في إحدى ليالي هذا العام، استيقظتُ لأجد رجلًا مسنًّا في غرفة نومنا. وكنتُ قد فررت أنا وشريك حياتي من حالات الوفاة المتراكمة جرّاء تفشي فيروس كورونا في نيويورك إلى الأمان النسبي في الريف، حيث تمتلك عائلته منزلًا متهالكًا يصدر صريرًا مزعجًا، بُني في القرن التاسع عشر.
حينما رأيتُ الرجل -كان نحيفًا بلحيةٍ بيضاء وشعرٍ أشيب وعينين حائرتين يملؤهما الحزن- جلستُ منتصبةً ورحتُ أهزّ شريكي محاولة إيقاظه. سألته في همس: «من هذا؟» فقام وهو نصف مستيقظ، متكئًا على مرفقه واستدار لينظر، ثم أجاب والنعاس يملؤه: «ذاك؟ ذلك هو أنا عندما تقدمت في العُمر»، ثم عاد للنوم على الفور. وفي الصباح، لم يكن يتذكّر شيئا مما حدث.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها شخصيات شبحية، فقبل بضع سنوات، وفي فيلا يبلغ عمرها 500 عامًا في بلدة مغاربية في التلال الإسبانية، بينما كنت أتحرك من فراشي، وجدت فتاة صغيرة تحدق في وجهي. أما في شقتي السابقة في سيدني فكثيرًا ما كنتُ أرى يدين بلا جسد تأتيان من النافذة، أو عناكب عملاقة تزحف على وسادتي، أو أسمع أصواتًا تناديني من الخارج تجعلني أسير، كمَن أغوتها حوريات البحر في الأساطير الإغريقية، نحو الشرفة حيث أستيقظ مفزوعةً.
وذات مرة، رأيتُ أيضًا في أحد الفنادق التاريخية في الدنمارك كلبًا من فصيلة داشهند يركض فوق الأرض، وكان نصفه الخلفي مقطوعًا بالكامل بمنشار، وبدت أردافه في فوضى دموية مؤلمة. كان المشهد هزْليًّا بعض الشيء لو لم يبدُ حينها مُروِّعا للغاية.
وعندما أسررتُ للبعض بهذه الرؤى، تلقيتُ ردودَ أفعال مختلفة: اعتقد عدد كبير من الأصدقاء أنني مجنونة، أو إن لم أكن مجنونة على نحوٍ مؤكد، فهذا دليل على القلق والتوتر. وأخبرني أولئك الذين يؤمنون بالخوارق أنه لدي موهبة رؤية الموتى، وهي هبةٌ يتعيّن عليّ إما تسخيرها أو طردها. أما أحد الأطباء فاعتقدَ أنني قد أكون مُصابةً بالصرع الليلي. ثم صادفتُ تفسيرًا آخر: الهلوسة.
وتحدث الهلوسة التنويمية «الهيبناغوجيا» قبل النوم مباشرة: ففي إحدى الدراسات التي أُجريت عام 1996م، مَر 37% من المشاركين بهذه التجربة كثيرًا؛ بما يصل إلى مرتين في الأسبوع. ويُعتقد أن نسبة أكبر من الناس يمرون بهذه التجربة، لكنها هلوسات طفيفة لدرجة تجعل من الصعب عليهم تذكّرها أثناء وعيهم.
سُجّلتْ أول حالة لما يُعتقد الآن بأنه هلوسة تنويمية، والتي كانت مصحوبة بشلل النوم (حيث يجد الشخص نفسه غير قادر على الحركة بشكل مؤقت عند خلوده للنوم أو عند الاستيقاظ)، في عام 1664م.
نشر الطبيب الهولندي إيسبراند فان ديميربروك حالة امرأة تبلغ من العمر 50 عامًا كانت«مُمتلئة وقويّة». بيد أنها في الليل، وعند محاولة التعمق في النوم، كانت «تعتقد بأن الشيطان يرقد فوقها ويمنعها من التحرك، وأحيانًا، كانت تعتقد بأن كلبًا ضخمًا يخنقها، أو أن لصًّا مستلقٍ على صدرها؛ مما يجعلها عاجزة عن الكلام أو التنفس، وعندما كانت تحاول جاهدةً التخلص من ذلك الثقل، كان جسدها عاجزًا عن الحركة». وبعد ما يربو على قرن، في عام1781، رسم الفنان الأنجلوسويسري هنري فوسيلي لوحته «الكابوس»، وفيها يجثم شيطانٌ صغير مكفهر فوق جسد امرأة فاقدة للوعي ترتدي ملابس بيضاء.
كلمة هلوسة (hallucination) التي صيغت للمرة الأولى في القرن السادس عشر، تشير في معناها إلى «العقل الشارد»، لكن وكما توضح لوحة فوسيلي وملاحظات فان ديميربروك، تعتبر الهلوسات أكثر حضورًا من الصور التي تستحضرها الذاكرة أو المُخيّلة؛ إذ إنّها تبدو خارجية، وتحتشد من الخارج نحو الداخل، ويكون الشعور بها في غاية الواقعية.
وفي كتابه «هلوسات»، سجل طبيب الأعصاب الراحل أوليفر ساكس حالة مريضة وصفت هلوساتها بالتجربة المماثلة لتجربة مشاهدة فيلم سينمائي.كانت روزالي، وهي سيدة عمياء في التسعينيات من عمرها، ترى أشخاصًا يرتدون ملابس شرقية «يتوشّحُون العباءات، ويسيرون على الدّرج صعودًا وهبوطًا»، أو مشاهد لـ«مبنى أبيض، والثلج يتساقط؛ ثلج ناعم يتساقط حول المكان. أرى حصانا […] بسرجٍ يجرّ وراءه ذلك الثلج».
كانت روزالي -كما يوضّح ساكس- مُصابة بمتلازمة تشارلز بونيه: تؤثر هذه المتلازمة على حوالي 10% من المصابين بضعف البصر، وتحدث الهلوسة عندما تعمل أماكن الرؤية في الدماغ على تعويض ما لم تعد العين قادرة على رؤيته. سُمّيت المتلازمة على اسم الطبيعاني تشارلز بونيه من مدينة جينيف في القرن الثامن عشر، حيث أصبح جدّه تشارلز لولين، والذي كان في صحّةٍ عقليّة ممتازة، يرى هلوسات جليّة وحيّة بعدما شرع في فقدان بصره.
كانت هلوسات لولين سخيفة في بعض الأحيان، فمرة رأى منديلاً يطوف في الأرجاء، وكانت الهلوسات غريبة للغاية في أحيانٍ أخرى، فعندما جاءت حفيدتاه لزيارته ذات يوم، قال: «يا لوسامة السيّدين اللذين أحضرتماهما معكما! لِم لمْ تخبراني بأنهما قادمان؟». أصابتهما الحيرة؛ إذْ لم يكن معهما أحد.
يمكن أن تتراوح الهلوسة من كونها مزعجة إلى خطيرة (يمكن أن يصاب مرضى الفصام بالهلوسة الصوتية التي تملي عليهم الأوامر). ففي كتاب ساكس، رأى رجل أعمى هلوساتٍ مُخيفة في الليل: عندما رأى شخصًا يحمل سكينًا ملطخًا بالدماء، صرخ الرجل: «اخرج من هنا بحقّ دماء المسيح!».
يعاني دونالد فيش، وهو مريض آخر ورد ذكره في الكتاب، من الهلوسة التنويمية المزمنة، والتي تحدث عند استيقاظه من النوم. وصف فيش رؤية «شخصية ملاك يقف فوقه بجانب شخصية ملك الموت مرتديًا السواد، وجثة متعفنة ملقاة بجانبي، وتمساح ضخم يجثم على حلقي، وطفل ميت على الأرض مُلطّخ بالدماء، ووجوه بشعة المظهر تضحك عليّ، وعناكب ضخمة، يتكرر ظهورها، وأيدي ضخمة على وجهي».
هل من الغريب إذن أن يربط العديد من العلماء الإيمان بالخوارق الطبيعية -من الكائنات السماوية إلى الشياطين والأشباح الغاضبة- بالهلوسة؟
تُرْجِع عالمة النفس كارولين وات العديد من أحداث رؤية الأشباح للهلوسة -وهي عضو مؤسس في وحدة كويستلر لعلم النفس الخوارقي في جامعة إدنبرة- والتي تبحث في الاعتقاد بالخوارق. قالت لي كارولين في إحدى المقابلات: «إذا كنتِ تستحمّين أو تُنظفين باستخدام المكنسة الكهربائية، فقد تهلوسين بسماع رنين جرس الباب أو رنين هاتفك؛ وذلك لأنّ عقلك يحاول استيعاب صوت غير عادي». وتضيف: «تحدث العملية ذاتها مع الإدراك البصري».
وفي حين يُعدُّ العالم الغربي الحديث الهلوسةَ على أنها نذير بالجنون، أو بوجود خلل في الدماغ -ما دفع الكثيرين للتستر على رؤاهم خوفًا من النبذ أو السخرية أو اعتبارهم معتلين عقليًا- فإن الثقافات الأخرى على حدّ قول ساكس «تعتبر الهلوسة -مثلها في ذلك مثل الأحلام- بمثابة حالة مميزة من الوعي، حالة يسعى المرء لخوضها عن قصد، وذلك من خلال الممارسات الروحية، أو التأمل، أو المخدرات، أو العزلة».
ويناشد ساكس قُرّاءه بعدم تجاهل الهلوسات، ولا سيما تأثيرها على تطور السرديات الثقافية والدين والفن. «هل تسبق الأنماط الهندسية التي نراها في حالات الصداع النصفي وغيره من الحالات مواضيع فن الشعوب الأصلية؟ هل أدت هلوسات الليلبوتينيين التي يُرى فيها كائنات صغيرة الحجم (وهي هلوسات شائعة) إلى ظهور كائنات الآلف القزمة، والعفاريت الصغيرة، ومخلوق الليبريكان الأسطوري القصير، والجنيات في تراثنا الشعبي؟ هل الهلوسات المرعبة للكابوس؛ حيث تنتاب المرء وجود كائنات شريرة تخنقه، تؤدي دورًا في تكوين مفاهيمنا حول الشياطين والسحرة أو الكائنات الفضائية الشريرة؟ هل تؤدي نوبات “النشوة”، كتلك التي أصابت دوستويفسكي، دورًا في توليد شعورنا بالإلهي؟».
في الواقع، اعتمد إدغار آلان بو على الهلوسة التنويمية لتغذية مخيلته، وكان يجبر نفسه على الاستيقاظ تمامًا أثناء حدوث الهلوسة حتى يتمكن من تدوين ما رآه.
كان بو يثمّن هذه الزيارات المظلمة في الليل، أما أنا فلا. عندما تحدث لي هلوسة، أعلم أنها في ذهني وحسب؛ وأنني إذا جلست وأضأت مصباحًا – كما أفعل في معظم الأحيان – فستذوي هذه الأشياء وتتلاشى ببطء في الظّلال. لكنها ما زالت تطاردني.
وصفت روزالي، مريضة ساكس، الأمر وصفًا مختلفًا. عندما «رأت» شخصيات مخيفة لرجال يرتدون بذلات داكنة، ويعتمرون القبعات، تُحيط بها، اعتقدتْ أنهم ينذرون بموتها، يُضيف ساكس «رغم أنها كانت تعلم بأنّها إذا مدّت يدها نحوهم فستمر من خلالهم».