«مهاكاة ذي الرُّمَة» لحيدر العبدالله: الزيارة والأطروحة ثمّ المثال والقرينة

تستغرق 6 دقائق للقراءة
«مهاكاة ذي الرُّمَة» لحيدر العبدالله: الزيارة والأطروحة ثمّ المثال والقرينة

الزيارة

لطالما تغيّرت نظرتنا عن الأشياء والأماكن والناس، بمجرد قرارنا زيارتهم، لا النظر إليهم من بعيد، والزيارة تُغيّر بحسب الزائر، كما تُغيّر القراءة بحسب القارئ. الشاعر حيدر العبدالله حين زار اليابان قرّر أن يكون زائرًا وقارئًا في آنٍ معًا، لا كما فعل رولان بارت، الذي قال في كتابه عن زياراته الثلاث إلى اليابان في «إمبراطورية العلامات»: «كنتُ في تلك البلاد قارئًا، لا زائرًا». العبدالله فعل ذلك من خلال كتابه البديع: «مهاكاة ذي الرُّمَة-أطروحة الهايكو العربي»، الصادر عن دار أدب للنشر والتوزيع 2022.

 من علامات قراءة المكان وثقافته قراءةً جادة السعي إلى الربط بينه وبين الذات، ثقافيًا وجماليًا، والبحث عن سِرّ الارتباط بجماليته التي تدبّ داخلنا؛ خاصةً إذا كانت علاقتنا بالمكان وبإنسانه علاقة تصالح وتسامح، لا يشوبها تاريخ من الصراع، كاليابان بالنسبة للإنسان العربي، وهذا ما حاول الكاتب إيضاحه من خلال باب الكتاب الأول (القناطر)، إذ كانت مستويات الربط بادية في أقسام هذا الباب، لكن الربط الأكبر كان بين بِركة باشو وحُزوى ذي الرُّمَة، بين نظرة شاعر الهايكو الأعظم الذي أسَّس لعلاقة المتسامح مع الطبيعة شِعرًا، وبين ذي الرُّمَة شاعر العربية الفذ الذي فنيَ في الطبيعة، بحسب تعبير شوقي ضيف، الذي التقطه الكاتب بذكاءٍ ووظّفه أجمل توظيف في سياقٍ جمعه بين ثقافتين ليس باليسير الجمع بينهما، لا زمانيًا ولا مكانيًا، مستخدمًا تسامح وسعة صدر النظرية الأمريكية في الأدب المقارن.

نجد الكاتب في هذا الباب يرصف الأحجار الرئيسة للقنطرة التي تنبّه إلى وجودها، بين المبادئ التي تقوم عليها قصيدة الهايكو، والعلاقات الممكنة أو المحتملة لدى الشِّعرية العربية، المتمثّلة في النموذج الأمثل لها وهو شِعر ذي الرُّمَة، وهذا الانتباه لم يكن ليتأتى إلاّ لقارئٍ متمرس، مشبع بقراءة النمطين الشِّعريين: ديوان الهايكو الياباني الواسع، ومدونة الشِّعر العربي بضخامتها، ما مكّنه من التقاط شِعر ذي الرُّمَة تحديدًا من بين فصول هذه المدونة العظيمة قدرًا وكمًّا، وليكون هذا الانتباه طبيعيًا وليس فيه أيّ مستوىً من مستويات التصنُّع، منح الكاتب لقارئه مساحة للمشاركة، فعرض عليه تاريخ الهايكو وتصوّراته عنه، ثمّ قدّم له كيف يمكن لذي الرُّمَة أن يكون «هاكيًا» هو الآخر، لا من حيث التأثر بالثقافة اليابانية، فهذا مستحيل، بل من حيث الإرث الإنساني المشترك، الذي ينبت في داخل الإنسان بسبب الطبيعة نفسها.

الجميل أنّ حيدر العبدالله لم يفعل ذلك بالطريقة التقليدية؛ بل على طريقة الشاعر المغامِر، فتجده يستخدم اللغة الشِّعرية حينًا، والتأسيس المنهجي حينًا آخر، في توازنٍ جميلٍ وعجيب، يجنح إلى التطرّف في بعض المواضع، لكنه تطرّف محمود إذا ما انتبهنا إلى كون الموضوع منذ عنوانه الرديف مقدّم كأطروحة، أو مقترح جمالي لا ينقصه جدية التناول ولا القدرة على مستوى الأدوات المنهجية، ولو ذهبنا نتلمّس جانب المغامرة في الأطروحة سنعثر عليه في نظرته الشخصية للموضوع، لكننا سنتسامح مع هذه النظرة الشخصية جرّاء المتعة والفائدة المضافة في طيّات أبواب الكتاب؛ لا سيّما بابه الأول الذي أجد فيه جمالاً لا متناهيًا، ومساحة رائعة من الحوارية الفكرية والجمالية، التي نادرًا ما نجدها في الأطاريح النقدية، وأنا أقول «النقدية» من باب التجاور، فهذا النوع من الكتب لا يمكن وضعه في خانة الكتب النقدية، كما يصعب إبعاده عنها؛ لأنه قريبٌ منها من حيث منهجية الوضع والتنظيم، نافرٌ منها بسبب توسّله بالجمال اللغوي ورحابة الأفق.

الأطروحة

تتوزّع أطروحة الكتاب -إذا دققنا النظر- بين باب الكتاب الأول والثاني؛ أيّ بين باب «القناطر»، وباب «أطروحة الهايكو العربي»، فالكاتب في الباب الأول بيّن الدوافع والمحفزات، ثمّ اشتغل على وضع اللبِنات المنهجية التي كان أميزها نحته للمصطلح العربي للهايكو: «هكا يهكو هكوًا وهكاءً فهو هكاء وهم هكاة». ومن ثمّ استفزازه للقارئ العربي، وللشعراء العرب الذين كتبوا هذا الجنس الشِّعري سلفًا؛ منذ ستينات القرن الماضي، حيث يرفض معظم مقترحاتهم الشِّعرية في كتابة الهايكو، وقد ذهب إلى أبعد من الرفض حين اتهمهم بالخروج عن مقومات النموذج الأصلي (الياباني) وشروطه الفنية، كما لفت انتباههم للنموذج العربي الذي يقوم عليه مقترحه الشخصي من خلال إعادة النظر في شِعر ذي الرُّمَة، وتقاطع تجربته الشِّعرية مع جوهر الهايكو.

وفي الباب الموسوم بـ«أطروحة الهايكو العربي»، وهو بابٌ لطيف وهام، يسير بنا الكاتب في ملكوت التصوّف العربي الإسلامي، ويلفِتنا إلى التقاطعات الروحية بين حالة التصوّف، وبين طريقة الزّن، التي تعد نزعة مركزية من نزعات الهايكو الياباني.  فيراوح الكاتب في هذا الفصل بين الالتماعات الشِّعرية الرهيفة لدى التصوّف العربي الإسلامي، ويقدّمه ضمن منهجية قائمة على تكوينات متتابعة (الزهد-التأمل-الوجد-الفناء-الرضا)، وبين الأسلوب الشِّعري الفريد الذي يتكون منه الهايكو الياباني، في حالةٍ من التجلّي والذوبان؛ ما أتاح لهذا الفصل أن يكون في غاية اللذة والرشاقة، وكأن هذا الشكل من التعاطي مع المقترح فيه إنقاذ وإثبات لجدية المشروع، وأنه لم يأت كشاردة أو خاطرة، يمكن أن ينتهي بها الأمر ضمن مقالة مطولة، بل رؤية شٍعرية جمالية منتظمة في سياقٍ جامع، يمكنها أن تربك النظرة التقليدية أو المتعجلة لهذا الكيان الأجناسي المتناهي الصِّغر، والعظيم الأثر.

المثال

بعد أن أقنعنا حيدر العبدالله إلى حدٍّ بعيد بأطروحة المهاكاة، مستخدمًا كل ذريعة منهجية وجمالية، من خلال الباب الأول والثاني، وبعد أن غاص بنا في مجاهل التصوّف العربي الإسلامي، وعقد المقارنات بينه وبين طريقة الزّن، من حيث التكوين والرؤية والحسّ والإيقاع، جاء في الباب الثالث «دفتر المهاكاة»؛ ليقدّم لنا المثال الشِّعري المقترح من قِبله، معتمدًا على شِعرية ذي الرُّمَة، وعلى ما أسَّسه رؤيويًا وجماليًا وإيقاعيًا في البابين السابقين، والحقيقة أنّ الشاعر لا الكاتب هو الذي ظهر في هذا الفصل، ورغم تحفظي الكبير على إدراج هذا الفصل في الكتاب، إلا أنه لا يخلو من جماليةٍ شِعرية، وتحفّظي مكمنه كوني استصعبت مغامرته المحفوفة بوثوقه العالي جدًا في هذا الباب، فلم يكن من الصواب -في رأيي- صناعة المثال الشِّعري ضمن متن المقترح الفكري، فجميعنا يعلم أن للشِّعر حالته الخاصة، ويحتاج تقديمه للقارئ إلى المبرّر الجمالي بالدرجة الأولى، ولا شك في أن للكتاب شقّ جمالي بيِّن، لكنه غير كافٍ لتقديم البيان الجمالي الخاص بالشِّعرية المنتظرة؛ لذا بدا لي أن في هذا الدفتر حسّ مدرسي تعليمي، يمكن قبوله ضمن هذا الأفق، وقد لا يكون هذا هو الطموح الذي يتمنى حيدر العبدالله الشاعر المُجرب بلوغه من تجربته الجريئة في أطروحته، خاصةً وأنه قد سلَّ سيف النقد سلفًا تجاه تجارب الهايكو العربية، ورفض قبول مقترحها الفنّي والجمالي، ما سيجعل تجربته في كتابة قصيدة الهايكو تحت نير النقد والمساءلة.

كنتُ أتمنى أن يتأنّى في تجربته الشِّعرية، ويُأخر عرضها، كأن يضعها في كتابٍ ما أو دفترٍ مستقلّ، يأخذ فيه الوقت الكافي واللازم للتأمل، هوَ الذي صعَّب مهمة الهايكو على غيره من الشعراء نجده رغم الجهد يستسهل خوضها. ولا أقول إنه لم ينجح بشكلٍ تامّ، ففكرة الدفتر الموزع على فصول السنة جميلة ومقنعة، لكنني لاحظت التفاوت الكبير في شِعرية قصائده واعتمادها التامّ على جماليات شِعرية ذي الرُّمَة، وكأن في ذلك دعوة ضمنية إلى الاعتماد الكلي على هذه الشِّعرية الفذة؛ رغم أن بيان الأطروحة يدعونا إلى الانتباه إلى هذه الشِّعرية وإلى هكذائيتها تجاه طبيعة الصحراء العربية، لا محاولة تقليدها والنسج من خلال تفاصيلها التي تخصّ رؤية وتجربة ذي الرُّمَة وحده، ولا أعتقد أن الكاتب كان يدعونا إلى هذا التقليد الأعمى؛ فأيّ شاعر مهما قلّت موهبته سيرفض مقترحًا شِعريًا من هذا النوع، وعلى هذا النحو!

القرينة

يتضح لنا جدية الأطروحة، ونصاعة فكرتها في بابها الرابع والأخير، الموسوم بـــ«التقويم الشِّعري العربي»؛ لأنه تقويم ضروري جدًا، فالشِّعر إيحاء لا تصريح، يحفل بالمجاز لا بالتقرير، والمشروع الواعد يتلمّس النقص ويعمل على تمامه، والكاتب عندما أسَّس للأطروحة استشعر انصراف الذهنية العربية عن طبيعتها، وأخذ يقربها من التصوّر السليم للهايكو، مرّة بإثبات الوجود والتقاطع، ومرّة أخرى بالمثال والشاهد، وها هو في هذا الباب يكملها بالجمع والتكثيف.

ولأنّ شِعر الهايكو يتوسّل الطبيعة، ويلتزم بوجودها كان لابد من جهدٍ إضافي، يلمّ فيه الكاتب شتات قرائنها، متأسيًا في ذلك بفعل صُنّاع الهايكو الأصليين، الذين جمعوا قرائن طبيعتهم، على طريقة «الساجيكي» الياباني، الذي يقسّم السنة الشمسية إلى أربعة فصول، ومع الإبداع الذي يستلزم بذر شيء من الخصوصية العربية؛ صنّف قرائن المكان في الثقافة العربية إلى خمسة مواضيع، هي: النجوم، والمواسم، والإنسان، والحيوان، والنبات.

هكذا بدا أنّ الأطروحة قد اكتملت، بدايةً من وضع التصوّر السليم، وتصحيح المسار، مرورًا بإثبات التقاطعات والمشتركات، واقتراح الشكل الممكن من خلال المثال والشاهد، وانتهاءً بلمّ شتات المعجم الشِّعري الذي يتميّز بالثراء اللغوي، فانتظمت بذلك حلقة جمالية ومعرفية، بدا لي بعد مطالعتها والتعمق فيها، أنها مغامرة هامة وتستحق الإشادة. الأطروحات الجمالية كثيرة، لكن قلّما نجدها بهذا الكمال في التصوّر ووضوح الرؤية، بالإضافة إلى جودة السّبك وتماسك الأطراف وجمال السرد، ومؤكد أنّ هذا الشكل من الصناعة سيمكّن القارئ من بدء رحلة جديدة مع مفهوم رؤيويّ وجمالي لقصيدة الهايكو، وكأن العمل مفتاح جديد يُضاف إلى سلسلة مفاتيح قارئ الهايكو المعرفية والجمالية.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.