نعهدُ إلى الفنّانين بخلق عوالِمَ لنا، إذ يستعملُ الرّسامُ والفنّانُ التصويريُّ خدعًا وهميّةً لخلق واقع افتراضيّ ثلاثيّ الأبعاد على سطح ثنائيّ الأبعاد.
تحملُ تلك العوالِمُ –حتى إذا كانت خياليّةً– درجةً من الواقعيّةِ تكفي للسماح لنا بتعليق إحساسنا بعدمِ تصديقها، واستعمال مُخيَّلتنا، وفتح أبصارنا على المُمكن.
منذ منتصف القرن العشرين، أَسَرَتْ صور م. ك. إيشر (M.C. Escher) الغريبة قلوبَ الملايين. تستخدم هذه الصور ما نعهده إليها من ثقةٍ لكي تُصَادِم المُمكن بالمُمتنع [المُستحيل]. جسّد إيشر، بمهارة ڤرتيوزية[1]، حقائق افتراضيّة كاشفة عن تقنيات الإِيهام في الفن بوساطةِ تدبيرِ خدع وهميّة مُتعارضة.
بالرّغم من شعبيته، ظلّ إيشر على مسافةٍ مِن عالَمِ الفنّ. حظى إيشر بإعجاب شديدٍ من النُّقاد باعتباره سيّد الخدع البصريّة – وعلى الرّغم من أن هذه الحيل تُميط اللثام عن شيءٍ يخصُّ التَّمثيل الذهني (representation)، إلا أنها كانت مع ذلك مُجرّد خدع.
بيد أن إرث إيشر الفنيّ يتضمّن ما هو أكثر من ذلك؛ إذ تُشير الحلقات الذهنيّة (mental loops) المُنطوَى عليها في خدع إيشر وحِيَلِه إلى فنانٍ استبق فنُّهُ عصرَنا – هذا العصر الذي انحسرت فيه الإنسانيّة، وما تنفكُّ الفجوةُ بين العقل والعالَم تضمحل، حيث يمكن للإنسان التخفيف من وطأةِ اغترابِهِ عن عالَمِ الأشياء بشعوره أن بوسعه الانخراط في ذلك العالَم.
وزُبدة القول، إن إيشر يمكن النّظر إليه بوصفه أحد الفنّانين الأوائل الذين يمثّلون ما نُسميه اليوم بـ ما بعد الإنسانيّة (posthumanism).
لا يكمنُ ذلك الجانب من فن إيشر في أيّ شيء يمثله لنا، بل بالأحرى في ما لا يُمكن تمثيله – المُفارقات الرياضيّة التي تقبع في صميمِ صُوَرِهِ. إن الأمكنةَ والأشياءَ المُصوَّرةَ في أعماله، التي تكونُ دنيويّةً في بعض الأحيان وخياليّةً في البعض الآخر، ليست سوى وسائل لبلوغ غاية – ألا وهي إظهار أن عقلنا بوسعه خداع ذاته.
وبينما تتبدَّى تقنياتُ التَّمثيلِ، تُشير هذه الصور إلى شيء يُجاوز التَّمثيلَ. إن الأثرَ المُقلقَ الذي تُثيرُهُ هذه الصورُ يجدُ زخمًا في خيانة إيشر المُتعمَّدة للثقة التي نوليها إلى الصور.
يُصوِّرُ شلّال إيشر (١٩٦١) مشهدَ طاحونة مائيّة. ويبدو مبنى الطاحونة نفسه أوروبيًّا على نحو تقليديّ – ثمّة طاحونة ذات سطح مُبلّط، وسكن مُجاور ذو سطحٍ مستوٍ من نوع المساكن التي قد تجدها في جنوب أوروبا. في أسفل مركز الصورة، ثمّة شخص يحدِّقُ فوق الحائط في منظرٍ يتجاوزُ المشهدَ الذي نراه. ثمّة سيّدة تُعلّقُ ملابسَ مغسولة لكي تجفَّ بجوار السكن.
تُضفي الشخصيات والمباني حالةً طبيعيّةً وأساسًا دنيويًّا على الصورة. ثمّة مناخ في المشهد المُصوَّر، ذلك أن الملابسَ المُعلَّقةَ بحاجةٍ إلى الهواء وضوء الشّمس لكيما تجف، وثمّة استمراريّة لِما وراء مستوى سطح الصورة، ما يحدّق إليه الشخص الذي بالمركز.
وإذا جلنا بأبصارنا في ماء البركة الذي أسفل عجلة الطّاحونة، فإننا سننتقلُ إلى طابِقَينِ أعلى، ونعود إلى قمّة الشّلال.
لقد أتاحتْ خدعةٌ بصريّةٌ لإِيشر استدخالَ موضوعٍ مُمتنَع تصويره في البُعدين الأثنين لسطح الصورة – يُدير الشّلالُ عجلةَ الطّاحونةِ، ويصبُّ في بركةٍ صغيرةٍ، تَخرجُ منها قناةٌ تعودُ إلى نُقطة بداية الشّلال، أعلى بطابِقَين.
إن البركةَ هي مصبُّ الجدولِ ومنبعُهُ على حدّ سواء. إذن، فإن نظامَ المياه نفسه هو الخياليّ – حلقةٌ مُقفلةٌ، تتدفق بِغَير نهايةٍ: نهايتها بدايتها، وبدايتها نهايتها.
لا طاقة مُهدرة، فيما يبدو، في ذلك النّظام. على الرّغم من أن إيشر قد علَّقَ ساخرًا، قائلًا إن الماءَ سيحتاج ببساطة إلى أن يُمْلأ لِتعويض الفاقد منه في عملية التبخُّر.
من ناحية أخرى، تتحدَّى القناةُ الإمكانَ الماديَّ؛ إنها ممتنعةٌ في الواقعِ، مع ذلك فهي ممكنة تمامًا ضمن سطح الصورة ثنائي الأبعاد. وتختلطُ علينا توقعاتُنا، ذلك أن ثمّة إيهامًا مُبدَّدٌ من قِبَل منطقه الخاصّ.
تلكم هي قوّة فن إيشر – إنه ينبشُ لُغزَ التَّمثيلِ الذهني ذاته.
حلقاتٌ غريبةٌ
استعملتْ صور إيشر في كتاب دوجلاس ر. هوفستادر (Douglas R. Hofstadter) الموسوعيّ الحائز على جائزة بوليتزر جودل، وإيشر، وباخ: ضفيرة ذهبيّة أبديّة لتوضيح فكرة هوفستادر عن «الحلقات الغريبة».
توجد هذه الحلقات، بحسب هوفستادر، في الأنساق التراتبيّة التي تشوبها إشارات المرجعيّة الذّاتيّة (self-references) وتَلُفُّها. إننا نخبرُ حلقةً غريبةً إذا ما صعدنا أو نزلنا في تراتبيّة أحد الأنساق لنجد أنفسنا نعود حيثما بدأنا.
يحتفي هوفستادر بفن إيشر بوصفه «أجمل وأقوى تحقيقٍ بصريٍّ لفكرة الحلقات الغريبة هذه». تُمكِّننا صور إيشر المُتناقضة من تقدير هذه الحلقات، مثل بعض مؤلفات ي. س. باخ الموسيقيّة، ومُبرهِنَتَي عدم الاكتمال للرياضيّ كورت جودل.
أحدثتْ مُبرهنتا عدم الاكتمال لجودل ثورةً في مجال الرياضيّات لأنها قد بيّنتْ حتى الآن أن الأنساقَ التفسيريّةَ غير مُكتملة داخليًّا؛ ولا يتّسع المقام للتوسُّع في هاتين المُبرهنتين، إلا أن مُبرهنة عدم الاكتمال الأولى لجودل تُطابق «مُفارقة الكذّاب».
تُلخَّصُ هذه المفارقةُ في القضيّة «هذه العبارة كاذبة». هذه القضيّة لا يُمكن أن تصدق أو تكذب؛ فإذا صدقت كانت كاذبة، وإذا كذبت كانت صادقة.
إن المُفارَقةَ حلقةٌ في التراتبية اللُّغوية المُتماشجة؛ ذلك أننا نرتقي من الألفاظ الصّرفة إلى صحتها (validity) لنجد أنفسنا نعود إلى الألفاظ.
وبينما يذهب هوفستادر إلى أن صور إيشر ليست حلقاتٍ غريبةً «حقّة»، بما أنها إيهامات، إلا أنها تبُرهِنُ مع ذلك على أن التَّمثيل ثنائيّ الأبعاد تراتبيّة متُماشجة.
إننا نرسم علاماتٍ على سطح ثنائي الأبعاد ونرى إيهاماتٍ بصريّةً لأشكال ثلاثيّة الأبعاد. يخلق إيشر حلقاتٍ غريبةً في صُوره ذات المرجعيّة الذّاتيّة حينما يُبرهن على أنها إيهاماتٌ – إنها صور ثلاثية وثنائية الأبعاد في الآن نفسه. تُشير تلك الصور إلى ذاتها، كمفارقة الكذاب، مُرجئة أي نوع من الحَلّ أو «الاكتمال».
مثال على ذلك لوحة أياد الرّسم (١٩٤٨). ربّما كانت هذه أنصع التصاوير التي صوّرها إيشر وأكثرها إيجازًا لفكرة الحلقة الغريبة. وقد اعتبرها هوفستادر المثال «الصّحيح»، لكن الذي أضحى مُبتذلًا هذه الأيام، لِما عناه بالحلقة الغريبة؛ حيث تُصوَّرُ أحدُ اليدين ترسمُ يدًا، هذه اليد التي بدورها ترسم تلك اليد – بوساطةِ إيهامٍ يُتيحه التَّمثيلُ ثنائي الأبعاد.
يُشير هوفستادر إلى أن ثمّة تراتبيّةَ الرّاسم والمرسوم. إن ما يرسم ذو فاعليّة، فهو المُتحكم في زمام الأمور، أما المرسوم فَسلبيّ – أي يخضع إلى الرّاسم. وبينما تُتابع أعيننا أحد اليدين المرسومتين، فإننا ننزل في تلك التراتبيّة من الرّاسم إلى المرسوم فقط لنجد أنفسنا نعود حيثما كنا في البداية؛ إننا نَعبُرُ مستوياتٍ تراتبيّةً من خلال حلقة.
بيد أن الحلقات الغريبة، في نظر هوفستادر، هي أكثر مِن مُجرّد إيهامات وخدع. إن الطريقةَ التي تحققت بها حلقات موسيقى باخ، ومُبرهنتي جودل، وصور إيشر –بقدر ما يُعني هوفستادر– إنما تُماثِل طريقةَ تَشَكُّل وَهْم «الذّات» (self).
تقولُ المقدمةُ الأساسيّةُ التي ينطلق منها هوفستادر إن الوعي ذاته يُمكن النّظر إليه على أساس من تراتبيات مُتماشجة.
«وجدتُ التوازي بين استنباط جودل العجيب للمرجعية الذّاتيّة على أساسٍ من رُموزٍ لا معنى لها، والمظهر العجيب الذي تتخذه الذّوات والنّفوس على أساسٍ يتألَّفُ من المادةِ غير الحيّةِ مُقنعًا جدًا إلى حدّ أنني اقتنعت بأن في ذلك إنما يكمنُ سرّ شعورنا بـ«الأنا»».
إن التفكير نفسه، بحسب هوفستادر، تراتبيّةٌ مُتماشجةٌ، وبالتالي نَسَقٌ لا يكتمل أبدًا، بالطريقة عينها التي أثبت بها جودل أن لا نسق يتضمّن مرجعية ذاتيّة –كالرياضيّات– بوسعه أن يكتمل. إن عدم اكتمال الذّهن المُفكر يُحدِثُ الوعيَ – وهو ما يعتبره هوفستادر ببساطة تفكيرًا إضافيًّا.
وتبعًا لهوفستادر، فإن الذّات بِنية عصبيّة دائمة التغيُّر، لا تكتمل أبدًا –إنها «ذات رمزيّة»– مكانها الدماغ الذي يتقوّم بجسيماتٍ – أي مادة خالِصة.
إذا ما نظرنا إلى هذه الجسيمات، فإننا نعثر على «الذّات» – تجريد عال ينبثق من تفاعل تلك الأعصاب، المنبثقة بدورها من تفاعل الجسيمات. لكنا إذا فككنا بِنْيَة «الذّات» ترانا ننزل في تراتبيّةٍ عائدين إلى مادة الجسيمات الخالِصة.
ما يمنحنا، إذن، الشُّعورَ بِذاتٍ غير ماديّةٍ تسكنُ مادةَ أجسادِنا، وبحسب هوفستادر، هو حلقات تمثُّلِنا اللّامُكتمل أبدًا لذواتنا في أفكارنا.
تُصادِرُ أطروحةُ هوفستادر الأساسيّةُ على الكثير من الفرضيّات، لكن القول بأن صور إيشر تستدعي «حلقاتٍ غريبةً» ضمن «تراتبيّاتٍ مُتماشجةٍ» هو تحليل متماسك.
يبدو أن المُقوِّمَ لصور إيشر هو حبر على ورق. تُحدث هذه المادة غير الحيّة إيهامًا بصريًّا يُشابه واقعًا مُتسقًا، ذلك الواقع الذي بدوره يُحدِثُ إيهامًا بصريًّا آخر يُحطّمُ تماسُكَ ذلك الواقع؛ ومن ثم، نعود إلى حيث كنا.
والقطعة الأخيرة في ذلك المُخطط هي الفنّان نفسه، المنبع الذي صدرت منه الصورة. إن الفنّان في الواقع هو، على حدّ تعبير هوفستادر، «المُقوِّم الذي لا يمكنُ المساس به» للإيهام – إنه ذلك الموضع الغامض الذي يتوقف بحثنا عنده.
يستعملُ دوجلاس هوفستادر لفظةَ «المُقوِّم الذي لا يمكنُ المساس به» للإشارة إلى المادة الكامنة التي تُحدِثُ الحلقاتِ الغريبةَ – أي السَّيْرورات الفيزيقيّة التي تُحدِث الوعي.
وهو يقول إن هذه السَّيرورات، التي تتضمّن أعمالَ الدّماغ، والجهاز العصبيّ، وتفاعُلات الجسيمات التي تتألَّف كل هذه منها بالأساس، هي المبدأ الذي ينبثقُ عنه الذهنُ والنفسُ.
يعتقد هوفستادر بعدم خضوع المُقوِّم الذي لا يمكنُ المساس به للتغيُّر أو التبدُّل بالطريقة نفسها التي تخضع بها أفكارنا وخبراتنا. هكذا، فإنه المصدر النهائيّ لشعورنا بذواتنا، وخبرتنا الذّاتيّة.
ولمّا كانت مُفارقات إيشر غير مُكتملة –من جهة أنه لا يمكن حلّها– فإنها تدورُ كما الدوامات حول فجوةٍ؛ تُمثّل هذه الفجوة وجوبَ عدم كماليَّة الورق والحبر في تقويم ذاتهما. إنها تُمثّل انقطاعَ التَّمثيل. هنا في هذه الفجوة نتبيّن المُقوِّمَ الذي لا يمكنُ المساس به – أعني يدَ الفنّان نفسه.
لتوضيح ذلك، بوسعنا النّظر إلى لوحة معرض المطبوعات (١٩٥٦) – التي من المُحتمل أن تكون حلقة إيشر الأكثر إِحكامًا.
في هذه الصورة، نرى رجلًا في معرضٍ ينظر إلى صورةٍ تُصوِّر مدينة. وبينما نجول بأبصارنا في المشهد، نجدُ تحويرًا في المنظور يُوغِلُ بنا في الصورة التي ينظر إليها الرجل، لنتبين أن المشهدَ المُصوَّرَ بها هو المشهدُ الذي يحوي الرجلَ نفسَه.
ثمّة هندسةٌ مُعقدةٌ تكمنُ وراء إيهام صورة معرض المطبوعات. لقد رسم إيشر الصورة بداخل نفسها، مُحدثًا بذلك أثرًا ارتداديًّا يُعرف بـ«أثر دروست» (drost effect) – وهو ذلك الأثر الذي يحدث حينما يُنسخ مَشهدٌ في داخل نفسه. غير أنه أخذ هذه الصورة المُباشرة، واضعًا إيّاها تحت شبكة، وأخذ يوصل –مُربعًا تلو الآخر– بشبكة مُنحنية.
تتمدّد خطوط الشبكة المُتعرجة متخذة شكلَ الدائرة، مُسبِّبة زيادة في كِبَر المُربعات بمقدار عامل ٢٥٦ بينما تسير باتجاه عقارب الساعة حول محورها. حينما يُنقل المشهدُ إلى الشبكة المُنحنية، تبتلع الصورةُ المصوَّرةُ في المعرضِ الصورةَ المُتضمَّنةُ بها.
وكنتيجة لهذه الهندسة المُعقدة، فإننا نُوجد في حلقةٍ (loop) بارعة التّنفيذ بوساطة الإيهام. بيد أن الحلقةَ لَها حدودها – لا بُدّ من فجوةٍ في لُبِّ الحلقةِ. تتمثّل هذه الفجوةُ في وسط الصورة، كبقعةٍ بيضاءَ كبيرةٍ، تحمل توقيع إيشر.
ثمّة فجوة لأن إيشر لم يسعه أن يكمل الصورة بدون الخروج عن القواعد التي صُممت الصورةُ وفقًا لها. في عام ٢٠٠٣، استعمل عالما الرياضيّات هندريك لينسترا (Hendrik Lenstra)، وبارت دي سميت (Bart de Smit) نسقَ إيشر للبحث فيما قد يظهر في الفراغ. إن الخطوط لن تتوافق أبدًا، ما يؤدي إلى دوّامة لانهائيّة، لذا، تطلّب الأمر من إيشر أن يفرض نوعًا من انقطاع الإيهام للحفاظ على صدق التصوير.
يجعلُ ذلك «معرض المطبوعات»، بحسب هوفستادر الذي كتب عن ذلك قبل بحث الرياضيين بسنوات، «أمثولةً تصويريّةً لِمُبرهنة عدم الاكتمال لجودل».
نعلمُ نحن النظارة أن الصورةَ غير مُكتملةٍ في جوهرها. وفي حين أن الناس داخل الصورة لا تعي الفجوةَ، نراها نحن الواقفون خارج النّسق التمثيليّ.
وقد بيّن إيشر ذلك تمامًا عندما اختار أن يضع الفجوة في قلب الصورة؛ إن «الخلل» أو «العيب» الذي تُمثّله البقعة كان من الممكن جعله أصغر، أو مُنفصلًا أكثر، لكن لا يمكن حذفه. بوضع توقيعه في فجوة النّسق، فإن إيشر يلفتُ انتباهَنا إلى مكاننا المُشترك خارجَ نسقِ التَّمثيلِ.
في عام ١٩٥٨ نشر إيشر كتاب القسمة المنتظمة للسطح وهو كتاب فهرسَ سلسلةً من النقوش الخشبية التي تستكشف فنَّ الفسيفساء؛ وقد أوحت إليه أسفاره، من عام ١٩٢٢ وما تلاه، بالاهتمام بفن الفسيفساء –فن التقسيم المُنتظِم للسطح إلى أشكال مُستوية– حيث قصد قصر الحمراء، قصر ولاية الأندلس في العصور الوسطى، الواقع الآن في إسبانيا.
وكان الاعتقادُ أن جدرانَ قصر الحمراء المكسوة بالبلاط المُزخرف تحتوي على مجموعات الفسيفساء السّبع عشر المُمكنة رياضيًّا كلّها. فحص إيشر المخططات الفسيفسائيّة المُمكنة باستعمال شبكات، ثم استعمل الأشكال المُتنوعة ليخلق موضوعات مُتشابكة كالزّواحف والطيور.
في الأسطح الفسيفسائيّة، تتصلُ الأنماطُ الزّخرفيّةُ بذاتها بواسطة مبادئ الانعكاس، والانتقال [أو الإزاحة]، والدوران الهندسيّة. وقد انطوت عناية إيشر بالفسيفساء على الإفادة من بحوث في مجال الرياضيّات، ودراسة أشكال التبلور الطبيعيّة لكي يُقلّب إمكانات المجموعات السبع عشرة الأساسية.
إن مُجمل أعماله الفنيّة قد ميَّع الخطّ الفاصل بين التعبير الفنيّ والبحث الرياضيّ؛ على الرّغم من زعم إيشر أنه يحوز معرفة ضئيلة بالرياضيّات، وأنه يستند بدلًا من ذلك إلى حدسه، إلا أن فنّه يُبيّن مزيجَ إيشر الفريد الذي يجمع بين الاكتشاف والابتكار.
إن فسيفساء إيشر، على عكس الأنماط الزخرفيّة في قصر الحمراء، تتأرجح عبر الخط التمثيليّ بين المُجرّد والرّمزيّ. إنها تستكشفُ أطوارَ تكوين الأشكال عبر النّمط المُنتظِم، وتمثيل اللّانهائيّ المُضمَر في الأنماط الفسيفسائيّة، حيث لا وجود لمكان مُوجبٍ أو سالبٍ[2]، أو لعلاقات «الشكل – الخلفيّة»[3].
ثمّة سطح وحيد في صورة ثنائية الأبعاد، وتتلاعب فسيفساء إيشر بوساطةِ الإيهام المكانيّ بتحويل انتباهنا بين المكانين «الموجب» و«السّالب» المُفترضين في سطح الصورة.
إن اختيار التّشبيه غالبًا ما أفاد من فكرة الأضداد الموجبة هذه – الملائكة والشياطين، السّمك والطّير، ومَناظر اللّيل والنهار، مُحتجزة معًا ومُوزَّعة على امتداد سطح الصورة. وما إن نرى أحدهما حتى نرى الآخر بعده، لكن دائمًا ما نرى شيئًا منهما.
في أربعينيات القرن العشرين، أنتج إيشر صورًا فنيّةً تنبجِسُ بها الأشكالُ من فسيفساءٍ ثُنائيّة الأبعاد وتستحيل إلى إيهامٍ في فضاءٍ ثُلاثيّ الأبعاد قبيل أن تعود القهقرى وتنغمس في النّمط.
في إحدى الصور –اللّقاء (١٩٤٤)– تنبجس أشكالٌ مُظلمةٌ ومُضيئةٌ من كونها مُحتجَزة معًا في نمط فُسيفسائيّ على جدار؛ ثم تسيرُ حول هوّة دائريّة في أشكالٍ ثلاثية الأبعاد تتقدّم حتى تغدو «واقعيّةً» بدرجةٍ كافيةٍ، عند أسفل مُنتصف الصورة، بحيث يُصافِحُ بعضُها الآخرَ يدًا بيدٍ عند لقائهما.
تتمثّلُ المسألةُ الهامّةُ هنا في أن المشهد الذي تخرج إليه الأشكال الفسيفسائيّة ليس أكثر واقعيّةً من الفسيفساء نفسها؛ إذ تخدعُنا أدمغتُنا فقط لرؤية ذلك المشهد باعتباره أكثر «واقعيّة».
خلق إيشر أيضًا فسيفساءَ في فضاءات هندسية غير إقليدية. تُرسَمُ مجموعةُ حدّ الدائرة (Circle Limit) على خطوط مُتلاقية بدلًا من المتوازية – يرتصُّ البلاطُ على سطحٍ، لكنه سطحٌ مُقعرٌ في مُقابل السّطح المستوي.
تنحسر الأشكال عند حدود الدائرة بينما يتقلّص المَنظور. بهذه الطريقة، يُتيحُ الفضاءُ المُقعرُ فسيفساءَ لانهائيّة حتى داخل فضاء نهائيّ. يستعملُ إيشر كلًا من انعدام الفجوة في الفسيفساء، وانحناء الفضاء اللّاإقليديّ لكي يستدعي فكرة اللّانهاية.
إِرث فنيّ صعب
على الرّغم من إشادة المجتمع العلميّ وأعلام الثقافة المُضادة مثل ميك جاجر (Mick Jagger) بأعماله، فإن عالَم الفنّ قد تجاهل إيشر إلى حدّ كبير.
يمكن النّظر إلى ذلك، في المُخيّلة الشعبيّة، بوصفه استعلاءَ العالَم الفنيّ – إذ تُحظَى صور إيشر بشعبيّة أكيدة، مع ذلك، لم تُعرَض سوى قلة قليلة من أعماله في مجموعات فنيّة وطنيّة في خلال حياته. لكن يجدرُ بنا النّظر في كيفيّة تقدير العمل الفنيّ من أجل أن نفهم أن تجاهلَ فنّ إيشر إنما يعود إلى مكانته الفريدة التي يحتلها.
إن سُمعةَ الفنّانِ مرهونةٌ بإجماع النُّقاد ومُؤرخي الفنون بوصفهم ناقدينَ فنيينَ؛ وليست غاية النَّقد الفنيّ تقييم إلى أيّ مدى استطاع العمل الفنيّ أن ينقل فكرةً، وإنما إلى أيّ مدى استطاع العمل الفنيّ أن يُغيّر أسلوبَ تفكُّرنا بصدد الفكرة.
ومن الشواهد على ذلك أن مجموعة لوحات دوّار الشّمس (sunflowers) لفان جوخ لا يحتفى بها باعتبارها تصاويرَ فنيّة «حَسِنة» أو دقيقة لزهور دوّار الشّمس، وإنما بسبب الكيفيّة التي تجعلنا نشعر ونتفكّر بواسطتها من خلال تصويرها لهذه الزهور. تكمنُ الذّاتيّةُ في صميم التّلقي النّقديّ الفنيّ الحديث بل وحتى المُعاصر، وهو ما يُؤسس النَّقدَ بصورة عميقة في التقاليد الإنسانويّة.
تعملُ صور إيشر على مستوى فكريّ أكثر صوريّةً، مستوى يُخفِّضُ من مجال الذّاتيّة؛ ذلك أنه حينما يعجبنا عرض إيشر لتصاويره فإن ذلك إنما يرجع أكثر إلى البراعة التقنيّة، والكفاءة التي ينقل من خلالها أفكاره.
وتتلاءم كفاءة الليثوغرافيا [الطباعة الحجريّة]، لا سيّما النُّقوش الخشبيّة، وتلك الأهداف. وبينما تحتكّ العينُ بلذةٍ تجدها في ظلال التصاوير، وأنسجتها، وتلاوينها العديدة، فإن الشكل التصويريّ لعمل إيشر يتّسم بلزوجة عالية – فالعين تنزلق بسهولةٍ عبر «الخطوط المُوجّهة» في صور إيشر.
تُنقل الأفكارُ بطريقة فعّالة، ليس بمعنى أننا نبلغ سريعًا قولًا أو حلًّا أخيرًا، ولكن بمعنى أننا ما ننفك أن ننزلق سريعًا عبر دوائر مُفارقاته، كما ينزلج المتزلج على الجليد على حلقات حلبة الجليد.
من المهم أن نفهم أن فنّ إيشر، مثل موسيقى يوهان سباستيان باخ، إنما يُتلقى لصيغته الدائرية[4] – إذ إننا نرتقي سُلَّمَ الفَهْمِ لنجد أنفسنا مرة أخرى في قاع العمل، لكنا نفعل ذلك بسرعةٍ تُشعرنا بالخفّة واللّذة.
يكمنُ جمالُ صور إيشر الأعمقُ في المفاهيم الرياضيّة التي «تُستكشَفُ» وكيفيّة تأويلها، أو بالأحرى، كيفيّة إيصالها بواسطة ابتكارات الفنّان.
لهذا، لم يكن إيشر فنانًا عاديًّا، بمعنى أن غايته لم تكن أن يخلق، أكثر من أن يُبيّن أو يُحرّك ما كان قائمًا دائمًا بالفعل. إذ يقول:
«لا يسعني إلا أن أبتهج إزاء ذلك الكمال، وأشهد بصدقه مرتاح الضّمير، فلم أكن أنا مَن ابتكره أو حتى اكتشفه؛ إن قوانين الرياضيّات ليست مُجرّد ابتكارات أو إبداعات بشريّة.
إنها «توجد» وحسب، بصورة مُستقلة تمامًا عن العقل البشريّ؛ إن أقصى ما يمكن أن يفعله امرُؤٌ يتمتع بذهن حصيفٍ هو اكتشافها ومعرفة كنهها».
إن جماليّات إيشر غير تقليديّة من جهة التصميم. ولو أردنا أن نبحث عن نظيرٍ في عالَم الفنّ التقليديّ، فسيكون الفيلسوف-الفنّان العظيم الآخر، رينيه ماجريت (Rene Magritte)، الذي اختار أن يُصوِّر أشهر صوره بأسلوب «تجاريّ» مُبسّط لنقل أفكاره بصورة مُباشرة قدر الإمكان.
لم يكن الحصولُ على اعتراف عالَم الفنّ أمرًا ضروريًّا بالنسبة لإيشر، الذي كان جادًا في عمله، لكنه قد اقترب أخيرًا إلى نهاية حياته؛ إن الجمع فيما بين شقي الاكتشاف الفكري، والإبداع الحدسيّ المُتنافسين قد جعل إيشر فنانًا فريدًا – ذلك أن الكثيرَ من هذه الصور، في نهاية المطاف، قد اعتبرها نفر من العلماء مجالًا خصبًا للدراسة.
وصف ميشيل فوكو في كتاب الكلمات والأشياء (١٩٦٦)، لوحة الوصيفات (Las Meninas) لفيلاثكيث بوصفها صورةً تعيّن الانتقال من التَّمثيل «الكلاسيكيّ» إلى التَّمثيل «الحديث»، ما يُمثّل تحوُّلًا عميقًا في الفَهْمِ الأوروبيّ للعالَم.
ولئن كان النّاظِر يحتّلُّ مركزَ موضوع اللّوحة، فإن فوكو يرى الوصيفات باعتبارها تتيح للتمثيل تقديم نفسه باعتباره «التَّمثيلَ في صورته الخالِصة». إن كلًّا من الحداثة وما بعدها في الفنّ يعي ذاته، ومُنفتحٌ على المتلقي. إن كلًّا منهما ينقدُ ذاتَه.
تُنقِّبُ بحوثُ إيشر فيما وراء علاقات التمثيل؛ إن أياد الرّسم لهي تعبيرٌ خالِصٌ عن ذلك – إنها غير ذاتيّة تمامًا، ذات مَنْطقٍ مُنغلق، غير مُنفتح. كما أن الأجزاء المُكوِّنة لَها قابلة للاستبدال، إذ يُمكن أن تحل محلها أيّ أجزاء قد تُبرز مُفارقة المرجعيّة الذّاتيّة.
في الواقع، إننا نجد ذلك النُّزوع في كل استطيقا إيشر الإيقاعيّة والمُحكَمة – فغالبًا ما تكون أشكاله، إنسانيّة كانت أم غير إنسانيّة، مُبهمةً أو مجهولةَ الهُويّةِ، إنها غالبًا ما تُشبه الآلة، أو مَجازات تصويريّة.
إنها تنبضُ على امتداد الأسطح مُنبثقة من مخططات مُجرّدة وتغوصُ بها مرّة أخرى. وتكتسي المناظر ذاتها حُلةً تُشبه ديكور المسرح، وتتزيّن بقدر كافٍ من العاديّة –كما كانت السيّدة تعلِّقُ ملابسَها– ما يخلع على المُفارقات المُبهرة تبايُنًا دراماتيكيًّا.
إننا لا نُحدِّقُ في مَقْصَدٍ بل سَيْروراتٍ. إنها صور تُشير إلى شيءٍ يتجاوزُ الإنسانَ، شيءٌ يُذيب الإنسانَ – سواء داخل إطار الصورة أو خارجه.
يمثّل فنُّ إيشر ما بعد الإنسانيّة «المَوضوعيّة» من جهة أنه يُهمِّشُ الخبرةَ الذّاتيّةَ؛ وعوضًا عن ذلك، نُجابه صرحَ المَنْطِقِ الغامضِ، والمُلغز، واللّاشخصيّ، الذي يُمكن القولُ إنه يُؤسِّسُ العالَمَ – كحال «الحلقات الغريبة» التي حدّدها هوفستادر.
خُلاصة القول، إن المَسرَّةَ التي نلقاها عندما نحدِّقُ في صور إيشر هي مَزْجُ الحقيقةِ الرياضيّة بالخَلْق؛ حيث ننتقل إلى حافَةِ الفَهْمِ، مُحدقين نحو الأبديّ، والكامل.
[1] بالإيطالية (virtuoso): صفة تطلق على المتمكن من صنعته، ويتمتع بالموهبة، والمهارة التقنية الفائقة في مجال فنيّ معين، كالعزف على آلة موسيقيّة. (المترجم)
[2] عند مدرسة الجشطلت، يُشير المكان «الموجب» و«السّالب» إلى الأشكال المُصوّرة في العمل الفنيّ والخلفيّة التي تقع وراء تلك الأشكال على التوالي، بوصفهما مكانَينِ مُتميَّزين إدراكيًّا على السطح نفسه. (المترجم)
[3] تُشير علاقات الشكل-الخلفية إلى إحدى أنماط علاقات التنظيم الإدراكيّ والتجميع (grouping) الخاصّ بالإبصار، الذي يقوم عليه إدراك الأشياء باعتبارها مُتميّزة عما يقع خلفها. مثال على ذلك تمييز هذه الأحرف باعتبارها أحرفًا أو أشكالًا على خلفيّة بيضاء. (المترجم)
[4] الصيغة الدائرية في فن الموسيقى هي صيغة تتكرر في إحدى حركاتها الأخيرة موتيفة، أو تيمة، أو لحن موسيقي، أو فقرة من الحركات الموسيقية الأولى (غالبًا، يتكرر موضوع من الحركة الأولى في الحركة الأخيرة في العمل، إذ يُطلق هذا الاصطلاح الآن عادة على صيغة الصوناتا التي تظهر فيها التيمات الرئيسية من حركة لأخرى – والمثال الكلاسيكي على ذلك هو سيمفونية بيتهوفن الخامسة التي يتكرر بها الموتيف الأساس: الأربع نغمات الأساسية، على امتداد العمل كله). والغاية من الصيغة الدائرية إضفاء نوع من الوحدة العضوية أو الموضوعية على العمل الفنيّ، تبعًا لغايات المؤلف التعبيرية أو الفنية. (المترجم)