معظم الكتابات الفلسفية المعاصرة ليس لها أثَر يُذكر على المهنة ككل. وقد سبق أن أشار ديفيد رونيغارد إلى هذا في مقاله «الهروب من منجم الفحم الأكاديمي» المنشور في العدد 137 من «الفلسفة الآن»، حيث يؤكد أن المشكلة تكمُن في أن اعتبارات الترقية تركز على كمية الأبحاث المنشورة وليس على نوعيتها، إلى جانب «غموض الاهتمامات البحثية للعديد من الأكاديميين». غير أن هذه ليست وحدها الأسباب التي تجعل جل الكتابات الفلسفية تُخفق في إحداث أثر كبير؛ فإحدى المشكلات الأخرى هي أن الكتابات الفلسفية غالبًا ما تكون مكتظة بالمفاهيم والمصطلحات، مما يجعل قراءتها صعبة وتستغرق وقتًا طويلًا حتى بالنسبة للمتخصصين في الفلسفة. والواقع هو أن معظم الكتابات الفلسفية الأكاديمية المعاصرة لا تزال تتبع أسلوب الكتابة الذي ساد في أواخر القرن التاسع عشر، كما يتضح من مقالات مثل مقال ماك تاغارت الشهير «عدم واقعية الزمن»، والذي احتل ثماني عشرة صفحة من مجلة «مايند» في عام 1908.
لقد كانت الحياة آنذاك أبطأ من حياتنا اليوم؛ حيث كان عدد الجامعات أقل، وكانت الفصول الدراسية أصغر، ومن ثم كانت أعباء التدريس أخف. ولم يكن هناك ضغط كبير على الفلاسفة من أجل نشر كتاباتهم، وكانوا يتمتعون برفاهية قضاء فترات طويلة في تطوير أطروحة واحدة ومن ثم يقدمونها بعد ذلك في مقال طويل ومكثف الحجج. وكان من المنطقي أن يتوقعوا أن يتمتع زملاؤهم بالوقت الكافي لقراءة المقال. ولكن الآن تغير كل شيء تقريبًا عما كان عليه في ذلك الزمن، الذي كان فيه هذا الأسلوب الأكاديمي هو أفضل طريقة لنشر الآراء الفلسفية؛ إذ تزايد الآن عدد الجامعات، وتزايد عدد المتخصصين الفلسفة، كما أصبح هناك ضغط كبير على هؤلاء المتخصصين لنشر أعمالهم. ومع تزايد أحجام الفصول الدراسية وأعباء التدريس، تضاءل الوقت المخصص للبحث والكتابة.
لقد أسهم التقدم في تكنولوجيا الاتصالات في توفير بعض الوقت؛ فالإنترنت الآن يُمكِّنُنا من البحث بسرعة كبيرة ودون مغادرة المنزل، كما أن البريد الإلكتروني يسهل حصولنا على تعليقات الزملاء بسرعة. ولكن يبدو أن أيًّا من هذه التغييرات لم يكن له أدنى تأثير على نموذج المقالات الفلسفية الموروث من القرن التاسع عشر. ونحن الآن بحاجة إلى نوع جديد من الكتابة يمكن إضافته إلى النموذج التقليدي. وأنا أقترح نوعًا يمكن أن نسميه «الومضات الفلسفية»، على غرار قصص الومضة (أو الومضات القصصية).
وقصص الومضة هي عبارة عن قصص قصيرة جدًّا جدًّا، تُعرف أيضًا باسم الأقصوصة القصيرة. وهذا النوع من القصص لم يحل محل القصص القصيرة التقليدية، ولكنهما يتواجدان الآن جنبًا إلى جنب. وبالمثل فإن الومضات الفلسفية، عندما ننظر إليها بنفس الطريقة، كانت موجودة بالفعل منذ فترة طويلة، ولكنها لم تكن تُعد نوعًا مختلفًا من الكتابة الفلسفية. ومن الأمثلة الرائعة لهذا النوع من الكتابة تلك الورقة البحثية القصيرة التي نشرها إدموند غيتييه بعنوان «هل الاعتقاد الصادق المُبرَّر معرفة؟» في مجلة (Analysis) عام 1963، والتي تتكون من صفحتين فقط وتحتوي على أقل من ألف كلمة، ومع ذلك فقد أحدثت تأثيرًا لم يُحدثه إلا عدد قليل من المقالات في تاريخ الفلسفة بأسره. وتسببت تلك الورقة البحثية في ظهور نشاط أكاديمي كامل يضم مقالات، بل وحتى كتبًا، ترد عليها، ومن تلك الكتب مثلًا كتاب روبرت شوب «تحليل المعرفة: عقد من البحث» الذي صدر عام 1983، كما ظهر قبل فترة قريبة وتحديدًا في عام 2017، كتاب «شرح المعرفة: مقالات جديدة عن مشكلة غيتييه» من تحرير رودريجو بورخيس وآخرين. ويدل هذا على أن المقالات الفلسفية القصيرة جدًّا يمكن أن تكون بمثابة فتح جديد في موضوعها.
وسوف تكون الومضات الفلسفية نوعًا من الكتابة أكثر مرونة من المقالة الفلسفية التقليدية؛ إذ يمكن أن تضم -إلى جانب النصوص الكاملة مثل مقال غيتييه الشهير- الشذرات من ذلك النوع المنتشر في أعمال نيتشه وسيوران وكيركيغارد، ومنها الفقرة التالية مثلًا: «ما معنى هذه الحياة؟ إذا قسمنا البشرية إلى طبقتين كبيرتين، فإنه يمكننا القول: إن إحداهما تعمل من أجل لقمة العيش، والأخرى ليست بحاجة إلى ذلك العمل. لكن العمل من أجل لقمة العيش لا يمكن أن يكون هو معنى الحياة؛ فمن التناقض افتراض أن العمل الدائم على تدبير ظروف الحياة قد يكون هو إجابة السؤال عن معنى ما تجعله تلك الظروف مُمكنًا (أي السؤال عن معنى الحياة). أما الطبقة الأخرى فغالبًا ما لا يكون لحياتها أي معنى هي أيضًا، باستثناء استغلال ظروف الحياة المذكورة آنفا. كما أنه من التناقض أن نقول بأن معنى الحياة هو الموت» (كيركجور، إما/أو، 1843، ص 49).
إن الفكرة من وراء الومضات الفلسفية ليست مجرد البرهنة على فكرة ما، بل إن الغرض منها هو تحفيز الفكر وتشجيع الحوار بين الفلاسفة. كما أن هذه المقالات الفلسفية القصيرة تستغرق وقتًا أقل في القراءة، مما يزيد من احتمالية قراءتها فعليًّا. وكلما زاد عدد الأشخاص الذين يقرؤون مقالًا؛ زاد تأثيره. وبالتالي سيكون للومضات الفلسفية تأثير ديمقراطيٌّ على المهنة؛ إذ من شأنها أن توسع نطاق قراءة كتابات المفكرين الأقل شهرة.
كما أن الإيجاز يجعل من الومضات الفلسفية وسيلة جيدة لمعالجة القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية الجارية؛ إذ يمكن أن تظهر مقالات ومضية جادة تحمل عناوين مثل «مقاربة نفعية للحجر [أثناء جائحة كورونا]» بينما لا تزال المسائل التي تتناولها ماثلة ومتداولة في النقاش العام. وبهذه الطريقة، يمكن أن تساعد الومضات الفلسفية في إثبات جدوى الفلسفة في المسائل التي تهم عامة الناس، بل ويمكن أن تعمل الومضات الفلسفية على الترويج للفلاسفة بوصفهم مثقفين عموميين.
وفي الآونة الأخيرة تكتسب مهمة إثبات جدوى الفلسفة أهمية خاصة، نظرًا للآثار السلبية التي أحدثتها جائحة كوفيد-19على التعليم العالي؛ إذ أصبحت أعداد الملتحقين بالبرامج الجامعية في تراجع، مما يضطر العديد من الكليات والجامعات إلى إلغاء بعض البرامج الأكاديمية بغرض خفض التكاليف. وغالبًا ما يرى المسؤولون أن برامج الفلسفة من البرامج الأكاديمية التي يمكن الاستغناء عنها، غير أن هذا الوضع يمكن أن يتغير إذا حظي الفلاسفة الذين ينتمون إلى تلك المؤسسات التعليمية باهتمام وسائل الإعلام.
وقد تكون الومضات الفلسفية، أيضًا، وسيلة سريعة لتبادل التعليقات حول الأفكار التي تحملها المقالات الفلسفية التي يغلب عليها الطابع التقليدي، فمن المهم أن يكون المفكرون قادرين على تبادل أفكارهم مع الغير في أثناء تشكُّلها في أذهانهم. كما أن طرح الفكرة في «ومضة» من شأنه أن يُقيم «ملكية» تلك الفكرة بشكل علني معترف به، حتى وإن كانت لا تزال في طور التشكُّل. ويمكن للمجلات الأكاديمية أن تخصص قسمًا خاصًّا لمثل هذه المقالات القصيرة. ولكني أرى أن الومضات الفلسفية، حسب تصوري لها، ينبغي أن تُنشر بشكل أساسي في منصات الإنترنت كالمدونات مثلًا، فهذه هي أسرع طريقة لإتاحتها للقارئ بسهولة، ذلك لأن المجلات الأكاديمية، حتى تلك التي تُنشر على الإنترنت، عادة ما تكون لديها قوائم انتظار طويلة قبل أن يتمّ نشر عمل المؤلف ويتمكن الآخرون من قراءته. أما الومضات الفلسفية فمن الممكن إتاحتها للجمهور في نفس لحظة كتابتها تقريبًا.
ولكن كيف تبدو الكتابات من نوع الومضات الفلسفية؟ فيما يلي مثال بعنوان «الرؤية والضوء»، وهو جزء صغير مستقل بذاته مأخوذ من كتاب روبرت أودي «نظرية المعرفة: مقدمة معاصرة لنظرية المعرفة» الصادر عام 2011، ونحن نعيد طبعه هنا وعلى موقع flashphilosophy.com بإذن من أودي:
الرؤية والضوء
«نحن عادةً نعتبر أن الرؤية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالضوء. لكن هل يجب أن تتضمن الرؤية وجود الضوء بالفعل؟ لنفترض أنه يمكنك أن تدخل غرفة حالكة الظلام وتُحصِّل بالضبط نفس الخبرات (التجربة) التي كنت ستحصِّلها لو كانت الغرفة مضاءة بالكامل. في هذه الحالة، ستبدو لك الغرفة بالضبط كما لو كانت مضاءة بالكامل، وسوف يمكنك العثور على أي شيء غير مخفي في الغرفة بأن تبحث عنه في أرجائها. ألا يوضح لك هذا أنك تستطيع الرؤية في الظلام؟ إذا كان هذا صحيحًا، فإن وجود الضوء ليس ضروريًّا للرؤية.
ولكن الشاهد هنا لا يُثبت لنا هذا القدر من الاستنتاج؛ لأنه لمّا كانت الرؤية هي علاقة سببية، وفي ضوء كل ما قلتُه، فإن ما يحدث هو أنك فقط تهلوس متخيلًا الأشياء الصحيحة، ولكنك لا تراها حقيقةً. ولكن لنفترض أنك لا تهلوس وأنه عند نظرك إلى عملة معدنية وقيام شخص بتغطية العملة المعدنية بالرصاص أو بتغطية عينيك فإن خبرتك البصرية بالعملة المعدنية سوف تتوقف. في هذه الحالة، يكون من الجائز أن العملة المعدنية تؤثر بطريقة ما على عينيك عبر آلية أخرى غير انتقال الضوء، ولكنها تتطلب مسارًا خاليًا من العوائق بين الشيء المرئي وعينيك. الآن بدأ يتّضح لك أنك ترى، بمعنى أنك تستجيب بصريًّا لمثيرات تؤثر على عينيك بصورة سببية. ولكن تأثير تلك المثيرات على عينيك لا يعتمد على وجود الضوء».ِ
لقد عبّر أودي عن هذه الفكرة بشكلٍ واضح ومقنع مستخدمًا عددًا من الكلمات يزيد قليلًا عن المائتي كلمة. ويمكن الاطلاع على أمثلة أخرى من الومضات الفلسفية على مدونة “Flash Philosophy”. وحتى الآن أنا المُحرر الوحيد في هذه المدونة. ويحدوني الأمل أن ألتمس مساعدة فلاسفة آخرين للعمل كمحررين إضافيين ومحكمين لتقييم المساهمات المقدمة للنَّشر في المدونة.
بالطبع، سوف يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تعترف الأوساط الأكاديمية بالومضات الفلسفية بوصفها نوعًا حقيقيًا من الكتابة الأكاديمية. ونحن بحاجة أولًا، إلى بنائه وتطويره تدريجيًا. ولكن لنبدأ الآن، في جني ثماره ونحن نساعد في إدخال الكتابة الفلسفية إلى العصر الرقمي.
مارلين جي بيتي، أستاذة الفلسفة في جامعة دريكسيل في فيلادلفيا. مجال تخصصها هو فلسفة سورين كيركجور. وهي تكتب مدونات في موقعها الذي يحمل اسم (Piety on Kierkegaard).