كونديرا أمام نيتشه أو كيف الحديث عن العَودِ الأبديّ؟ | حمزة فْنِّين

تستغرق 29 دقائق للقراءة
كونديرا أمام نيتشه أو كيف الحديث عن العَودِ الأبديّ؟ | حمزة فْنِّين

«والفلسفةُ لا تمُتُّ بصلةٍ إلى النقـاش إطلاقًا، فمن الصَّعب أن نفهمَ أيَّ مسألةٍ يطرحُها أحدٌ ما وكيف يطرحُها؛ يجب فقط إثراؤُها وتنويـعُ شروطِها، وأن نُضيفَ ونُقيمَ الصِّلات، وألّا نُناقشَ مُطلقًا». – جيل دولوز


«إنّ اكتشاف ما لا يتسنَّى اكتشافه سوى للرواية هو العِلَّة الوحيدةُ لوجودها، والروايةُ التي لا تكتشفُ جانبًا مِن الوجود بقيَ مجهولاً إلى الآن، هي روايةٌ لا أخلاقيّة؛ إنّ المعرفة هي الأخلاق الوحيدة للرواية». – هرمان بروخ

التقديـم

«العَودُ الأبديّ فكرةٌ يكتنفها الغموض، وبِها أربكَ نيتشه العديد مِن الفلاسفة: أن نتصوَّر أنّ كلّ شيءٍ سيتكرَّرُ ذات يومٍ كما عشناهُ في السابق، وأنّ هذا التِكرار بالذات سيتكرَّر بلا نهاية! ماذا تعني هذه الخرافة المجنونة؟»[1].

هكذا يستهلُّ كونديرا روايته «كائنٌ لا تُحتمَل خِفَّتُه»[2]، مُوقِفًا إيّانا -منذُ أوّل فقرة-، على الثيمة التي ستُفكِّر الروايةُ فيها، في ما تفتحُ عليه، وفي ما تحجبُه من إمكاناتٍ يحبُل بها «العالَم المعِيش» (Lebenwelt) [3]، وفي ما تصيرُ عليه الحياة الإنسانيّة داخل هذا المجال.[4]

نهتبل -نحنُ بدورنا- الفرصةَ لنُفكّر مع كونديرا في ما الذي يُمكن أن يعنيه العَودُ الأبديّ؟ هذا السؤال الكبير، فلسفيًّا[5]؛ كيف تنبسطُ هذه الفكرة داخل ثنايا الرواية؟ كيف أثَّرت على شخصيّاتها وشكَّلت قدَرهم، هُويّتهم، ما هُم عليه؟[6] هذه أسئلة نسوقها، ونتعهّد بتقديم بعض عناصر الإجابة عنها.

تُؤكِّد فكرةُ العَودُ الأبديّ، كما ظهرت لأوّل مرّةٍ ضمن «العِلم المَرِح»[7]، على أنّ الحياة، التي نعتقد أنَّنا نعيشُها لمرّةٍ واحدةٍ وفقط، يُمكن أن نعيشها مُجدّدًا لما لا يُحصى من المرّات -مثلما عشناها في السابق- دون أن يكون هناك أيُّ جديدٍ فيها؛ فما كان هوَ ما سيكون، هوَ ما لن يفتأ يكون. تبدو هذه الفكرة جدّ مخيفة، فمع كلّ فعلٍ سنقوم به، لا بدَّ أن نسأل أنفسنا: هل نريدُ أن نعيش هذا الفعل مرّة أخرى، بل وعددًا لا يُحصى من المرّات؟ هل نريدُ لهذا الفعل أن يعود عَودًا أبديًّا؟ لا شكّ أنّنا سنشعُر في هذه اللحظة، لحظة السؤال، لحظة الاختيار، لحظة الفعل، بثقلٍ هائلٍ يجثم علينا حتى ليجعلنا غير ما نحنُ عليه، بل ويسحقنا؛ إذ إنّ فكرة العَودُ الأبديّ هي الحِملُ الأكثر ثقلاً.

إنّه ينزع عنَّا خِفَّتنا المريحة التي اعتدناها ويسلبُها منّا، خِفَّتنا التي تجعلنا نهرب دائمًا مِن أنفسنا، مِن أفكارنا وأفعالنا التي تُحدّد نمط عيشنا. هنا، لا نعود نرى الأشياء كما كنّا نراها قبل أن تُخيّم علينا هذه الفكرة؛ إذ هي الآن قد فقدت عرضيّتها وأصبح كلُّ فعلٍ، مهما بدا هيّنًا وتافهًا، عظيمًا وهائلاً. أمَّا نحنُ، فنصبح معلَّقين على الأبديّة مثلما عُلِّق المسيح على الصليب[8].

لكن هل الثُقلُ فظيعٌ والخِفَّةُ جميلةٌ؟

يبدو أنّ الثقل يرتبطُ بالتفكير في العَود الأبديّ، في حين أنّ الخِفَّة لا ترى نفسها أبدًا في مرآته، إنَّها لا تنفكّ توليه ظهرها وتستمرّ في الحياة. وهذا ما يُميّز عالمنا أكثر؛ إذ هوَ غير مبنيّ على العَود، وإنَّما على انعدامه[9]. بيدَ أنّ الثقل والخِفَّة ليسا بالأمر الواضح، فقد تتغيّر دلالتيهما من واحدٍ إلى آخر، فيُصبحان مُلتبسين وغامضين[10].. وهو ما سنقف عليه لاحقًا.

1- تيريزا أو عن ثقلِ العودِ الأبديّ

كان كونديرا يُفكِّر في توماس، في ضوء العَودِ الأبديّ، الشيء الذي جعله يراهُ بوضوحٍ لأوّل مرّة. ما الذي سيختارُه توماس، هل سيدعو تيريزا -التي التقى بها صدفةً وأمضى معها أسبوعًا بأكمله- إلى الإقامة معه في بيته أم أنّه سيواصل حياة الخِفَّة كما اعتادها دون أن يضطر لأن يحمِل أيّ ثقـل؟ هل سيختار الخِفَّة أم الثُقل؟ كانت هذه هي اللحظة الحاسمة في حياة توماس؛ اللحظة الأكثر ثقلاً.

انتهى به الأمر إلى أن يدعوها إلى الإقامة معه في بيته. لَم يختَر ذلك وفي الوقت نفسه لَم يرفضه. كلّ ما نعرفه أنّه وَجَد نفسه -فجأةً- معها في نفس البيت. هكذا تحوّل إمكانٌ، من بين إمكاناتٍ لا مُتناهية، من القوة إلى الفعـل. هل يدلُّ هذا على ضرورة الأشياء؟ هل كان هذا هو قـدَر توماس؟ هل كان ما لا بُدّ له أن يكون (Es muss sein)، أم أنّ ما كان هوَ مجرد إمكانٍ -من بين إمكاناتٍ لا مُتناهية- كان من المُمكن ألاّ يكون؟

لنُذكِّر، هنا، بتساؤل جيمس جويس الفلسفيّ بامتياز: «هل الإمكانات التي لَم تتحقَّق كانت مُمكنة، أم أنّ الإمكان الوحيد هوَ ما كان؟»[11] يُجيب توماس: «كان مِن المُمكن أن يحدُث هذا بطريقةٍ مُغايرة تمامًا»[12]. كان يُمكن لتوماس، إذن، ألاّ يلتقي تيريزا، وألاّ يدعوها لتقطن معه في البيت. لكن بما أنّ هذا قد تحقَّق وخرج من القوة (الإمكان) إلى الفعل، وأنّ تحقّق إمكانٍ معيّنٍ يجعلُ، مباشرةً، جميع الإمكانات الأخرى تتلاشى  وتختفي من الأفق.

كان توماس يعيش حياته في عرضيّتها، ولم يكن يُفكر في ما يقوم به تحت أفُق العَود الأبديّ، كان هذا الأخير ضمن لا-مُفكّر توماس. مع تيريزا فقط فكّر فيه كذلك؛ حينها عرَف معنى الثُقـل. وهذا ما أغوانا بالتساؤل عن تيريزا باعتبارها قدَر توماس، القدَر باعتباره ذلك الحِمل الثقيل، الثقيل ثقلَ العَود الأبديّ، ثقلَ قَدرِ أوديب ويونان (يونس)؛ القَدر باعتباره ما هو جوهريّ لا ما هو عرضيّ، ما هو ثقيل لا ما هو خفيف؛ إنّ تيريزا -في نهاية المطاف- هي تجسيدٌ لهذا الثقل.

كان توماس دائم الهروب من هذا الثقل؛ إذ لَم يكن يستطيع أن يُفارق حياة الخِفَّة التي كان يعيشها من جهةٍ، ولَم يكن يستطيع أن يتصالح مع قدَره من جهةٍ أخرى. كما يُمكن القول إنّ جميع اللحظات التي كان توماس يشعر فيها بثقلٍ هائلٍ يجثم عليه، خارج وجوده/حضوره مع تيريزا، هي لحظات التفكير في تيريزا /القَدر/ الثقل.

هنا، يُمكن أن نصوغ الأطروحة التالية: الثُقلُ فظيعٌ، الخِفَّةُ جميلةٌ.

لقطة من الفلم المقتبس من رواية "كائن لا تحتمل خفته"
لقطة من الفلم المقتبس من رواية “كائن لا تحتمل خفته”

2- تيريزا أو عن حُبِّ الـقَـدر

ترتبطُ فكرة حُبّ القَدر (Amor Fati) عند نيتشه بفكرة العَود الأبديّ، وهي الفكرةُ التي أشرقت عليه مع حلول عام 1882[13]؛ لتُشكِّل بذلك الأساسَ الذي مِن خلاله لن يرى سوى الجميل وسط ضرورة الأشياء، بل وأن يجعل الأشياءَ جميلةً؛ أن يقول، في جميع الظروف «نعـم»[14]، بما فيها ظرفُ العَـود الأبديّ، أيّ ألاّ يكتفي الإنسان بحبّ قدَره، بل ويريـدَ له أن يتكـرَّر بلا نهاية.

إنّ حُبّ القدَر لا يعني البتّة التواطؤ مع الأمر الواقع، وإنَّما تأكيد الحياة فيه وقول نعم لضرورتها دون أدنى اتهامٍ للوجود أو إدانته بحُكم طابعه العنيف والأليم[15]؛ التفكيرُ في الحياة في أفق العَود الأبديّ، أيّ أن نعيشَ كلّ لحظةٍ باعتبارها لحظةً لن تفتأ تَعـود، لن تفتأ تَؤول، أن نُريـد لكلّ لحظةٍ نعيشُها تِكـرارًا لا مُتناهيًا، عَودًا أبديًّا. هنا يُصبح العَود الأبديّ، بما هوَ تجربة فكريّة، قاعدةً عمليةً أكثر قوةً وصرامةً من أيّ قاعدةٍ كانطية، يُصبح مبدأ إتيقيًّا وانتقائيًّا[16]، أيّ أنّه يُقدِّم لنا إتيقا نَـنْـتَـقي من خلالها أفعالنا؛ فنرسُـم لأنفسنا نمط عيشٍ خاصّ بها، نمط عيشٍ صِحيّ مُعافى.

لَم يكن توماس، في بداية الرواية، يعرِف كيف يتعامل مع الضرورة، مع القَدر، كيف يُحبَّه ويقول له: «نعم»؛ دون أن يشتكي منه أو يدينه؛ لَم يكن يستطيع أن يتحمَّل هذا الثقل الذي حمَلته تيريزا -التي فكّر فيها في أفق العَود الأبديّ- بيدَ أنه، فيما بعد، تعلَّم كيف يرى الجمَال وسط ضرورة الأشياء، تعلَّم كيف يُحبّ قدَره، وكيف يقول: «نعم»، بطريقةٍ صِحيّة.

هذا ما سيزدادُ وضوحًا إذا ما تساءلنا: هل كان اختيارُ توماس لتيريزا سديدًا أم سيّئًا؟ حيث إنَّنا لن نجد أيّة إجابة؛ إذ لا سبيل له لأن يعرِف ذلك، ولا لأيّ أحدٍ آخـر مكانه. لا سبيل، إذن، إلى معرفة ذلك قبل اختباره، فكلّ شيءٍ نعيشه دُفعةً واحدة؛ إنَّ التمرين الأوّل في الحياة هوَ الحياةُ ذاتُها[17]؛ إنّ مرّةً واحدةً هيَ أبدًا[18].

 هذه فكرةٌ هامّة ما يفتأ كونديرا يُذكّرنا بها، بل إنّ توماس قد وُلِدَ من رحمها[19]، إنّه سليلُها، ورؤيتُه للعالَم/الحياة مجبـولةٌ بروحها؛ ليسَ هناك سوى حياةٍ واحدةٍ، وهي التي نحنُ فيها. وبما أنّ تيريزا أصبحت قدرَ توماس، ذلك القَدر الذي نغَّص عليه حياته وأفقدها خِفَّتها المعهودة؛ فليس على توماس إلاّ أن يُحبَّه، أن يتعلَّم كيف يُحبَّه.

وبالفعل، فقد أحبَّه وتناغم معه -وهو ما توقفنا عليه نهاية الرواية- حيث نرى توماس وتيريزا يعيشان حياتهما في الأرياف، بعيدًا عن صخب وعنف المدينة، وقد تخلَّصا من الثقل الذي كان يشعران به، وأصبحا يعيشان في خِفَّةٍ صافية.

3- توماس وجمالياتُ الحُبّ أو عن العودِ الأبديّ للاختلاف

يوقفنا دولوز[20] على أنّ العَود الأبديّ عند نيتشه ليس فِكرًا (pensée) في التطابُق، وإنَّما في الاختلاف، الاختلاف المُطلَق؛ وأنّ التكرار الأبديّ ليس تكرارًا للتشابه، وإنَّما للاختلاف، تكرارُ الاختلاف. إنّ ما يُؤسِّسُ للعَود الأبديّ هو الصيرورة، وليس الثبات، فالوجود هوَ، في أساسه، صيرورة؛ إنّ ما لا يفتأ يَعود هو الصيرورة، التعدّد، الاختلاف.

توقفنا الرواية، على أنّ توماس يعيش حياةً إيروتيكيةً منفلتةً من كلّ قيدٍ «أخلاقيّ»؛ فهوَ لا يفتأ يغيّر عشيقاته، إذ نقرأ في الرواية: «عمَّ كان يبحثُ -أيّ توماس- لدى كلّ هؤلاء النسوة؟ ما الذي كان يشدُّه إليهنّ؟ أليست العلاقةُ الجنسيّةُ تِكرارًا للشيء نفسـه؟ إطلاقًا، حيثُ تبقى هناك -دائمًا- نسبةٌ صغيرة من المتعذّر تصوُّره […]. ثُمّ إنّ ملاحقة المتعذّر تصوّره لا تكتمل باكتشاف العُريّ وحده، بل تتعدَّاه: كيف ستكون حركاتُها فيما تتعرَّى؟ ما الذي ستهمس به حين يُضاجعها؟ كيف ستكون نغمةُ تنهُّداتِها؟ وأيُّ تَـكشيرةٍ سترتسمُ على وَجهِها لحظة وصولِها للنشـوة؟».

إنَّ تفرُّدَ الأنا يكمُن -تحديدًا- في هذا الجزء -من المُتعذّر تصوّره- الذي يملكه كلّ إنسان. هكذا يُحدَّد معنى هوسه بالنسـاء، فهوَ ليس مهووسًا بالنساء؛ بل بما تملكه كلّ واحدةٍ منهنّ مِن المتعذّر تصوّره، بتعبيرٍ آخر: «إنّه مهووسٌ بهذا الجزءِ -مِن ملايين الاختلافات- الذي يميّز كلّ امرأةٍ عن سِواها»[21].

بالنسبة لتوماس، لا يُمكن لهذا الجزء أن يَظهر إلاّ في الجنس؛ إذ لا يُمكن إدراكه علانيةً، وإنَّما يجب امتلاكُه، أيّ العبور إليه عن طريق التجربة: تجربة الجنس التي تُمثِّل تلك الخزينة التي يختبئ في داخلها سرُّ «الأنا الأنثويَّة»[22].

لا يُمكن السباحة في النَّهر نفسه مرّتين،كما يقول هيراقليطس؛ فكلّ مرّة تختلف اختلافًا كليًّا عن سابقتها، وهوَ نفسه ما ينطبق على تجربة الجنس بالنسبة لتوماس، إنَّها لا تفتأ تتكرّر على طول حياته وعلى طول الرواية، لا تفتأ تعود عَودًا أبديًّا، لكنّها تكرارٌ للاختلاف لا للتطابق أو الهُويَّة؛ إنَّها عَودٌ أبديّ للصيرورة.

وملاحقة المتعذّر تصوُّره هذه، التي لا تفتأ تَعود، لَم تكن البتَّة موضع خجلٍ بالنسبة لتوماس الذي هو نقيضٌ للكيتش[23] الذي يحتاجه؛ ذلك الذي لا يستطيع العيش دون أن يرى نفسه في مرآة الكذب ويتعرَّف عليها/فيها بنوعٍ مِن الرضى الخادع[24]، وهي نفسها حاجته إلى أن يمدحه الآخرون ويتملَّقونه وأن يظهروا له صورته في مرآةٍ نرسيسيّةٍ؛ لأنَّه لا يستطيع أن يرى نفسه كما هيَ.

إنّ توماس هو نقيضُ هذا تمامًا، فهو لا يحتاجُ إلى أن ينظُر في هذه المرآة؛ إنّه مُتصالحٌ مع ذاته ومع قدَره ومُحبٌّ له، قدَره المُتجلِّي في خِفَّة الوجود التي أصبحت بالنسبة له تجربةً جماليّةً: العَود الأبديُّ للاختلاف كتجربةٍ جماليّة. فهذه الأشياء التي قد تبدو دون معنى أو تافهة -ولا أقول مبتذلة- استطاع توماس أن يرى فيها جمالاً، بل وأن يُحبّها -ولم يكن هذا متاحًا للجميع-[25]. إنّ هذه التجارب التي قد تبدو تافهة، هي كلّ ما يتبقَّى لنا -في نهاية المطاف- وعدمُ إدراكها والتعرّف عليها، ثمّ حبّها؛ هوَ ما يحول بيننا وبين بهجتنا.

يُمكننا هنا أن نصيغ الأطروحة التالية: الخِفَّة مصدرٌ لتجربةٍ جماليّةٍ في الوجود.

4- خِفَّـةُ الثُّـقـل وثُـقـلُ الخِفَّـة

رأينا كيف أنّ العَود الأبديّ يرتبط بالثقل وبحبِّ القَدر أيضًا، وكيف أنّ حُبّ القَدر هذا قد أدَّى -في نهاية المطاف- إلى الخِفَّة، الشعور بالخِفَّة، أو على الأقل اختفاءُ ذلك الثقل الذي عهدناه في علاقة توماس وتيريزا، توماس والقَدر/الضرورة.

يُمكننا الآن أن نقف على ثقل الخِفَّة، لا مع توماس وتيريزا هذه المرّة، وإنَّما مع فرانز وسابينا، فهذان يوقفاننا على معنىً آخر للخِفَّة وللثقل؛ لا ترتبط الخِفَّة عند فرانز بالخيانة، بل بالوفاء، بالعِيش في الحقيقة (على حدِّ تعبير كافكا في يومياته)؛ فبعد توالي خياناته مع سابينا شعرَ بحَملٍ ثقيلٍ فوق كتفيه، في حين أنَّه عندما تخلَّص منها، وخرجت الخيانة من أُفقه، أصبح خفيفًا. نقرأ في الرواية: «بعد وقتٍ قليل، وافىَ سابينا إلى المطار. كان، كلَّما عَلَت الطائرة؛ يشعر أنَّه يُصبح أكثر خِفَّة. كان يقول في نفسه إنّه في نهاية الشهر التاسع؛ ها قد بدأ أخيرًا يعيشُ في الحقيقة»[26]. الخِفَّةُ، إذن، عند فرانز هي ذات بُعدٍ أخلاقيّ.

كما أنّ الثقل لا يكون دائمًا مأساةً، فهذه سابينا لم تكن مأساتها هي الثقل؛ إنَّما هي الخِفَّة التي لا تُحتمَل. الخِفَّة كحِمل، كمأساة، هو ما توقفنا عليه سابينا[27]. نقرأ في الرواية: «حتى الآن، كانت لحظات الخيانة تملأها نشوةً وفرحًا خاصةً لدى التفكير في أنّ طريقًا جديدة ستمتدّ أمامها، وأنّ في آخر هذا الطريق مُغامرة، خيانة جديدة. ولكن ما الذي سيحدث لو أنّ هذا السفر انتهى؟ يُمكن لنا أنّ نخونَ أهلاً وزوجًا وحُبًّا ووطنًا، لكن ما الذي يتبقَّى حينَ لا يَعود هناك أهل لنخونهم أو زوج أو حُبّ أو وطن؟ كانت سابينا تشعر بالفراغ يُحيط بها […]». يرتبط ثقلُ الخِفَّة، مأساتها وتراجيديتها، عند سابينا بذلك الغياب المُطلق للمعنى وللوِجهة، أو ما أسمَته بالفراغ، ذلك الفراغ القاتل، خِفَّة الوجود التي لا تُحتمَل.

يظلّ، إذن، غموض الخِفَّة/الثُقل حاضرًا في الرواية حتى نهايتها؛ يبدو أنّ هناك العديد من الصعوبات التي تحول بيننا وبين رؤية تلك الفكرة النيتشوية مُتحقِّقةً أدبيًّا/روائيًّا تحقُّقًا واضحًا. لكن، أوليس ديدنُ الرواية هو أن توقفنا على التعقيد الذي يطبعُ العالم المعِيش، وأنّ ما قد نظنّه واضحًا هو أكثر تعقيدًا ممّا قد نعتقد؟ بل كيف يُمكن للرواية، التي هي سليلةُ الأزمنة الحديثة، أن توقفنا على الوضوح وعالمُها، أصلاً، مجبولٌ بروح الغموض والإبهام المُترجمين في حروف الحيرة، حيرة غدت أُفقًا لذلك العالَم الذي ما عاد مُحتضنًا لحقيقةٍ إلهيّةٍ واحدةٍ وكليّة، بل أصبح فريسة لجرثومة النسبيّة.

ثُقلُ الخِفَّة هذا -نقفُ عليه أيضًا- في مواضع أخرى من روايات كونديرا[28]، ففي «المِزحة»، نقرأ: «كنتُ أتمشَّى فوق هذا الحجَر المُغبَّر، وأشعرُ بالخِفَّة الثقيلة للفراغ الذي كان يجثُم على حياتي»، وفي «الحياة في مكانٍ آخر»، نقرأ: «كان ياروميل يحلُم أحيانًا أحلامًا مرعبة؛ كان يحلُم بأنّه يتوجب عليه رفعُ شيء في غاية الخِفَّة: فنجانُ شاي، ملعقة، ريشة. لكنّه لم يكن ينجحُ في ذلك، وكان يحلُم أنّه كلَّما كان الشيء خفيفًا للغاية كان أشدّ ضعفًا؛ كان يحلُم أنّه كان يرزحُ تحت وطأة خِفَّة الشيء»، وفي «الضحك والنسيان»، نقرأ: «هذا المكانُ الفارغ في المعدة هو تحديدًا هذا الغياب غير المُحتمَل للثقل. وكما أنّ كلّ شيء بلغَ حدّه الأقصى يُمكن في كلّ لحظةٍ أن ينقلب إلى ضدّه، فإنّ الخِفَّة المدفوعة إلى أقصاها؛ تنقلبُ إلى ثقلِ الخِفَّة المُرعب. ومن ثمّ، فإنّ تامينا تعلمُ أنّه لن يكون بمقدورها أن تتحمّل ثقل الخِفَّة لثانيةٍ واحدةٍ أكثر».

يُمكننا هنا أن نصيغ الأطروحة التالية: الثقلُ جميلٌ، الخِفَّةُ فظيعةٌ.

الختـام

يبدو أنّ ثيمة الخِفَّة/الثُقل لا تفتأ تَعود في أعمال كونديرا، في مسَاره نحو اكتشاف ما بقيَ مجهولاً في الوجود، بل إنّ كونديرا لَم يعلم البتة أنّ هذه الثيمة حاضرة في أعماله، إلاّ عندما كان يقرأ ترجمات رواياته؛ ربما لا يكتب الروائيّون سوى موضوعة واحدة (روايتهم الأولى) بتنويعاتٍ جديدة[29]، ربما ليس هذه الموضوعة، في نهاية المطاف، إلاّ تجسيدًا للعَودِ الأبديّ بما هو تكرارٌ للاختلاف؛ فكلّ رواية من رواياته هي محاولة للوقوف والإيقاف على هذه الموضوعة، لكن بشكلٍ مختلفٍ دائمًا، مختلف إلى درجة أنّه لن يستطيع استنزافها ومعرفة كُنهها. إنّ كونديرا لا يفتأ يُفكر في موضوعة الخِفَّة/الثُقل في رواياته؛ لكنّه يُفكِّر فيها كلّ مرّةٍ وكأنّها المرَّة الأولى.

 

[1]– كونديرا، ميلان، كـائـنٌ لا تُحتمَـلُ خفَّـتُـه، ترجمة: ماري طوق، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط. 3، 2013، ص. 5. (التشديد من عندنا). هذه هي الرواية التي سنعتمد عليها أساسًا في هذه المقالة. ونشير إلى أنّه قد صدر فيلم، بنفس العنوان، مُقتبسٌ عنها سنة 1988، من إخراج فيليب كاوفمان.

[2] – وربّما كان الأدقّ أن نُترجمها: خِفَّة الوجـود التي لا تُحتمَل.

[3]– بما أنّ الرواية، وليدة الأزمنة الحديثة، هي تفكيـرٌ في هذا العالم الذي لم يُنتبَه له فانفلت منّا ووقع في غياهب النسيان. (راجع: كونديرا، ميلان، فنُّ الرواية، ترجمة: خالد بلقاسم، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2017، القسم الأوّل).

[4]– نقرأ ضمن الرواية: «[…] فالروايةُ ليست اعترافًا ذاتيًا للكاتب، وإنّما تنقيبٌ عمّا تصيره الحياة الإنسانية في الفخّ الذي يُسمّى العالم» (ص. 223).

[5]– تُفهم الفلسفةُ، هنا، بما هي متصِلة بتجربة الحياة / العيش.

[6]– لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التذكيـر بالآية القرآنية الجميلة: «وأَن لَيْسَ لِلْإِنسَـانِ إَلَّا مَا سَـعَـى» النجم 39.

[7]– نقرأ: «ماذا لو أنّ شيطانًا تسلَّل ذات يومٍ أو ذات ليلةٍ إلى عزلتك الأكثر وحدة، وقال لك: “هذه الحياةُ كما تعيشها اليوم وكما عشتها دومًا سيكون عليك أن تعيشها ثانيةً وعددًا لا يُحصى من المرّات؛ ولن يكون هناك من جديدٍ فيها، بل إنّ كلّ ألمٍ وكلّ لذّةٍ وكلّ خاطرةٍ وزفرةٍ، وكلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من حياتك هذه ستعود إليك حتمًا، والكلّ وفقًا لنفس النسق، ولنفس نظام التتابع والتتالي» (نيتشه، فريدريش، العِلم المرح، ترجمة: علي مصباح، بيروت-بغداد، منشورات الجمل، 2017، الكتاب الرابع، § 341).

وسنركِّز اهتمامنا هنا على فكرة العود الأبدي، كما ظهرت في «العِلم المرح» فقط.

[8]–  «لو قُدِّر لكلّ ثانيةٍ من حياتنا أن تتكرَّر مرّاتٍ لا حصر لها؛ لكنّا مُعلّقين على الأبديّة مثلما عُلق يسوع المسيح على صليبه» (كونديرا، كائـنٌ لا تُحتمـل خِفَّتـه، ص. 6).

[9]– المصدر نفسه، ص. 6.

[10]–  «النقيضان الثقيل – الخفيف هما الأكثر غموضًا والتباسًا من بين كلّ المتناقضات» (المصدر نفسه، ص. 7).

[11]–  Joyce, James, Ulysse, nouvelle traduction sous la direction de Jacques Aubert, Paris, éd. Gallimard, collection folio, t. 1, p. 40.

لنتذكّر أيضًا أنّ خوان غوتيسولو، في غابة الكتابة، يوقفنا على سمةٍ هامةٍ ومُميزةٍ للرواية بما هي كذلك، حيث نقرأ: «ماذا كان سيحدث لو لَم يقع ما وقع؟ ماذا كان سيحدث لو حدث ما لَم يحدث؟ ربما لم تكن هذه سوى محض تخمينات بالنسبة للمؤرِّخ، أمّا بالنسبة للروائي فهي على العكس». هنا ينخرط الروائي في صراعٍ حدّده أرسطو في فنّ الشِّعر بين كلّ مِن الشاعر والمؤرِّخ على تصوّرٍ للحياة (يوجد في الشِّعر ما لا يوجد في التاريخ).

انظر:  موهوب، محمد، تُـرجـمان الفلسفـة، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2011، ص. 181.

Goytisolo, Juan, La foret de l’écriture, trad. De l´espagnole par Abdelatif Ben Salem, Paris, éd. Fayard, 1997, p. 58.

[12]– كونديرا، كـائـنٌ لا تُحتمَـلُ خِفَّـتُـه ص. 37. (بتصرف).

[13]– ‘‘Je vis encore, je pense encore : je dois vivre encore, car je dois encore penser. Sum, ergo cogito : cogito, ergo sum. Aujourd’hui, chacun s´autorise à exprimer son vœu et sa pensée la plus chère : eh bien, je veux dire, moi aussi, ce que je me suis aujourd’hui souhaité à moi-même et quelle pensée m´est venue à l’esprit la première cette année, – quelle pensée doit être pour moi le fondement, la garantie et la douceur de toute vie à venir ! Je veux apprendre toujours plus à voir dans la nécessité des choses le beau : je serai ainsi l´un de ceux qui embellissent les choses. Amor Fati : que ce soit dorénavant mon amour ! Je ne veux pas faire la guerre au laid. Je ne veux pas accuser, je ne veux même pas accuser les accusateurs. Que regarder ailleurs soit mon unique négation ! Et somme toute, en grand : je veux même, en toute circonstances, n´être plus qu´un homme qui dit oui !’’.

(Nietzsche, F., Œuvres, Le Gai Savoir, traduit par Patrick Wolting, Flammarion, 1997, § 276).

[14]– لا يجب أن نخلط هنا بين «نعم» نيتشه، و«نعم» أولئك الذين يرون أنّ «عالمنا هو أفضلُ العوالم المُمكنة»، أولئك الذين يُسمّيهم نيشته: «الراضون عن كلّ شيء»؛ فهؤلاء يستطيبون كلّ شيء فيمضغونه ويهضمونه دون أن يكون لهم أيّ ذوقٍ رفيع، إنّهم يقولون على الدوام: إيّ ـــــ ! مثَلهم في ذلك مثَل الحمار وكلّ ذي عقل حمار [يلعب نيتشه هنا على التشابه الصوتي بين لفظ «نعم» (Ja) في اللغة الألمانية وبين نهيق الحمار]، وهذه الـ «نعم»، في نهاية المطاف، هي ضربٌ من النفي المُقنّع، نفي الحياة والقوة والنفي الصحّي؛ أمّا نيتشه فهو، على العكس، يُؤكد، بتلك الـ «نعم»، على الحياة ولا شيء غيرها، تأكيدًا صحّيًا انتقائيًا وليس رضوخًا كليًّا للواقع خاصة ذلك الذي ينفي الحياة ويُعلي من قيمة القوى الارتكاسية.

 راجع: نيتشه، فريدريش، هكذا تكلَّم زرادشت: كتابٌ للجميع ولغير أحد، ترجمة: علي مصباح، كولونيا-بغداد، منشورات الجمل، 2007، ص. 369.

[15]– أندلسي، محمد، أفول المتعالي وأزمة الميتافيزيقا الغربية أو هايدغر من خلال نيتشه، بغداد، دار التنوير، 2015، ص. 180.

[16]– Deleuze, G., Nietzsche et la philosophie, Paris, PUF, 1962, Chap. 2, § 14.

[17]– كونديرا، كـائـنٌ لا تُحتمَـلُ خفَّتُـه ص. 10.

[18]– einmal ist keinmal: مثلٌ ألمانيّ كان يُردّده توماس.

[19]– المصدر نفسه، ص. 39.

[20]– Deleuze, G., Nietzsche et la philosophie, Chap. 2, § 4 & 5.

[21]– كونديرا، كائن لا تُحتمل خِفَّته، صص. 197-198.

«ثمّة شكلٌ مختلف للفخذين والرَّدْفَين والنهدين عند كلّ امرأة. هذه الأماكن الذهبيّة الثلاثة ليست مثيرة فحسب؛ إنما تُعبّر في الوقت ذاته عن فرديّة المرأة. لا يُمكن أن تُخطِئ أرداف المرأة التي تحبّها؛ ستتعرَّف على الأرداف المحبوبة من بين مئات الأرداف الأخرى […]. كان الحُبُّ قديمًا احتفالاً بالفرديّة وبالفريد، مجدُ ما هو فريد، وما لا يَحتمل أيّ تكرار» (انظر: كونديرا، ميلان، حفلة التفاهة، ترجمة: معن عاقل، الدار البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2014، صص. 102-103).

[22]– المصدر نفسه، ص. 198.

[23]– كانت سابينا تقول لتوماس: «أحبّك كثيـرًا؛ لأنَّكَ نقيضُ “الكيتش” تمامًا» (كونديرا، كـائـنٌ لا تُحتمَـلُ خفّـتُـه ص. 14).

[24]– انظر: كونديرا، ميلان، كائنٌ لا تُحتمل خِفَّته، ص. 250؛ فنّ الرواية، ترجمة: خالد بلقاسم، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2017، ص. 151.

[25]– «منذُ زمن طويل يا دارديلو وأنا أرغبُ في أن أُكلِّمك بأمرٍ ما: عن قيمة التفاهة. في ذلك الوقت، كنتُ أفكر في علاقاتك مع النساء. […]، تتبدى لي التفاهةُ الآن تحت ضوء مختلفٍ تمامًا عن ذلك الحين؛ إنَّها الآن تحت نور أسطع وأكثر كشفًا. التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود؛ إنَّها معنا على الدوام وفي كلّ مكان إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدموية وفي أسوء المصائب. وهذا غالبًا ما يتطلّب شجاعة للتعرّف عليها في ظروفٍ دراماتيكية للغاية ولتسميتها باسمها، لكن ليس المقصود أن نتعرّف عليها فقط، إنما يجب أن نحبّها، التفاهة، يجب أن نتعلّم حبّها. هنا، في هذه الحديقة، أمامنا، انظر يا صديقي، إنها حاضرة بكلّ بداهتها، بكلّ براءتها وبكلّ جمالها، أجل، جمالها. […]، استنشق يا صديقي دارديلو، استنشق هذه التفاهة المحيطة بنا، فهي مفتاح الحكمة، وهي مفتاحُ روح الدعابة…» (كونديرا، حفلة التفاهة، ص. 108، بتصرف).

[26]– كونديرا، كائن لا تُحتمل خِفَّته، ص. 114.

[27]– المصدر نفسه، ص. 122.

[28]– انظر: كونديرا، فنّ الرواية، صص. 152-153.

[29]– كونديرا، فنّ الرواية، ص. 153.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.