في مديح الأبوة | بدر الحمود

تستغرق 3 دقائق للقراءة
في مديح الأبوة | بدر الحمود

“تُبنى الأمم، كما تُبني البيوت” – الكاتب

منذ أن رُزِقتُ بابنتي ملك، وبينما أرقب نشأتها ونموها في هذا العالم المليء بالتحولات الصاخبة، أخذت عهدًا على نفسي أن أسعى بكل الطرق لفهم جيلها واستيعاب عالمه. ومع مرور الوقت أصبحت ملك عيني التي أرى بها هذا الجيل وأدركه، بل وأعدُّ نجاحي في تحقيق تواصل فعّال معه، بواسطتها، إنجازًا لا يقل أهمية عن الغايات الكبرى التي التمسها في حياتي. كنت دائمًا ما أجد الإجابة عن أي تساؤل يخص الجيل الجديد من خلال الإنصات لها وملاحظة تصرفاتها ومراقبة اهتماماتها. غير أن سؤالًا من ضمن الأسئلة التي كانت تلح علي، هو ذلك المتعلق بهوية هذا الجيل في علاقته بالتحولات التي يشهدها العالم المعاصر وتعامله مع منظومة القيم “السائلة” التي أصبحت سمة من سمات عصرنا. رغم إلحاح السؤال، كنت أجد الراحة في يقين راسخ بداخلي بأن هويتنا القوية وقيمنا المتوارثة ستظل حصنًا قويًا يقف في وجه أي تأثيرات سلبية تحاول التسلل إلى داخل حدودنا.

الهوية والتعددية

يتسم التاريخ الاجتماعي للبشر بالتنوع والتعدد، حيث يشكل كل مجتمع نظامًا اجتماعيًا فريدًا يعكس تاريخه وتقاليده ويعبر عن موقعه الحضاري والجغرافي، وهي المقومات التي على أساسها تتشكل هوية المجتمعات. هذه الهوية هي التي تخلق تماسك المجتمع وتميزه، وفي الوقت ذاته يمكن لأي متابع أو محلل ملاحظة آثارها في المحيط الثقافي للشعوب أو كما يقول إيميل دوركيم “إن مجتمعًا لا يمكن أن يفهم إلا من خلال دراسته، وعلى الفاحص لكي يدرسه أن يدخل في حياة الناس ويتحدث معهم”. هذا يعني من جهة أخرى أن هوية المجتمعات هي التي تخلق تعدديتها، وأنه لا توجد نماذج اجتماعية معيارية يمكن أن تقاس عليها الأمم والتجارب الإنسانية، وأن التسويق لفكرة وجود مثل هذه النماذج المثالية ينبغي أن يكون موضع تشكيك ونقد.

 وعلى الرغم من أن العديد من النقاد والمحللين الاجتماعيين يرون أن المجتمعات الإنسانية في عصرنا الراهن تتشارك هوية واحدة بسبب سيطرة العديد من المفاهيم العالمية عليها في المجالين الاقتصادي والسياسي، فضلًا عن الثورة الرقمية التي خلقت ثقافة عامة مشتركة، إلا أن هذا الرأي لا يٌفرق في حقيقة الأمر بين الثابت والمتحول، ويتجاهل حقيقة أن الثقافات ذات الأسس الراسخة والهوية المتماسكة لا زالت قادرة على التعبير عن خصوصيتها الحضارية، وفي الوقت نفسه مواكبة التطور العالمي على كافة الأصعدة بل والمساهمة فيه بنصيب غير قليل.

الروح الأبوية للقيادة

والمتابع للشأن السعودي بشكل عام، منذ الدولة السعودية الأولى 1727م والتي يحل اليوم ذكرى تأسيسها، يستطيع أن يلحظ ما للهوية السعودية من خصوصية فريدة تميزها عن باقي المجتمعات، وأن السبب الرئيس في ذلك لا يأتي فقط من المقومات التاريخية والحضارية التي شكلتها، بل أيضًا من الروح القيادية الأبوية التي غذتها وحافظت على تماسكها ورسخت من قيمها الأصيلة. حيث تشكل هذه الروح العنصر الرئيس في تكوين بنية المجتمع السعودي، فالملك هو أب المجتمع، كما الوالد هو رب المنزل،  وهو الذي يتلمس في كل قراراته الحفاظ على قيم الأسرة والعائلة ويحفظ التوازن والتناغم بين الأبناء ويبث روح الترابط والوحدة والحب بينهم.

ولعل ذكرى التأسيس تعتبر فرصة جيدة لاستدعاء كل هذه المعاني النبيلة التي ازدادت رسوخًا في ظل القيادة الحالية الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، الذي دأب، في كل أقواله وأفعاله، على تعزيز روح العائلة وقيمها والتشديد على التواصل الأبوي بينه وبين المواطنين، تعزيزًا لروح المسؤولية المشتركة وتضافر الجهود لرعاية وتطوير المجتمع.

خطابات الملك

في خطابات القادة كل كلمة تكون منتقاة بعناية لتوصيل فكرة معينة تحمل دلالة محددة، وأن اختيار الكلمات المناسبة لتحقيق ذلك لا يكون إلا تكريسًا وخدمة  لهذه الفكرة وتلك الدلالة. في الواقع أعدُّ نفسي من المتابعين المخلصين لخطابات الملك سلمان، حفظه الله، وقد لاحظت أنها تُفتتح دائمًا بكلمات تعكس قيم الأسرة والترابط، مثل “أبنائي وبناتي” و “أيها الأخوة والأبناء”. هذه الكلمات، على عفويتها، لا ينبغي أن تمر مرور الكرام، فهي تعبر بقوة عن قناعة راسخة بأن الرباط العائلي هو العروة الوثقى التي تربط القائد بمواطنيه، بل لا يقتصر هذا الرباط على المواطنين فقط، بل يشمل المقيمين من مختلف الجنسيات. فالجميع الذين يحيون على هذه الأرض يشكلون جزءًا لا يتجزأ من العائلة الوطنية.

هذه الروح الأبوية التي طالما حرص الملك سلمان على بثها بين أبنائه، لا تتجلى فقط في العبارات، بل أيضًا في جهوده المتواصلة وقراراته لتعزيز الوحدة والانتماء، ودعم التضامن بين أفراد هذه العائلة الوطنية. وقد تضافرت تلك الروح والجهود في العمل على تشكيل مجموعة من الخصائص الفريدة التي يتمتع بها المجتمع السعودي والتي يأتي على قمتها:

  • الوحدة الوطنية.
  • القيم الأسرية النبيلة بين أفراد المجتمع.
  • الاستقرار والعدالة الاجتماعية.
  • التفاعل الإيجابي بين القيادة والمواطنين.
  • الاعتزاز بالهوية الثقافية.

وفي حين تعكس القيادة الأبوية للملك سلمان ترابطًا فريدًا يجمع بين الأفراد كأسرة واحدة، ما يؤدي إلى تحقيق استقرار اجتماعي واقتصادي، فإن بعضًا من المجتمعات الأخرى قد يعاني من انقسامات أو ضعف في الوحدة الوطنية نتيجة للعديد من الاختلافات الثقافية أو السياسية التي تضرب بنيته من الداخل وتخلق نوعًا من الهشاشه الاجتماعية والروحية في نسيج وحدته. من جانب آخر، تتيح الروح الأبوية، بناءً على القيم الأسرية التي ترسيها، ترسيخ التفاعل الإيجابي بين الأجيال، حيث يشعر الأفراد بالالتزام تجاه مستقبلهم وتقديم الدعم لبعضهم البعض، وهي قيم باتت نادرة الوجود في المجتمعات الراهنة نتيجة سيادة النمط الاستهلاكي الذي يقوي النزعة الفردية بما تحمله من قيم سلبية.

الأخ الأكبر

لطالما حُمل تعبير “الأخ الأكبر” بالعديد من الدلالات السلبية كنتيجة لتوظيف أورويل له في عمله المهم “1984”. لكني في الواقع أرى أنه لابد للمثقف أن يعمل بجرأة على تحرير الألفاظ من قوالب استخداماتها النمطية وألا يبقيها أسيرة لتلك الاستخدامات، وأن جانبًا رئيسًا من التزاماته تجاه وطنه وثقافته، خاصة في عصرنا الراهن، يتمثل في سعيه نحو إعادة توطين اللغة واستعادة معانيها الأصيلة؛ بما يتطلبه ذلك من فعل مقاومة لهيمنة الثقافات الأخرى ومحاولاتها المستمرة لقولبة المفاهيم وفقًا لرؤيتها. “الأخ الأكبر”، بالنسبة لنا ووفق تقاليدنا التي نعتز بها، هو سند العائلة وخليفة الأب الذي يحمل مشعل رسالته. هو ذلك الذي يتحمل عبء المسؤوليات الكبرى تجاه أخوته وعائلته بحب وإخلاص. وسواء كان ذلك في سياق الحياة العائلية أو  الاجتماعية، يُعتبر الأخ الأكبر رمزًا للحكم الرشيد، وللقائد القادر على تمثل رؤية الأب بما تحمله من قيم العائلة أو المجتمع. ولعل من نعم  الله على عائلتنا الكبيرة أن وهبنا نعمة وجود الأخ الأكبر لكل من يحيا على هذه الأرض المباركة، سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والذي تعتبر رؤيته للمملكة 2030 تجسيدًا للقيم العائلية الراسخة وللروح المحبة لعائلتها، والحرص على مصلحتها.

***

والآن، بعد أن أكملت ملك عامها الثاني عشر  مطلع هذا الشهر، أجد نفسي أكثر طمأنينة وثقة عليها، وعلى الجيل الذي تمثله. لا أخشى عليها سيولة القيم التي يشهدها عصرنا، ففي عائلتنا الكبيرة، حيث يرعاها أبٌ حكيم وأخٌ قدير، تتجسد القيم وتترسخ الهوية. وبفضل هذه الركائز، أتطلع إلى المستقبل بكل ثقة، وأقول لابنتي لملك وإلى الأجيال القادمة، ستكونون بخير لأنكم جزء من عائلة قوية، تحمل في طياتها تاريخًا من الحب والتلاحم. ولتبقى قيمنا وعائلتنا دومًا ملاذًا آمنًا لكم.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.