه في هذا العالَم)؛ بهجرتهِ إلى لسانٍ فكريّ آخر.
الكتاب الصادر عن «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية»، هذا العام الجاري 2023، الذي يتكّون من 12 ورقة كُتبت في مُددٍ مختلفة -كما تشير مقدمة الناشر- يمثّل جزءًا من (المرويّة العربية)، إذ تقول المؤلفة في لقاءٍ معها عن تلك المرويّة:
«ببساطةٍ أن يحكي العرب قصتهم لأنفسهم أوّلاًّ، ثمّ يتعرّفون بعدها على مكانتهم الحضارية، إن جاز هذا التعبير، وعلى إرثهم واستحقاق الأجيال القادمة لهذا الإرث البديع».
كما ذكرت في الصفحات الأخيرة منه:
«نحن نرى اليوم، في الزمن الذي يَسود فيه الحديث عن العقلانية والعِلمية، أُممًا تنسج لنفسها مرويّة تاريخية مُختلقة تجبَّرت بها على أُممٍ أخرى وسلبت منها بلادها وخيراتها؛ لذا من المهم لأكثر من سببٍ تصحيح المرويَّة العربية بناءً على الواقع لا على النظرية» (1).
في سبيل ذلك، تناول الكتاب بقدرٍ من التفصيل تاريخ تشكّل أوروبا وعلاقتها المُضطربة بالكنيسة الرومانية وبالتراثين الإغريقي والعربي، ومن ثمّ ينطلق من هذا التأريخ لبيان خصوصية التجربة والحداثة الأوروبية، وبيان إشكالاتها المُستعصية خاصةً في تأليه الإنسان لذاته ونفيه لأيّ مرجعية خارجة عن ذاته، وصولاً إلى الهمّ الأساس للمؤلفة وهو بيان تمايز المسار الحضاري للأمَّة العربية الإسلامية، ودحض السرديات التي تهمّش المساهمة الكبرى لنا، نحن العرب، في تاريخ وتطور البشرية.
تنشغل كثير من ورقات الكتاب بالتاريخ الطويل والمُعقد للكنيسة ودورها في تشكيل أوروبا، وتعلّق المؤلفة على ذلك بأننا بحاجةٍ لفهم الكنيسة وتاريخها؛ إذا أردنا أن نفهم الغرب، فتلك العلاقة المُضطربة لأوروبا بالمسيحية وبالتراث الإغريقي هو ما شكَّل تاريخها سواءً في عصور (القرون الوسطى) أو في (عصر الحداثة). وتضيف في كتابها بأنّ فهم الحضارة الغربية الحديثة مرتبط بالبحث:
«في حقيقة جذورها الفكرية ومكوّناتها العِرقيَّة. هذه التجربة الإنسانية، التي يمكن القول: إنّها متميزة عن كلّ ما سبقها. ولا يخطر ببالنا أنه قد يكون لنا -نحن العرب- منطق ومنطلق حضاري موازٍ ومختلف» (2).
لأجل ذلك يُولي الكتاب -فيما يشرح كيفية تشكّل الوعي الأوروبي- اهتمامًا مفصّلاً بتاريخ تشكّل الفكر المسيحي -خاصةً علاقته- بـ الإرث الإغريقي، ابتداءً من ميل بعض مفكريّ القرون الأولى المسيحية لقبول تمازج الفكر الإغريقي والفكر الديني المسيحي، ثمّ تصاعد عِداء الكنيسة للفكر الإغريقي، الذي امتد لمئاتِ السنين، إلى الفتح العربي الذي أعاد إحياء الفكر اليوناني دون أدنى تحيّز ديني.
ثمّ عرَّجت المؤلفة على بداية التشكّل السياسي لأوروبا عبر انبثاق التحالف الكنَسي المَلَكي ثمّ الإمبراطوري، بين الكنيسة والقبائل الجرمانية بعد الفراغ الذي أحدثه سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية سنة 476م، ذلك التحالف الذي كان بدافع احتياج البابويَّة الرومانية إلى من يدافع عنها، ما تمثّل بالقوة العسكرية والسياسية للقبائل الجرمانية، إلاّ أن هذا التحالف آل إلى تنافسٍ سياسي حادّ بين البابويَّة وملوك أوروبا الجرمان، حيث أحدث شروخًا عميقة أنتجت -فيما بعد- الثورة الجرمانية على الهيمنة الرومانية الكنسيّة في مرحلة الإصلاح الديني. وكان من نتائج هذا الانتماء المزدوج للدين المسيحي والفكر الوثني الإغريقي أن أُصيب كثير من مفكريّ عصر الأنسنة الأوروبي بما وصفته المؤلفة بنوعٍ من «الفصام التأويليّ»، فهُم حسب رأيّ المؤلفة:
«يعملون ضمن هذه الثنائية، أيّ واقع الإيمان بالمسيحية في حياتهم اليومية، وفي الوقت نفسه استلهام النموذج الوثني الكلاسيكي كمرجع يُحتذى به» (3).
والأنسنة لم تكن في ذلك الوقت في عِداءٍ صريح للدين إلاّ أن ما قام به فرانشسكو بترارك Francesco Petrarca (ت 1374م) -الذي يُلقب بأبي الأنسنة- أسَّس لبناءٍ فكري لاديني، عُرف فيما بعد بـ: «عصر الرنسيس»، (أيّ إعادة الولادة). وتشير المؤلفة إلى أنّه بالرغم من الدور الأساسي لعلوم حضارة العرب في هذا التقدّم الذي بدأ من عصر الأنسنة إلاّ أن مفكروّ الأنسنة حاولوا التمايز عن ذلك الإرث العربي وعملوا على إزالة أيّ تأثيرٍ عربي على هذا التحوّل في الفضاء الأوروبي.
تقف المؤلفة عند مصطلحيّ: «الثقافة»، و«الحضارة»، متتبعة تاريخ تطوّر الفهم الدلالي لكِلا المصطلحين، مؤكدة أنّه بفضل هذا الرصد يمكننا الكشف عن شيءٍ من مسَار فكر الغرب «ما بعد المسيحية»، الذي انشغل ببناءِ مفاهيم يعوّض بها غياب المرجعية الدينية الجامعة (ومن ثمّ غياب المرجعية الأخلاقية والقيمية)، فمصطلح الحضارة:
«فكرة حديثة، ابتدعت في حقبة التنوير كمعين لفهم العالَم- بُعيد زمن الاكتشافات الكبرى- من منطلق منظورٍ غربيّ تقدّمي لاديني. وأصبح لهذا المفهوم المُبتكر قيمة ذاتية غائية، فكلَّما خفَت نبراس الدين اشتعل وهج “الحضارة” وتعاظمت أهميتها؛ لتصبح غاية تسعى إليها البشرية ومعيارًا تصوّب نحوه الآمال. وما تعنيه فعلاً هو التمثّل الكامل للتمدن الأوروبي لا غير» (4).
والمؤلفة تنبّه إلى أنها تستخدم مفهوم الحضارة في كتابها -بالرغم من معرفتها بإشكالياته وقصوره-؛ لأنّه أصبح دارجًا، ويجب معالجة تبعات فرضه من دون تمحيص على المخيّلة العربية.
بعد تفصيل خصوصية وتعقيد التطوّر الأوروبي، والاضطراب في الانتماء بين تراث ديني مسيحي وتراث إغريقي لاديني، يصبح الطريق ممهدًا -نظريًا- لنقد الحداثة الغربية والحدّ من إطلاقيّتها كحداثة كونية، وهو جانب يشغل حيّزًا كبيرًا من الكتاب. فالحداثة الغربية هي تجربة أوروبية خاصة؛ أولاً، لأنّ الأوروبيين حين حاولوا التخلّص من الكنيسة وإرثها الديني لم يكن بمقدورهم التخلّص من كل المفاهيم والأفكار المسيحية، فكثير من مفاهيم وأفكار التنوير كالتقدّم، و«الارتقاء في الزمن»، و«المهمة الحضارية»، هي مفاهيم وأفكار مسيحية انسلخت من بُعدها الديني المتجاوز. وثانيًا، كون المسَار الحضاري العربي، بعكس المسَار الأوروبي، لم يعانِ من ذلك الانتماء المُضطرب لتراثٍ غريبٍ عليه، ما مكّن العرب:
«بعد الاطمئنان إلى سلامة الدِّين ذاته، من الأخذ بأريحيةٍ وثقةٍ من جميع الأُمم… وفرَّقوا بين العلوم الدينية الإسلامية وأخرى عتيقة عقلية عُرفت بعلوم الأوائل» (5).
وتتبّع المؤلفة، ضمن سعيها لنقد الحداثة الغربية، تاريخ نشوء فكرة الفردية، وتقدّم عرضًا مختصرًا لمسَار صناعة الذات الحديثة في تاريخ الفلسفة الأوروبية، وصولاً لصياغة ما يطلق عليه فيليب رييف Philip Rieff (ت 2006م): الفرد السيكولوجي، «الذي يلجأ إلى الحلول العلاجية السيكولوجية في تنظيم حياته، وليس إلى الثوابت الدينية الأخلاقية». الفرد السيكولوجي المُنعتق من فكرة الحدود يفهم الفضيلة على أنّها كل ما يساهم في زيادة النشاط وسرعة الحركة، إنّه يمضي قُدمًا لكنه بلا وِجهةٍ يقصدها!
وفي إشارةٍ لتبعات استنساخ الحداثة الغربية في سياقٍ تاريخي وحضاري مختلف، ترثي المؤلفة لحالِ كثيرٍ من الحواضر العربية التي تهدَّمت دون أن تكون لها حصانة داخلية كان يمكن أن تقيها بعضًا من تبعات التفتّت الكامل للدولة الوستفالية المعاصرة. فتبنّي النُخب العربية لمشاريع أيديولوجية غربية فاشلة أدى إلى هدم الحصانة المجتمعية التقليدية كـ: القبيلة الراشدة، والأُسرة المُمتدة، وأنظمة الحُكم التقليدية. وتقدّم المؤلفة تحليلاً لخلفيات محاربة الأبويَّة وغيرها من أواصر التوازن المجتمعي الطبيعي، وعلَّقت على ذلك بقولها:
«هذا النقد الهائل مبعثه فكرة تفرّد الإنسان بصفته إلهًا، لأنّ في المخيّلة الكنسية “الأبّ” هو الإله؛ لذا كان لا بدَّ من قتل فكرة الأبوّة ذاتها وجعلها فكرة قاهرة مقيتة، لأنّ التفلّت من أيّ ضابط خارج عن الذات وأهوائها هو مقصد هذه الإزاحة».
فالأبوان هُما من يؤسِّس في النفس البشرية الاطمئنان إلى فكرة المرجعية ذاتها، والسماح ببناء أنساقٍ فكرية تمكّن الفرد السويّ من استيعاب مرجعياتٍ تراتبية خارجة عن الذات، وهي تؤكّد أن هذه المؤسسات التقليدية قد تعاني من بعض المشاكل لكن ذلك لا يعني التضحية بدورها التاريخي في توازن الإنسان والمجتمع. لكن أليس الحديث عن إشكالية التفلّت من الضوابط الخارجة عن الذات هو رفض للحريّات الفردية وتقييد للإنسان بحدود المجتمع والثقافة؟ تجيب المؤلفة:
«الحدود عوائق لمَن يريد أن يعيش متفلّتًا. ثمّ أليس هناك حدود صارمة وضابطة للظواهر السياسية والاقتصادية، لماذا مثل هذه الضوابط مقبولة؟ إذن، لا بد من تدبّر: ما نوع التفلّت المطلوب والمسموح به على أرض الواقع اليوم في عالَم الحداثة المتأخرة؟ لا توجد حضارة ذات بال بُنيت على مبدأ اللا حدود، بل الحضارة -في جانبٍ كبير منها- هي توافقات بين المركزي والهامشي. فكرة المرتكزات والهوامش ذاتها تفترض الحدود».
هل هذا النقد الذي تقدّمه المؤلفة للحداثة وتبعاتها يتقاطع مع نقد ما بعد الحداثة؟ تعلّق على ذلك بقولها:
«هناك فرق جذريّ -بطبيعة الحال-، لأنّني أنطلق من رؤيةٍ كونية مختلفة، ولأنّني لا أريد الوقوع في نفس الفصام التأويلي الذي وقع فيه أرباب الحداثة الأوائل. ثمّ إنّني لا أرى أنّ هناك “ما بعد الحداثة” بل هي “حداثة متأخرة”. فأبناء الحداثة المدلّلون انكشفت لهم مثالب آبائهم فانقلبوا عليهم بذلك النقد الكاسح العدمي، على عادة الأبناء العاقّين، ثمّ إنهم وصلوا -هُم أنفسهم- إلى طريقٍ مسدود، ما دعاهم إلى تبنّي قضايا معينة تعلّقوا بها لكيلا يغرقوا في عباب عدميتهم. يصف هذا المسار البائس كاتبان ملحدان، لكنّ نقدهما مُهم، هُما: هيلين بلكروز، وجيمس لندسي، في كتابهما: «نظريات متشائمة: كيف جعلت أبحاث الناشطين كلّ شيء عن العِرق، والجندر، والهُويّة – ولماذا هذا يضرّ الجميع؟» Cynical Theories: How Activist Scholarship Made Everything about Race, Gender, and Identity – and Why This Harms Everybody
إذن، نحن نسير خلفهم من مأزقٍ إلى مأزق، وسبب ذلك -في الأساس- يعود إلى طغيان النظرية على الواقع، وهذا الإيمان المُطلق بالنظرية من آفات الحداثة بما فيها الحداثة المتأخرة، وكتابي بيَّن خصوصية التجربة الغربية واحتياجها إلى مثل هذه التدابير الفكرية، ثمّ يأتينا ذلك التصوّر بوحدة المسَار الحضاري البشري!».
ينشغل الكُتَّاب في كثيرٍ من الأحيان بمعالجة مواضيع إنسانية عامة إلاّ أنّ مقصدهم يكون تدبّر حال أُمَّة بعينها، ألم يقل فوكو ذات مرّة إنّ موضوع كلّ كتبه هو أوروبا. وهذا ينطبق على المؤلفة التي أخَّرت الورقات التي تعنى بتاريخ العرب ومساهمتهم في تطور الحضارة البشرية عامة إلى آخر الكتاب كدلالة على أنّ ما قدَّمته من تأريخ لتشكّل أوروبا الفكري والسياسي ونقدها للحداثة ما هو إلاّ انشغال بحالِ الأُمَّة العربية الإسلامية وتأكيد على المسَار المختلف للحضارة العربية الإسلامية عن المسَار الغربي.
تتناول المؤلفة السردية الكلاسيكية عن دور العرب في تاريخ العلم بالدحض والنقد وتؤكّد في مواضع مختلفة من الكتاب على أنّ العرب هُم الوريث للحضارة الإغريقية وللعالم الهيلينستي بأكمله، بعد أن كان الاضطهاد البيزنطي للفكر الإغريقي قد وصل إلى مداه. بل إنّ بلاد العرب كانت قبل دخول الإسلام تمثّل حواضن للفكر الإغريقي، وبعد الإسلام قدَّمت الحضارة العربية قراءة مُنتقاة وعظيمة لإرث الإغريق أعادت إحياءه وصحَّحت عليه بعد طول سُباته. وتؤكّد على دور العرب في التقدّم العلمي الذي قدّمته الحضارة العربية الإسلامية دون نفي ما قدّمه العلماء من غير العرب، بخلاف ما تردده السردية الكلاسيكية، التي تهمّش الدور العربي وتنسبه لغير العرب. وهي تشير لذلك التحيّز الذي نجده عند كثير من المثقفين العرب مِمَن يحاولون تهميش الاستحقاق الحضاري العربي فيما يضطرون للبحث عن مشكاةٍ حضارية بديلة يضعون فيها أنفسهم.
في الختام.. هذا الكتاب، كما يصف نفسه، هو تأمُّلات من بلاد العرب، تؤكّد المؤلفة في ثناياه «أنّ هذه الأوراق تسعى إلى أن تكون مبادرة نحو فتح الحوار حول (الحضارة العربية)، انطلاقًا من منظورِ أهلِ بلاد العرب». تأمُّلات تأتي في ظلّ طغيانٍ لفردانيةٍ وماديةٍ تذهبان (بالإنسان الحديث) بعيدًا عن طمأنينته وسكنه في أسرته ومجتمعه، وتدفعانه إلى سعيٍّ محمومٍ واستغراقٍ في عالَمٍ فقدَ وجهه ومقصده.
الهوامش
1- «أُمَّة على رِسلِها»، ص 216
2- ص 114
3- ص 96
4- ص 79
5- ص 127