يقول عالم الرياضيات جون ناش متحدثًا عن عقله بعد تحسن حالته من الشيزوفرينيا (الفصام) في مقالته عن سيرته الذاتية للجنة نوبل عام 1994: «الآن يبدو لي أني أفكر بعقلانية مرة أخرى، وبنفس النمط الذي يتسم به العلماء. لكن هذا ليس أمرًا يدعو للفرح كما لو عاد شخص من إعاقة جسدية لصحة بدنية جيدة. فأحد تبعات ذلك، هو أن التفكير بعقلانية يفرض حدودًا على مفهوم الشخص لعلاقته مع الكون». فيبدو أن العقل البشري يملك قدرًا من اللا-قواعدية التي تفتح أمامه أبواب الخيال والإبداع لكن داخل إطار العقلانية، كأنه يصيغ مسلمات جديدة داخل آلات مقيدة بمسلمات محددة. ومن ثم كثر طرح السؤال التالي: هل يمكن من الناحية الوظيفية اختزال العقل البشري في كونه مجرد آلة؟ أو بشكل أكثر تجريدًا؛ هل يمكن من الناحية الوظيفية اختزال العقل البشري في كونه مجرد نظام صوري[1] Formal System؟
هناك العديد من الحجج التي تجيب عن هذا السؤال بالنفي، مثل حجة «الغرفة الصينية» لجون سيرل التي تضع فاصلًا بين العقل والآلة قوامه المعنى، وفهمه، والوعي به. لكن هناك حجة أخرى تأتي من موقع أكثر عمقًا ورسوخًا ومن ثم كانت تبعاتها أشد قوة؛ ألا وهى إدراك العقل لحقائق الرياضيات.
عام 1925، أعلن الرياضي الشهير ديفيد هيلبرت بعد نجاحات نظرية المجموعات في الرياضيات الحديثة أنه «لن يطردنا أحد من الجنة التي صنعها لنا كانتور [صاحب نظرية المجموعات]». لكن نظرية المجموعات فتحت الباب لظهور عدد من المفارقات والتناقضات في الرياضيات مثل «مفارقة كانتور» و«مفارقة راسل» وغيرها عند محاولة صياغتها في نظام صوري. لذا اعتبر هيلبرت أن البرهنة على اتساق وكمال مسلمات الرياضيات هي المسألة الثانية في قائمة المسائل الثلاث والعشرين الأهم في القرن العشرين.
لكن في عام 1931 نشر كيرت جودل الورقة الأهم في المنطق الرياضي «عن القضايا غير القابلة للتحديد في نظام راسل ووايتهيد Principia Mathematica والأنظمة المماثلة»[2] والتي ستعرف لاحقًا بمبرهنة عدم الاكتمال Incompleteness Theorem حطم فيها حلم هيلبرت وراسل وفريجه، حيث برهن فيها على أنه هناك حقائق رياضية لا يمكن للنظم الحسابية الصورية إثباتها بذاتها. سبق ذلك إشارة سريعة لنسخة مبكرة من هذه المبرهنة في سبتمبر عام 1930 في ختام عرض جودل لرسالته للدكتوراة والتي برهن فيها على كمال النظام المنطقي الصوري من الدرجة الأولى FOL في ختام مؤتمر «إبستيمولوجيا العلوم القاطعة Epistemology of the Exact Sciences» في كونيغسبرغ، حيث حاجج أن هذا الاكتمال لن ينطبق على النظم المنطقية من الدرجات الأعلى التي تستلزمها الرياضيات. لم يدرك أحد من المجتمع الرياضي تبعات هذا الاكتشاف حينها باسثناء الرياضي فون نيومن الذي أدرك أنه على رأس تلك الحقائق التي سيعجز النظام الحسابي الصوري عن إثباتها هي حقيقة اتساقه، فكتب إلى كارناب: «أظهر جودل عدم إمكانية تحقق برنامج هيلبرت […] لقد أدت اكتشافاته إلى نقل سؤال أسس الرياضيات إلى مستوى مختلف تمامًا».
مبرهنة عدم الإكتمال
بداية يلزم التمييز بين النظم الرياضية والنظم الميتا-رياضية. فإذا كانت «1+1=2» هي جملة داخل النظام الحسابي بحكم أنها معادلة رياضية تتكون من رموز رياضية خالصة من ناحية التركيب Syntax، فإن «(1+1=2) معادلة رياضية صحيحة ومثبتة» هي جملة ميتا-رياضية لأنها لا تعبر عن حقيقة حسابية وإنما تتحدث عن جمل النظام الحسابي باستخدام دلالات Semantics خارجة عنه مثل مفاهيم الصحة، وقابلية الإثبات، والحقيقة. وبالتالي تكون البرهنة على نظرية معينة من مجموعة مسلمات هي من وظائف النظام الرياضي Mathematics، أما إثبات صحة واتساق النظام الحسابي وقواعده فتكون من وظائف الميتا-رياضة Meta-Mathematics.
يبدأ جودل برهانه بتكوين جملة ميتا-رياضية تشير لذاتها، الجملة ج التي تقول «الجملة ج لا يمكن إثباتها». لكن هل هذه الجملة حقيقة أم لا؟ إذا افترضنا أنها خاطئة فسيكون لها إثبات داخل النظام الحسابي أي أنها ستكون حقيقة، أي أن افتراضنا أن هذه الجملة خاطئة يؤدي إلى تناقض [خاطئة وحقيقة في آن واحد]. من ثم فإن هذه الجملة يلزم أن تكون صحيحة من برهان الخلف Reductio ad absurdum. يرجع هذا التناقض المنطقي إلى الإشارة للذات بالنفي، وهو نفس نوع التناقض الموجود في «مفارقة الكذاب» التي تقول «لنفترض أن هناك رجلًا من جزيرة كريت قال إن كل ما يقوله رجال جزيرة كريت هو كذب؛ فهل كلام الرجل صحيح أم كذب؟» فإذا كان صادقًا فجملته صحيحة ولكن تنطبق عليه أيضًا وبالتالي فهو كاذب، وإذا كان كاذبًا؛ فنفي الجملة صحيح أي أن رجال كريت صادقين وأيضا تنطبق عليه إذا فهو صادق[3].
يلزم الانتباه هنا إلى إن إدراكنا لصحة هذه الجملة حدث على مستوى غير حسابي، أي على مستوى الميتا-رياضيات خارج النظام الحسابي. ومن ثم يبقى السؤال الأهم: هل بإمكان النظام الحسابي البرهنة على هذه الحقيقة الرياضية؟ لا [حتى الآن] لأنها جملة ميتا-رياضية وليست رياضية، وبالتالي لا يمكن [حتى الآن] صياغة هذا السؤال في شكل رياضي بحيث يمكن للنظام الحسابي الإجابة عليه.
وهنا تكمن عبقرية جودل، فقد ابتكر تقنية لتمثيل المعادلات على صورة أرقام (والتي جرى تسميتها لاحقًا ترقيم جودل Godel Numbering): أن نرمز لكل كيان حسابي بأحد مضاعفات الأعداد الأولية بحيث يمكن تحويل أي معادلة لرقم بواسطة إيجاد أرقام جودل المقابلة لرموز هذه المعادلة ثم ضربها معًا. وبالتالي يمكن عبر تحليل رقمين ما معرفة ما إذا كانت المعادلة التي يمثلها أحدهما جزءًا من المعادلة التي يمثلها الآخر أم لا، فقط إذا كان أحدهما هو أحد قواسم Factor الآخر [يقبل القسمة على الآخر]. بهذه الطريقة أصبحت الميتا-رياضيات «رياضية» بالكامل، وأصبح بالإمكان تمثيل الجمل الميتا-رياضية على صورة معادلات رياضية تعمل في نطاق أرقام جودل التي تمثل معادلات رياضية تعمل في نطاق الأرقام الحسابية.
فأصبح باستخدام التقنية السابقة تحويل الجملة الميتا-رياضية «مجموعة المعادلات ذات الرقم الجودلي س هي جزء من إثبات المعادلة ذات الرقم الجودلي ص» إلى الجملة الرياضية «س هي أحد قواسم ص». وبنفس الطريقة أيضًا يمكن تحويل الجملة الميتا-رياضية «مجموعة المعادلات ذات الرقم الجودلي س ليست جزءًا من إثبات المعادلة ذات الرقم الجودلي ص» إلى الجملة الرياضية «س ليست أحد قواسم ص». وأصبح بالإمكان تحويل الجملة ميتا-رياضية ج ذات العدد الجودلي هـ إلى الجملة الرياضية «لا يوجد س بحيث يكون س أحد قواسم هـ»، أي أن العدد الجودلي للجملة ج (الذي افترضنا أنه هـ) ليس له قواسم داخل هذا النظام الحسابي. وهكذا يمكن بحث موقف النظام الحسابي الصوري من إمكانية إثبات هذه الحقيقة الرياضية؛ الجملة ج.
لكن إثبات الجملة ج يستلزم بشكل حتمي إثبات نقيضها [نقيض ج]؛ لأن إثباتها يعني إثبات «الجملة ج لا يمكن إثباتها». ومن ثم فإنه أيضًا من برهان الخلف Reductio ad absurdum يلزم أنه لا يمكن إثبات الجملة ج إذا كان النظام الحسابي متسق ولا يقودنا إلى التناقض. لكن هذا يعني أن النظام الحسابي ناقص لأنه يعجز عن إثبات الحقيقة الرياضية ج ويعجز عن تحديد ما إذا كانت حقيقة أم لا Undecidable لأنه يعجز عن إثبات نقيضها أيضًا. ومن ثم نصل إلى النظرية الأولى في مبرهنة عدم الاكتمال وهي الجملة الميتا-رياضية القائلة بأن «أي نظام صوري متسق قادر على إجراء الحسابات الرياضية الأساسية ناقص»، أو بتعبير آخر «النظام الحسابي الصوري يكون متسقًا، فقط وفقط إذا كان ناقصًا»، لأن هناك حقائق رياضية مثل الجملة ج التي يعجز النظام الحسابي الصوري عن إثباتها استنادًا إلى مسلماته فحسب.
يقول جودل في مقدمة الورقة: «هناك علاقة قوية بين هذه النتيجة ومفارقة الكذاب […] فاستنادًا إلى كون الجملة ج تؤكد عدم قابليتها للإثبات، نصل في الحال إلى نتيجة مفادها أن الجملة ج صحيحة، لأن الجملة ج بالتأكيد غير قابلة للإثبات [داخل النظام الحسابي الصوري]). لذا فإن الجملة التي لا يمكن تحديد صحتها أو خطئها في النظام الحسابي الصوري تتحد صحتها عبر نظرة ميتا-رياضية. ويؤدي التحليل الدقيق لهذا الظرف الاستثنائي إلى نتائج مفاجئة فيما يتعلق ببراهين اتساق الأنظمة الصورية»[4]. ذلك التحليل هو ما ينقلنا إلى النظرية الثانية في المبرهنة، لأن جودل، في لمحة عبقرية أخرى، يقوم بترقيم النظرية الأولى بنفس الطريقة السابقة حتى يبحث في قدرة النظام الحسابي على إثبات اتساقه.
فتتحول الجملة الميتا-رياضية «هذا النظام الحسابي متسق Consistent» إلى «هناك قضية رياضية متناقضة في صورة معادلة (مثل 0 = 1) تتمثل عبر رقم جودل ص، ولكن أحد قواسم ص لا يمثل أي عدد جودلي لمسلمات هذا النظام الحسابي»؛ لأن ذلك يعني أنه لا يوجد لها برهان تام داخل هذا النظام. وبما أن وجود تناقض واحد كافي لإثبات جميع القضايا المنطقية الممكنة عبر مبدأ الانفجار Principle of Explosion فإنه يكفي أن نقول إن النظام الحسابي متسق إذا كانت هناك قضية رياضية واحدة على الأقل في صورة معادلة تتمثل عبر رقم جودل ص ولكن أحد قواسم ص لا يمثل أي عدد جودلي لمسلمات هذا النظام الحسابي. وبهذا تحولت قضية اتساق النظام الحسابي إلى قضية رياضية داخل النظام الحسابي ذاته.
وبنفس الطريقة أيضًا تتحول الجملة الميتا-رياضية «هذا النظام الحسابي ناقص Incomplete» إلى «هناك حقيقة رياضية في صورة معادلة تتمثل عبر رقم جودل س ولكن أحد قواسم س لا يمثل أي عدد جودلي لمسلمات هذا النظام الحسابي»؛ لأن ذلك يعني أنه لا يوجد لها برهان تام داخل هذا النظام. لا يوجد أفضل من العدد الجودلي للجملة ج ليلعب دور س هنا، وبهذا تحولت قضية اكتمال النظام الحسابي إلى قضية رياضية داخل النظام الحسابي ذاته.
وبالعودة إلى منطوق المبرهنة الأولى «النظام الحسابي الصوري يكون متسقًا، فقط وفقط إذا كان ناقصًا» سنجد أنها تحولت لجملة شرطية داخل النظام الرياضي ذاته. وبما أن جملة جودل غير قابلة للبرهان داخل النظام الحسابي، وبما أننا أيضًا قد برهنا سابقًا على الجملة الشرطية بحكم أنها المبرهنة الأولى، فسنجد أنه يلزم على المقدمة أيضًا أن تكون غير قابلة للبرهنة حتى تظل العلاقة الشرطية صحيحة منطقيًا والنظام الحسابي متسقًا. ومن ثم نصل إلى المبرهنة الثانية: «أي نظام صوري متسق قادر على إجراء الحسابات الرياضية الأساسية هو غير قادر على البرهنة على اتساقه بذاته».
الدلالات الفلسفية
إجمالًا لما سبق وبدون الدخول في تفاصيل المبرهنة، يمكن القول إن جودل صاغ جملة ميتا-رياضية صحيحة؛ جملة ج التي تقع خارج النظام الحسابي الصوري، ثم حولها إلى جملة رياضية داخل النظام الحسابي، وبرهن على عدم إمكانية النظام الحسابي على إثباتها لأن صورتها الرياضية تنفي ذاتها بذاتها؛ أي أنها متناقضة لأنه من أجل إثباتها يلزم عدم إثباتها؛ أي أن هناك حقائق رياضية لا يمكن للنظم الحسابية الصورية إثباتها بذاتها. ثم برهن جودل على أن هذه الجملة تتطابق رياضيًا مع جملة اتساق النظام الرياضي ذاته، وبالتالي برهن أيضًا على عجز النظام الرياضي عن إثبات اتساقه استنادًا إلى مسلماته وحدها. فيلزم الخروج عن النظام الحسابي لنظام رياضي أقوى؛ لديه قدرة على إثبات عدد أكبر من النظريات الرياضية؛ أي إنه يلزم علينا إضافة الجملة ج إلى النظام الحسابي بوصفها مسلمة، لكن هذه الإضافة لها نتيجتين:
هذا الفصل بين الحقيقة وقابلية الإثبات ليس غريبًا على أفلاطونية جودل التي تربط بين الحقيقة والحدس، فنجده يقول في محاضرة شهيرة Gibbs Lecture عام 1951: «أعتقد أن هذه المفاهيم [الرياضية] تشكل حقيقة موضوعية خاصة بها، لا يمكننا خلقها أو تغييرها، ولكن فقط إدراكها ووصفها […] أعني بذلك وجهة النظر القائلة بأن الرياضيات تصف واقعًا غير حسي، والذي يوجد بشكل مستقل عن الأفعال وميول العقل البشري ولا يُدرك، وربما بشكل ناقص للغاية، إلا بواسطة العقل البشري»[6].
لكن تحققه في سياق يربط بين اليقين وقابلية الإثبات هو ما فتح الباب أمام تحريف نتائج مبرهنة عدم الاكتمال من أجل تبرير أي موقف ضد إمكانية وصول نظام معين إلى الحقيقة مثل النسوبية وتأويلات ما بعد الحداثة وغيرها. ومن ثم استخدمت المبرهنة في سياقات لا تمت للأنظمة الحسابية الصورية بصلة، مثل دستور الولايات المتحدة الأمريكية أو الإنجيل وغيرها. لكن معظم هذه الاستخدامات تتجاهل الشرطين الأساسيين للمبرهنة، وهو أنه يلزم على النظام أن يكون مركبًا صوريًا وقادرًا حسابيًا[7]. كما تتجاهل أيضًا أن الحقيقة هنا هي حقيقة رياضية. لذلك، فإن استخدام نظرية جودل في مثل هذه السياقات هو أمر خاطئ تمامًا، على العكس من استخدامها في نطاق أنظمة المنطق الرياضي لبيان أنه لا يمكن لنظام بيانو الحسابي Peano arithmetic إثبات اتساقه، ولكن بإمكان النظام الأقوى، وهو نظرية المجموعات ZFC إثبات اتساق نظام بيانو، أو أن منطق الدرجة الثانية SOL ناقص أو غير متسق على عكس منطق الدرجة الأولى FOL لأن الأول قادر حسابيًا.
يظل تطبيق نظرية جودل في الفيزياء والعقل محل جدل. فقد حاجج ستيفن هوكنج عام 2002 بأنه لا توجد «نظرية كل شيء» -كما يقول بعض الفيزيائيين- استنادًا إلى أنه يلزم عليها أن تحوي مكونًا حسابيًا لنمذجة الظواهر الفيزيائية. فمن ناحية نجد إنه «إذا كانت هناك نتائج رياضية لا يمكن إثباتها، فهناك مشاكل فيزيائية لا يمكن التنبؤ بها»[8]، ومن الناحية الأخرى سنجد أنه مثلما يمكن دائمًا للرياضيين ابتكار نظام حسابي أقوى إلى ما لانهاية، فإنه يمكن للفيزيائيين فعل ذلك أيضًا إلى ما لانهاية في نطاق النظريات الفيزيائية.
أما تطبيق نظرية جودل في مجال العقل فقد أسال الكثير من الحبر، حيث يظهر بوضوح أن العقل أعلى درجة من أي نظام صوري قادر حسابيًا؛ لأن الأخير يعجز دومًا عن إثبات صدق أو كذب جملة جودل، في حين أن الأول يرى صدقها بشكل مباشر. فالعقل دائمًا يقف خارج أي نظام صوري قادر حسابيًا مهما بلغت درجة قوته على سلم اللانهائية. يشبه الأمر هنا قدرة العقل الحدسية على إيقاف التسلسل اللانهائي للمبادىء المنطقية في ورقة لويس كارول «ما قالته السلحفاة لأخيل»[9]. للعقل الكلمة الأخيرة دومًا لأنه «لا يمكن للآلة أن تكون نموذجًا كاملًا ومناسبًا للعقل»[10] لأنه «يمكن في بعض الأحيان للوعي المتأمل تمكين المرء من التأكد من حقيقة جملة ما بطريقة تعجز عنها أي خوارزمية […] وبالتالي أحاجج بأن ظاهرة الوعي لا يمكن استيعابها في إطار النظرية المادية الحالية»[11]، وهذا هو مضمون حجة لوكاس – بنروز Lucas-Penrose Argument.
لكن البعض مثل بوتنام يرد على تلك الحجة قائلًا «إنها تتجاهل عامل الاتساق»[12]؛ فربما يكون العقل آلة غير متسقة؛ لأن الآلة غير المتسقة تستطيع البرهنة على صحة جملة جودل. لكن إذا مددنا خط هذا الرد على استقامته سنجد أن الآلة التي تستطيع إثبات تناقض واحد تستطيع إثبات كل شيء من منطلق مبدأ الأنفجار كما ذكرنا سابقًا، وبالتالي تستطيع إثبات صحة جملة جودل وصحة نقيضها في نفس الوقت وهو ما لا يتحقق في حالة العقل؛ خاصة إذا ميزنا بين أخطاء مقدمات الاستدلال Unsound وأخطاء قواعد الاستدلال Invalid.
وهو ما يؤكد عليه جودل ذاته في محاضرته، فيقول: «لا مفر من استنتاج التالي: إما أن الرياضيات غير قابلة للاكتمال [بالمعنى الصوري] وأن مسلماتها البديهية لا يمكن أبدًا أن تتشكل في قاعدة محدودة، أي أن العقل البشري (حتى داخل عالم الرياضيات البحتة) يتفوق بلا حدود على أي آلة محدودة، أو أنه توجد مشاكل حسابية غير قابلة للحل على الإطلاق»[13]. والحقيقة أن جودل كان دومًا من أنصار الاحتمال الأول بسبب أفلاطونيته الصريحة، وكان يرى أن النظرة الميكانيكية للبيولوجيا هي إحدى تحيزات عصرنا التي ستنقشع آجلًا أم عاجلًا[14].
[1] النظام الصوري هو كل نظام محدد برموز ومسلمات وصور تركيب وقواعد استدلال بحيث تحكم قواعد الاستدلال تحول المسلمات نحو النظريات بشكل صالح وفق صور التركيبية للرموز. فعلى سبيل المثال نجد الرياضيات الحسابية تأخذ أشكالًا صورية مختلفة مثل نظام بيانو Peano Arithmetic ونظرية المجموعات ZFC. وتعادل الأنظمة الصورية آلات تورنج Turing Machine أو الكمبيوتر بشكل تقريبي.
[2] Kurt Godel, “On Formally Undecidable Propositions of Principia Mathematica and Related Systems”
[3] استخدم تورنج نفس الفكرة لاحقًا ليحاجج بعدم وجود برنامج [خوارزمية] س قادر على تحديد ما إذا كان برنامج ص سيصل إلى حل أم لا Halting Problem، بحكم أن وصول الخوارزمية لحل يعادل تحديد النظام الصوري لصحة أو خطأ جملة ما. افترض تورنج وجود برنامج س وبحث ما إذا كان وجوده سيؤدي لتناقض أم لا، فإذا كان بؤدي لتناقض فإن ذلك يعني أن وجوده مستحيل، وهو ما برهن عليه بالفعل. ذلك لأن وجود برنامج س [الذي يتوقف إذا كان برنامج ص سيصل إلى حل ويظل يعمل إذا كان برنامج ص لا يصل إلى حل] يعني أن بإمكاننا عكس وصلاته الداخلية والحصول على برنامج س’ [الذي يتوقف إذا كان برنامج ص لا يصل إلى حل ويظل يعمل إذا كان برنامج ص سيصل إلى حل]. ولنفترض أننا طلبنا من برنامج س’ تحديد ما إذا كان هو ذاته سيتوقف أم لا، أي وضعنا برنامج س’ مكان برنامج ص بحيث يصبح مدخلًا لذاته. هنا نكون قد وصلنا لتناقض عبر الإشارة للذات بالنفي، فبرنامج س’ سيتوقف إذا لم يصل إلى حل [إذا لم يتوقف] وسيصل إلى حل إذا لم يتوقف [إذا لم يصل إلى حل]، وهذا يعني أنه يستحيل وجود برنامج س’، وبالتبعية برنامج س.
سيعمم تارسكي نتائج جودل [بشكل منفصل عنه] لتشمل كل نظام صوري متسق. فبرهن على أن هذه الأنظمة تعجز عن تعريف الحقيقة بداخلها وإلا سيؤدي ذلك لتناقض من نفس نوعية مفارقة الكذاب Undefinability Theorem، ومن ثم يلزم على كل لغة صورية [شيئية] أن يكون فوقها لغة ميتا تعرّف مفهوم الحقيقة وبقية المفاهيم الدلالية لتلك اللغة الشيئية.
[4] Kurt Godel, “On Formally Undecidable Propositions of Principia Mathematica and Related Systems”, 1962
[5] Hao Wang, A Logical Journey, The MIT Press, Massachusetts, 1996, p. 83
[6] Charles Parsons, “Platonism and Mathematical Intuition in Kurt Gödel’s Thought”, The Bulletin of Symbolic Logic, Vol. 1, No. 1 (Mar., 1995), p. 57
[7] المقصود بالقدرة الحسابية هو أن تكون النظم الحسابية الصورية قادرة على تنفيذ عمليات الجمع والضرب، لأنه بدون عملية الضرب سيعجز النظام عن تعريف الأعداد الأولية أو تحديد القواسم، وبدون عملية الجمع لن يستطيع الحصول على عدد واحد في الآخير. فعلى سبيل المثال نجد نظام بريسبرجر الحسابي الصوري Presburger arithmetic متسق وكامل لأنه لا يحتوي عملية للضرب، وإنما عملية الجمع فحسب.
[8] Stephen Hawking, “Godel And The End Of Physics”, 2002
[9] في نقد مراجعة المنطق، علي رضا، منصة معنى، 2021
[10] J. R. Lucas, “Minds, Machines And Godel”, 1961
[11] Roger Penrose, The Emperor’s New Mind, Oxford University Press, 2016, p. 532, xv
[12] Hilary Putnam, “Minds and Machines”, 1960
[13] Solomon Feferman, “Are there absolutely unsolvable problems? Gödel’s dichotomy”, Philosophia Mathematica, Volume 14, Issue 2, June 2006, Pages 134–152
[14] Hao Wang, From Mathematics to Philosophy, Routledge, New York, 2016, p. 326