يحمل مفهوم التسامح في طيّاته خلفيةٍ دينيةٍ؛ إذ يجرّ معه تراثًا دينيًا زاخرًا وغنيًّا. وعلى الرغم من أنه يتلحّف بلحاف السياسة والأخلاق إلا أنّه مع ذلك يظل قابعًا في غياهب ما هو دينيّ. ولعلَّ هذا البُعد الديني الذي يحمله المفهوم؛ هو العائق الأساس في كونه لا يستطيع أن يفرِض نفسه عمَليًّا[1].
ينهل التسامح دائمًا من مرجعيةٍ دينية، ولا عيب في ذلك؛ فتلك بُنيته المؤسِّسة له، وما دام كذلك فيتوجب عليه أن يشتغل وِفق منطق متكافئ، بمعنى أنّ التسامح يجب أن يكون وفقًا لشروط معينة متحقِّقة، وألّا يكون مفروضًا أو مُلِزمًا، وفوقيًا، والحال أنّ التسامح غالبًا ما ينطوي على الإحسان[2]، والتفاوت، والتمايز، فذلك الذي ينادي بالتسامح إنما غالبًا ما يجد نفسه في الكفّة الضعيفة، أمّا القوي فغالبًا ما يحوز التسامح، ويمكنه أن يجودَ به على الآخر.
يتأسس منطق التسامح إذن على السيادة والعلياء: «سأتركك تحيا؛ سأترك لكَ مكانًا عندي»[3]. لمّا تحقّق معنا هذا الشرط الذي يلفّ التسامح ألاّ وهو الغلبة، تبيّن بجلاءٍ أنّ المفهوم لا يستقيم لأنه يؤسِّس لعلاقات إنسانية مختلفة ومغايرة؛ فهو دائمًا ما ينمّ عن كرم وسخاء نادرين، إنْ لم نقل إنه دائمًا ما يكون هِبة أو عطاء، بيْد أنه عطاء متبادل: «سأتسامح معك، لكن يجب عليك دفع الثمن؛ لذا يظلّ المفهوم أبويًّا»[4]، فـممارسات التسامح التي يشهد بها التاريخ تكشف عن الجانب الأبويّ؛ كونها تنطلق من الأغلبية نحو الأقلية. يحتفظ التسامح في هذه الحالة بعنصر من عناصر الرحمة والشفقة، يسمح فيه طرف للآخر بالانحراف بقدر معين عن الحالة «السَّويّة»، بشرط ألا يكون للأقلية أن تتعدى عتبة أو سقف التسامح[5]، بمعنى أن تظلّ في حدود المسموح به أو المتسامح بشأنه، وكأنّ المتسامِح يقول: «سأستقبلك؛ لكن شريطة التقيّد بتقاليدي وثقافتي ولغتي، سيكون استقبالاً حارًا، لكنّه لن يتجاوز حدود ما أحدّده أنا».
رغم كل المحمولات التي وصفنا بها مفهوم التسامح إلاّ أنه رغم ذلك يظلّ نوعًا من الضيافة[6]، ضيافة الغريب واستقباله ومحاولة إدماجه، بيْدَ أنّ التسامح على هذه الشاكلة ضيافةٌ مشروطة، فأنا أستضيفك لكنني رغم ذلك أظلّ صاحب البيت[7]، أظلّ صاحب النفوذ والقرار؛ فيصير التسامح مشروطًا، ويصبح إحسانًا جميلاً، وشفقةً أحيانًا، ولعلَّ أبرز مثال هو التوافد الكبير للاجئين السوريين على دول أوروبا، حيث جرى استقبالهم وضيافتهم، لكنها كانت ضيافة مشروطة قائمة على شروط محددة للمُستضيف، تتحدد في احترام اللغة والثقافة والسلوك؛ على «الغريب» أن يندمج، أن يذوب في المجتمع، عليه أن يتخلّص من ندوبه كغريب؛ فتصير الضيافة في حدودٍ معيّنة، ويصبح التسامح مشروطًا؛ بمعنى أنني لا أتحمّل الغريب في غرابته عنّي، لا أتحمّله كما هو في اختلافه ومغايرته وثقافته ولغته ومعتقده؛ وكلّها أمور لا تستقيم وحال البلد المُستضيف.
كان الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قد استعمل ذات مرّة عبارة: «سقف التسامح»[8]، كتحذير مبرَّر ذاتيًا؛ فبعد تجاوز عدد محدد من «الغرباء» الذين لا يشتركون مع الفرنسيين في جنسيتهم ولغتهم وثقافتهم، توقّع حدوث ظواهر شبه عضوية، بمعنى أنّ المجتمع باعتباره بُنية عضوية، سيلفظ هؤلاء المهاجرين، فيصل التسامح إلى نقطةٍ معيّنة[9]، إلى حدٍ لا يمكن تجاوزه، بمعنى ما لا يقبل التجاوز. وعلى هذا الحال يكون التسامح ضيافة مشروطة، متخوِّفة ومتحفِّظة من غرابة الغريب؛ لذا تبقيه جانبًا، وتصيّره هامشًا، حتى وإن بدا لنا أنّه أكثر اندماجًا من أيّ وقت مضى.
تعرّض كانط إلى مفهوم الضيافة في نصِّه القصير: «مشروع للسلام الدائم» في المادة الثالثة لتحقيق السلام الدائم. وعلى الرغم من أنّ كانط كان بصدد التنظير لمجتمعٍ عالميّ بدون حروب، ورغم الدور الكبير والمركزيّ الذي كانت تحوزه أوروبا آنذاك، إلاّ أنه لم يتعرّض لمفهوم التسامح. يعتبر كانط أنّ لكلّ أجنبي ألاّ يُعامل معاملة العدوّ في البلد الذي يحلّ فيه ما دام مسالِمًا[10]، وليس للأجنبيّ أن يدّعي حقّ الإكرام باعتباره ضيفًا؛ لأنّ ذلك يقتضي اتفاقات خاصّة تتيح له حقّ الضيافة، بل يقتصر حقّه فقط على الزيارة، وهو حقّ إنسانيّ يتيح للجميع إمكانية العيش المشترك؛ فالأصل أنّ الأرض مشاع للجميع، وليس لأحد نصيب أوفر من غيره[11].
إنّ الضيافة بالمعنى الكانطي ليست فضيلة اجتماعية، وليست كرمًا وسخاءً تجاه الغرباء، بل إنها حقٌ لكل الناس؛ بما أنه يمكن النظر إليهم كمواطنين بالقوّة في «دولة الإنسان العامة»[12]. بيْدَ أنّ مقاربة كانط هذه لا تفتح أفقًا للضيافة إلاّ لكي تغلقه من خلال «حقّ الزيارة»، الذي يسمح بالإقامة لمدة محدودة، أضف إلى ذلك أنّ الضيافة بحسب المنظور الكانطي تهدف إلى شرعنة التوسع التجاري للدول الأوروبية دون أن يخلّف ذلك استعمارًا أو احتلالاً لأراضي الآخرين.
لا يكترث دريدا إلى الضيافة – بمعناها الكانطي المحصور في حق الزيارة – التي تشرط على الضيف التقيد بشروط محددة، والتكيّف مع عادات وتقاليد ولغة وثقافة المُضيف؛ لأنّ هذا الأخير يكون هو المالك للأرض والموطن والبيت. لا تكون الضيافة مشروطة، بل تكون مطلَقة؛ إنها تفترض أنّ العالم مفتوح وبدون حدود: «إنّ الضيافة المشروطة التي أمنحها للضيف تفترض قطيعة مع الضيافة بمعناها العام والمتداول؛ الضيافة غير المشروطة، تقتضي الضيافة المطلَقة، أن يكون موطني مفتوحًا، وأن أمنح الغريب والآخر المطلَق والمجهول مكانًا عندي، وأمنح له الفرصة للاستضافة»[13].
إنّ الضيافة عكس التسامح الذي يبقى مشروطًا، وحتى يكون التسامح مفتوحًا، وحتى لا يتأسّس على منطق القوة، ثمّ الرحمة والشفقة والإحسان؛ عليه أن يكون ضيافة غير مشروطة، غير متوقعة، فجائية، فالضيافة غير محدودة ولا نهائية، وحيث أنها كذلك فإنها تتداخل مع فكرة اللّا مشروطيّة[14]، لا مشروطيّة الاستضافة والتضايف؛ فالضيف لا يكون كذلك إلاّ عندما يلقى الترحيب منّا على أساس أنه هو صاحب البيت: «تصرّف كأنّك في بيتك» عبارة عادةً ما ترددها الألسن، وكأنها تقول: «إنّك أنتَ صاحب البيت، ونحن الضيوف»، الأمر الذي يجعل المستضيف يغيّر من برنامجه وسلوكياته ونمط عيشه، بهدف إرضاء الضيف؛ تلك هي الضيافة في أبهى حللها: الاستضافة غير المشروطة.
الضيافة غير المشروطة هي تلك التي لا تُبالي بوجود «الضيف»، لا تسأله عن جنسيته أو دِينه أو عِرقه، فيصير أفق الضيافة مفتوحًا، لا يتوقّع غرابة الغريب؛ ذلك أنّ الضيافة ليست مفهومًا سياسيًا ولا تشريعيًا؛ لأن القوانين والتشريعات تحصر المفهوم وتحدّ من إمكانياته؛ إنّها تجعله تسامحًا مشروطًا وليس ضيافة، والحال أنّ الضيافة تقتضي انفتاحًا في الأفق الجغرافي والسياسي؛ فلا معنى للحدود الجغرافية إلا باعتبارها انفتاحًا، وُضعت الحدود ليتمّ تجاوزها، واختراقها، وإزالتها إن اقتضى الحال. لا تقتضي الضيافة في هذا المقام حدودًا، ولا تحدّها الحواجز، لأن هذه الأخيرة غالبًا ما تركّز على إبقاء الغريب غريبًا، فالغريب هو كذلك؛ لأنّه لا نهائيّ، والآخر يظلّ آخر؛ لأنّه غير متناهٍ[15]، إنه انفتاح على ذاتية الأنا، وإخراجها من نرجسيّتها وانغلاقها على ذاتها.
ليست الضيافة اختيارًا – ولا هي بالقرار المُتخذ مسبقًا – بل قانونًا ومبدأ؛ فهي لا تستقبل الآخر انطلاقًا من محلِّه أو مسكنه، بل انطلاقًا من قبوله وتقبّله، إنها ليست دعوة، بل زيارة مفاجئة، ضيافة لشخص غريب يصل زائرًا بوصوله غير المُحدَّد وغير المُنتَظر[16]، فالحدث لا يكون حدثًا إلا إذا كان غير متوقعًا؛ فهو يحدث لأنه يحدث، فما يحدث هو ما لا يمكن توقّع زمانه ومكانه وتفاصيله، فحيث لا يوجد تفرّد مطلَق لما لا يقبل الحسبان والاستثنائي، لا يوجد أحد، ولا آخر، ولا يمكن حدوث شيء[17]. لهذا السبب الضيافة مبدأ؛ فحضور الضيف/ الغريب يظلّ لا متوقعًا؛ لذا لا تقتضي الضيافة أيّ تفكير مسبق، ولا يمكن إعلانها، إنها ضربة مفاجئة، كونها تتجاوز التقاليد والعادات، وتخلق لغة ثالثة للتواصل؛ إذ لا نعود نعرِف مَن هو الضيف، ومَن هو المُستضيف.
من دون هذه الضيافة المطلَقة وغير المشروطة لا نستطيع التطلّع إلى الآخر، ولن تكون لدينا فكرة عنه، فهو سِرّ لأنّه آخر، والسِّر لا يكون كذلك إلا إذا أُفشي، وأُخرج للعلن، حينئذ يصير السِّر سِرًّا، وحتى يكون للآخر صفة السِّر علينا أن نتطلّع في وجهه، ونكشف ما خفي وتسترّ فيه، علينا تقبّله كما هو داخل أفق من الضيافة التي تترقب كل شيء إلاّ توقع حضور الآخر وزيارته، بما يسمح للعيش معًا. إنها لمفارقة أن تكون الضيافة غير مشروطة، وفي نفس الوقت غير متوقّعة؛ إذ حالما أستقبل ضيفًا غير متوقّع تتملّكني عفويتي، وأتصرّف وفقًا للشروط التي رافقت الزيارة المفاجئة، شروط الضيف، الدخيل، الغريب؛ فيتملّكني فضول التعرّف عليه، والتطلّع إلى وجهه، وكشف أسراره.
تتنزّل الضيافة منزلة التجربة الغامضة التي تُخرجنا من ذواتنا بهدف الانفتاح على الآخر المجهول وغير المُنتَظر؛ ذلك أنّ الضيافة تتجاوز القانون والتشريع لتصل إلى مبدأ إتيقيّ يجد صداه عند إيمانويل لفيناس، الذي يطرح مفهومًا للضيافة[18] يتأسَّس على غيريّة يكشف عنها الوجه. لا تلتزم الإيتيقا بأي معايير بقدر ما تعبّر عن يقظةٍ مسؤولة تجاه المُغاير[19]، فـ الحياة الحقيقية حسب لفيناس غائبة؛ لأنها غالبًا ما تتمركز على الأنا، في حين أنّ الوجود بمعناه الإتيقيّ ينحو دومًا نحو مكان الآخر، والمغاير والمغايرة[20]، لكن ميتافيزيقا الأنا والذات غالبًا ما تبدو مثل حركة تنبع من عالمٍ مألوف واعتياديّ وحقيقي، لتنحو نحو عالم غريب عنها، في اتجاه “هناك”»[21].
إنّ المُغاير المطلَق هو الغير، فهو ليس مجرد رقم بمعيّتي، إنه ينفصل عنّي ويقطع روابط الصِلة بيني وبينه، بأن يصير آخر ومغايرًا غريبًا، لكن ليس من منظور الأنا المنغلق، ذلك أنّ الفلسفة الغربية غالبًا ما انطلقت من تمركزٍ فجّ حول الأنا، بل إن الغريب ينفلت من قبضة الأنا؛ لأنه يُربك المسكن والمأوى[22]، فهو يمثّل بالنسبة لي «الغير»، الغريب الذي ليس لي عليه أي سُلطة؛ لأنه يحتفظ دومًا بتعاليه على التاريخ[23]، ولكونه ينفلت من قبضة الأنا، ومن زمنيّتها التي تجعله رهينًا بوجود الأنا.
ثمّة إذن ضيافة غير مشروطة؛ لأنها مرتبطة باللانهائي، إنها إعلان صريح بحقّ الغريب في ضيافةٍ مطلَقة دون شروط مسبقة، لذا يعطي لفيناس الأسبقية للمغاير على الأنا، ويقلب العلاقة الميتافيزيقية التي ترسخت في تاريخ الفلسفة الغربية؛ فالضيافة ليست كرمًا وسخاءً؛ إنّها مسؤولية تجاه غيريّة المُغاير.
ينطلق دريدا من نفس منطلق ليفيناس، لكنه يقوم بنوعٍ من التحليل الأفقيّ لمجموع الإشكالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بالضيافة: آثار العولمة، ومشاكل الهجرة، والهجرة غير الشرعية، ومشكلة اللاجئين، والمطرودون من بلدانهم، والمبعدون، وأولئك الذين بدون مأوى أو وطن أو جنسية[24]. إنّ كل هؤلاء والعنف المُمارس ضدهم سواءً كان ماديًا أو معنويًا، يفرضون نوعًا من الإجابات المباشرة، سنقول إنّ إحداها إتيقيّ محض، فوضعيتهم عبارة عن «نداء للضيافة الخالصة»[25]، ولن يقتصر الأمر هنا على ضيافة خيّرة وكريمة، بل يتطلّب تحوّلاً وتغييرًا في مفاهيم الفضاء الاجتماعية والجغرافية والسياسية، أيّ إنه تحوّل قانوني سياسي، ولكنه قبل ذلك تحوّل إتيقيّ[26].
تقتضي الضيافة مسؤولية، بيْدَ أنّ المسؤولية لا تلتزم بقوانين أو قواعد معيّنة، بل تحاول أن تجد توافقًا بين هذه الأخيرة وبين الضيف: فلو أخذنا مثال فرنسا سنقول بأننا مطالبون بإيجاد روابط بين النظام الفرنسي القائم على دستور، وقوانين، ولغة، وثقافة، وأخلاق، وثقافة فرنسيةكاملة الأركان، وبين استقبال الغريب بلغته وثقافته وعاداته، يجب أن نجد رابط تقاطع والتقاء بينهما؛ هنا تكمن مهمة المسؤولية في إيجاد هذا الرابط باعتباره حدثًا فريدًا[27].
لنبقَ قليلاً في فرنسا. يشكّل الإسلام اليوم بكل محمولاته العقدية والثقافية أحد الضيوف الذين لهم ثقل في فرنسا؛ بل إنه يشكّل الديانة الثانية بعد المسيحية، لكنه يبقى ضيفًا بشروط؛ يجب عليه ألاّ يتجاوز ويتعارض مع القيم العلمانية الفرنسية، التي تضع حدودًا فاصلة وصارمة بين الحياة العامة والخاصة. لكن السؤال المطروح هو كيف يمكننا أن نطالب الإسلام والمسلمين باحترام مبادئ العلمانية داخل مجتمع علماني؟ إنه نداء يؤكد أنّ المجتمع لا زال يقاوم وفقًا لنزعة دينية وليست علمانية، لأن أغلبية المسلمين أو العرب اليوم يحوزون الجنسية، وعليه فإنهم يتمتعون بكل الحقوق المدنية، لكن رغم ذلك تظلّ وضعية هؤلاء ملتبسة ومشوشة في فرنسا اليوم. وهنا تكون الضيافة مشروطة بقواعد وقوانين، تكون ضيافة في حدود معينة، ووفقًا لعتبة وسقف لا يُمكن تجاوزهما، ومن ثمّ لن تكون ضيافة، بل إنها إقامة مشروطة.
يذكر الكاتب الفرنسي/ اللبناني أمين معلوف، في كتابه «الهُويّات القاتلة»، أنه منذ أن غادر لبنان سنة 1976، للاستقرار في فرنسا، طُرح عليه سؤال عديد المرّات: هل تشعر بأنّكَ فرنسي أم لبناني؟ وكان يجيب دائمًا: «هذا وذاك»[28]. تكشف وضعية أمين معلوف، وآخرين كُثر، عن جوهر الضيافة من خلال ذواتهم؛ يشعرون بأنهم في بلدانهم، لكنهم لا يهجرون جذورهم، وحينما يفكِّر أحدهم في السفر والاستجمام، فربما يقصد موطن أجداده، لكنه ما يلبث أن يقضي فترة وجيزة ويعود إلى دياره وموطنه: إنّها وضعية ملتبسة لضيافة ذات وجهين متداخلين: أن تكون في موطنك، لكنَّك عند الآخرين.
يؤكد دريدا على المعنى المزدوج لكلمة (l’hôte)، فهي تفيد في نفس الوقت الضيف والمُضيف، ولأن الكلمة تسقطنا في تشويش عندما نستدل بأمثلةٍ حول الضيافة، يأخذ دريدا مثالاً لألبير كامو في قصته «المنفى والمملكة»، حيث يذكر عبارة: «الجزائر الفرنسيّة» لدرجة لا نعرِف مَن هو الضيف والمُضيف هنا[29].
إنّ إمكانية استقبال المهاجرين لا يؤدي بالضرورة إلى تهديدٍ أو خوف من الآخر الغريب، إنه يشكّل إمكانية معطاة للمُضيف بإحساسه بموطنه الخاصّ، فأنا لن أكون ما أنا عليه، ولن يكون لي مأوى ولا أمّة ولا لغة ولا مدينة؛ إلاّ أمام ضيف وقِبالة غريب[30]؛ ذلك أنّ لعبة الاختلاف والتمايز لا تتم إلاّ مع الغرباء والآخرين، وبفضلهم نستطيع التعرّف على ذواتنا من خلال كشفها لهم، وانفتاحها عليهم؛ إنني لا أعرف الغريب إلا من اختلافه معي: ملامحه ولغته وثقافته. قد يحصل أن يجد الإنسان نفسه غريبًا[31] في موطنه عندما يلتقي جماعة لا تتكلّم لغته ولا تتقاسم معه ثقافته، الأُلفة بهذا المعنى غرابة؛ والغرابة هي التي تخرجنا من ذواتنا وتقوقعنا، وتجعلنا ننفتح على الآخر/ الغريب.
[1] – إنّ البعد الديني الذي يلف بمفهوم التسامح يشكل عائقًا أمام استنباته في الواقع، لأنّ تاريخ الإنسانية يبين أن أقصى مظاهر اللا تسامح إنما كانت بين أتباع الديانات، والعكس صحيح، لكن التسامح وفقًا لهذا المنطق غالبًا ما يأتي من فوق، بمعنى من الأغلبية المسيطرة.
[2] – جاك دريدا، المناعة الذاتية: انتحارات واقعية ورمزية، حاورته جيوفانا بورادوري، ضمن كتاب، الفلسفة في زمن الإرهاب، حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا، ترجمة وتعليق: خلدون النبواني، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2013، ص. 204.
[3] – نفسه.
[4] – يورغن هابرماس، الأصولية والإرهاب، حوار مع جيوفانا بورادوري، سبق ذكره، ص. 65.
[5] – نفسه.
[6] – يؤكد جاك دريدا أنّ التسامح عكس الضيافة، أو هو حدها على الأقل. انظر: جاك دريدا، المناعة الذاتية: انتحارات واقعية ورمزية، سبق ذكره، ص. 204.
[7] – عبد السلام بنعبد العالي، ماذا نفعل بكل هؤلاء الغرباء؟ جريدة الاتحاد الإماراتية، ع. 13 ، أكتوبر 2016.
[8]– تشير هذه العبارة ضمنيًا إلى شروطٍ مسبقة يحددها أحد الأطراف لبدء سيرورة التسامح، مفادها أن المُستقبل غالبًا ما يتسامح على مضض؛ فيكون كريمًا وسخيًا ومعطاءً، لكن بشروط معينة تتحدد في عتبة لا يمكن تجاوزها، ولا يجوز تخطيها، إنه التسامح الأبويّ الذي ذكرنا بعضًا من تفاصيله، لكونه لا ينم عن قناعة بقدر ما يضمر تفوقًا على الآخر الغريب الذي أتسامح معه.
[9] – جاك دريدا، المناعة الذاتية: انتحارات واقعية ورمزية، سبق ذكره، ص. 204-205.
[10] – إيمانويل كانط، مشروع للسلام الدائم، ترجمة: عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، 1952، ص. 60.
[11] – نفسه، ص. 61.
[12] – سيلا بن حبيب، من كانط إلى هابرماس، هل يمكن الجمع بين الكوسموبوليتية والديمقراطية؟ ترجمة: رشيد بوطيب، مركز جوته، فكر وفن، يونيو 2012.
[13] – Jacques Derrida, De l’hospitalité, Calmann-Lévy, 1997, p. 31.
[14] – Jacques Derrida, Adieu à Emmanuel Levinas, Galilée, 1997, p. 91.
[15] – Jacques Derrida, « Hospitalité », in Poros : atelier interdisciplinaire avec et autour de Jacques Derrida, sous la direction de F. Keskin et O. Sozer, Istanbul, COGITO, n. 85, 1999, p. 44.
[16] – جاك دريدا، المناعة الذاتية: انتحارات واقعية ورمزية، سبق ذكره، ص. 205.
[17] – Jacques Derrida, Voyons, Galilée, 2003, p. 203.
[18] – لا نجد في واقع الأمر ذكرًا كثيرًا لمفهوم الضيافة في كتاب لفيناس الأساس «الشمولية واللانهائي»، بل نجد بالأحرى مفهوم الاستقبال «accueil».
[19] – يكتب لفيناس كلمة autre بحرف كبير هكذا: Autre رغم أنها تأتي في وسط الجملة، وترجمناها بالمغاير الذي يحمل اختلافه وغيريته في ذاته وليس انطلاقًا من الأنا، وهو بذلك يجعل هذا المفهوم يختلف عن مفهوم الآخر الذي دأبت الفلسفة الغربية على تحليله وإخضاعه للدراسة من منظور الأنا. انظر:
– إيمانويل لفيناس، المطابق والمغاير، ترجمة خالد العارف ومصطفى العارف، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، يونيو 2017.
[20] – Emmanuel Levinas, Totalité et infini : Essai sur l’extériorité, Dordrecht: Academic Kluwer, 1971, p. 21.
[21] – Ibid.
[22] – Ibid, p. 28.
[23] – Ibid, p. 30.
[24] – Jacques Derrida, De l’hospitalité, op. cit, p. 81.
[25] – Jacques Derrida, Manifeste pour l’hospitalité, sous la direction de M. Seffahi et M. Wieviorka, Paris, éd. Paroles d’Aube, 1999, p. 100.
[26] – Jacques Derrida, Adieu à Emmanuel Levinas, op. cit, p. 131.
[27] – Jacques Derrida, Manifeste pour l’hospitalité, op. cit, p. 114.
[28] – أمين معلوف، الهويات القاتلة، في الانتماء والعولمة، ترجمة نبيل محسن، دار ورد لنشر والتوزيع، 1999، ص. 7.
[29] – Jacques Derrida, Manifeste pour l’hospitalité, op. cit, p. .118.
[30] – Ibid, pp. 118-119.
[31] – مسألة الغرابة هنا تحتاج إلى تمحيصٍ وتأمّل، حتى نتبين أوجهها، فإذا كان «الغريب» هو ذاك الذي ليس في موطنه، وإذا كانت الغرابة لا تتحقق إلا خارجًا، ولما كانت الغربة انفتاحًا وهجرةً وخروجًا، فإنها لا تتحقق إلاّ وفقًا لهذه الشروط، فكما لو أنّ الغرابة والغربة لا تصير كذلك إلا بمواجهة الآخر، وانفتاحًا عليه، وخروجًا عن الذات، ومن شأن الغربة أن تفتح الآفاق وتمد الآماد، وتطلع المرء على التجارب، فلولا التجارب لعُميت المذاهب، حتى قال ابن قيم الجوزية: «وإنّما يعرف قدر (التجريب في الحياة)، من اجتاز القفار، واقتحم البحار، وعرض له ما يعرض لسالك القفر، وراكب البحر. ومن لم يسافر ولم يخرج عن وطن طبعه ومرباه، وما ألف عليه أصحابه وأهل زمانه، فهو بمعزل عن هذا». ومن فضائل الغربة ومزاياها أنّها إلى التسامح أقرب، وإلى الرزانة أدنى، «فالغريب تحتمل هفواته، وتغفر جناياته، لبعد داره، وشط مزاره، وحاجته واضطراره». انظر:
– محمد الشيخ، كتاب الحكمة العربية، دليل التراث العربي إلى العالمية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2008، ص. 174- 180-181.
– ولا يسعنا أن نذكر ونعدّ الكتابات التي اهتمت بالغربة والغرابة، ليس فقط على جهة السلب، وإنما على جهة الإيجاب أيضًا، بما تعنيه الغربة من انفتاح واكتشاف وتجريب وخروج عن الذات.
– أبو عبد الله بن قيم الجوزية، مدارج السالكين، تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت، دار الفكر، 1988، مج 1.
– أبو النعيم بن عبد الله الأصبهاني، كتاب أدب الغرباء، نشره صلاح الدين المنجد، بيروت، دار الكتاب الجديد، 193.
– أبو حيان التوحيدي، كتاب الإمتاع والمؤانسة: وهو مجموع مسامرات في فنونٍ شتى.
– أبو حيان التوحيدي، الإشارات الإلهية، تحقيق: ودادا القاضي، ط 2، بيروت دار الثقافة، 1982.