هل حياة البشر جدير بالعيش؟ إن كان الأمر كذلك، فهل تستحقُّ الحياة أن تُعاش دُونَ قَيْدٍ أو شرطٍ، أم أنّ هناك شروطًا تعتمد عليها؟ إنّ النقاش الفلسفي حول هذه الأسئلة العميقة والمؤرقة له تاريخ طويل، يعود إلى الفلسفة اليونانية والرومانية القديمة. لكنّ كثيرًا ممّا قاله القدماء عن هذه المسألة قد يرفضه الجمهور الحديث بالضرورة. ومع ذلك، إذا وضعنا في الاعتبار وجهات نظر الفلاسفة القدماء عن الحياة التي تستحقُّ أن تُعاش؛ يمكننا أن نفهم بشكلٍ أفضل كيف ينظر القدماء إلى العالم، كما يمكننا أيضًا أن نجد منظورًا محددًا للتعامل مع رؤانا الحديثة حول هذه المسألة المثيرة للجدل.
بدايةً، من المفيد التمييز بين مستويين من النقاش الفلسفي حول قيمة الحياة ذاتها. فعلى أحد المستويات، يمكننا أن نتساءل عمّا إذا كانت الحياة البشريّة ذات قيمة بالنظر إلى أنها تحظى بمكانةٍ أخلاقية لا تُنْتهك: أعني تلك الحياة التي تستحقُّ أن تُعاش دائمًا دُونَ قَيْدٍ أو شرطٍ. وغالبًا ما يتمّ التذرع بالادعاء بوجود مثل هذا الوضع من قبل معارضيّ الإجهاض، أو عقوبة الإعدام. وعلى مستوىً آخر، يمكننا أن نسأل ما إذا كانت الحياة تستحقُّ أن تُعاش بالنسبة للشخص الذي يعيشها بالفعل (أو من سيعيشها)، وما الحالات التي يشعر فيها المرء أنّ حياته لا تستحقُّ أن تُعاش؟ إنّ هذين المنظورين التقيميَين (evaluative perspectives) للحياة مستقلان، ويمكن أن يكون بينهما نوع من الاتفاق أو التعارض. وقد يعتقد المرء أنّ المرضى الميؤوس من شفائهم يجب أن يظلّوا على قيد الحياة مع التسليم- دون أن نقع في تناقض – بأنّ حياتهم لا تستحقُّ أن تُعاش بالنسبة لهم على الأقلّ.
أمّا بالنسبة للمنظور التقييمي الثاني – وهو ما إذا كانت الحياة تستحقُّ أن تُعاش- فقد يقول الكثير من الناس في الوقت الراهن إنّ استيفاء شروط الحياة التي على أقل تقدير بالكاد تستحق العيش من أجلها، ليس أمرًا صعبًا. لا ينبغي أن تكون الحياة عظيمة، يكفي أن تستحق العيش عندما لا تكون سيئة للغاية. ووفقًا لوجهة نظر مؤثرة في أخلاقيات الطب، لا تكون استمرار الحياة ذات قيمة للمريض إلا إن كان يرغب في الاستمرار في العيش. هذه الرؤية التي مفادها أنّ معيار الحياة الجديرة بالعيش يحدده تفضيلات الشخص الذاتية؛ الشخص الذي يعيش تلك الحياة، عبّر عنه ويليام جيمس تعبيرًا لا ينسى في قوله: «لا تخف الحياة، اعتقد أنّ الحياة تستحقُّ العيش؛ وسيساعدك ذلك في جعل هذا الاعتقاد حقيقة».
لكن بالنسبة للفلاسفة القدامى؛ سقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيون، فإنّ هذا كله مجرد تمنّي؛ فما يجعل الحياة تستحقُّ أن تُعاش، وفقًا لوجهة النظر القديمة السائدة، هي درجة الكمال الموضوعية للحياة، وهي وجهة نظر غالبًا ما ستعدُّ من المحرمات في نظر أهل العصر الحديث. وهذه هي وجهة النظر التي تكمن وراء مقولة سقراط في محاورة «الدفاع» لأفلاطون، التي يقول فيها: «إنّ الحياة التي لا يُفكّر فيها لا تستحقّ أن تُعاش». ليس من الضروريّ أن تكون الحياة البشرية على درجةٍ من الامتياز والسموّ مثل الحكماء لكي تستحقُّ أن تُعاش؛ لكن لا بد أن تُظهر مستوىً معينًا من التفكير حول الكيفية التي يجب أن يعيش بها المرء، وتعلل هذه الكيفية.
يُمكن العثور على رؤيةٍ تبدو شديدة التطرّف لهذا النموذج ذي النزعة الكمالية للحياة في وجهة النظر الأرسطية التي تقول: «يجب أنّ يظلّ الطيّبون على قيد الحياة حتى في الظروف السيئة، في حين أنّ السيّئين يجب أن ينسحبوا من الحياة حتى عندما تكون حظوظهم جيدة». فإذا كانت شخصيتك وعقلك فاسديْن بشكل لا يمكن إصلاحه؛ يجب أن تنسحب من الحياة ذات القيمة والمعنى بغضّ النظر عن الخيرات الأخرى -بما في ذلك الصحة الجسدية – التي قد تستمتع بها. والسبب في هذا ليس لأنك لا تستحقُّ أن تعيش – من الناحية القانونية أو الأخلاقية – بل لأنّ هذه الحياة ضارة بالنسبة لك؛ سواءً كنت على درايةٍ بها أم لا. ولا شكّ أنّ معظم البشر من ذوي الطباع السيئة الذين يُصادفون حظًا جيدًا يؤمنون بأنّ حياتهم تستحقُّ أن تُعاش بالنسبة لهم. لكن هذا الاعتقاد ببساطة لا يخلق حقيقة الحياة التي تستحقُّ أن تُعاش.
وفي ضوء وعينا وفهمنا الحديث للحياة التي تستحقُّ أن تُعاش، تبدو هذه الآراء القديمة ونتائجها منطوية على إشكاليات، بل ومضلِّلة؛ ولذا انتقد بعض الفلاسفة المعاصرين ادعاء سقراط؛ باعتباره وِجهة صارِمة ونخبوية. فلماذا يجب أن يكون النشاط الذهني المستمد من التفكير الفلسفي، وليس مجرد الرضا عن حياة المرء، هو المعيار الحاسم لكسب الحياة التي تستحقُّ أن تُعاش؟ هل ينبغي حقًا أن نَلِد فقط الأطفال الذين ستُتاح لهم فرصة جيدة للانخراط في التفكير / التأمل في سلوكياتهم وحياتهم؟ من الصعب تخيّل كيف يمكن أن تصبح وجهة النظر القديمة هذه أساسًا لأيّ سياسة حكومية عملية حديثة فيما يتعلق بالإنجاب مثلًا. أمّا عواقب الادعاء الثاني المذكور أعلاه فهي أكثر إثارة للجدل والقلق على حدٍّ سواء. فلك أن تتخيّل فريقًا طبّيًا يرفض التدخلات المنقذة لحياة شخص لأنّ هذا الشخص فاسد أخلاقيًا. بالتأكيد، -كما نطالب وندعو إلى ذلك – ينبغي استبعاد نوعية شخصية المرء بشكلٍ قاطع من النقاشات الأخلاقية-البيولوجية من هذا النوع.
ولذا – وفقًا للفلاسفة القدامى- الحياة التي تستحقُّ أن تُعاش تتطلب أكثر ممّا يميل معظم الناس في الوقت الحاضر – بمَن فيهم الفلاسفة – إلى الإقرار بها. ومن بين الردود الرافضة المحتملة التي يمكن توجيهها للنظرة القديمة للحياة التي تستحقُّ أن تُعاش هو أنها مبنية على خصوصيات ثقافية واجتماعية. ومن هنا يمكن للمرء أن يشير إلى سِمة عامة من التشاؤم في الحياة بالنسبة للثقافة اليونانية القديمة، كما يتضح من قول سوفوكليس: «ألا تُولد هو أفضل الخيارات بغض النظر عن جميع التقديرات، ولكن عندما يرى الإنسان ضوء النهار، فإنّ ثاني أفضل خيار هو العودة بأقصى سرعة مِن حيث أتى».
وقد يكون هذا التشاؤم بدوره انعكاسًا للآراء الدينية السائدة، أو لظروف الرعاية الصحية المتاحة في ذلك الوقت. ألا تحدّ هذه الخصوصيات من المدى الذي يمكن أن تكون عنده الآراء القديمة خيارات عملية من المنظور الفلسفي الحديث؟ ولكن يوجد أيضًا سبيل للرد أفضل مما سبق: التركيز على حُجج النظريات القديمة التي تتمتّع بقوةٍ فلسفية أكثر شمولية؛ ففي الحالة المثالية، تمكّننا هذه الحُجج التي تطرحها الفلسفات القديمة من استخلاص بعض الدروس المُهمة التي تدفعنا إلى الشكّ σκέψις السليم تجاه بعض التقاليد الحديثة الراسخة.
إنّ أساس التقييم السليم للآراء القديمة هو أن ندرك أنّ الكمال يُفهم من حيث تحقيق وظيفتنا في الحياة. فالتأكيد على أنّ الحياة يجب أن تتمتّع بدرجةٍ من الكمال الفكريّ والأخلاقيّ يعادل الرأيّ القائل بأنّ الحياة لا تستحقُّ أن تُعاش ما لم تُمكِّننا الحياة من أداء وظائفنا الطبيعية، البيولوجية والاجتماعية على حدٍّ سواء؛ وبهذا المعنى تُرقينا هذه الآراء إلى مستوى مَن نكون أو ما نحن عليه. ومن هذا المنظور، لا يختلف البشر على الإطلاق عن الكائنات الحيّة الأخرى. ولنا أن نتخيّل نسرًا في قفصٍ يتغذّى جيدًا، ولكن لا يمكنه الطيران وصيد فريسته بحريّة؛ من هنا يتفق الكثيرون منّا على أنّ الحياة لا تستحقُّ أن تُعاش بالنسبة لهذا الطائر؛ بالنظر إلى مدى فقر وجوده؛ بل وذلّته. وقد يتمنّى النسر البقاء على قيد الحياة طالما يتغذّى جيدًا؛ لكن هذا لا يجعل حياته تستحقُّ أن تُعاش.
ما يعنيه الطيران والصيد بالنسبة للنسر، هو ما يعنيه والتفكير والأخلاق بالنسبة للبشر. إنّ ما يميّز البشر من الناحية البيولوجية هو مجموعة واسعة من القدرات النفسية في نطاق «العقلانية»، بدءًا من القدرة على الكلام، إلى القدرة على التأمل الفكري، أو القيام بأشياء جيدة من أجل الخير، أو مساعدة الآخرين. وهكذا فإنّ هؤلاء البشر الذين لا يفحصون أبدًا أسلوب حياتهم، أو أولئك الفاسدين، هم مثل النسور التي لا تخرج من أقفاصها: إنّ عيشهم مثل هذه الحياة الفقيرة؛ إنما هو أمر يبعث على الشفقة. أمّا الحقيقة التي مفادها أنّهم لا يدركون بؤسهم هذا؛ لا تُقلّل أبدًا بل تُفاقم شفقتنا عليهم. وانطلاقًا من أنّ نظرتنا لقيمة الحياة ينبغي أن تكون دائمًا على درجة من التناغم مع أداء وظيفتنا الطبيعية؛ فإنّ الحياة الأَسِيرة قد لا تستحقُّ أن تُعاش بالنسبة لنسر، لكنها قد تستحقُّ أن تُعاش بالنسبة لعصفورين محبوسين في قفص. وبهذا المعنى، يقول سقراط، الحياة غير المفكر فيها لا تستحقّ العيش بالنسبة للبشر، ولكن ربما تستحقُّ أن تُعاش بالنسبة لقنديل بحر.
والسؤال الآن، هل هذا التركيز على ربط قيمة حياتنا بأداء وظيفتنا هو بالضبط ما يرفضه الفلاسفة في العصور الحديثة؟ يبدو أن حياة الشخص من المنظور الوظيفي قد تم تحويلها إلى أداة بشكل مفرط. ويصبح هذا القلق أكثر إلحاحًا عندما ننتقل من الوظائف البيولوجية إلى الوظائف الاجتماعية. ففي السياق القديم، كان يُنظر إلى الوظائف الأخيرة غالبًا على أنّها امتدادات للأولى: فنحن بطبيعتنا كائنات اجتماعية، ومن ثمّ مِن الطبيعي أن يكون لدينا أدوار اجتماعية نساهم من خلالها في مجتمعنا الأوسع. وفي كتاب «الجمهورية»، يجسّد أفلاطون هذا النهج تجاه قيمة الحياة من خلال موقف نجّار مريض. كان هذا النجّار يرى الطبيب فقط لكي يتعافى ويستأنف عمله في أسرع وقتٍ ممكن. ولكن إذا كان العلاج -بالنسبة له – من شأنه أن يجعله غير قادر على استكمال عمله؛ فإنه يفضل عدم أخذ العلاج على إطالة عمره. في نظرة النجّار لقيمة حياته، نجده يمنح الأولوية لقدرته على تقديم النفع للمدينة polis على حياته نفسها. وكمبدأ عام، فإنّ هذا أمر مُقلِق: فهل يجب أن نقيس قيمة حياتنا من خلال قدرتنا على أن نكون منتِجين فعّالين؟
الواقع أنّ من السهل استبعاد الأفكار المترتبة على وجهة نظر أفلاطون باعتبارها أفكارًا تهكّمية، أو غير إنسانية، أو لأنها تُنكر قيمة الحياة في ذاتها. لكن ربما لا يكون الدرس المُستفاد من الفلسفات القديمة هو أنّ حياة الإنسان ليست ذات قيمة غير مشروطة، بل الدرس المُستفاد الصحيح هو أنّ هناك أشياء تقع على عاتقنا في الحياة وتُعَدُّ أكثر أهمية من الحياة نفسها. بالنسبة للنجّار، فإنّ عمله – مهنته – هو مصدر رئيس لخَلق معنى لحياته؛ فهو يحبّ عمله ويتقنه، كما أنّ عمله هو الذي يحدد أهداف حياته لدرجة أن لا يمكنه تصوّر حياته دون عمله. ومن ثمّ فإن دوره كنجّار هو أيضًا بمثابة الطريقة أو المنهج الذي يتمّ به دمج حياته في البُنى الاجتماعية، كما أنّ المساهمة في هذه البُنى تمنح حياته معنى وهدف؛ ولذا يصح أن تعدُّ الأعمال والوظائف التي يؤديها الأفراد وسائل للتكامل، وليس وسائل لتحويل الشخص إلى أداة. إنها تحدد كيف تتناسب حياة الفرد مع نسيج الواقع، ومن ثمّ تجعل الحياة ذات مغزى؛ لذا فإننا نندمج في السياق الاجتماعي من خلال وظائفنا الاجتماعية، مثلما تدمجنا الوظائف البيولوجية مع السياق الأوسع للطبيعة والكون. وعلى غرار النباتات والحيوانات – التي تساهم بطريقتها الخاصّة في النظام الكوني – يؤدي البشر أيضًا دورًا مهمًا في النظام الكوني.
وهكذا بالنسبة للقدماء، فإنّ جودة الحياة – بمعنى القدرة على أداء الوظائف البيولوجية والاجتماعية – هي التي تحدد ما إذا كانت الحياة تستحقُّ أن تُعاش. وقد تبدو لنا بعض جوانب النظرة القديمة متطرفة، لكن بالمقارنة مع المواقف في الخطاب الفلسفي المعاصر، كان الفلاسفة القدامى في الواقع معتدلين؛ فمن ناحية، لم يتشبث الفلاسفة القدماء بالرأيّ القائل بأنّ الحياة البشرية لها قيمة غير مشروطة، إنما اعتبروا أنّ الحياة غير المشروطة هي تعبير عن ميل الإنسان غير السَلِيم إلى التشبث بحياته بأيّ ثمن. ومن ناحية أخرى – رغم التوجهات البارزة في إنكار قيمة الحياة في الأدب اليوناني – لم يطرح الفلاسفة القدماء أجندة مناهضة للإنجاب. تحظى حياة الإنسان بفرصٍ جيدة لكي تكون ذات معنى وهدف، ومن ثمّ تستحقُّ أن تُعاش. ولكي تستحقُّ الحياة أن تُعاش، لا يجب أن تكون الحياة البشرية مقبولة أو كاملة من جميع النواحي؛ إنّما يكفي أنها لا تُقوِّض أو تنتهك بشكلٍ صارخ مكانة الفرد ووظيفته في المجتمع والكون ككلّ.
[1] (*) ديفيد مشيك: هو زميل أبحاث ما بعد الدكتوراة في قسم الفلسفة في جامعة برن في سويسرا. وهو متخصص في الفكر اليوناني الروماني القديم والفكر الصيني المبكر، ومؤلف كتاب: «الحياة التي تستحقُّ أن تُعاش في الفلسفة اليونانية والرومانية القديمة»، (سيصدر قريبًا في أبريل 2023).